تحقيقات استقصائية: نينوى تخوض معركة أكبر من معركتها ضد داعش… فساد وفوضى برعاية الميليشيات “البديلة”!

نينوى تخوض معركة أكبر من معركتها ضد داعش… فساد وفوضى برعاية الميليشيات “البديلة”!

قوى نافذة تمرر الفساد في المكاتب الحكومية بنينوى والقضاء يكتفي بملاحقة صغار الموظفين

فريق نينوى الاستقصائي:

في كل مرة يجد نفسه في قلب المدينة القديمة بالموصل، يلقي “أبو عمار” البقال نظرة حنين على ما تبقى من منزله ودكانه المهدمين، يقف لدقائق مواجهاً الركام بصمت كأنه أمام ضريح مقدس، ثم يجر خطواته المتثاقلة مبتعداً عن المكان الذي ولد فيه وقضى بين أزقته ستة عقودٍ من عمره.

“أنتظر منذ سنوات أن تقوم الدولة بمنحي التعويض لكي أعيد بناء بيتي ودكاني اللذين لا أملك غيرهما” يقول بينما عيناه تتنقلان في محيط المنطقة الخاوية والتي كانت قبل حرب “التحرير من داعش” بين 2016 – 2017 أزقة متشعبة تنبض بحركة ساكنيها.

أكثر من أربع  سنواتٍ أنقضت منذ الإعلان عن طرد التنظيم من محافظة نينوى بعد حرب أتت على ما يزيد عن أحد عشرة آلف وحدة سكنية وتجارية الى جانب البنية التحتية من جسور وطرق ومشافٍ ومحطات مياه،

خلالها توالت اعلانات إحالة مشاريع الأعمار من ميزانية تنمية الاقاليم أو ما جادت به الدول المانحة، لكن لم يتغير الكثير على الأرض فآثار الدمار مازلت ماثلة في معظم أركان المدينة القديمة وحركة اعادة البناء محدودة وتجري بجهود شخصية.

تلمع عينا “أبو عمار” ببريق الذكريات، وهو يردد بصوت مبحوح: “الكثير من الأحبة قضوا تحت ركام البيوت والدكاكين والمدارس، كان على الحكومة أن تقدر قيمة ما فقدناه وتعيد على الأقل أعمار ما تهدم.. ماذا نفعل الفساد والفوضى تقتلان كل فرص البناء”.

يربط الكثير من أهالي المحافظة سر فشل اعادة الإعمار وتبخر وعود الساسة الى “منظومة فساد مستحكمة” تفرض طوقها على المؤسسات الحكومية وتُبدد أموال البناء وفرص الاستثمار وأحلام الموصليين في وضع مدينتهم على طريق النهوض العمراني والخدمي.

ورغم أن طبقة كثيفة من غمام الشك تغطي سماء الموصل إزاء إجراءات القضاء لمواجهة الفساد، لكن ثمة حركة دؤوبة تقوم بها هيئة النزاهة التي نشطت في نينوى عقب تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء وتشكيله الأمر الديواني رقم 29 لسنة 2020 لمكافحة الفساد المالي والإداري.

يرصد هذا التحقيق سلسلة عمليات فساد واسعة جرت في دوائر العقارات والبلدية والوقف السني والصحة وديون المحافظة بعد تحرير نينوى وخضوعها عمليا لسلطة فصائل مسلحة تابعة للحشد الشعبي والمكاتب الاقتصادية المرتبط بها وكيف كان يتم تمرير ما تقوم به أو يتم تغطيته من قبل جهات نافذة في الحكومة العراقية .

 

مسؤولون صغار في الواجهة ومليشيات في الخلفية

بدأ تسليط الضوء على الموصل وملفات الفساد المستشري في دوائرها بعد أقل من عامين على تحريرها عقب غرق عبارة سياحية بنهر دجلة مساء 21 آذار مارس 2019 كانت تقل نحو 200 مواطناً توفي 120 منهم، غالبيتهم من الاطفال والنساء.

شنت بعدها هيئة النزاهة مدعومة برأي عام غاضب حملة اعتقالات شملت 20 موظفاً في ديوان محافظة نينوى وآخرين من دائرتي الماء والمجاري والتسجيل العقاري، بينهم ثلاثُ موظفات اطلق سراحهن لاحقاً بكفالة مقدارها عشرة ملايين دينار ومنعن من السفر لحين الانتهاء من التحقيق.

توالت الاعتقالات منذ ذلك التاريخ، وطالت مسؤولين اداريين كبار، لتكشف يوما بعد آخر حجم كتلة الفساد ورُعاتها، فطال الاعتقال معاون المحافظ لشؤون الاعمار ومديرة قسم العقود واجدة جعفر وزميلة لها في قسم الموارد البشرية، بحسب موظف في ديوان المحافظة، في حين أن قوة أمنية اعتقلت رشا دحام مديرة المالية في ادارة نينوى لدى محاولتها العبور الى ايران عبر منفذ المنذرية لتواجه تهم فساد وهدر في المال العام.

مع تراكم الشكاوي والأدلة وتوالي التوقيفات ظهرت كبرى ملفات الفساد بدائرة التسجيل العقاري الأيسر أو كما تعرف شعبياً بـ (طابو الزهور) اذ كشفت التحقيقات الأولية التي أجريت عن تلاعب وتزوير بسجلات نحو 9000 عقار، بينها عقارات تابعة للدولة. وهذا ما قالته النائب بسمة بسيم وأكده زميلها عبد الرحيم الشمري موضحاً أن قسماً من تلك العقارات تعود ملكيتها لمسيحيين يقيمون خارج العراق.

وذكر الشمري أن “المزورين انتعشوا في نينوى خلال الفترة الماضية لكونهم كانوا فوق القانون ويستطيعون فعل ما يريدون”.

