تحقيقات استقصائية: “إنهم يسرقون أطفالنا”… “البارنفارن”، كابوسُ المقيمين في النرويج

“إنهم يسرقون أطفالنا”… “البارنفارن”، كابوسُ المقيمين في النرويج

نوزت شمدين/ رصيف 22

“قابلتُ الموت وجهاً لوجه في الحرب. تساقَطَت على بيوتنا براميل متفجرة. استشهدت أختي. عددُ من أقربائي تحوّلوا إلى أشلاء. واختفى أصدقاء لي ومعارف في المعتقلات. جرّبتُ النزوح وذلّ مسالك المهجر. لكنّ ألم كل ذلك لم يكن شيئاً أبداً مقارنة بوجع انتزاع البارنفارن لطفلي منّي، وهو في شهره الثالث”.

يختنق صوت السوري أيمن (اسم مستعار) وهو يروي لرصيف22 اختبار حظه مع مؤسسة حماية الطفل النرويجية، التي تسمّى “بارنفارن” Barnevern. انتهى به مطاف النزوح، مع زوجته وأطفاله الأربعة، إلى النرويج. كان ذلك مطلع عام 2015. ولم تكد تستقر بهم الحياة في مدينة شين Skien، حتى نشبت خلافات بينه وبين زوجته، أوصلتهما إلى الطلاق، على الرغم من أنهما كانا ينتظران مولوداً جديداً، ما فتح عليهما أعين البارنفارن.

“رفَضَت طليقتي طلباً من البارنفارن بالالتحاق بدورة مدّتها ثلاثة أشهر لتعلّم كيفية الاعتناء بالرضيع. بعدها، دُعينا سوية إلى اجتماع في مقر المؤسسة، وهنالك طلبوا منّا أخذ الطفل إلى غرفة خاصة إلى حين انتهاء الاجتماع. وعندما طلبت استرجاعه، أخبروني أن قراراً صدر بسحبه منّا لأننا غير مؤهلين لتربيته”.

بقي الطفل في عهدة البارنفارن، بينما تقاذفت أيمن جلسات المحاكم طيلة ثمانية أشهر، إلى أن صدر حكم في نهاية المطاف بإعادة الطفل ليكون في حضانته، وكذلك حال أشقائه الأربعة، واعتبار الأم غير مؤهلة لتربية الأطفال.

يحتفظ أيمن بحزمة ضخمة من الوثائق الرسمية، أكثر من نصفها إرشادات حول كيفية تعامله مع أطفاله. يقول بحرقة: “حدّدوا لي ساعة نومهم، وساعة تواجدي مساءً في المنزل، وما يأكلونه، وما يشربونه، وما يرتدوه وما يشاهدونه. أشعر بأنني مراقب على الدوام وينتابني القلق من أي طرقة باب أو رنة هاتف”.

عدوى الخوف من البارنفارن، متفشية في أوساط الجاليات المقيمة في عموم النرويج. فالصحافة المرئية والمسموعة والمقروءة نادراً ما تعرض أخباراً تتعلق بدور إيجابي لهذه المؤسسة الشبحية بالنسبة إليهم، وفق روايات الكثير من أبناء الجاليات الذين قابلناهم. يقولون إنها تظهر فجأة، لتتدخل في شؤون العائلة بل وتحدد مصيرها في أحيانٍ كثيرة.

أغلب المقيمين، ولا سيما مَن لا يتقنون اللغة النرويجية، يستقون معلوماتهم عن البارنفارن من مصادر غير رسمية، كثير منها غير دقيقة، بحسب موظفي هذه المؤسسة الذين يصرّون على أن واجبهم الرئيسي حماية بناء الأسرة وليس تمزيقها، وينفون المعلومات السلبية التي تُتداول عنهم ويصفونها بالشائعات.

تتداول أوساط الجاليات المقيمة في النرويج قصصاً عن إصابة أمهات بأمراض عقلية نتيجة أخذ أطفالهن منهنّ، وعن محاولة أخريات الانتحار. يتحدثون عن انحراف الأطفال الذين يكونون في عهدة البارنفارن وإدمانهم على المخدرات.

وما زال الحديث يجري بكثير من القلق عن المصير الذي لقيتهُ الفتاة الفلسطينية شذى البرغوثي، والتي فارقت الحياة في مركز الإيواء التابع للبارنفارن في آب/ غسطس 2019، بعد نحو ست سنوات من سحب رعايتها مع شقيقين لها من والديها، وكانت تبلغ من العمر 16 عاماً. وحتى الآن، لا شيء ملموساً عن التحقيق المعلن بخصوص تلك الحادثة.

