تحقيقات استقصائية: تاريخ طويل من الحرمان…. نساء عراقيات يُحرمن من حقوقهن في الميراث طوعاً أو كرهاً

تاريخ طويل من الحرمان…. نساء عراقيات يُحرمن من حقوقهن في الميراث طوعاً أو كرهاً

تحرم غالبية النساء العراقيات من ميراثهن من الأراضي، ويلتزمن الصمت في ظل طغيان العرف القبلي، وبينما تمتثل الغالبية طواعية لذلك الظلم هنالك من يجبرن خوفا على حياتهن

خديجة أحمد (79 سنة) هي آخر المتبقين على قيد الحياة من عائلتها الغنية التي كانت مؤلفة من أبوين وستة أشقاء، ثلاثة منهم ذكور، إلا أنها لم تحصل على أي من الأموال المنقولة وغير المنقولة في تركة والدها التي كانت ترتكز على أراض شاسعة ومشيدات في محافظة دهوك، وتم أقتسامها بين أشقائها ولاحقا بين أبنائهم الذكور فقط.

والدها كان زعيماً عشائريا وامتد نفوذه على منطقة واسعة على الحدود بين العراق وتركيا شمالي دهوك، لكن العرف الذي يقضي بعدم توريث النساء الأراضي ولا حتى منحهن مقابلا ماليا حال دون حصول خديجة وشقيقتها الأكبر المتوفية منذ سنوات، على شيء من تركة العائلة.

استنادا إلى العرف ذاته، لم تقدم السيدة، شكوى لدى المحكمة للحصول على حقوقها التي قالت بأن أبناء أشقائها قد أستأثروا بها “عيب كبير في عائلتنا أن تقيم المرأة دعوى في المحكمة ضد أهلها”.

وفقاً لقانونيين متخصصين في المجال العقاري، فأن غالبية المحرومات من الميراث، يلتزمن الصمت، بسبب طغيان العرف القبلي في المجتمع العراقي، في شماله ووسطه وجنوبه، وفي حين تمتثل الغالبية طواعية لذلك العرف المتبع جيلاً بعد جيل، فهنالك من تجبر على الإمتثال وإلا تفقد حياتها.

تقول خديجة:”أعرف بأن حصولي على حقي في ميراث أبي هو من شرع الله، وكثيراً ما دار حديث بيني وبين أبنائي بشأن ذلك، لكن أمي وجدتاي لم تحصلن على ميراثهن، لذا فأنا لست أحسن منهن بشيء”.

عرف قبلي

المحامي محمد أحمد يونس، يؤكد بأن القلة اللواتي يخرجن عن ذلك، بدفع من أزواجهن أو أبنائهن، يمكن أن يحصلن على حقوقهن عبر القضاء، بإزالة الشيوع فيما يخص العقارات، ويؤكدون بأن ذلك قد تسبب بنزاعات عائلية وعشائرية كثيرة، لكن ينتهي الأمر أحياناً “بمجرد قطيعة عائلية”.

ويقدم صوراً عديدة لحرمان المرأة من الميراث في المجتمع العراقي، بأن “يتنازل المورث عن أملاكه في حياته للذكور من أبنائه أو يتم إجبار الإناث على التنازل عن حقهن بعد وفاة المورث، أو تظل شريكة في الملكية على الورق دون الحصول على أي منافع، فيما يستغل الاشقاء الذكور التركة أو يتصرفون بها بيعا أو ايجارا”.

ويرجع السبب في حرمان الإناث من حقوقهن ولاسيما في التركات العقارية الى “عدم رغبة العائلة أو العشيرة بدخول أشخاص غرباء ممثلين بأزواج بناتها كمالكين لأراضيهم أو فتح باب احتمال بيعها لغرباء”.

وهذا الأمر ذاته يُفسر العرف العشائري والعائلي، القاضي بعدم تزويج الفتيات بغرباء، وتحديد الاقتران بأولاد العمومة في الغالب. ويقول بأن هذا العرف، فضلاً عن حرمان الاناث من حقوقهن الأرثية بنحو عام، شاع كذلك في المدن خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي”اتسمت بهجرة واسعة من الأرياف إلى المدن بسبب تدهور الزراعة نتيجة الجفاف أو تراجع الأوضاع الأمنية والفرص الإقتصادية هناك”.