وأشار النائب ضمناً الى الميليشيات النافذة في الموصل والتي فرضت سطوتها بعد تحريرها من داعش صيف 2017 بقوله “الناس يعرفون من يقف وراء المزورين لكن لا أحد يجرؤ على ذكرهم”.

في نهاية شهر آذار/مارس 2019 قامت قوة من عناصر التحقيق القضائي وجهاز الأمن الوطني باعتقال مدير التسجيل العقاري فرحان حسين طه أحمد، بتهمة التلاعب بمستندات عقارية لأراضٍ تابعة للدولة، مستخدماً أختاماً مزورة بمعاونة موظفين من الدائرة نفسها.

وأصدرت محكمة جنايات نينوى/ الهيئة الثالثة برئاسة القاضي أكرم خلف حسين في 11/4/2019 قرارها بالدعوى المرقمة 126/جلد3/2018، متضمناً السجن لخمس سنواتٍ وشهر واحد، ضد فرحان وفقاً للمادة (340) من قانون العقوبات العراقي المتعلقة بإحداث الموظف أضراراً بأموال عامة موكلة إليه.

كما أصدرت المحكمة نفسها حكماً جديداً ضده في آب/أغسطس 2021 بالسجن لعشر سنوات ليصبح مجموع الحكمين خمسة عشر سنة وشهراً واحداً.

فرحان، كان قد تلقى من مرجعه وزارة المالية “عقوبة نقل” الى دائرة رعاية القاصرين مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لكن وقبل تنفيذ القرار تم اعتقاله وأدين.

وتم تعيين مدير جديد للدائرة يدعى محمد حسين الأعرجي، لكنه اعتقل بعدها بأشهر مع تسعة موظفين آخرين ومعقبي معاملات عقارية، ثم أطلق سراحه فيما بعد بكفالة مالية ضامنة. يقول المحامي (ع.ب) معلقا عليها “كانت كفالة غريبة، فالمتهم ضبطت معه اختام مزورة”.

ويستدرك “الكفالة ربما أكدت الأحاديث التي كانت تشير الى ان مدير التسجيل العقاري محمد الاعرجي كان مسنودا من فصائل في الحشد الشعبي وهي أصلا التي عينته في منصبه على الرغم من عدم أهليته لذلك الموقع المهم والحساس لأنه كان موظفاً بدرجة مساعد مساح لا غير”.

 

التسجيل العقاري واحة الفساد

سلسلة من الدعاوى الجزائية أقيمت ضد موظفي التسجيل العقاري بتهم تزوير سجلات عقارية لأراض تابعة للدولة كانت نتيجتها ما صدر بموجب القرار 542/ج1 /2021 في 30 آب/أغسطس 2021، وتضمن حكماً بالسجن بحق الموظف في هيئة التدقيق بدائرة التسجيل العقاري “محمد جمعة حسن علي” بالسجن لمدة عشر سنوات وغرامة مالية مقدارها سبعة ملايين دينار، وفي حال عدم تسديدها له تضاف ثلاث سنوات إلى مدة محكوميته لتبلغ 13 سنة وفقاً لأحكام القرار 160 لسنة 1983 /ثانيآ/1.

وصدر حكم آخر في ذات القضية بحق معاونة مدير دائرة التسجيل العقاري “مروة سالم متعب خليل” بالحبس الشديد لمدة اربع سنوات وفقآ لأحكام المادة 340 من قانون العقوبات العراقي.

وفي مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر2021 أصدرت محكمة الجنايات في نينوى مجموعة أحكام ضد موظفي التسجيل العقاري بتهمة التلاعب بسجلات عقارية والاستيلاء على اراض تابعة للدولة، فضلاً عن الحكم بعشرة سنوات الذي تلقاه المدير السابق فرحان.

وأدينت الموظفة “نهلة محمد دحام” بحكمين بلغ مجموعهما 16 سنة فيما حوكم الموظفان “محمد أحمد جرجيس” و”سالم حازم حسين” بعشر سنوات، بينما حكم على “عمران غائب قاسم خليل” بست سنوات.

ويظهر في قرارات محكمة جنايات نينوى أسم المدانة “نجاة حسين خليف الجبوري” بحكم بلغ ست سنوات. والجبوري هذه كانت رئيسة جمعية أم الربيعين العقارية التي عرفت بارتباطها بالحشد الشعبي وقيامها بتزوير ونقل ملكية عقارات عديدة مملوكة للدولة لحساب نافذين في فصائل الحشد.

بمتابعة أعمال “جمعية أم الربيعين” يظهر ان رئيستها “نجاة” كانت مرشحة في الانتخابات البرلمانية في ايار 2018 رغم وجود أمر قبض بحقها صدر في آذار 2018 وفقا للمادة 4 أولا من قانون مكافحة الإرهاب رقم 13 لسنة 2005.

مخلص جاسم (46 سنة) مدرس ثانوي من سكان الموصل، يشير إلى أن رئيسة جمعية أم الربيعين كانت تستولي على أراض واسعة للدولة، بتزوير ملكيتها، ثم تقطيعها وبيعها لأغراض السكن.

ويقول واضعاً كفه على صدره “أنا واحد من ضحاياها، دفعت لها 10 آلاف دولار لقطعة أرض أتضح لاحقاً أنها ملك للدولة، وهنالك العشرات غيري وبعضهم شيد مساكن والآن لم نعد نملك شيئاً وعلينا انتظار دعوانا بالتعويض من المحاكم”.

 

سجل من التزويرات

البحث في أعمال رئيسة جمعية أم الربيعين يكشف من جهة عن علاقات تربطها بالحشد، ومن جهة ثانية عن حجم الفساد الكبير في قطاع العقارات والذي كان يجري تحت رعاية جهات إدارية وسياسية نافذة.