ولم يتسنَّ لنا الحصول على إحصائية لأعداد الأطفال الذين تسحب البارنفارن سنوياً رعايتهم من عائلاتهم، لكون القضايا التي تتعامل معها هذه المؤسسة تحاط بسرّية تامة.

 

لا نتدخل دون سبب

شيستل أندرياس، من هيئة البارنفارن في أوسلو، ينقل الأنظار إلى الجانب الآخر من عمل هذه المؤسسة المثيرة للجدل، ليس في النرويج فحسب وإنما على مستوى الاتحاد الأوروبي، ويقول إن 72% من القضايا المناطة بدائرته تنتهي بإجراءات لمساعدة العائلة لتخطي المشاكل التي تواجهها، مشيراً إلى أن أولياء الأمور هم مَن يقررون ويختارون الأفضل لأبنائهم.

يقرّ أندرياس بأن على مؤسسته العمل بشكل أكبر على إظهار دورها الحقيقي للأشخاص المتواجدين في النرويج منذ فترة قصيرة، دون أن يذكر وسائل محددة للقيام بذلك.

جواد علي، عراقي مقيم في مدينة بوشكرن، ضمن مقاطعة تليمارك، قال لرصيف 22، في مقارنة غريبة، إن دائرة الأمن كانت أكثر الأجهزة الأمنية رُعباً في العراق، قبل عام 2003، وعلى الرغم من ذلك “كُنت أعرف ما يتوجب عليّ القيام به لكي أتجنب الوقوع ضحية بين أيدي عناصرها. لكن مع البارنفارن الأمر يتعلق بالأطفال، وأنا لا أعرف ماذا يتوجب عليّ فعله لكي لا أجد نفسي متهماً لديها ويأخذوا منّي أطفالي. أسمع قصصاً مرعبة عن عائلات أخذوا منهم أطفالهم دون ذنب يستوجب ذلك”.

ويتساءل جواد: “إلا يمكن توجيه تحذير قبل أن يفصلوا الأطفال عن أهاليهم؟ فرض غرامة مثلاً أو أي عقوبة أخرى؟”، مضيفاً: “أن يؤخذ الطفل من الأبوين هكذا بكل بساطة أمرٌ بغاية البشاعة”.

أود مارتن أندرسن، مسؤول في مكتب البارنفارن التابع لبلدية العاصمة أوسلو، يشرح لرصيف22: “لكي يثبت الوالدان أن طفلهما لم يتعرض لإساءة ما أو إهمال أو عدم قدرة على الرعاية، عليهما التعاون مع البارنفارن. البعض يعارض بشدة هذا الأمر، والقانون يمنحنا سلطة القيام بالتحقق عندما نتلقى شكاوى، حتى إذا أعترض أولياء الأمور. وعدم التعاون معنا نفسّره على أن أمراً ما يحدث بالفعل، فيزداد اهتمامنا بالقضية”.

وأوضح أن في كل بلدية، هنالك قسم للبارنفارن، وهو يعمل بنحو مستقل عن أقسام البلديات الأخرى، ومهمتهُ ضمان ظروف تنشئة آمنة لجميع الأطفال في النرويج دون 18 سنة، بغض النظر عن أصولهم.

وأشار إلى أن البارنفارن “لا تتدخل فجأة، إذ لا بد من أسباب تستوجب ذلك، كأن تُخطره جهة ما من القطاع العام، كالروضة أو المدرسة أو الصحة المدرسية، بأن الطفل ليس بصحة جيدة على سبيل المثال، فيتم فتح تحقيق في ذلك وعلى ضوء ما يظهر تُنفَّذ تدابير، وغالباً ما يتم هذا الإجراء بالتعاون مع الوالدين”.

ويلفت أندرسن إلى أنه، وفضلاً عن العاملين في القطاع العام، يمكن لأي شخص أن يرسل إلى البارنفارن بلاغاً يعرب فيه عن قلقه بشأن حالة طفل ما مع شرح أسباب قلقه، كما يمكن للعائلات الأخرى، الأصدقاء، الجيران، عابري سبيل، المعلمين، طبيب العائلة، بل وحتى مجهولي الهوية أن يرسلوا إشعارات بالقلق. ويتحتم على البارنفارن التعامل مع أي تبليغ بجدية، أياً كان مصدره، لأن “لسلامة الطفل الأولوية القصوى”.

