تحقيقات استقصائية: أربع سنوات على مجازر تشرين..القتلة أحرار والطرف الثالث مازال مجهولا ومئات الجرحى بلا رعاية

أربع سنوات على مجازر تشرين..القتلة أحرار والطرف الثالث مازال مجهولا ومئات الجرحى بلا رعاية

بعد مرور 4 سنوات على تظاهرات تشرين 2019، التي طالبت بالاصلاح السياسي وانهاء منظومة الفساد التي أوصلت ربع سكان البلاد الى حافة الفقر، أفلت المتورطون في القتل من العقاب، واختفت قاعدة بيانات الضحايا، وبقي الجرحى يعانون بصمت، بينما تنتظر عوائل القتلى انتقاما الهيا مع افلات المجرمين من العقاب في ظل حماية القوى الحاكمة لهم.

بغداد/ سامر أحمد:

“جلس قبالتي على بعد 70 مترا، أخذ وضع الاستعداد وهو يوجه فوهة بندقيته نحوي”، هكذا يصف حيدر الباشا ذو 33 عاما آخر لحظات اصابته باطلاقة دخانية خلال تظاهرات تشرين التي قادها الشباب العراقيين ضد فساد حكومات البلاد المتعاقبة.

كان ذلك في 22 تشرين الثاني 2019 على جسر الأحرار وسط العاصمة بغداد. يتذكر تلك اللحظات جيدا، وتحديدا تصويبة مطلق النار التي افقدته إحدى عينيه. يقول بكلمات مرتجفة: “لن أنسى ذلك اليوم أبدا”. يكرر ترديد ذات العبارة.

بعد مرور 4 سنوات على تظاهرات تشرين أكتوبر 2019، التي طالبت بالاصلاح السياسي وانهاء الفساد وتردي الخدمات، يجلس حيدر على كرسي خشبي في مقهى رضا علوان، بمنطقة الكرادة وسط بغداد، مرتديا نظارة داكنة لم يخلعها طوال حديثه معنا.

يعيد حيدر لأصدقائه الذين أحاطوا به رواية قصة إصابته “كانت الصدامات عنيفة جدا في ذلك اليوم ما بين المتظاهرين وقوات مكافحة الشغب، وكنا منشغلين بنقل الضحايا والجرحى بعجلات “التيك توك” إلى المستشفى الميداني الذي تم إنشاؤه من قبل المتظاهرين في شارع الرشيد قرب ساحة التحرير”.

يواصل المتظاهر الذي هو أب لطفلة واحدة، حديثه “كنت مع مجموعة من المسعفين المتطوعين على جسر الأحرار، أسعفنا 26 متظاهرا جريحا ولم أكن اعلم باني سأكون الرقم 27″، يقول حيدر وهو يجر نفسا عميقا: “اصبت بقنبلة دخانية برأسي اطلقها أحد منتسبي قوات الشغب بشكل مباشر، كان الدافع منها قتلي، لكن مشيئة الله انجتني من الموت”.

“لم افقد الوعي لحظتها، نقلت إلى المستشفى الخاص بالمتظاهرين، ومن هناك نقلت في عجلة تيك توك إلى مستشفى الجملة العصبية وسط بغداد، وقبل دخولي إلى صالة العمليات فقدت الوعي، بعد 48 ساعة أفقت وأدركت بأني فقدت عيني اليمنى”.

انتهت تظاهرات تشرين عقب الاطاحة بحكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، وبعد مقتل أكثر من 550 متظاهرا جلهم من الشباب واصابة أكثر من عشرين الفا آخرين، دون أن ينجحوا في تغيير الطبقة الحاكمة وانهاء نظام “المحاصصة” الذي أسس “لمنظومة الفساد” في ظل هشاشة المؤسسات، ما أدى الى تردي الخدمات وارتفاع معدلات الفقر التي تجاوزت في المحافظات الجنوبية التي حكمتها القوى الاسلامية الشيعية الى أكثر من 50% بحسب ارقام رسمية.

بعدها بنحو عام سافر حيدر الباشا إلى العاصمة الإيرانية طهران، لإجراء عملية “قلع عين” بدعم من “منظمات مجتمع مدني” تكفلت بعلاجه بمبلغ 5 الاف دولار، بينما تساقطت وعود الطبقة السياسية، في تحقيق الاصلاح وانهاء التحاصص وتعويض القتلى وعلاج الجرحى.

في منتصف عام 2020 وبعد عودته إلى العراق انضم حيدر إلى فريق “دعم جرحى تشرين” التطوعي الذي نجح في إجراء عمليات جراحية معقدة لـ20 متظاهرا داخل العراق وخارجه.

بعد مرور 4 سنوات على تظاهرات تشرين 2019، التي طالبت بالاصلاح السياسي وانهاء منظومة الفساد التي أوصلت ربع سكان البلاد الى حافة الفقر، أفلت المتورطون في القتل من العقاب، واختفت قاعدة بيانات الضحايا، وبقي الجرحى يعانون بصمت، بينما تنتظر عوائل القتلى انتقاما الهيا مع افلات المجرمين من العقاب في ظل حماية القوى الحاكمة لهم.

في ظل عدم تحرك السلطات الثلاث الخاضعة للأحزاب الحاكمة، لاعتقال قتلة المتظاهرين ومحاسبتهم، بل محاولاتها التستر عليهم وابعاد التهم عنهم، رفع الشاب الجريح دعوى قضائية في محكمة جنايات الرصافة ضد وزارة الداخلية/ قوات مكافحة الشغب.

يقول حيدر “للأسف سوفت القضية واغلقت دون أية نتيجة، وهو ما حصل مع الآخرين من جرحى وضحايا التظاهرات الذين اغلقت ملفاتهم في المحاكم، مع أن الجناة معروفون لدى السلطات، لكن لا يمكن لأية جهة محاسبتهم”.  

ظاهر الغزي، هو مصاب آخر من ضحايا تظاهرات تشرين، اصيب بقنبلة دخانية في منطقة الرأس بالقرب من ساحة الحبوبي وسط مدينة الناصرية (360كم جنوب بغداد) مركز محافظة ذي قار النفطية، حيث نصف السكان يعانون من الفقر.

ملفات الضحايا منسية في أروقة القضاء والحكومة، والقتلة أحرار يواصلون اطلاق اشارات النصر

خلال التظاهرات في بغداد ومدن الجنوب، ومع ارتفاع أعداد ضحايا القنابل الدخانية، تعالت اصوات المحتجين على ما وصفوه “العنف الممنهج وأوامر القتل المباشرة” التي تسببت بسقوط عشرات الضحايا باطلاقات وعبوات وجهت الى رؤوسهم.