الباحث المتخصص في الشأن الاجتماعي د.وعد غانم، يعد حرمان الإناث من حقوقهم بالميراث من أكبر المواضيع المسكوت عنها، ويقول بأنه يمثل تابو اجتماعي، لأن “المجتمع لايحب تعرية نفسه، ولايقر بوجود مثل هكذا قضايا، فنجد هنالك تكتماً بشأن ذلك، كما ظاهرة التحرش بالنساء وأي شيء آخر يمس السلطة الذكورية القائمة”.

ويقول أن ذلك يشكل تناقضاً مع المثاليات المطروحة في المجتمع الذي يبدو في ظاهره متديناً “فهو يفرض قيوداً على المرأة، ويحدد لها الكثير من الواجبات ويشدد في تطبيقها اتباعاً للتشريع الديني، ولكن في ذات الوقت، يحرمها من حقوقها التي ينص عليها ذات التشريع الديني”.

المحامية المتخصصة في قضايا الأحوال الشخصية منال محمود، تقول بأن حجب الأرث عن الإناث من قبل البعض، مناف لطبيعة المجتمع المتدين في غالبه، لأن الأسلام وهو دين البلاد الرسمي:”حدد بوضوح حق الإناث في التركة، بل وأنصفها بمنحها النسبة الأكبر في بعض الحالات كالبنت الواحدة مع الأجداد والزوجة الأرملة مع أبنائها، فهو حرص على توزيع التركة بالسرعة الممكنة وعدم حصرها لكي لايثرى قسم من أفراد العائلة على حساب الآخر”.

وتوضح بأن القوانين العراقية التي  مصدرها الرئيس الشريعة الإسلامية، تحدد ثلاثة أركان للأرث، وهي: المورث (المتوفي)، والوارث، وهو كل شخص حي يرتبط بالمتوفى سبباً (كالزوجة) أو نسباً، والموروث، وهو المال والحقوق العائدة للمتوفى الذي تركه بعد وفاته ويشمل العقار والمنقول والمنافع التي تؤول إلى الوارث وتسمى “ميراثاً أو ارثاً أو تركة”.

والمرأة بموجب قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، أيا كانت صفتها، بنتاً أو زوجة أو أُما أو جدة أو شقيقة أو عمة وخالة وغيرهما من القريبات، ترث حصة مختلفة عن الأخرى.

جذور موغلة للحرمان

الباحثة الاجتماعية، رنا محسن، تقول أن حرمان النساء من حقوقهن في الأرض، جذوره موغلة في القدم، وهو لايقتصر على العرب بل مارسته القوميات والطوائف المختلفة “فنجد ذلك لدى الكرد والتركمان وسواهم”.

وتشير الى ان حرمان المرأة من حقها في الأرث عند العرب بل وحتى الحياة بالوأد، كان شائعا قبل الإسلام، أما بعد مجيئه، فحرم الاثنان. وتستدرك:”لكن الكثيرين لم يغادروا العرف القديم بأن المرأة أصلا مملوكة حالها حال الارث، مادامت هي داخل العائلة وان تزوجت تنتقل ملكيتها الى زوجها، فعائلتها تتحلل من مسؤوليتها بعد تسليمها لزوجها، لذا فتعد أموال التركة عائدة الى العائلة، الذكور تحديداً، ولايسمح بخروجها عن هذا النطاق”.

وتتهم رنا العائلة العراقية بنحو عام، بالتمييز بين الذكور والاناث، فهي تهتم بالذكور وتتكفل بمسكنهم مع أولادهم وأحفادهم وتطول إقامة الابن في دار العائلة كما يشاء، لكن “الإبنة تخرج من بيت العائلة مع زواجها، وإذا تطلقت أو توفي زوجها، ترفض الكثير من العائلات تربية أطفالها بأعتبارهم أبناء شخص غريب، وليسوا امتدادا لأصل رب العائلة الرئيسي، بل من الفروع”.