“دائرة الأمن كانت أكثر الأجهزة الأمنية رُعباً في العراق، قبل عام 2003، وعلى الرغم من ذلك كُنت أعرف ما يتوجب عليّ القيام به لأتجنب الوقوع ضحيتها. لكن مع البارنفارن الأمر يتعلق بالأطفال، وأنا لا أعرف ماذا يتوجب عليّ فعله لكي لا يأخذوا منّي أطفالي”

وينوّه إلى أن لجميع أولياء الأمور حق الاتصال بالبلدية التي يعيشون فيها وطلب المساعدة إذا واجهوا مشاكل في تهيئة ظروف رعاية آمنة لأطفالهم. ويمكن أن تكون الإجراءات بعد ذلك مجرّد إرشادات أو تدابير طوعية أخرى.

ونفى بشكل قاطع ما تتداوله بعض وسائل الإعلام أو ما يُتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أن عمل البارنفارن ينصبّ على أخذ الأطفال من أسرهم. وقال إن الحقيقة هي أن “المؤسسة تساعد في أكثر الأحيان العائلات على توفير بيئة أفضل لأطفالهم ضمن حدود المنزل وفي حضانتها”.

وأضاف: “أفضل مكان للطفل هو في حضانة والديه. تهيئة الأجواء المناسبة لذلك واجبنا الأساسي”.

تباين ثقافي

يتردد مصطلح “العنف” في أروقة البارنفارن، عندما يكونُ الأمر متعلقاً بسحب حضانة طفل من أسرته. وفي حين يقتصر مفهوم العنف عند العديد من أبناء الجاليات في النرويج على الإيذاء الجسدي، كضرب الطفل، فإنه يتعدى ذلك في القانون النرويجي، ليشمل الإيذاء النفسي وتقييد الحرية، فحبس الطفل ومنعه من الخروج من المنزل يدخل ضمن نطاق العنف الذي يستوجب تدخّل الدولة. وهذا ما يؤكده موظفون في البارنفارن ومن بينهم، أندرسن.

أيمن سليم، يعمل معلماً في مدرسة ابتدائية في مقاطعة فينمارك، أقصى شمال النرويج. يقول لرصيف22 إن تعامل المعلمين مع البارنفارن إلزامي، فإذا وُجد أي أثر على جسم الطفل يدلّ على احتمال تعرّضه للعنف، كالكدمات أو الجروح، ولم يُعلم الوالدان الروضة أو المدرسة بشأنه، وحامت الشكوك بأنه ناجم عن استخدام العنف، يتوجّب على المعلم إبلاغ الإدارة ثم البارنفارن على الفور.

ويلفت إلى أنه يتم الإبلاغ أيضاً عن الحالات المتكررة التي تدلّ على إهمال الوالدين إطعام الأطفال أو كسوهم، بحال لم تجرِ معالجتها. وإبلاغ المعلمين عن هذه الأمور واجب، وأي مقصّر في ذلك يُحاسَب.

من خلال خبرته الممتدة لأكثر من عشر سنوات في العمل في التعليم واطّلاعه على العديد من الحالات، يعتبر أيمن أن الفجوة القائمة بين الجاليات المقيمة والبارنفارن سببها الاختلاف الثقافي. فبعض الوافدين الجدد إلى البلاد تتيح لهم ثقافتهم تعنيف الأطفال كجزء من ممارسة التربية التي اعتادوا عليها جيلاً بعد جيل. وهذا التعنيف قد يتمثل بالضرب والصراخ. وأي نرويجي شاهد موقفاً كهذا سيبلغ البارنفارن به، كجزء من شعوره بالمواطنة، لأنهما أمران يتعارضان وبشدة مع ثقافة البلاد ويُعدّان سبباً مباشراً لمنح المحكمة إذناً للبارنفارن بسحب رعاية الطفل من أسرته.

وضرب أيمن أمثلة أخرى عن التباين الثقافي، كإطعام الطفل الحلويات والمشروبات الغازية بكميات كبيرة، مثلما اعتاد الأهل في بلادهم، كنوع من أنواع إظهار الاهتمام والكرم الأبويين. لكنّ هذه الممارسة من وجهة نظر النرويجي يُنظَر إليها على أنها تقديم غذاء غير صحي للطفل، وتُعتبر تقصيراً في مراعاة مصلحته وإهمالاً في رعايته. وعادةً، يتلقى الأهل توجيهات من الروضة أو المدرسة أو الصحة المدرسية، وإنْ لم يلتزموا بها يُبلّغ البارنفارن بالأمر، فتتدخّل في إطار التوجيه وتقديم النصح.

ونوّه إلى أن كل الأطفال القادرين على إعطاء وجهة نظرٍ في قضاياهم يُسمع كلامهم ويكون له ثقل في تقييم الأمور، حسب السن والنضج. وهنا يبرز وجه خلاف ثقافي آخرين، إذ إن بعض الوافدين يعلّقون على الكلام الصادر عن أطفالهم: “هذا طفلٌ، لا يعرف مصلحته”.