مصدر في محكمة التحقيق الخاصة بقضايا الإرهاب قال إن رئيسة جمعية “أم الربيعين” اتهمت بالتّجارة بالعقارات لمصلحة تنظيم “داعش” خلال فترة سيطرته على الموصل بعد 2014، ولتبييض سيرتها رشحت في الانتخابات البرلمانية في قائمة الوطنية التي يتزعمها البرلماني ووزير الزراعة السابق فلاح الزيدان.

وأدارت حملتها الانتخابية وهي في سجن التسفيرات بالموصل على أمل أن يساعدها الفوز بمنصب برلماني التخلص من عقوبة تصل الى الموت. وأثار انتشار صورها الدعائية في شوارع الموصل الرئيسة في ربيع 2018 موجة استياء شعبية وانتقادات لإجراءات مفوضية الانتخابات التي سمحت لمرشح متهم بالإرهاب بخوض الانتخابات.

يضيف المصدر أن الجبوري “كانت تبيع العقار السكني أو الأرض ذاتها إلى عدة أشخاص وحين تُطالَب برد الأموال أو تسوية وضع العقارات تقول بإنها منتمية لـ”عصائب أهل الحق” المعروفة بسيطرتها الأمنية في الموصل، وكان هذا يبدو واقعياً بالنسبة للكثيرين بسبب ظهورها المعتاد برفقة مجموعة مسلحين”.

وزير الدفاع السابق والنائب عن نينوى خالد العبيدي، تحدث في مقابلة لصالح تلفزيون “التغيير” بثت في 24 آذار/مارس2019 عن نجاة الجبوري دون ان يذكرها بالأسم صراحة، أنها كانت تتحرك في الموصل بعد تحريرها من داعش وترافقها أرتال من السيارات التابعة للميلشيات خلال تجوالها بين الدوائر والمؤسسات الحكومية ومنها التسجيل العقاري لتسهيل إجراءات متعلقة بتجارتها الخاصة ببيع عقارات في الموصل وتأجيرها.

وقال ان قيادة العمليات في نينوى كانت على علم بذلك “لكن القوات المتنفذة (كما يصفها متجنباً ذكر اسم الحشد الشعبي) كانت تملك زمام الأمور هناك”.

وخلال تقصينا وجدنا ان أسم نجاة الجبوري أو كما تعرف بـ(دكتورة نجاة) يرتبط بالعديد من قضايا التزوير والتلاعب بملكيات عقارات تعود للدولة. منها قطعة أرض تعود ملكيتها الى بلدية الموصل في منطقة جديدة المفتي (5422/6) مقاطعة 37.

يقول سمسار عقاري زودنا بصور من المستمسكات الخاصة بها، أن موظفين مدانين بالتسجيل العقاري مع رئيسة جمعية ام الربيعين تلاعبوا بأوراقها ونقلوا ملكيتها إلى أسم جمعية (الحدباء التعاونية) التي لم تكن تعلم بأمر التزوير، على حد قوله.

وحصلنا على كتاب موجه من دائرة التسجيل العقاري الأيسر إلى (شعبة النصر لمكافحة الإجرام) مؤرخ في 13/10/2020 وحمل توقيع مدير الدائرة إبراهيم حسين علي. أكد الكتاب ما أخبرنا به السمسار أن القطعة المرقمة (5422/6) والتي جنسها أرض سكنية ومساحتها 33 دونم و16 أولك و61 مترا هي ملك لبلدية الموصل ومسجلة بالقيد المرقم 144 مايس 1986 جلد 619.

وبما أن الدونم بموجب التشريعات العراقية يعادل (2500 متر) وكل أولك يعادل (100متر) فأن مساحة الأرض الكلية تبلغ 84161 متراً.

التسجيل العقاري أشر كذلك في كتابه الى “وجود تغيير في صفحة السجل أعلاه، حيث غيرت العائدية إلى جمعية الحدباء التعاونية للإسكان في الموصل، وهي صفحة مضافة إلى السجل، وهي مزورة وغير صحيحة”.

كما حصلنا كذلك على تعهد خطي موقع في 28/8/2019 من قبل عدد من المتهمين بينهم نجاة الجبوري، يقولون فيه أنهم يتحملون المسؤولية القانونية عن سلامة القطعة أعلاه وإرجاع المبالغ المالية التي تقاضوها من مشتري القطع إذا ظهر خلاف ذلك.

نجاة الجوري، خسرت في حملتها الانتخابية التي قادتها من التوقيف في 2018، لكنها خرجت بمساعدة جهات متنفذة بحسب مصادر أمنية تحدثنا اليها، لتزاول اعمالها وتتورط في مزيد من جرائم تزوير عقارات تعود ملكيتها للدولة.

بل انها حاولت تجريب حظها الانتخابي مرة أخرى وهذه المرة مع قائمة الجماهير التي يتزعمها السياسي من محافظة صلاح الدين أحمد الجبوري المعروف بـ(ابو مازن) قبل ان تقوم قوة من الإستخبارات بالقاء القبض عليها في حزيران 2021 بتهمة التزوير والنصب والإحتيال.

وفيما تنتظر الجبوري أحكاماً قضائية في ثمان دعاوى أخرى بذات التهم رفعت من قبل متضررين، أصدرت محكمة جنايات الموصل الأولى حكماً بالسجن لثمانِ سنوات على رئيس الاتحاد التعاوني في نينوى نايف خضر بثمانِ سنوات لقيامه بتسجيل أرض مساحتها 800 متر تعود لبلدية الموصل باسمه بعد تزوير أولياتها وتحويلها باسم جمعية “أم الربيعين” التي ترأسها نجاة الجبوري.