وتقول بأن غالبية الآباء يتنازلون في حياتهم عن أملاكهم العقارية بيعاً وشراءً لأبنائهم الذكور، وتقتصر التركة حين وفاتهم على الأموال غير المنقولة، من آثاث منزلية أو سيارات وما شابه.

وتشير إلى تفضيل القبائل العراقية الذكور على النساء:” العائلات بغالبيتها لديها ما تعرف بشجرة العائلة التي تثبت نسب افرادها للعائلة ومن ثم للقبيلة، تكتب فيها أسماء الذكور فحسب”. وتضيف بعد لحظات من التفكير: “المرأة بالنسبة لهم مجرد وعاء للذرية لا أكثر”.

حماية لمصلحة القبيلة

يرفض شيخ عشيرة من محافظة ذي قار، طلب عدم إظهار إسمه ولا أسم عشيرته، وصف ما يحدث بـ”حرمان من الميراث” خاصة ما يرتبط بالتركات العقارية، ويفضل بدلاً من ذلك استخدام عبارة “حماية المصلحة العليا للقبيلة أو العائلة”.

ويقول، بأن القبائل بما تضمه من عائلات، مرتبطة كثيراً بالأرض، لأنها تشكل مناطق تواجدها التأريخية، لذا هنالك حرص على بقاء الأرض ضمن ملكية القبيلة والعائلة “وبما أن المرأة تكون في كنف زوجها الذي قد يكون من قبيلة أخرى، لذا من الأفضل أن لا يكون أسمها من ضمن الملاك للأرض، وهناك اجماع قبلي على ذلك”.

ويتساءل :”من سيضمن عدم اجبارها من قبل زوجها او أبنائها على بيع حصتها لغريب، فتحدث عندها مشاكل وصراعات بين القبائل، وقد حدث ذلك كثيراً في العراق”.

رغم ذلك هو لايمانع من أن تكون للمرأة حقوقا في الأرث بنحو عام “يمكن إرضائها بمنحها قيمة حصتها في الأرض أو العقار، ولا بأس أن تحصل على غير ذلك من حقها في الميراث، كالحلي والأثاث والمركبات ومحصول الأرض أو البستان او بدل ايجار العقار”.

ويرى الشيخ، بأن إبقاء ملكية الأراضي ضمن العائلة وتحديداً الذكور، هو “عرف بقوة القانون” ومعمول به بين العشائر منذ قرون، لكن في العقود الأخيرة تغير الوضع قليلاً “بظهور الجهات المدافعة عن حقوق المرأة، والانفتاح الاجتماعي على الغرب، والقوانين التي شجعت على حرية المرأة ولاسيما في المجال الاقتصادي، ودخولها مجالات العمل المختلفة، والحروب التي خاضها العراق وما تركته من أعداد كبيرة من الأرامل اللواتي تحملن مسؤولية أسرهن”.

عرف يتقاطع مع الدين

يشدد الشيخ عبد الجبار عبد الرحمن من بغداد، على أن الشريعة الإسلامية تكفل للمرأة حقها في الميراث عقاراً أو غير ذلك، فإذا مات أبوها او أمها وكان لأحدهما عقار، فللبنت حصتها فيه ومن يأخذها إجباراً “يعد غاصباً، وآكلاً لأموال الغير بالحرام”.

ويقف عند مفردة (الإجبار) بقوله:”لاتوجد مشكلة قطعاً في حال تنازلت برضاها التام، أي بدون إكراه عن حقها في الإرث، لكن ذلك يستوجب شروطاً كأن تكون في كنف عائلتها وكل حاجياتها ملباة، وليست متزوجة وتعاني الفقر المدقع، لأن تنازلها عن حقها هنا يصيبها وأسرتها بالضرر، فالقاعدة الشرعية تقول: لا ضرر ولا ضرار”.

ويرى، أن مسألة التنازل بالتراضي عن الحق بالميراث العقاري تحديدا “هي حيلة تمارسها الكثير من العائلات والعشائر، لكي تظهر نفسها على أنها غير مخالفة للشرع الديني أو القانون الوضعي المستمد أصلا من الدين وبنحو كامل فيما يخص المواريث، لكن في الحقيقة معظم حالات التنازل تتم بالإكراه والإجبار المباشر أو غير المباشر”.