من المألوف في أوساط الجاليات العربية والمسلمة المقيمة في النروج سماع عبارة: “إنهم يسرقون أطفالنا منّا ويغيّرون دينهم”. وهنالك مَن يقول إن تشريع قانون البارنفارن يستهدف في الأصل الأجانب المقيمين

من خلال بحثنا عن حالات مشابهة، اطّلعنا على ما جرى لعائلة قادمة من أفغانستان، تقطن في مدينة كرستيانساند، غربي النرويج. أصبحت في مرمى البارنفارن قبل سنتين لمجرد وعدٍ قطعهُ الأب بتزويج ابنته الوحيدة نركس (16 سنة) لابن شقيقه المتواجد في إيران.

الفتاة أسرّت بذلك لصديقتها، وهي روته لأمها، فقامت الأخيرة بإعلام البارنفارن، فتدخّلت المؤسسة فوراً ونقلت الفتاة إلى عهدتها بقرار قضائي بعدما استشعرت أن جريمة تزويج قاصر على وشك الحدوث.

عجز الوالد عن إثبات أن الوعد الذي قطعه لشقيقه جزء من التقاليد الثقافية وأنه هو نفسه تزوّج بتلك الطريقة من ابنة عمه، وأن الزواج لن يحدث إلا بعد بلوغها السن القانوني اللازم، وباختيارها. استغرق الأمر عدة أشهر والكثير من التعهدات والمقابلات الشخصية لتعود نركس في نهاية سنة 2018 إلى حضانته بمحض بإرادتها.

النهاية كانت مختلفة مع العراقي أ. خ. تأكد ضربه لابنته (14 سنة وقت سحب رعايتها منه). كان ذلك عام 2016. والفتاة هي التي قدّمت الشكوى وقالت إنه يواظب على ضربها، فصدر قرار السحب النهائي. هذا ما رواه قريبٌ له.

إنهم يسرقون أطفالنا!”

بعد سلسلة من قضايا سحب رعاية أطفال من عائلات ذات أصول إسلامية، صار من المألوف سماع عبارة: “إنهم يسرقون أطفالنا منّا ويغيّرون دينهم”. وهنالك مَن يقول إن تشريع قانون البارنفارن يستهدف في الأصل الأجانب المقيمين.

ينفي موظفون في البارنفارن، ومنهم أود مارتن أندرسن، بشكل قطعي هذه الشائعات. يؤكد أن القانون النرويجي في ما يخص رعاية الأطفال ينطبق على جميع الأطفال المقيمين في البلاد وتقلّ أعمارهم عن 18 سنة، بغض النظر عن العرق أو الدين أو أي شيء آخر.

ولفت إلى أن البارنفارن لا تتولى رعاية طفل إلا بعد محاكمة، وتابع: “إذا رأى الوالدان أن البارنفارن تفعل خلاف ذلك، يحق لهما الاستعانة بمحامٍ خاص بهما وعلى نفقة الدولة”.

ويرى الصحافي النرويجي، من أصل عراقي، وسام كريم العزاوي في أن “الإعلام هو مَن خلق هذا الاعتقاد ورسّخه لدى شرائح معيّنة، لأنه يركّز على جوانب سلبية في أداء البارنفارن. ومأساة إنسانية كانتزاع طفل من حضن أمه أو تعرّضه للأذى وهو في كنف العائلة البديلة، خبرٌ سيحظى بمتابعة واسعة وسيكون له أثر عميق في نفوس الفئة التي تنتمي إليها الأم أو الأب المنكوبين”.

العزاوي يرأس مجلس إدارة مؤسسة صوت النرويج الإعلامية، وأخذ على عاتقهِ مهمة تقريب وجهات النظر بين الجاليات العربية والبارنفارن، من خلال إجراء تقارير ومقابلات مع مسؤولين ومواطنين وشرح للقوانين باللغة العربية عبر راديو وقناة تلفزيونية ومجلة تابعة لمؤسسته الإعلامية الوحيدة الناطقة بالعربية في النرويج.

في معرض اتهامه الإعلام النرويجي بالمسؤولية عمّا وصفه بهلع المقيمين من البارنفارن، أوضح لرصيف22: “يتناول السلبيات على قلتها ولا يقارب الجانب الإيجابي… لذا فهو يقوم بتأجيج المواقف بدلاً من تهدئتها أو على الأقل شرح ملابسات المواضيع التي يتطرق إليها، كسحب الأطفال من عائلاتهم. ودائماً هنالك طرف واحد في القصة والآخر مغيّب تماماً”.