وكانت الجبوري وشركاؤها يقومون أيضاً بالإتصال بعائلات كانت تملك أراض اشترتها منهم الدولة في زمن النظام السابق قبل 2003 وخصصتها لتنفيذ مشاريع ذات نفع عام، فيقومون بمساعدة موظفين في التسجيل العقاري برفع اشارات الاطفاء عنها وكل ما يثبت نقل ملكيتها لدوائر كالبلدية على سبيل المثال وإعادة ترتيب أوراق العقار كأنه مازال في ملكية تلك العائلات ليقوموا بشرائها منهم وبيعها قطعاً سكنية عبر جمعيتها (ام الربيعين) وجمعية تعاونية اخرى أسمها (الحدباء).

أراض أخرى تابعة لبلدية الموصل ودوائر حكومية أخرى كالآثار والتراث والزراعة، تم الاستيلاء عليها من قبل أشخاص مرتبطين بما يعرف بـ”المكاتب الاقتصادية” بعد تحرير المدينة بالكامل في 2017 وجرت أعمال تقطيعها وبيعها بمبالغ كبيرة لمواطنين.

والمكاتب الاقتصادية، هي اذرع تجارية اقتصادية للفصائل المسلحة التي قاتلت في نينوى، تشكلت دون أي سند قانوني، من اجل تمكين تلك الفصائل المقربة من ايران من ادامة قوتها وتعزيزها عبر تمويل نفسها بشكل مستقل.

وضبط فريق من مديرية تحقيق نينوى مطلع العام 2021، (66) مُتَّهماً بالتجاوز على محرمات مدينة نينوى الأثرية التابعة لمديريَّة آثار نينوى، إضافةً إلى أراضٍ أخرى تقع على ‏أكتاف نهر الخوصر المار وسط الموصل.

مصدر في النزاهة افاد بأن التحقيق جرى مع المتهمين استناداً لأحكام القرار (54 لسنة 2001)، مبيناً أن العدد الأكبر منهم كانوا قد اشتروا الاراضي من جمعيات اسكان وشيدوا عليها منازل وقسم منهم تصرفوا بها بيعاً وبعضهم أنشأ مخازن ومحلاتٍ لبيع المواد ‏الإنشائيَّة.

تلك التجاوزات الكبيرة ما كانت لتحصل، بحسب متابعين للملف، دون قوة ساندة مستفيدة ساهمت في تمرير وتغطية تلك العمليات.

 

ملفات فساد أخرى

لا تظهر بلدية الموصل دائماً كضحية في الملاحقات القضائية، ففي تشرين الأول/أكتوبر 2021 فتحت النزاهة تحقيقاً في عقد لمشروع بشأن تنظيف الساحل الايسر من مدينة الموصل أبرمته بلدية الموصل مع شركة محلية بمبلغ يقترب من 18 مليار دينار عراقي، أكثر من 12 مليون دولار.

وقادت التحريات الى مجموعة مخالفاتٍ في العقد  المتضمن تنظيف الساحل الأيسر من النفايات، ونقلها إلى موقع للطمر الصحي. رجح موظف رفيع في ديوان المحافظة أن يكون بداية للكشف عن مخالفات أخرى كبيرة في عقود أبرمتها البلدية خلال السنوات الثلاث الأخيرة “فالملفات تسحب واحدة الأخرى الى العلن”.

ومع التقصي في مزيد من الملفات بدت بلدية الموصل أيضاً في الواجهة بعد احالة اللجنة الإدارية في محافظة نينوى أوراق نتائج تحقيقاتها الى النزاهة، بشأن تهم بالإهمال والتقصير وجهت الى عدد من الموظفين وفرض عقوبات إدارية عليهم.

وجدنا بعد البحث أن الموضوع يتعلق بقطعة الأرض المرقمة 1/1891 قره كوز والتي خصصتها بلدية الموصل لأحد موظفيها بطريقة غير مشروعة، لأنها في الأصل مباعة لشخص أسمه محمود أحمد خضر.

وهذا الأخير كان قد تقدم بطلب شراء أصولي بموجب المادة (25) من قانون بيع وإيجار أموال الدولة رقم 21 لسنة 2013. وظهر أن معاملة الشراء منجزة في 6/5/2019 وقدمت إلى دائرة البلديات بالكتاب المرقم 1419 في 9/5/2019، ومع ذلك خصصها موظفو قسم الأملاك البلدية مع ستة قطع أخرى لتوزع على زملاء لهم مع علمهم أن ملكيتها تعود لأحد المواطنين.

موظف في القسم القانوني ببلدية الموصل، رفض الكشف عن اسمه، ذكر أن العقوبات الإدارية الصادرة تمثلت بالإنذار وشملت “مدير البلدية السابق رضوان احمد سليمان الشهواني، ووليد موفق نجم وكيل مدير البلدية سابقا، وابراهيم محمود محمد المدير السابق لشعبة الاملاك، وسعد عبدالغني مصطفى مستشار قانوني (محكوم بالسجن في قضايا أخرى) وثائر خضر محمد (محاسب)، ورئيس الملاحظين عثمان جاسم عسل، والمشاور القانوني عبد هلال حسن، ومعاون رئيس المبرمجين احمد مهيدي صالح”.

وقال الموظف ان بعضاً من المعاقبين إداريا، يواجهون سيلاً من الدعاوى المحركة ضدهم من النزاهة بتهمة التزوير والتلاعب بملكية عقارات محددة. لكنه أشار الى ان الكثير منهم “قاموا بمخالفاتهم تحت ضغط من شخصيات تابعة للميليشيات، ولم يفعلوا ذلك لمصالحهم الشخصية”.