وهو ما حصل مع (خ.ب) وشقيقاتها الأربع، اللواتي حرمن من ميراث يتمثل ببساتين واراضي زراعية تزيد عن عشر دونمات في شمال شرق دهوك، بعد أن طلب والدهم وهو رجل دين، منهن التنازل عن حقوقهن في تلك الأراضي، والقبول بالعرف السائد في قرى المنطقة حيث “لا حقوق للنساء” الا ما تعلق بعقارات مشيدة داخل المدن.

السيدة الأربعينية، وهي ربة منزل وأم لخمسة أطفال، تعاني هي وشقيقاتها من أوضاع اقتصادية صعبة، لم تجد فيما فعله والدها مشكلة، وأن كان فيه مخالفة للدين، وترى أن الأمر محسوم لدى كل عشائر مناطق دهوك، بأن البنات لا يرثن الأراضي، وأي حديث عن ذلك سيفتح باب صراعات لا تنتهي فقط بقطيعة مع العائلة بل وعداءات طويلة بعضها يصل الى الاشتباك بالأسلحة.

تحصل (خ.ب) من أشقائها، في فصلي الصيف والخريف، على بعض المواد الغذائية وما تهبه بساتينهم من ثمار “لا شيء أكثر” تقول وهي تبتسم.

ويُجمع علماء الدين، على أن توزيع التركة كما نص عليها القرآن “من حدود الله المحرم تجاوزها”، ويستشهدون بآية “تلكَ حُدُودُ اللهِ ومَن يُطِعِ اللهَ ورسولَهُ يُدخِلهُ جَنّاتٍ تجري مِن تحتِها الأَنهارُ خالِدِينَ فيها وذلكَ الفَوزُ العَظِيمُ”. وأيضا بالحديث النبوي :”مَنْ فَرَّ مِنْ مِيرَاثِ وَارِثِهِ، قَطَعَ اللهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.

القانون يحمي ولكن!

القاضي سالم روضان الموسوي، ينفي إمكانية التحايل على القانون وسلب حقوق النساء في الإرث لكونها محفوظة بموجب قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 الذي قال بانه ينظم الإرث والمستحقين له.

وذكر بأن المادة (89) منه، تشير وبالنص على حق الإناث “1-الأبوآن والأولاد وأن نزلوا لذكر مثل حظ الانثيين.2- الجد والجدات والاخوة والأخوات وأولاد الإخوة والأخوات.3-الأعمام والعمات والأخوات والأخوال والخالات وذوي الأرحام.4- تعتبر الأخت الشقيقة بحكم الأخ الشقيق في الحجب”.

وأن المادة (91) من ذات القانون، أضافت لبعض المستحقين حقوقاً إضافية، ومنها الزوجة عند وفاة زوجها وكذلك البنت الواحدة أي التي ليس لديها اشقاء، وعد القاضي ذلك تطوراً في انصاف المرأة في الميراث، لأنه “أخذ من الفقه الإسلامي الأفضل لهن ومن جميع المذاهب الإسلامية دون الوقوف عند مذهب معين”.

وتنص المادة على 1-يستحق الزوج مع الفرع الوارث لزوجته الربع. ويستحق النصف عند عدمه. أما الزوجة فتستحق الثمن عند الفرع الوارث والربع عند عدمه.

2- تستحق البنت أو البنات، في حالة عدم وجود إبن المتوفي،  ما تبقى من التركة، بعد أخذ الأبوين والزوج الآخر فروضهم منها وتستحق جميع التركة في حالة عدم وجود أي منه.

ويلفت القاضي إلى أن النصوص أعلاه قد قررت حقوق النساء في الإرث، أما عن كيفية المطالبة بها، فيقول بان ذلك مبين في المادة (310) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل.

“فقد بينت الطريقة لاستحصال الحق في الميراث عبر طلب اصدار قسام شرعي للمتوفى يوزع التركة على مستحقيها من الورثة، ويقدم الطلب من هو وريث فاذا كان الوريثة امرأة سواء كانت البنت أو الزوجة أو الأم أو أي امرأة أخرى من الورثة، فان لها الحق بتقديم الطلب الى محكمة الأحوال الشخصية بالنسبة للمسلمين ومحكمة المواد الشخصية بالنسبة لغير المسلمين”.