يقول الغزي: “تركت عملي وشاركت في التظاهرات احتجاجا على الفساد والظلم والحرمان ولتغيير وضعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السيء، لكن للأسف كنا نواجه ميليشيات مسلحة تصر على قتلنا بلا رحمة”.

يتابع المتظاهر الذي فقد العديد من أصدقائه: “في 26 كانون الثاني 2020، اصبت في منطقة الرأس ونقلت إلى مستشفى الحسين التعليمي، الإصابة تسببت بتهشم فكي الأيسر وتكسر الاسنان بالإضافة إلى تلف أعصاب الرقبة وأعصاب العين اليسرى”.

نجا ظاهر الغزي باعجوبة من الموت، في ظل محدودية التداخلات الجراحية حينها وزخم المصابين “في اكثر من معاينة طبية بالناصرية، كان الأطباء يبدون عجزهم عن إجراء العمليات. بعد ستة أشهر قابلت وزير الصحة حينها حسن التميمي، الذي حولني إلى مستشفى الشهيد غازي الحريري بمدينة الطب ببغداد، وبعد اكمال الفحوصات اخبرني الكادر الطبي بتهكم: أنت لا تحتاج لعملية، فلا اثر للاصابة لديك”.

يفتح الشاب الجريح، هاتفه عارضا صوراً ورسائل لزملائه الجرحى، مليئة بعبارات تظهر معاناتهم بسبب الاهمال، ويضيف “لم نحصل على رعاية طبية كافية ولم نشمل بالعلاج خارج البلاد والكثير من الجرحى لا يملكون أجرة تكسي للذهاب إلى بغداد للعلاج، وأنا أحدهم”.

يستذكر ظاهر، زميله المتظاهر انس مالك الغزي، الذي توفي في حزيران 2021، كما يقول نتيجة الإهمال الطبي بعد إصابته بطلق ناري على جسر الزيتون وسط الناصرية “ترك خلفه زوجة وأربعة أطفال”.

يصمت للحظات وهو ينظر الى الأرض “ما يعصر قلوبنا أن الجناة أحرار طلقاء حتى اللحظة” يتمتم بينما يمسح بكفيه دموعا علقت على وجهه.

في 12 كانون الثاني 2022، ذكرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن “أية مساءلة قانونية لم تتحقق في حالات قتل وتشويه واختفاء المتظاهرين في العراق، التي حققت فيها المنظمة، حتى بالنسبة للاغتيالات البارزة”، منوّهة إلى أن عملية تعويض الضحايا كانت بطيئة ومرهقة.

السوداني على طريق سابقيه

بعد اسابيع من منح مجلس النواب العراقي، الثقة الى حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، التقى بمجموعة من جرحى تظاهرات تشرين، وعلى طريق سلفه مصطفى الكاظمي، أكد على التحقيق في ملفات قتلى وجرحى تشرين.

السوداني دعا خلال اللقاء الى استكمال التحقيقات في الأحداث التي رافقت التظاهرات، وتفعيل لجنة الأمر الديواني (293) الخاصة بالضحايا الذين سقطوا من المتظاهرين والقوات الأمنية، وهي ذات اللجنة التي شكلها الكاظمي.

في رسالة من مكتب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى منظمة العفو الدولية، مؤرخة في 2 أبريل/نيسان 2023، ذكر المكتب إنَّ “رئيس الوزراء أمر في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بتفعيل عمل اللجنة (لجنة تقصي الحقائق) والتواصل مع ممثلين عن المتظاهرين”.

وحدد مكتب رئيس الوزراء التدابير التي اتخذتها لجنة تقصي الحقائق، بما في ذلك “تدقيق أكثر من 215 قضية حصلت عليها من محكمة التحقيق المركزية في الرصافة والاطلاع على أكثر من 5,375 وثيقة رسمية تتضمن تقارير طبية واستمارات تشريح المجني عليهم وتقارير خبراء الأدلة الجنائية، وما زالت اللجنة مستمرة في تدقيق الوثائق والمستندات الواردة إليها من محاكم الاستئناف”.

بعد مرور نحو عام على تلك الرسالة، لم يحصل اي تقدم معلن في الملفات التحقيقية للضحايا، فيما تكررت الوعود الحكومية ذاتها بتحقيق العدالة دون فعل حقيقي.

ما يزال الشاب مصطفى جاسب الهليجي (30 عاماً) وهو شقيق المحامي علي جاسب (أب لطفلين) الذي خطف وغيب في 8 تشرين الأول/ اكتوبر 2019 في ذروة التظاهرات بمحافظة ميسان (320 جنوب شرقي بغداد)، ينتظر كشف مصير أخيه أو حتى من يدلهم على جثمانه، بعدما فقدت العائلة أمل العثور عليه حياً.

ويطالب جاسب أيضا بمحاسبة قاتل أبيه (احمد الهليجي) الذي “ما يزال حراً طليقاً” كما يقول، رغم اعتقال شخص بدعوى ارتكابه للجريمة بسبب خلاف عشائري.

وكان مسلحون في مدينة العمارة (مركز ميسان) أقدموا في 10 آذار/ مارس 2021 على اغتيال احمد الهليجي، والد كل من مصطفى والمحامي المغيب علي، الذي لم يتوقف عن التحرك لمعرفة مصير ابنه المختطف وتعبئة الرأي العام للضغط من أجل تحقيق ذلك.

قبل اغتياله بساعات كان أحمد قد شارك في مراسم الذكرى السنوية لمقتل الناشط الميساني عبد القدوس قاسم (اغتيل في 11-3-2020) والذي قتل بعد خمسة أشهر من اختطاف علي جاسب على يد مجاميع مسلحة أمام جامع الراوي وسط مدينة العمارة.

الأجهزة الأمنية في المحافظة أرجعت حادثة قتل أحمد التي وقعت بمنطقة المعارض الى أسباب عشائرية، وفق ما يقوله نجله مصطفى الذي تقدم بشكوى لدى محكمة ميسان متهماً فصيل أنصار الله الأوفياء بتصفية والده.

يؤكد مصطفى أن “حادثة الاغتيال تندرج في إطار جرمي محض وليس لها أية علاقة بخلافات عشائرية”، مبديا استغرابه من صدور قرار قضائي من محكمة ميسان الجنائية في 3 أيلول 2021 يقضي بإعدام أحد قتلة والده بسبب خلاف عشائري، مطالبا باعتقال الجناة الحقيقيين ومحاسبة من يقف خلفهم.

تعويضات ورحلات علاجية

أكثر من أربعة أعوام مضت على قتل المتظاهر مصطفى عبد الحسين العبودي (30 عاما) قرب مبنى مديرية شرطة الناصرية وسط محافظة ذي قار، دون فتح تحقيق جنائي أو حتّى جمع أدلّة لتحديد هوية الجناة.