بعض هؤلاء الموظفين متهمون بالتلاعب والمتاجرة بقطع أراض تعود ملكيتها لبلدية الموصل. وأصدرت دائرة التحقيقات في هيئة النزاهة بياناً بهذا الخصوص في 14 كانون الأول/ديسمبر 2020 اكدت فيه اعتقالها ثلاثة متهمين تلاعبوا بقطع أراض تابعة للبلدية وخصصوها إلى أشخاص مقابل مبالغ ماليَّةٍ خلافاً للضوابط والتعليمات.

الموظفون الثلاثة أقروا خلال التحقيقات بضلوع زملاء لهم في جرائم مماثلة وإثر ذلك صدرت أوامر اعتقال شملت موظفين من مختلف الأقسام بينها أملاك البلدية والقانونية مع موظفين آخرين في ديوان محافظة نينوى.

يرى النائب ووزير الدفاع السابق خالد العبيدي ومسؤولون آخرون، ان تلك الجرائم ما كانت لتحدث “لولا وجود جهات نافذة تقف خلف هؤلاء” تغريهم بالمال او تضغط عليهم للقيام بتلك التلاعبات مع “التأكيد على امكانيتها في حمايتهم وتبرئتهم من أي تهم قد تطالهم”. ويشير العبيدي الى ان بعض المتورطين ربما في اشارة الى نجاة الجبوري “اوقفوا، ثم افرج عنهم، وعادوا لتنفيذ جرائمهم في مؤشر على حصولهم على ضمانات من جهات نافذة بحمايتهم من الملاحقة”.

إزاء توارد الأخبار بشأن قضايا الفساد، وتزايد اعداد الموقوفين بسببها في المؤسسات الحكومية بنينوى، وصف رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي عمليات الملاحقة القضائية بالمعركة الطويلة ضد الفساد. وذكر في جلسة حكومية عقدها في نينوى يوم 16 من آب/أغسطس 2021 بأنها قد تكون “أكبر من المعركة ضد تنظيم داعش”.

اختلاسات وتزوير في الوقف السني

لم يتوقف الفساد بمحافظة نينوى وبالتالي نشاط هيئة النزاهة فيها، عند دوائر السجل العقاري والبلديات، بل إمتد ليشمل ديوان الوقف السني، إذ اعتقلت في9تشرين الثاني/نوفمبر2021 رئيس لجنة اعمار جوامع الموصل (مدير حسابات الوقف السني في نينوى) وعضوين من اللجنة (مدير الهندسة وموظف) وعثرت بحوزتهم على وصولات شراء وهمية ومزورة بلغت أقيامها نحو ملياري دينار ، 1371000 دولار.

أظهر بحثنا عن مزيد من المعلومات في مقر الديوان، أن الموظفين المتهمين كانوا قد انهوا منذ بعض الوقت حبساً لمدة سنة في دعوى فساد أخرى أدينوا فيها.

وأبلغنا موظفون في الوقف السني، بأنهم كانوا على علم بوجود “شكوك وشبهات فساد” في أعمال لجنة اعمار الجوامع لأن “غالبية جوامع الموصل فيها متولون مسؤولون عن إعمارها أو ترميمها”.

يقول احد الموظفين “غالبية الجوامع التي تضررت في الحرب تم اعمارها إما من قبل هؤلاء المتولين أو بواسطة تبرعات المُحسنين”.

قدمت جهات مختلفة منحاً مالية لإعادة اعمار العديد من الجوامع المتضررة، فقد تبرعت الامارات العربية المتحدة وتحت إشراف من اليونسكو بأعمار الجامع النوري الذي كان يضم منارة الحدباء التي يعود تاريخ بنائها إلى القرن الرابع عشر.

ولم يكن لمديرية الوقف السني أي دور معلن في إعمار الجوامع باستثناء وضعها لحجر الأساس في سنة 2017 لإعمار جامع النبي يونس (دمره داعش في تموز 2014) لكن دون تحقيق شيء على الأرض وسط استياء أهالي الموصل الذين يعتبرون الجامع رمزاً يعتزون به منذ قرون.

بل ووجهت اتهامات عديدة بالفساد من قبل النزاهة إلى مدير الوقف أبو بكر كنعان كان آخرها قيامه بتعيين 250 موظفا يتقاضون اجوراً لكنهم غير متواجدين فعلياً في وظائفهم المفترضة.

ثم وبعد سلسلة من التوبيخات الإدارية الموجهة إليه من قبل مرجعه ديوان الوقف في بغداد وبلغ عددها ثلاثاً بموجب الكتب الإدارية المرقمة (4939/19 في 14/3/2019 و1344/21 في7/7/2021 و 24983/21 في 27/10/2021) تم إصدار قرار بفصله من الوظيفة لمدة ثلاثة سنوات وذلك بموجب الأمر الإداري المرقم 29288/21 الصادر في 2/12/2021.

يعلق الموظف مصدرنا من الوقف السني في نينوى على فضائح الفساد في دائرته، بانها “جزء من منظومة الفساد العام التي افرزتها سوء الادارة وعجز القانون وغياب المحاسبة نتيجة ضعف الحكومة وغيابها أحيانا، والتي غذتها ايضا وجود قوة موازية لسلطة الدولة، قوة تجد نفسها فوق القانون”.

 

الفساد بمديرية الصحة

ولاحق الفساد أيضا حبة الدواء في نينوى وتحديدا في القطاع الصحي، أحد أكبر القطاعات المتضررة من “حرب التحرير” حيث خرجت معظم مشافي الموصل عن الخدمة وأصبحت في حاجة الى اعادة بناء كاملة او اعمار واسعة.

في 14/6/2020 أصدرت محكمة جنايات نينوى الثالثة التابعة لمحكمة استئناف نينوى الاتحادية، حكماً بالحبس البسيط ثلاثة أشهر مع ايقاف التنفيذ في الدعوى المرقمة 423/ج4/2020 ضد مدير صحة نينوى دكتور فلاح حسن عيسى الذي يكنى بـ (دكتور فلاح الطائي) بسبب قيامه بنقل مولدة كهرباء ديزل من دائرته لاستخدامه الشخصي في منزله الكائن في حي المالية بالجانب الايسر للموصل.