وبهذا فان القاضي سالم، لايجد بان هنالك مشاكل من حيث استحقاق المرأة للإرث في القانون العراقي الذي لايمكن تغييره أو التلاعب به من قبل المواطنين، على حد قوله.

ويستدرك:”المشاكل تظهر عند اصدار القسامات الشرعية، إذ يقوم بعض الورثة عند طلب اصدار القسام الشرعي بجلب صورة قيد الأحوال المدنية للمتوفى (المورث) ويتم رفع اسم البنت أو الزوجة أو الأخت، وبذلك يصدر القسام دون أن يذكر ذلك الأسم“.

ويتم معالجة ذلك من خلال قيام المحجوب أسمها، بإقامة دعوى (تصحيح القسام) فييعاد اليها نصابها من الاستحقاق:”في الوقت الحاضر باتت هذه المشكلة تحصل بنطاق ضيق لأن المحاكم اعتمدت على جلب صورة قيد الأحوال المدنية بواسطة موظفيها مما قلل من إمكانية التلاعب بأسماء ورثة المتوفى”.

ويؤكد القاضي سالم، بأن محاكم الأحوال الشخصية تعج بدعاوى تتعلق بالحالات التي ذكرها،  وأنها لا تقتصر على حجب الإناث من التركة، بل حجب الذكور ايضاً، لذلك سعى مجلس القضاء الأعلى، الى تطويقها عبر استخدام الوسائل الالكترونية في التواصل مع دوائر الأحوال المدنية، لتزويد المحاكم بصور القيود التي هي الأساس الوحيد لمعرفة أسماء ورثة المتوفى.

ويتابع:”من خلال عملي في قضاء الأحوال الشخصية لسنوات عديدة مرت علي الكثير من تلك الدعاوى وبعد التحقق من صحة ادعاء البنت المحجوبة تم تصحيح القسام الشرعي وإعادة حقوقها لها، ولا توجد محكمة في العراق لم تعرض عليها مثل هذه الدعاوى لان أغلب القسامات الصادرة في الفترة الماضية كانت تعتمد على تأييد مختار المحلة وشهادة الشهود وهذه قابلة للتحريف وحجب الورثة.

وبامكان الوريث المحجوب، التوجه الى القضاء لإقامة دعوى تصحيح القسام الشرعي، والإجراءات باتت يسيرة، وفق قضاة، أكدوا كذلك أن طلب اصدار القسام اصبح أيضا يسيرا ويكون عبر منصة الكترونية في موقع مجلس القضاء الأعلى.

ويرى قضاة ودعاة حقوق المرأة، ان العراق بحاجة ماسة إلى بث برامج توعية قانونية للنساء لتعريفهن بحقوقهن المقررة بموجب القوانين النافذة، وتوظيف وسائل الاعلام بما فيها منصات التواصل الاجتماعي من اجل توضيح تلك الحقوق وكيفية الوصول اليها.

أطلع معدا التحقيق على قرار أصدرته محكمة الأحوال الشخصية في الكاظمية في 2023، بخصوص الإعتراض على تصحيح القسام، وبموجب عريضة الدعوى فان المعترض قد ورث عن خاله داراً سكنية بمشاركة المعترض عليها(المتوفى هو عمها شقيق والدها) وأن والدة المعترض ووالد المعترض عليها قد توفيا قبل مورث طرفي الدعوى الاعتراضية.

ويتضح من حيثيات القرار، أن القانون العراقي، يستعين بخبير في المواريث وفقاً للشريعة الاسلامية، لإبداء خبرته في تقسيم التركة، وأن لا مجال قطعاً للتلاعب بحق المرأة، إلا بما يخالف النص الديني او القانوني المستمد منه، ولاخلاف في ذلك بين الطائفتين الاسلاميتين الشيعية والسنية، كما يشير متخصصون في الفقه الإسلامي، لكون “حدود التركة مبين بنص القرآن”.