حصل ذلك في الساعة الخامسة من عصر يوم الجمعة 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، عندما أصابت رأسه رصاصة قناص لدى محاولته إخلاء أحد المتظاهرين الجرحى بالقرب من مبنى مديرية الشرطة.

سقط فجأة على الأرض. رفاقه الذين كانوا يراقبون المشهد من بعيد اعتقدوا بادئ الأمر أنه تعثر وسيعاود النهوض، لكن ذلك لم يحدث، فهرع إليه عدد منهم ليضج بعدها المكان بالصياح ” قتلوا مصطفى.. قتلوا مصطفى” .

رحل الشاب الذي كان قبل مشاركته في تظاهرات تشرين يقاتل ضمن لواء علي الأكبر التابع للعتبة الحسينية، إحدى تشكيلات الحشد الشعبي، من أجل تحرير مناطق في غربي العراق من سيطرة تنظيم داعش “وعندما خرج مطالبا بانهاء الفساد واسترداد وطنه، وحقوقه كمواطن قتلوه” هكذا يلخص شقيقه الأصغر مرتضى سنوات عمر شقيقه الأخيرة.

يكشف مرتضى عن تسلم عائلته مبلغاً تعويضياً من حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، قدره عشرة ملايين دينار (6600 دولار)، مع تخصيص قطعة أرض سكنية وراتب شهري يقدر بمليون ومئتين الف دينار (800 دولار).

جاءت تعويضات عوائل ضحايا تظاهرات تشرين، تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء الصادر في 21 أب 2020 القاضي بشمولهم بقانون تعويض المتضررين جراء العمليات الحربية والاخطاء العسكرية والعمليات الارهابية، رقم (20) لسنة 2009، بما يترتب عليه من حقوق وامتيازات.

التعويضات المالية والعينية التي حظي بها الضحايا، تضمنت رواتب تقاعدية ومبالغ مالية تعويضية للمصابين، بحسب البيانات الحكومية.

حصل حيدر الباشا، على تعويض مالي قدره 14 مليون دينار وراتب شهري 800 ألف دينار، صرف جلها لمتابعة رحلته العلاجية وفق تأكيده، لكنه أشار الى أن العشرات من الجرحى لم يتسلموا أية حقوق حتى الآن والبعض منهم سجلت ملفاتهم على انها إصابات خارج ساحة التظاهر، وهو ما يؤكده أيضا المتظاهر الجريح ظاهر الغزي، الذي لم يتسلم أية تعويضات مالية حتى الآن.

تلك التعويضات يصفها غالبية المصابين بالبسيطة في ظل كلف العلاج العالية التي تبلغ عدة اضعاف خاصة في الحالات التي تحتاج الى علاج ورعاية مستمرة.

محمد العكيلي شاب من ذي قار تعرض لطلق ناري إثر مشاركته في تظاهرات ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد في تشرين الأول 2019 سبب له شللاً نصفياً وأقعده على كرس متحرك.

الشاب ذو 23 عاما كان من ضمن 12 جريحاً سافروا إلى المانيا في الثامن من شهر نيسان 2022 لتلقي العلاج، بعد وعد قطعه له رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي ولعدد من زملائه، خلال لقائهم به في 8 أيلول 2021، إلا انهم تفاجؤوا باقتصار الرحلة على اجراء فحوصات وتقيم للحالة الصحية وتقديم الاستشارة الطبية والجراحية دون إجراء أية عملية جراحية لتحسين وضع الجرحى.

يقول العكيلي: “فشلت الرحلة التي خصصت لها الحكومة قرابة 4 مليارات دينار، وعاد جل الجرحى إلى العراق، لكن البعض قدموا طلبات لجوء في المانيا أملا في الحصول على علاج ورعاية دائمة هناك”.

لم تكن الرحلة العلاجية الى المانيا الأولى من نوعها فقد سبقتها رحلتان علاجيتان الى الهند وتركيا في عامي 2020 و2021 ضمت 33 مصابا بعضهم تلقى العلاج وتحسن وضعه الصحي وعاد الى البلاد، والبعض الآخر فشلت محاولات علاجهم لشدة الإصابة التي تعرضوا لها.

متهمون بزي عسكري

في منزل عائلة صفاء السراي بالعاصمة بغداد، الذي قتل بإصابة مباشرة في الرأس بقنبلة مسيلة للدموع خلال تظاهرات 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ويعده زملاؤه “أيقونة تشرين”. قابل معد التحقيق شقيقه “بهاء” الذي اتهم الحكومة بما حصل من عمليات قتل للمتظاهرين.

يقول بهاء ان حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، حاولت وأد التظاهرات باستخدام كل القوة المتاحة، فزجت بعناصر من المليشيات يرتدون ملابس عسكرية في مواجهة المتظاهرين لمنعهم من الاقتراب أو اقتحام المنطقة الخضراء التي تضم المباني الحكومية ومقار البعثات الدبلوماسية.

السراي يقدر أعداد المتظاهرين الذين لقوا مصرعهم داخل وخارج ساحات الاحتجاج بنحو 800 شخص، ويرى أن “الأجهزة الأمنية تعمدت توثيق بعض القتلى على أنهم من ضحايا حوادث عنف عشائري او قتل جنائي في محاولة للتهرب من المساءلة القانونية وطمس هوية الجناة”.

وكان الحراك الشعبي بالعراق الذي تركز في بغداد ومدن جنوب البلاد، قد بدأ في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2019 بدعوات احتجاج اطلقها نشطاء شباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي لم تكترث لها الأحزاب الحاكمة، لتتوسع سريعا وبشكل فاجأ القوى الشيعية التي اتهمها المتظاهرون بـ” الفساد والتبعية للخارج”، ووصفوها لاحقا بعد عمليات القتل بـ”حكومة القناصين”.

نجح الحراك في الإطاحة بحكومة عادل عبد المهدي وتم تشكيل أخرى يرأسها مصطفى الكاظمي، لكن التظاهرات استمرت بشكل متقطع في بغداد وعدد من مدن الجنوب وبشكل خاص الناصرية بهدف الضغط للإيفاء بالتعهدات المتعلقة بتحسين الخدمات ومحاربة الفساد ومحاكمة المتورطين بقتل المتظاهرين.

بدأ الحراك الشعبي الذي تركز في بغداد ومدن جنوب البلاد مطلع تشرين الأول 2019 بدعوات احتجاج اطلقها نشطاء شباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي لم تكترث لها الأحزاب الحاكمة، لتتوسع سريعا وبشكل فاجأ القوى الشيعية التي اتهمها المتظاهرون بـ” الفساد والتبعية للخارج”، ووصفوها لاحقا بعد عمليات القتل بـ”حكومة القناصين”.