مولدة الكهرباء كانت الخيط الاول للبحث عن حقيقة ما يتداوله موظفون بصحة نينوى بشأن امتلاك مدير صحة المحافظة لعلاقات مع فصائل الحشد الشعبي وأنها هي التي تقدم له الاسناد والدعم اللازمين للبقاء في منصبه رغم تردي الواقع الصحي مقابل ما يقدمه لها من نسب في مشاريع الصحة.

قدم الطائي دفوعه بواسطة محاميه لمحكمة التمييز بان مولدة الكهرباء كانت قد تبرعت بها منظمة معنية بحقوق الإنسان سنة 2018 للمركز الصحي في منطقة المنصور جنوبي مدينة الموصل. وأنه نقل المولدة إلى دار الضيافة التابع لمقر دائرته.

وبحسب القانوني سلام محسن، فأن دار الضيافة تعد جزءاً تابعاً للدائرة، لكن عملياً هي دار يسكنها المدير، لكن مع تقديم الاوراق المتعلقة بذلك تم تبرئة المدير.

الطائي وبعد فترة وجيزة، مثل أمام القضاء بتهمة قيامه بإخراج وافدين من الحجر الصحي دون إجراء الفحوصات الخاصة بفيروس كورونا وقبل انتهاء المدد المقررة للحجر. وتم اخلاء سبيله مقابل كفالة مالية ضامنة مقدارها (25) مليون دينار عراقي.

وبعد أشهر وتحديدا في 16 تشرين الثاني 2020 قرر قاضي محكمة تحقيق نينوى المختص بقضايا النزاهة، إجراء تحقيقات وفقاً للمادة 340 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 بعد رصد “هدر في المال العام” اكتنف عقد تجهزي دائرة الصحة بـ(قناني الآوكسجين).

بحسب معلومات حصلنا عليها من متابعين للملف، فان صحة نينوى أنفقت مبلغ (450) مليون دينار على شراء (2000) قنينة أوكسجين من أحد الموردين، في حين أن سعرها التقديري في السوق المحلية يبلغ (320) مليون دينار، أي أن هنالك مغالاة وزيادة في السعر بلغت (130) مليون دينار.

ومازالت النزاهة تجري تحقيقاتها بخصوص هذ الملف وهو ليس الوحيد إذ لاحقت شبهات فساد مديرية صحة نينوى في قضايا أخرى، حيث داهمت قوة أمنية يوم الخميس 19/11/2020 مبنى رئاسة صحة المحافظة واعتقلت معاون المدير العام للشؤون الإدارية دكتور أحمد ناظم دوبرداني، دون توضيح الأسباب.

الدكتور فلاح الطائي، اعلن وقتها أنه لا يملك أية معلومات بشأن سبب اعتقال معاونه الإداري، لكن مصادر قريبة من مكتبه ذكرت لنا أن سبب الاعتقال يرجع لشبهات فساد، مشيرة الى ان وزير الصحة أصدر أمراً قبلها بأشهر بإعفاء معاون مدير صحة نينوى للشؤون الفنية ياسر فوزي دون الإعلان عن سبب محدد لذلك.

وبحسب المصادر ذاتها، فان دعاوى وأحكام قضائية عديدة صدرت بأحكام ابتدائية واستئنافية ضد مدير صحة نينوى، لكنه ينجح في كل مرة بالحصول على قرار تمييزي (تصدره محكمة التمييز في بغداد وقراراتها قطعية) كان آخرها حكما من محكمة جنح الموصل بالعدد 1792/غ.م/ صدر في 20/10/2021 بادانته بدفع غرامة مالية بسبب تغطيته لنفقات إيفاد سفر شخصي من أموال الدائرة. قدم في اثره لائحة تمييزية قال فيها انه أعاد نصف مبلغ الإيفاد.

وتوقع مصدر في محكمة استئناف نينوى الاتحادية، أطلعنا على نسخة من قرار الادانة، أن يحصل مدير الصحة على قرار استئنافي أو تمييزي يلغي هذا الحكم كما حدث في دعاوي أخرى.

النائب عبد الرحيم الشمري ذكر بأن مكتباً يقع في منطقة حي المثنى في الجانب الأيسر للموصل، تابع لجهة تشريعية (تعمد عدم ذكر اسمها لكي لا تتقدم ضده بشكوى وفقاً لتعبيره) يديره شخص يدعى حج أحمد يقوم بتحديد الجهات التي تحال اليها المشاريع في صحة نينوى.

وقال بأن هذا الشخص ليس من محافظة نينوى، ويتقاضى مبالغ العمولات في أربيل ويفرض مشتريات على دائرة صحة نينوى لاتحتاجها عملياً وضرب مثالاً على ذلك “فرض على الدائرة عقد شراء شامبو مضاد للقمل بمبلغ كبير، في حين أن نينوى تفتقر الى ابسط الخدمات الصحية ولا تتوفر في مستشفياتها الأدوية والمستلزمات الطبية”.

الواقع الصحي المتردي هو ما يدفع الكثير من اهالي نينوى للبحث عن العلاج خارجها، كـ”حامد خضر حسين” (53 سنة) الذي كان يقف قرب مرآب النقل الى العاصمة بغداد وفي يده حزمة تقارير طبيبة ينتظر سيارة تقله مع زوجته المصابة بالسرطان: “سنذهب الى بغداد ومن هناك إلى البصرة لكي تخضع زوجتي لعلاج بالأشعة، لأن لاشيء متوفر هنا في الموصل”.