لا يمكن الوصول الى أرقام تقريبية، بشأن المحرومات من الأرث أو حتى الدعاوى المرفوعة في هذا المجال، يقول المحامي دلوفان حسن “لكن يمكنني القول أن هناك عشرات آلاف من حالات الحرمان من الأرث”.

يضيف :”في العقود الأولى من القرن المنصرم يندر أن تجد عائلة عراقية لم تحصل فيها حالات حرمان اناث من حقوقهم، تسمع قصصا مؤلمة من جدات وعمات عشن حياة بائسة بينما كان أخوتهن يتنعمون بأموالهن”.

وينبه المحامي المهتم بقضايا تمكين النساء، من أن “ارث الحرمان من الميراث أنعكس سلبا على الامكانات الاقتصادية للنساء وعلى فرص تمكينهن، وعزز فعليا السلطة الذكورية، لذا بات الرجال يملكون الأراضي والعقارات والمشيدات، فيما بقيت المرأة على الهامش”.

ذكورية المجتمع

طه محمود (33 سنة) كاسب من بغداد، تحدث عن مشكلة والدته مع أشقائها بخصوص تركة والدها، وقال بشيء من التباهي:”لولا إصرار أبي لما حصلت أمي بعد صراع مرير وإجراءات قضائية طويلة على أرثها، ولحرمت منه مثلما حرمت أخواتها”.

وكان جداه لأمه قد توفيا سنة 2004، ولهما سبعة أبناء، ثلاثة ذكور، وأربع بنات بضمنهن والدته. وكانت التركة تشمل دارين سكنيتين في منطقتي الرحمانية والبياع، وشقة سكنية في شارع حيفا وقطعة أرض بمنطقة علي الصالح.

وما حدث بعد وفاة الأب، والأم التي تبعته بعدها بشهر واحد فقط، أن الورثة الذكور سكنوا مع عائلاتهم في الدارين والشقة، وحولوا قطعة الأرض إلى مرآب للسيارات، مستفيدين من وارده، دون أن يمنحوا شقيقاتهم شيئا.

وحين لم تنفع الحوارات الودية التي أجرتها الأم مع أشقائها، لجأت إلى زوجها، وطلبت منه المساعدة في الحصول على حقها، وطلبت من شقيقاتها القيام بذات الشيء، أي الإستعانة بأزواجهن والمطالبة بحقهن في الميراث.

وكان رد الأشقاء على مطالبات شقيقاتهم بتهديدهن بالتبروء منهن، ويقول طه عن ذلك:”التبرؤ هذا ليس مجرد كلام، وصحيح اننا نسكن العاصمة، لكن نحن من خلفية عشائرية، وهذا يعني حرمان شقيقاتي وبنات خالاتي غير المتزوجات من الزواج أو تقليل فرصهن في ذلك بدرجة كبيرة، لأن من سيسأل عنهن لغرض الخطبة ويسمع بأمر التبرؤ سيمتنع عن المواصلة في الخطبة والزواج لأسباب اجتماعية”.

لكن هذا لم يمنع والدته من إقامة دعوى أمام محكمة البداءة في بغداد لإزالة الشيوع عن العقارات، في حين ان شقيقاتها وإحداهن أرملة، والآخرى زوجها من ذوي الإحتياجات الخاصة، والأخيرة، زوجها رفض الدخول في مشاكل ومنعها من إقامة دعوى، بحسب ما يقول طه.

وذكر بأن جلسة عائلية جمعت الأشقاء بشقيقاتهم في غياب أم طه، طلبوا منهن التنازل عن حصصهن، وحين رفضت إحداهن، انهالوا عليها بالضرب المبرح، وهكذا أجبرن على تنظيم وكالة عامة مطلقة لواحد منهم، مثبت فيه حق التوقيع والتنازل، وفي تموز/يوليو 2023 عندما صدر قرار إزالة الشيوع، فأن والدة طه، هي الوحيدة التي حصلت على حصتها من عقارات والدها المتوفى.