أرقام حكومية غير دقيقة

في 30 تموز/يوليو 2020، خلال مؤتمر صحفي عقد بمقر الحكومة، أعلن هشام داود مستشار رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، حصيلة الضحايا الذين سقطوا خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد، وحددهم بـ 560 قتيلا، بينهم 18 منتسباً في القوات الأمنية.

شكك نشطاء في تنسيقيات التظاهرات، برقم الضحايا المعلن من قبل الحكومة خاصة مع إغفالها لأعداد الجرحى، في وقت حصل معد التحقيق على وثائق صادرة عن المفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان ووزارة الصحة، تكشف عن رقم أكبر.

أظهرت الوثائق وجود تباين بين الأرقام التي أعلنتها الحكومة وتلك المسجلة رسميا لدى المفوضية ووزارة الصحة والتي تعتمد على شهادات الوفاة التي منحت لعائلات الضحايا، ما يشير الى وجود ضحايا لم يتم توثيق مقتلهم.

الوثائق التي تمتد من مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ولغاية 9 آذار 2021، تحصي مقتل 573 متظاهراً في 12 محافظة: 287 منهم في بغداد، و121 في ذي قار، و41 في البصرة، و39 في النجف، و25 في ميسان، و20 في الديوانية و40 في ديالى وواسط وبابل وكربلاء والسليمانية.

يضاف إليهم 17 قتيلاً من منتسبي الأجهزة الأمنية، لقوا حتفهم في البصرة وذي قار والديوانية والعاصمة بغداد.

الوثائق تكشف أيضاً عن اغتيال 34 متظاهراً خارج سوح الاعتصام والتظاهر، 29 منهم في بغداد وميسان وذي قار والبصرة، والآخرون في واسط والديوانية وكربلاء، بينهم الإعلامي أحمد عبد الصمد ومصوره صفاء غالي اللذين اغتيلا في العاشر من يناير/كانون الثاني 2020 في البصرة.

وقُبيل اغتياله، كان الصحفي أحمد عبد الصمد قد نشر مقطعا مصورا على حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، تحدث فيه عن تهديدات يتلقاها من مليشيات بسبب انتقاده فصائل وأحزابا مدعومة من إيران.

وقال عبد الصمد آنذاك إنه يتلقى تهديدات مبطنة بسبب تجاوزه “خطوطا حمرا تتعلق بإيران والمليشيات المسلحة والأحزاب”.

بحسب الإحصائيات، نجا 26 متظاهراً من محاولات اغتيال حدثت في محافظات ميسان وذي قار وبغداد وبابل.

وتبين الوثائق إصابة غالبية القتلى بطلقات نارية في منطقة الرأس، في مؤشر على التعمد في القتل، وليس مجرد ابعاد المتظاهرين ومنعهم من اقتحام منشآت أو مقرات حكومية.

يرجع نشطاء في التظاهرات، ذلك التباين بين الأرقام المعلنة من الحكومة وتلك الموثقة من قبل المفوضية، إلى أن الجهات الحكومية لم تحسب بعض الضحايا الذين قتلوا خارج ساحات التظاهر، وفي الغالب اعتبرتهم ضحايا نزاعات عشائرية أو اجتماعية أو حوادث، حسبما يقول مسؤول لجنة ضحايا وجرحى تظاهرات تشرين الناشط علي العبادي.

والد الناشط صلاح العراقي الذي اغتيل في منطقة “بغداد الجديدة” بتاريخ 15 كانون الأول 2020 يقول إن قضية ولده المقتول قيدت ضد مجموعة “إرهابية” مجهولة الهوية، في محكمة جنايات الرصافة، ولم يدرج اسمه ضمن قوائم ضحايا تشرين ولم تحصل عائلته على أية حقوق، “هذا ما حصل على الرغم من أن ولدي كان أحد أبرز الناشطين في ساحة التحرير”.

ما يقوله والد الناشط المقتول، يؤكده مسؤول لجنة شهداء التظاهرات في مؤسسة الشهداء العراقية علي جاسم، الذي يقر بعدم إدراج عدد من الناشطين الذين تم اغتيالهم في العاصمة بغداد اثر مشاركتهم في الاحتجاجات ضمن قوائم الضحايا، وتم التعامل مع ملفاتهم كضحايا عمليات إرهابية وجنائية لا علاقة لها بالتظاهرات، رغم ما يمتلكه عوائل الضحايا من قرائن تثبت مشاركتهم في الاحتجاجات.

ويضيف “الإعلامي والناشط حقي اسماعيل عباس، كان من أبرز المقتولين، أعقبه نشطاء آخرون مثل علي نجم اللامي، والناشطة زهراء علي، وعدنان رستم، وغازي التميمي، ومصطفى علي، ومحمد جاسم الدجيلي وصلاح حسن الشمري”.

بلغ عدد المصابين في صفوف المحتجين 21108، فيما بلغ عددهم في صفوف أفراد القوات الأمنية 4766 مصاباً

بالتزامن مع عدم اعتراف الحكومة بعشرات ضحايا القتل من المشاركين في تظاهرات تشرين وما تبعها، أدارت حكومة مصطفى الكاظمي وبعدها حكومة محمد شياع السوداني ظهرها لملف معالجة آلاف الجرحى الذين سقطوا في ساحات التظاهر جراء العنف المفرط الذي مورس ضدهم من قبل الأجهزة الأمنية والفصائل المسلحة.

بلغت أعداد المصابين بدءا من مطلع تشرين/أكتوبر 2019 وفق الوثائق، 21108 متظاهراً، فيما بلغ عدد المصابين من أفراد القوات الأمنية 4766 مصاباً، وأعداد المعتقلين 3165 معتقلاً، بعضهم قضى أشهرا في الاعتقال.

وذكرت رابطة جرحى تشرين التي تدار من مجموعة ناشطين انها “وثقت وجود 1713 جريحاً من المتظاهرين مصاب بعاهة مستديمة وبينهم حالات وصفت طبيا حينها بالحرجة”.

وحسب الوثائق فان أعداد المفقودين والمخطوفين من المتظاهرين بلغت 76 شخصاً، أطلق سراح 22 منهم لاحقا، بينما بقي مصير الآخرين مجهولاً حتى اليوم من بينهم المحامي الميساني علي جاسب، والناشط في احتجاجات الناصرية سجاد العراقي الذي اختفى مساء 20 سبتمبر/أيلول 2020.