أكثر من 900 كيلو متر يقطعانها على فترات متقطعة ذهابا وإيابا هو وزوجته، كما يفعل مئات آخرون يتلقون العلاج في مستشفيات مدن ومحفظات عراقية أخرى وتكبد نفقاتها العالية مع النقل والإقامة.

يقول حامد وهو يجلب الهواء لوجهه بحزمة التقارير “كل يوم نسمع في الإعلام بأنهم يقبضون على الفاسدين، لكن ماذا تغير، لا شيء أبداً”.

 

شبهات فساد وعباءة المحاصصة

النائب جواد الموسوي عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية، طالب في شهر تموز/يوليو 2021 وبكتاب رسمي وجهه الى وزارة الصحة وديوان الرقابة المالية ومحافظة نينوى، برفع يد مدير صحة نينوى د. فلاح الطائي، وإحالته للقضاء بتهمة الفساد بمبلغ قدره خمسين مليار دينار تعلق بتعاقدات لشراء اجهزة ومواد طبية وأيضاً رواتب موظفي دائرته غير المسلمة عن سنة 2017.

الموسوي قال بأنه قدم الوثائق المطلوبة إلى القضاء وأن كل ما ذكره مدعوم بالأدلة القطعية التي لاتقبل الشك بان مدير صحة نينوى متورط بالفساد. وأن الجهات التحقيقية تتابع الأمر عن كثب.

في أثر ذلك قدم محافظ نينوى نجم الجبوري، طلباً إلى وزير الصحة  لإستبدال مدير صحة نينوى، وصدر قرار بالفعل من الوزارة في 31 تشرين الأول/ أكتوبر2021، لكنه لم ينفذ.

وكانت وزارة الصحة قد اعفت مدير الصحة من منصبه في 16/5/2019 لكنه عاد مجدداً إلى منصبه بعد فترة وجيزة من ذلك.

عدم تنفيذ القرار، عده متابعون لملف الفساد، مؤشراً على الشائعات التي تربط مدير الصحة مع قوى نافذة بحيث أن الوزير نفسه لم يستطع المساس بمنصبه.

بعد التقصي عن سبب عدم تنفيذ قرار وزارة الصحة الأخير، وجدنا أن 25 نائباً من نينوى، يمثلون أحزاباً وتيارات مختلفة قدموا للوزير اعتراضا موقعاً من قبلهم وطالبوه بإلابقاء على مدير الصحة واصفين محاولات استبداله بالمحاصصة الحزبية.

عبارة رفض “المحاصصة الحزبية” التي ساقها نواب نينوى لتبرير ابقاء مدير الصحة، تتردد في معظم المؤسسات والدوائر الحكومية بالمحافظة.

الخبير السياسي عادل كمال يقول بأن الوضع في مرحلة ما بعد داعش بالموصل “يسير على هذا النحو، أحزاب متصارعة فيما بينها لتقاسم نسب من المخصصات المالية لمشاريع الاعمار، وهذا لا يقتصر على دائرة الصحة وحدها بل ينسحب على جميع الدوائر”.

ويذهب كمال إلى أن نواب نينوى مرتبطون بالأحزاب ذاتها المتصارعة على “المغانم المالية” وكل نائب تجده نشطاً في واحدة من الدوائر الحكومية ويركز نشاطه حولها، وذلك بدفع من مرجعه الحزبي، مشيرا الى انهم يتغافلون عن دور المكاتب الاقتصادية وفقاً لتعبيره.

ويتساءل: “لماذا يظهر النواب في نشرات الأخبار وهم يزورون الدوائر ويتفقدون مشاريعها ويظهرون في مكاتب موظفيها؟ هل هذه هي مهام النواب أم أن عليهم فقط تشريع القوانين ومراقبة الاداء الحكومي”.

ويشير الخبير السياسي الى ان معظم مدراء الدوائر الحكومية يتم استبدالهم بعد فترة وجيزة من إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية “لأن الأحزاب الفائزة تتقاسم فيما بينها المناصب الوظيفية العليا. وهنا الموظف الصغير يقدم ككبش فداء عند اكتشاف ملفات فساد لا يمكن التغطية عليها، فيما الكبار المدعومون من قبل أحزاب وميليشيات يتنعمون بمناصبهم مع أنهم غارقون في الفساد”.

ويرجع عادل الصراع على إدارة صحة نينوى الى ما يمكن أن تجنيه تلك القوى من نسب مبالغ إعمار المشاريع المرصودة ضمن الميزانة السنوية “هذا يحدث، والمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية مدمرة، وما يعمل منها يفتقد للأدوية الرئيسية ومراجعوها يضطرون لشراء تقريبا كل ما يحتاجونه من الصيدليات الخاصة”.

 

عشرات الملفات وعجز عن ملاحقة الكبار

الصراع على مواقع المسؤولية لاغتنامها كمورد مالي، يمكن كشفه بجولة صغيرة بين ملفات هيئة النزاهة والقضاء في نينوى حيث تتوالى الملاحقات بحق موظفين بوجود عشرات قضايا الفساد التي صدرت فيها أوامر قبض وأحكام قضائية، في حين أن هنالك مئات التحقيقات الجارية بشأن قضايا أخرى.

“لن يتم المضي في الكثير منها بسبب ما يمتلكه المتورطون فيها من نفوذ سياسي لاسيما المرتبطون بقيادات في الحشد الشعبي المتواجد بنينوى والمكاتب الاقتصادية” هذا ما يقوله محقق قضائي طالبا بإلحاح عدم ذكر أسمه.