سارة جاسم، ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، تؤكد بأن حكاية والدة طه، تشبه إلى حد بعيد، حكايات آلاف من النساء العراقيات اللواتي “حرمن ويحرمن من أرثهن سواءً بالإجبار تحت التهديد او ممارسة العنف ضدهن او بالتزوير، وأن الكثيرات قتلن وتم تسجيل ذلك على أنها قضايا شرف، للتغطية على سرقة ميراثهن” على حد تعبيرها.

وتقول بأن القبائل العراقية يمكن ان تضحي بأحد ابنائها وتدفعه الى قتل من تطالب بتركتها من الاناث أمام القضاء “أعرف قصصاً عديدة بهذا الشأن، وهي مألوفة ومعروفة بين الناس، وتجعل النساء يتنازلن عن ارثهن خوفاً على حياتهن”.

والغالبية العظمى من العائلات تسيطر عليها فكرة أن المرأة ليس لها حق في تركة والديها “بحجة أنها متزوجة والتركة ستذهب عندها لمصلحة رجل غريب”.

وتحمل ناشطات في مجال حقوق المرأة، الجهات القضائية والحكومية مسؤولية ما تصفها بالانتهاكات ضد المرأة، مشيرة الى ان “قانون العنف الأسري” المعطل في البرلمان منذ سنوات، لو أقر لأصبحت المرأة قوية وواجهت العنف الممارس ضدها من قبل أشقائها أو أولادها، وحينها يصبح احتمال حرمانها من حقوقها في الميراث أقل.

وترى سارة بأن المجتمع العراقي “ذكوري ومتسلط على النساء، وينظر بإحتقار للمرأة التي تقيم دعوى إزالة شيوع للحصول على حقها، ولاسيما المتزوجة، ويتم التبرؤ أو الإنتقام منها”.

وتنبه الى عامل آخر غير العنف والتهديد، يقف وراء عدم مطالبة الكثيرات بحقوقهم “الأمية أو الجهل بحقوقهن، فيسهل خداعهن بجعلهن يتنازلن عن حقوقهن أمام كاتب العدل”.

لا خيار سوى الطاعة

معدا التحقيق، حصلا على نسخة من قرار كانت قد أصدرته محكمة الأحوال الشخصية في الرصافة/بغداد قبل أشهر.

وتفاصيل الدعوى أن المحكمة ذاتها كانت قد أصدرت قساماً شرعياً متعلقاً بوفاة والدة المدعيتين دون أن يرد فيه إسميهما بوصفهما من ورثتها، وطالبتا بتصحيح القسام من اجل إقامة دعوى إزالة شيوع والحصول على حقيهما لاحقا في دعوى أخرى.

وأشار قرار المحكمة، أن القسام كان بالفعل مذكوراً فيه فقط أسماء الأبناء الذكور فضلاً عن زوج المتوفاة، واستنادا الى سوابق قضائية والفقه الإسلامي، وجدت المحكمة ان للمدعيتين الحق في المطالبة بحقيهما في تركة المتوفاة.

تظهر تلك القرارات، أن القضاء ينصف المرأة عند مطالبتها بحقوقها المكفولة بنص قانوني، وايضاً بالتشريع الديني الذي يلجأ اليه القضاء عادة في مسائل الإرث، لكن ومن خلال البحث ولأسابيع في ملفات عدد من محاكم البلاد، وجدنا حالات محدودة للجوء نساء الى القضاء، في الغالب بسبب الخوف من تبعات ذلك، وهذا ما يظهر جلياً في العديد من قصص المحرومات من التركة.

وخلال أعداد التحقيق، إطلعنا على العديد من مقاطع الفديو المنشورة في وسائل التواصل الاجتماعي لسيدات يائسات يروين تفاصيل عن قصص حرمانهن من الورث، ويشتكين من عدم أرجاع القانون لحقوقهن.

نهلة (اسم مستعار) سيدة في الخمسين من عمرها، تسكن محافظة كربلاء جنوب العاصمة بغداد، مطلقة ولها بنت وولد في العشرينات من عمريهما، ولها أرث عن والدها المتوفي سنة 2000 عبارة عن أرض زراعية شرقي المحافظة، لكنها وشقيقاتها الثلاث لم يحصلن على حقوقهن في الأرض، لكون أشقائهن الذكور الخمس، قد وضعوا أيديهم على الأرض ويستغلونها لمصلحتهم دون منحهن أي شيء.