ولم تكن المرأة المحتجة بمنأى عن الأذى خلال التظاهرات. فوفقاً للوثائق، اغتيلت الناشطة رهام يعقوب يوم 19 أغسطس/آب 2020، بعمر الثلاثين، برصاص مسلح ملثم أطلق النار عليها من على دراجة نارية، عندما كانت داخل سيارتها في مدينة البصرة. وأصيبت 18 امرأة بجراح مختلفة، وتعرضت خمس لمحاولات اغتيال، وتم اختطاف خمس أخريات قبل ان يتم الإفراج عنهن لاحقاً.

كما قتل أربعةٌ من الكوادر الطبية، التي كانت تتدخل أحيانا لإسعاف وإخلاء الجرحى من ساحات التظاهر في 12 محافظة عراقية، وأصيب 158 آخرون بجراح مختلفة.

وتعرضت تسع مؤسسات إعلامية متنوعة إلى الاقتحام والحرق ومنها قنوات الشرقية، والرشيد، ودجلة، وأن ار تي، وتسجل الوثائق أيضاً تعرض 41 صحافياً وإعلامياً لاعتداءات تنوعت بين مصادرة المعدات والاعتقال والضرب فيما تم تفجير منزل أحدهم، وهو ما دفع الكثير منهم إلى التوقف عن العمل والنزوح نحو مدن إقليم كردستان أو أبعد من ذلك إلى تركيا وأوربا.

التغطية على الجريمة

في منتصف آذار مارس 2024 علمت منظمات معنية بحرية الصحافة بالافراج عن المتورط الرئيسي بقتل المحلل السياسي هشام الهاشمي، وهو موظف في الداخلية ينتمي لكتائب حزب الله وهي الجهة المتهمة الأولى في قتل الهاشمي وفقًا لمصدر أمني.

خبر الافراج عن قاتل الهاشمي، لم يكن صادما لنشطاء تشرين والحقوقيين في البلاد في ظل تزايد نفوذ الجامعات المسلحة في الحكومة والدولة وقدرتها على تصفية معارضيها ومنتقديها دون ان تطالها المحاسبة، فالغالبية الساحقة من ضحايا الاحتجاجات لم يستطيعوا تقديم المتورطين والمتهمين بقتلهم الى القضاء، وانتهت القضايا القليلة التي وصلت الى المحاكم من دون محاسبة، في دليل واضح، كما يقول نشطاء على “مسار الافلات من العقاب” الذي اتخذته قوى الاطار التنسيقي الحاكمة، رغم وضوح الجريمة.

يقول القيادي في الاحتجاجات وأمين عام حزب البيت الوطني حسين الغرابي، ان كل حوادث تصفية المتظاهرين تقريبا مرت دون مساءلة الجناة أو حتى الكشف عن هوياتهم، متهما الحكومة ليس بالتقصير فقط بل بالتعمد في التغطية على الجريمة من خلال إدراج “أسماء المتظاهرين والناشطين الذي تمت تصفيتهم خارج ساحات التظاهر ضمن حوادث الاستهداف الجنائية ذات البعد الاجتماعي والعشائري”.

كان الهدف من وراء ذلك “طمس معالم الجرائم وإضاعة حقوق من تمت تصفيتهم داخل وخارج ساحات الاحتجاجات، ومنع اي محاولة للمساءلة مستقبلاً”. 

ويوضح الغرابي أن الفعاليات الشعبية التي انبثقت عن تشرين لا تثق بالأرقام الرسمية التي أعلنتها الحكومة بشأن أعداد الضحايا، لذلك فأن منظمات حقوقية مستقلة اضطلعت بهذه المهمة.

المنظومة القضائية العاجزة

الافلات من العقاب، واجه كل من تقدم بشكوى سواء في بغداد او ذي قار او البصرة. وهو ما أكده مرتضى شقيق المتظاهر القتيل مصطفى العبودي، الذي توجه نحو المؤسسات القضائية لتعقب قتلة شقيقه.

تقدمت عائلة العبودي بشكوى لدى مركز شرطة الثورة الواقع وسط الناصرية مطلع كانون الثاني 2020 والذي رفعها إلى محكمة تحقيق ذي قار، لكن الأخيرة ماطلت وتم تأجيل البت فيها مرات عدة تنفيذا لرغبات مسؤولين متنفذين في بغداد، يقول مرتضى.

ويتابع: “المحكمة قوم بتسويف مثل تلك القضايا وإغلاقها بالتنسيق مع أحزاب السلطة”، كاشفا عن تلقي عائلته دعوات من ممثلي أحزاب للتنازل عن الحق الشخصي “لكن العائلة رفضت الاستجابة لتلك الدعوات”.

ويؤكد مرتضى أن لدى عائلات الضحايا ما يثبت تورط الأجهزة الأمنية بقتل المتظاهرين في مدينة الناصرية، وجرى تسليمها لمعنيين في مجلس القضاء الأعلى. ويستدرك “لكنهم لم يستندوا إليها وأطلقوا سراح العديد من المتهمين ممن أُلقي القبض عليهم”.

ويرى ان حكومة الكاظمي كما السوداني لم تبدي اي جدية لمحاسبة القتلة، وان المسؤولين الأمنيين عمدوا الى تحريف مجريات القضايا أو تسويفها ومن ثم إغلاق الدعاوى “حتى لا تنكشف الجهات التي تقف وراء عمليات التصفية التي طالت المحتجين.

ويكشف مرتضى، عن رفع عائلات القتلى 152 قضية، بينما رفع جرحى التظاهرات 900 دعوى، لم تصدر أحكام بشأنها.

كما تعرضت عائلة سجاد العراقي، وهو ناشط بارز آخر أُخفي قسرًا في سبتمبر/أيلول 2020 في الناصرية لتهديدات عديدة من قبل أشخاص يُعتقد أنهم على صلة بالخاطفين وفصائل مسلحة. وقد اتصل هؤلاء الأفراد بالأسرة في عدة مناسبات أو قصدوا منزلهم للضغط عليهم لإسقاط قضيتهم المتعلقة باختفاء سجاد العراقي. وتمحور نشاط سجاد العراقي على مكافحة الفساد.

وفي تقرير صدر في يونيو/حزيران 2022، لم تتمكن بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) إلا من تحديد إدانة أربعة “عناصر مسلحة مجهولة الهوية” منذ مايو/أيار 2021 وستة أفراد من قوات الأمن بعمليات إطلاق نار مستهدفة وقتل واختطاف.

وأضاف التقرير : “لم تتمكن البعثة الدولية لمساعدة العراق/مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان من تحديد أي قضايا أخرى تجاوزت مرحلة التحقيق خلال الفترة المشمولة بالتحقيق”.