المهندس الشاب ضياء حكمت، يلخص خيوط الفساد المنتشرة والمتشابكة في معظم دوائر الموصل بالقول: “عندما احتجت إلى الوظيفة دفعت مبلغاً من المال للحصول عليها، ودفعت لقاء حصولي على إجازة السوق وجواز السفر، ودفعت للموظف في التسجيل العقاري للحصول على صورة قيد أرض سكنية أردت بيعها، ودفعت للموظفين في دائرة الضريبة عندما روجت معاملة البيع”.

يضيف وهو يحرك ذراعيه بسخرية: “حين رزقنا بطفلنا الأول في العام الماضي كان علي أن أشتري كل مستلزمات إجراء العملية القيصرية بالمستشفى الحكومي من صيدلية أهلية، ولم يسمحوا لي برؤية طفلي إلا بعد ان دفعت للممرضين في غرفة العمليات”.

ويواصل وهو يرفع نبرة صوته بحدة: “أصبح فساد الموظفين حالة معتادة..عليك أن تدفع دائما لكي تنجز أمورك البسيطة والمعقدة معاً”.

يعلق موظف يعمل في جهة أمنية بنينوى على شبكة الفساد بدوائر المحافظة، طالبا عدم الإشارة إلى أسمه، أن ما يتم رصده والتحقيق بشأنه من جرائم فساد “لا يتعدى نسبة الـ 1% مقارنة بالجرائم التي تمضي دون حساب او تلك التي يفلت مرتكبوها من العقاب بسبب حصانات يتمتعون بها”.

ويعدد تلك الحصانات “ميليشيات الحشد الشعبي، جهات حزبية، جهات برلمانية، وحتى عشائرية”.

تلك الحصانات تشجع على استشراء الفساد حتى أن المسؤولين الحكوميين والمدراء العاميين والقادة الأمنيين يتم تنصيبهم مقابل مبالغ مالية كبيرة تقدمها الجهات التي تقف وراءهم، بحسب الموظف الذي يقول بأن احزاباً وجهاتاً سياسية بعضها تملك ميليشيات تأخذ نسباً من المشاريع الحكومية الممولة من ميزانية تنمية الاقاليم تتراوح نسبتها بين 10- 20% .

لا يمكن الحصول على أدلة من قسم العقود والمشاريع في محافظة نينوى تؤكد ما أفاد به الموظف، وذلك بسبب عقوبات إدارية سابقة صدرت ضد موظفين بعد تسرب وثائق تعلقت بمشاريع محالة مقابل نسب مالية لواحدة من تلك الجهات.

لكن بالعودة 15 عاما الى الوراء وتحديدا بعد تشكيل أول حكومة محلية في نينوى سنة 2005 سنجد أن نسباً كانت تفرض على مبالغ المشاريع من قبل تنظيم القاعدة ومن بعدها داعش قبل سيطرته على كل شيء منتصف 2014.

وكانت تلك النسب حسب تأكيدات موظفين من قسم المشاريع يتواجدون خارج البلاد حالياً تتراوح بين 10 -20% من مبالغ المشاريع، وذات الأمر يجري الآن لكن لمصلحة المكاتب الاقتصادية التابعة لفصائل الحشد الشعبي.

هذا ما يشدد عليه صاحب شركة مقاولات محلية في نينوى، إذ يقول بأن ممثلين عن المكاتب الاقتصادية يستثمرون أموالهم “وربما يبيضونها” في (المولات) والمطاعم التي أصبحت ظاهرتين واسعتي الانتشار في نينوى بعد 2017.

ويشير بدوره إلى أن هذه المكاتب وممثليها يدخلون بالقوة أو التلويح بها كمستثمرين في مشاريع القطاع الخاص. وقال” لديهم حصص في الكثير من القطاعات، كالنقل والمنتجات النفطية والمنشآت السياحية”.

تلك الاتهامات كان بالوسع سماعها بصوت خفيض أقرب للهمس من مرشحين للانتخابات البرلمانية التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 2021، لكن ذلك الهمس توقف مع انتهاء الحملات الدعائية، ولم نجد شيئاً في حوزة هيئة النزاهة تدلي به عن هذا الأمر.

سر يعرفهُ الجميع في نينوى، أن الحشد الشعبي له علاقة بالفساد المنتشر في دوائرنينوى الحكومية ، وإن تجنب الأهالي والمعترضين على المؤسسة الحكومية الإفصاح عن ذلك علانية يأتي نتيجة خوفهم من سطوة الميليشيات وأبرزها عصائب أهل الحق والخراساني وسرايا السلام.

لكن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي حصلت قائمته الانتخابية على أعلى المقاعد في الانتخابات التي جرت في أكتوبر 2021، قالها وبوضوح في الكلمة التي وجهها يوم 18/11/2021 للكتل السياسية الخاسرة والتي تضمنت دعوته لحل الفصائل المسلحة الشيعية: “قوة المذهب لا تكون بفرض القوى والخلافات الطائفية وما يحدث في الموصل الجريحة باسم الجهاد امر لابد من وضع حد سريع له”.

ثم بعدها بأيام قليلة، أرسل وفداً ممثلاً عنه إلى الموصل يرأسه حازم الأعرجي الذي ذكر خلال لقاء جمعه بمواطنين في جامع الباشا يوم الثلاثاء 30 تشرين الثاني، أن هناك “ميليشيات تسيطر على المدينة وتتاجر بها”، معبرا عن خشيته ان يتسبب ذلك بعودة تنظيم داعش ان لم يتم وضع حد لذلك.

وأضاف الأعرجي انهم لا يريدون أن تأتي أجهزة أمنية الى الموصل “من اجل تهريب الحديد والمواد الاخرى. علينا أن نكون داعمين لإصلاح واعمار المدينة”، ناقلا عن الصدر قوله ان الموصل “تعاني منذ تحريرها، وهي واقعة بين فكين، فك الارهاب وفك الفساد”.

انجز التحقيق بدعم من شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":19437}" data-page="1" data-max-pages="1">