تقول وهي ترفع صوتها:”هنالك أيضاً أبقار وخراف وأشجار نخل، ومخازن مملوءة بالتمور، وحين نذهب انا وشقيقاتي لزيارتهم في أرضنا أيام عاشوراء، نجدهم يستقبلون عشرات الزوار ونحن مثلهم تماماً مجرد ضيوف بلا حقوق”.

وتضيف “لم أحصل من ورث أبي ولا حتى على فلس واحد، وانا وشقيقاتي نكتفي بالدعاء على اخوتنا، ولن نفعل شيئا اكثر من ذلك”.

لا تفكر نهلة وشقيقاتها باقامة دعوى قضائية، وهناك سر عائلي يمنعهن من ذلك: “هم يذكروننا دوما بحكاية عمة لنا، كان أخي الأكبر قد قتلها عندما كان قاصراً ببندقية صيد في بداية تسعينات القرن الماضي.قتلت بينما كانت تصلي، وبتحريض من والدي، لأنها كانت قد طلبت منه حقها في تركتها من اجل علاج ولدها المريض“.

تضيف السيدة “أخوتنا يهددوننا بطريقة غير مباشرة بتكرار سرد تفاصيل هذه القصة، وبوسهم بالفعل قتلنا والخروج من ذلك مثل الشعر من العجين، بحجة قضية شرف ينفذها أحد أبنائهم القاصرين”.

تفكر قليلا، قبل أن تضيف:”حتى الدعاء لايجدي معهم، فنحن ندعو الله منذ سنين أن يأخذ حقنا منهم، لكن لايحدث شيء أبدا”.

رشا (أسم مستعار) لسيدة من الديوانية، في الخامسة والأربعين من عمرها، لديها أربعة أشقاء وثلاث شقيقات، توفيت والدتهم مطلع سنة 2020، وكانت تملك بستاناً ودارين سكنيين. اجتمع والدهم بهم وأخبرهم بقراره في أن تقوم الشقيقات بالتنازل عن حصصهن في أرث والدتهن لأشقائهن، وأنه هو كذلك سيفعل بحصته فضلاً عما يملكه من عقارات في حياته، لكي لاتحدث مشكلة بين الأخوة بعد وفاته!.

تقول، وهي تنظر الى الأرض، بينما تعثرت الكلمات في حنجرتها:”لقد فعلنا ذلك، تنازلنا طبعا، لأننا لانستطيع الرفض، شقيقاتي متزوجات واوضاعهن المعيشية غير جيدة وكن بحاجة الى ارث أمي لكي يعشن مع اطفالهن بكرامة، أما أنا فغير متزوجة، وسأظل أخدم والدي وأبناء اشقائي الى يوم وفاتي”.

تذكر أنها تحدثت إلى والدها ذات مساء وهما يشربان الشاي، طلبت منه في بداية الأمر ان لايغضب، لأنه مجرد شيء يدور في ذهنها منذ فترة. وبعد أن وعدها بأنه سيصغي إليها، سألته بتردد:

“هل قرار حرماننا من إرث أمي عادل؟ أنت تعرف ظروف شقيقاتي الصعبة، الكبيرة ابنها معوق، والوسطى تعيش في غرفة واحدة مع زوجها وأطفالها الخمسة في بيت عائلة زوجها، والصغرى زوجها عاطل عن العمل وتعيش على الصدقات مع اطفالها، وأنا غير متزوجة، ماذا سيحل بي بعد وفاتك، لك طول العمر”.

فأجابها والدها بهدوء:”لست مسؤولا عن شقيقاتك المتزوجات، على أزواجهن تدبر أمورهم، أما أنتِ، فسيتولى زوجك مسؤولية رعايتك بعد موتي أو يهتم بك أحد أخوتك، فأنا ربيت رجالاً”.

  • انجز التحقيق من قبل شبكة “نيريج” ضمن مشروع قريب #Qaribmedia

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":23194}" data-page="1" data-max-pages="1">