تسويف وغياب للأدلة

كما حصل في ذي قار مع عائلة مرتضى، تكرر الأمر في العاصمة بغداد، مع عائلة المحتج القتيل صفاء السراي التي اقامت دعوى قضائية في مركز شرطة السعدون مطلع تشرين الثاني 2019، فقام المركز يتحويلها إلى المحكمة الجنائية المركزية كونها ضد رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، والقوى الأمنية التي كانت مرابطة على جسر الجمهورية يوم 28 تشرين الأول 2019 أي يوم مقتل صفاء.

وعلى الرغم من تحديد المسؤولين، إلا أن متابعة بهاء، شقيق صفاء السراي، الشكوى المقدمة لدى مركز شرطة السعدون المسؤول عن الرقعة الجغرافية لمكان الحادث، لم تُسفر عن شيء. في النهاية كما يقول “الدعوى أغلقت بشكل سري”.

محاولات أحزاب السلطة لدفع عائلات الضحايا للتنازل عن الحق الشخصي، تكررت هي الأخرى في بغداد وفقاً للسراي، الذي كشف عن تعرض أفراد عائلته لضغوط حزبية هدفها اسكات أصواتهم.

ويتهم بهاء السراي، حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، بعدم الجدية كسابقتها في التعاطي مع ملف ضحايا تشرين وتعويض عائلاتهم على الرغم من الوعود التي أطلقها مرراً. ويقول “لم تكن سوى دعاية انتخابية مبكرة”.

يقول عضو بفريق المحامين أن “القضايا التي اتهم فيها ضباط وعناصر أمن محددون، قليلة جداً، لكن مئات القضايا مسجلة ضد مجهولين ودون أدلة”. ويضيف: مثل أي قضية أخرى عندما تجد المحكمة أن الدعوى المقدمة إليها “بلا أدلة كافية”، تأمر بوقفها لحين ظهور دليل، وهذا هو مصير القضايا الكثيرة العالقة التي تقدمت بها عائلات القتلى.

اتهامات عائلات الضحايا للحكومة بتسويف محاكمة الجناة، يؤكدها بيان لمجلس القضاء الأعلى  صدر في الرابع من تشرين الأول- أكتوبر 2020 وجاء فيه: “استلم المجلس ملف تحقيق إداري من حكومة عادل عبد المهدي ليس فيه متهمون محددون ولا حتى تحديد للجهة المقصرة في القضية سواء كانت مؤسساتية أو شخصية”.

إجراءات بلا نتيجة

عندما تولى مصطفى الكاظمي في أيار 2020 رئاسة الحكومة المؤقتة التي تشكلت خلفاً لحكومة عادل عبد المهدي التي استقالت إثر الاحتجاجات، تعهد بالتحقيق في مقتل المتظاهرين، وأقام في 18 تشرين الأول 2020، لجنة بموجب الأمر الديواني رقم 293 لتقصي الحقائق حول أعمال العنف والمسؤولين عن القتل.

تألفت اللجنة من (25) محققاً من القضاة المتقاعدين، وأعضاء في أجهزة المخابرات والأمن الوطني والاستخبارات.

مصدر مطلع في الحكومة السابقة، فضل عدم الإفصاح عن هويته، ذكر أن محققين قاموا حينها بتصنيف ما وثقته كاميرات المراقبة والنداءات العسكرية والأمنية، فيما أجرى آخرون تحقيقاً مع بعض الشخصيات الحكومية السابقة بنحو غير معلن لكشف حقيقة ما جرى.

ويشير المصدر إلى أن حكومة الكاظمي كانت ترغب بمشاركة محققين دوليين في هذا الملف لضمان الاستقلالية، غير أن القانون العراقي لم يكن يسمح بذلك.

وفي 28 أيار 2021 أعلنت لجنة تقصي الحقائق، عن استدعاء 22 ضابطاً من رتبة نقيب إلى لواء ونحو 90 شرطياً وجندياً، قسم من هؤلاء متهمون بقضايا قتل والآخرون متضررون وضحايا، بحسب المصدر الحكومي.

وفي 14 شباط 2021 وجه الكاظمي، بالإسراع في الإجراءات التحقيقية من قبل لجنة الأمر الديواني المرقم/ 293 لسنة 2020 للتوصل إلى المتورطين باستهداف المشاركين بتظاهرات تشرين، مؤكداً أن نتائج التحقيقات “سيتم عرضها علناً التزاماً بالبرنامج الحكومي، وإيفاءً بالوعود التي قطعت لمتظاهري تشرين”.

وبعد مرور عام كامل على الوعود التي اطلقها الكاظمي والزم نفسه بها، لم تكشف اللجنة التحقيقية أية نتائج. استمر ذلك حتى مغادرة الكاظمي لموقعه. ورغم محاولات التواصل المتكررة مع مكتبه الخاص لمعرفة ما توصلت له اللجنة، إلا أنهم رفضوا الادلاء بأي تصريح.

تعويضات مع وقف التنفيذ

في ذات المؤتمر الصحفي الذي عقده هشام داود مستشار رئيس الوزراء السابق في تموز/يوليو 2020 الذي اعلن فيه عدد المتظاهرين القتلى، أقر بما أسماه “عنف غير مبرر” بحق المحتجين رافق التظاهرات، لافتاً إلى اصدار الحكومة قرراً بمنح كل عائلة من عائلات الضحايا مبلغ عشرة ملايين دينار (7000 دولار أمريكي) كتعويضات.

بعد أكثر من سنتين من ذلك التاريخ، ووسط صخب المتجمهرين في ساحة التحرير في الذكرى الرابعة لتظاهرات تشرين، وقفت أم محمد الباقر الجريح الذي إصابته رصاصة في 4 تشرين الأول 2019 جعلته طريح الفراش بشلل نصفي، تصرخ بأعلى صوتها “لا تتركوا الساحات… دماء إخوانكم لم تجف بعد”. تضيف وهي تذرف الدموع: “لا نريد تعويضات، بل نريد كشف القوات والجهات التي استخدمت العنف ضد المتظاهرين”.

يرى العضو السابق بالمفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان علي البياتي، ان هناك إشكالية قانونية في تعويض ضحايا التظاهرات استناداً لقانون التعويضات رقم 20 لسنة 2009 الذي يشمل ضحايا الارهاب وضحايا الأخطاء العسكرية.

ويقول بأن الحكومة “وقعت في مأزق عدم تمكنها من اطلاق صفة (ضحايا الارهاب) على المقتولين، لأن ذلك سيفرض عليها البحث عن الجناة الإرهابيين في وقت تتحدث فيه عن وجود طرف ثالث ومندسين نفذوا عمليات القتل تلك”.

وبحسب البياتي فأن احتساب ضحايا التظاهرات من ضمن الاخطاء العسكرية، يعني أن ساحات الاحتجاج السلمية كانت عبارة عن ساحات حرب وعمليات عسكرية، وبالتالي فالأجهزة الأمنية ستبقى في دائرة الاتهام بارتكاب جرائم ضد مدنيين عزل”.

تلك الاشكالات القانونية، كانت تفرض على مجلس النواب إجراء تعديلات على قانون التعويضات، وصولا الى تشكيل محكمة لحقوق الإنسان خاصة بضحايا التظاهرات تحقق مع القيادات الأمنية والمسؤولين المتهمين باصدار الأوامر، استنادا إلى قانون المفوضية، وفق رؤية البياتي.

لكن كل ذلك لم يتحقق في سياق تسويف الملف بمشاركة من جناحي الحكومة، التنفيذي والتشريعي، ومع عجز القضاء.

يقول البياتي ان العجز الحكومي عن التعاطي مع ملف ضحايا تشرين لم يقتصر على “الفشل في تقديم المتهمين بالقتل الى القضاء، ولا في محاسبة وسائل الاعلام وصفحات السوشيال ميديا التي كانت تحرض على القتل باتهامها المتظاهرين بالتخريب وتنفيذ اجندات خارجية” رغم انهم كانوا شبابا في مقتبل العمر يطالبون “بانهاء الفساد ومحاصصة المغانم وبناء دولة ذات اقتصاد قوي تؤمن حياة كريمة لمواطنيها”.

يستطرد: “وصل بها الأمر الى ملاحقة مئات النشطاء الفاعلين وكيل تهم باطلة لهم كإتهامهم بالانتماء لحزب البعث”.

يسخر علي البياتي، من تلك التهم، ومن إرسال بعض ملفات الضحايا إلى هيئة المساءلة والعدالة للتأكد من إذا كانوا منتمين لحزب البعث المحظور أم لا!، قائلا “أعمار أغلب المتظاهرين لم تكن تتجاوز العشرين عاماً، ولم يعرفوا أبداً حقبة البعث ونظامه الذي انتهى في العراق سنة 2003”.

حقيقة وجود الطرف الثالث

بعد انتهاء التظاهرات بتغيير الحكومة، أرجع المتحدث العسكري باسم القائد العام للقوات المسلحة السابق اللواء يحيى رسول، عمليات القتل والاصابات التي وقعت الى “قيام القوات الأمنية المسؤولة عن حماية الساحات والمتظاهرين بإطلاق القنابل المسيلة للدموع بنحو غير صحيح”، مبررا ذلك “بقلة خبرة تلك القوات في التعامل مع القنابل الدخانية واستخدام الذخيرة الحية في بعض الأحيان”

المتحدث العسكري لم يوافق على ما افترضته الأوساط السياسية والأمنية في حكومة عادل عبد المهدي بوجود طرف ثالث يقف وراء استهداف المحتجين، محملاً حكومة عبد المهدي مسؤولية ما جرى من أحداث في ساحات التظاهر وتصادم بين القوات الأمنية والمحتجين.

ويتفق عضو لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب مهدي آمرلي مع ما ذهب إله رسول، مبينا أن تحقيقات اللجنة المشكلة بشأن الأحداث الدامية التي وقعت، توصلت إلى إن “ما جرى كان نتيجة ردود أفعال غير منضبطة من بعض الضباط والجنود ضمن قاطع المسؤولية بسبب الضغوط التي تعرضوا لها إثناء تعاملهم مع المحتجين”.

ووفقاً لما كشف عنه آمرلي فإن إفادات بعض الضباط والمنتسبين أمام اللجنة التحقيقية “أثبتت تعامل عدد من الضباط مع المحتجين بنحو هستيري، وقاموا بإطلاق النار تجاههم دون علم القيادة العليا أو بناء على أوامر عسكرية”.

لكن نشطاء في الحراك الشعبي كحسين الغرابي، ينفون ما يقوله آمرلي، مؤكدين وجود أوامر اطلاق نار من أطراف سياسية وجماعات مسلحة خاضعة لأحزاب السلطة، أرادت استخدام القتل لترويع المتظاهرين وانهاء تظاهراتهم واعتصاماتهم.

وكان وزير الدفاع العراقي الأسبق نجاح حسن علي الشمري، قد اتهم في مقابلة متلفزة بثت في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 طرفاً ثالثاً لم يسمه بقتل المتظاهرين، نافياً صدور أوامر عسكرية لإطلاق النار على المحتجين في ساحات التظاهر.

وأرجع الوزير ارتفاع أعداد ضحايا التظاهرات في العام 2019، إلى استخدام القوات الأمنية لقنابل الغازات المسيلة للدموع التي كانت تطلق بتصويب مباشر إلى رؤوس المتظاهرين، الى جانب وجود طرف ثالث.

تصريحات الشمري وإن عدها بعض المحتجين محاولة لتبرئة الفصائل المسلحة وأحزاب السلطة من عمليات القتل، فانها شكلت في الوقت عينه غطاءً لموجات قتل واختطاف لاحقة تعرض لها ناشطون وألقيت المسؤولية فيها، من قبل ساسة وأجهزة أمن وحتى وسائل إعلام، على ما أسماه وزير الدفاع “الطرف الثالث” المجهول!.

قتلة تحميهم الحكومة

ظهيرة الخامس من شباط/فبراير 2020 في “ساحة الأحرار” بمدينة النجف والتي كانت بؤرة ساخنة للاحتجاجات، قتل مهند وميض القيسي الذي كان في 25 من عمره، برصاص عناصر فصيل مسلح تابع للحشد الشعبي.

قالت والدته أنه كان متواجداً صباح ذلك اليوم في منزل العائلة الواقع بحي الوفاء وسط النجف، أثناء اقتحام مسلحين لساحة الاحتجاج، لكنه خرج مسرعاً الى هناك بعد تلقيهِ اتصالاً من أحد اصدقائه أبلغه باحتراق خيمهم.

لم يكد مهند يدخل الساحة حتى أصابته رصاصة بندقية في صدره ليفارق الحياة على الفور، وفقاً لوالدته التي كانت تصرُّ وبنحو دوري على الذهاب إلى ساحة الأحرار لإشعال الشموع وقراءة القرآن والدعاء للاقتصاص من قتلة ولدها الوحيد، قبل أن تغادر العراق.

تقول الأم ان ابنها لم يحمل يوماً سلاحاً، ولم يكن راغباً بشيء سوى العيش في بلد يحفظ كرامته.

ما حدث لمهند ورفاقه من المتظاهرين يربطه الكاتب والسياسي غيث التميمي بفشل الدولة في مقاربة العدالة الانتقالية وحماية المتظاهرين وذويهم من عمليات الاغتيال المنظمة، والعجز عن محاكمة الجلادين والمتهمين باستباحة الدم العراقي.

ويعتقد بأن ملف قتلى تشرين هو واحد من الملفات التي ستخلف مستقبلا صراعات مجتمعية، بسبب تخلي الحكومة عن مسؤوليتها في حماية المواطنين ومحاسبة القتلة ومعالجة المصابين المعوزين الذين يعانون من أوضاع صعبة.

ويقول ان شباب تشرين تظاهروا ضد السياسات التي مزقت البلد وبددت ثرواته وطالبوا بانهاء الفساد وفرض هيمنة الدولة على مقدرات البلاد وانهاء التدخلات الخارجية “تلك من أهم رسائلهم، لكنهم قمعوا بشكل بشع أمام مرأى ومسمع العالم”.

ويحمل التميمي رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، ورؤساء الحكومات التي تلته، مسؤولية عدم الكشف عن القتلة وتعويض الضحاي، مشيراً إلى أن “المئات من المصابين ما يزالون يرزخون تحت سطوة الإعاقة والحاجة إلى متابعة صحية مستمرة”.

التميمي يشير الى غياب “قاعدة بيانات” حكومية عن الضحايا، مبينا أن الحكومة ذاتها مسؤولة عن عدم السماح للمنظمات الدولية بحصر أعداد الضحايا “لأنها ضيقت عليها ولم تمنحها الحرية الكاملة لممارسة عملها” وهو ما أدى الى عدم دقة الأرقام التي تعلنها.

وينتمي الغالبية الساحقة من ضحايا احتجاجات تشرين الى المكون الشيعي، وينحدرون في الغالب من عائلات فقيرة من جنوب البلاد الذي بلغت معدلات الفقر في بعض محافظاته 25% في السنوات الأخيرة، نتيجة الفساد الممنهج للقوى الحاكمة، رغم الثروات النفطية الهائلة الكامنة هناك.

ملاحقة هؤلاء المحتجين، استمرت بعد انتهاء التظاهرات، وتواصلت عمليات الاغتيال والقتل والخطف وانتهاك حقوق الإنسان في حكومة مصطفى الكاظمي نتيجة عجز الدولة عن محاسبة المتسببين بإراقة الدم، وفق التميمي الذي اتهم الحكومة “بحماية قتلة المتظاهرين”. وهذا ما يدفعه الى دعوة المجتمع الدولي للتدخل لمحاسبة القتلة والكشف عن مصير المغيبين.

ومع ادراك ضحايا احتجاجات تشرين استحالة قيام القضاء العراقي بمحاسبة المتورطين في القتل المحمين من القوى الحاكمة، رفعت عائلات خمس من الضحايا شكوى في محكمة فرنسية ضد رئيس الحكومة الأسبق عادل عبد المهدي، بتهمة “ارتكاب جرائم ضد الإنسانية”، وفقاً لبيان صحفي لمكتب المحاماة الذي يتولى الدعوى أوضح أن الشكوى قدمت لدى النيابة العامة المختصة بمكافحة الجرائم ضد الإنسانية في محكمة باريس، من قبل المحامية جيسيكا فينال، في مطلع نيسان/ أبريل 2021.

لكن الخبير القانوني علي التميمي يرى ان الجرائم التي حصلت ضد المتظاهرين العراقيين تخالف مواد قانون المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الفرنسي، رغم ذلك يقول ان الشكوى “رفعت في فرنسا لأنها تدعم حق التظاهر السلمي ولأنها منظمة لاتفاقية روما، ولإمتلاك عبد المهدي الجنسية الفرنسية”.

وكان بيان مكتب المحامية قد اشار إلى أن “المظاهرات المشروعة قمعت بنحو منهجي ووحشي لم يسبق لها مثيل”، إذ “تمركز القناصون وترصدوا المتظاهرين مسبقاً”، وقامت قوات الأمن “باستخدام الغاز المسيل للدموع من النوع العسكري وأطلقوا قنابلها من مسافات قريبة”.

واستشهد البيان بتصريح لمنظمة العفو الدولية قالت فيه إن “القوات العراقية كانت تهدف إلى القتل وليس إلى تفريق المتظاهرين”.

ووثقت الشكوى، التي تضمنت ثمانين صفحة تورط السلطات ورأسها التنفيذي في انتهاكات لحقوق الإنسان، إذ “كانت الجرائم منظّمة تنظيماً عالياً وتستند إلى سياسة حكومية لشن الهجمات ضد المتظاهرين”. ويتهم عبدالمهدي، بأنه لم “يتخذ تدابير معقولة لمنع الجرائم، بل شجعها من خلال الأقوال والأفعال أو الإغفال عنها”.

وكان عبد المهدي قال في مقابلة صحفية في 10 حزيران 2023 بأن تظاهرات تشرين كانت “مؤامرة، وتعبيراً عن رغبة أميركية واسرائيلية بإضعاف العراق”.

لا يبدي الجريح حيدر الباشا، استغرابه من كلمات عبد المهدي، فتلك الرواية رددتها شخصيات نافذة في السلطة طوال سنوات، معروفة بقربها من ايران، معرباً عن أمله بأن تتحقق العدالة يوما ما في ملاحقة عبد المهدي وكل المسؤولين عن جرائم القتل والقمع بحق المتظاهرين.

بعد أكثر من اربع سنوات على تظاهراتهم الكبرى التي شملت 12 محافظة عراقية، والتي أشعل شباب المحافظات الأكثر فقرًا فتيلها ضد فساد النخب الحاكمة، يحيط الإحباط الكثير من نشطاء تشرين نتيجة فشل حراكهم في تحقيق “الاصلاح والتغيير” الذي سعوا اليه، ومع عجز المنظومة القضائية عن تحقيق العدالة ومحاسبة القتلة والفاسدين.

يقول المتظاهر الثلاثيني، علي عباس، وهو يتطلع الى نصب الحرية الشاخص وسط بغداد “هنا وهناك كانت خيمنا، بقينا لأشهر نصارع الموت من أجل حياة أفضل.. في كل ركن هناك دماء سالت .. شهدنا أياماً لن تنسى، ومواقف وقصص تضحية لا تصدق، ستحكى لسنوات”.

يصمت للحظات مستذكرا أصدقاء فقدهم “كان حراكاً شعبياً فريداً حصل بتضحيات هائلة، وان فشل في كل شيء، فقد نجح في تعرية النظام القائم وكشف فساد عقليته ومنهجيته وكذب شعاراته، وزرع الأمل في امكانية بناء هوية وطنية جامعة يوماً ما”.

  • انجز التحقيق من قبل شبكة “نيريج” ضمن مشروع قريب #Qaribmedia

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":23999}" data-page="1" data-max-pages="1">