“الأمر مختلف بالنسبة إلينا”، يستدرك العزاوي بثقة ويواصل: “نحن نعمل على التعريف بعمل البارنفارن. وتوضيح حقوق المقيمين العرب أو الناطقين بالعربية مع الواجبات الواقعة على عاتقهم”.

في رسالته الإعلامية، يركز العزاوي على ضرورة تخلّي غير النرويجيين عن الشعور بأنهم أجانب يعيشون على أرض نرويجية، ويدعوهم للانتقال إلى المربع الآخر، وهو أنهم نرويجيون، لأن القانون يتعامل معهم بهذه الصفة وليس بصفاتهم كعراقيين أو سوريين أو يمنيين وهكذا.

ويصف ما يدور من أقاويل تتعلق باستهداف البارنفارن للعائلات المسلمة بأنها خيالية، موضحاً أن عدد المقيمين العرب في النرويج، بحسب إحصائية للحكومة سنة 2019، هو 78 ألف شخص، معظمهم عراقيون وسوريون، وعدد كل المسلمين هو بحدود 176 ألف شخص، أي أن عددهم لا يشكّل شيئاً مقارنة بعدد سكان النرويج البالغ خمسة ملايين ونصف المليون نسمة. لذا من المؤكد “أن تشريع أي قانون لن يستهدف فئة معيّنة بالذات دون غيرها” على حد تعبيره.

ويضيف: “البعض يتوهم أن المواطنين النرويجيين لا يتعرضون لمساءلة البارنفارن. وهذا غير صحيح. لكن الفرق أن العائلة النرويجية تتعاون مع موظفي المؤسسة ولا تمتنع عن الرد على الأسئلة والاستفسارات المتعلقة بأطفالهم. وهنالك عائلات هي مَن تقوم بالاتصال بالبارنفارن وتطلب تدخلها أو نصيحتها لحل مشكلة تتعلق بالرعاية”.

واستدرك: “معظم المشاكل التي تحدث مردّها سوء فهم للقوانين وعدم الامتثال للإجراءات، ويفسر البارنفارن ذلك على أنه إخلال بواجب الرعاية للطفل”.

وكانت قناة NRK النرويجية قد بثت في 12 حزيران/ يونيو 2020، تقريراً أكدت فيه نيّة بيرغن، ثاني أكبر مدينة في النرويج بعد العاصمة أوسلو، مقاضاة رئيس البارنفارن في بلدية سامنجر التابعة لها، بسبب حالات قصور في التعامل مع بعض القضايا المتعلقة بالأطفال. وهدد موظفون في ذات المكتب بتقديم استقالاتهم في حال رُفعت بالفعل دعوى قضائية، لأن العمل في مجال حماية الطفل معقّد، وهم لن يستطيعوا العمل وهم ينظرون من فوق أكتافهم، كما جاء في التقرير.

من خلال بحثنا، وجدنا أن شعور القلق من البارنفارن لا يعتمر في صدور أرباب الأسر المسلمة من أصول آسيوية وإفريقية فقط، وإنما في صدور المسلمين من أصول نرويجية كذلك. فإلزام الأبناء بارتداء الحجاب أو الصيام أمور تدخل عندهم ضمن طقوس الدين، لكنها في نظر القانون النرويجي قد تعني تقييد حرية الطفل وحرمانه من الطعام. ل. ي. التي طلبت الإشارة إلى حروف اسمها الأولى فقط، وهي أم لطفلتين وتعمل في نطاق التعليم، تشعر بهذا القلق وتخشى أن يُنظَر إلى صيام ابنتيها كتقصير منها في رعايتهما.

خالد مؤيد (46 عاماً) سوري مقيم في مدنة تونبيرغ، يقول لرصيف22: “نحن لسنا في الجنة”. برأيه، احتمال الخطأ وارد في بعض الإجراءات وقد يكون هنالك موظفون سيّئون في أحد مكاتب البارنفارن وربما حتى عنصريين، وينبغي عدم منحهم الفرصة والمبرر ليترجموا نواياهم إلى أفعال.

يدعو خالد، الذي وصل إلى النرويج سنة 2014، العائلات القادمة من البلدان الإسلامية، عربية كانت أو غير عربية، إلى هضم التحوّلات الحاصلة في حيواتهم، ووعي أنهم أصبحوا في بلد آخر تختلف قوانينه بنحو جذري عن القوانين والأعراف في البلدان التي أتوا منها.

وقال: “إنه انقلاب حياتي كبير. ويجب على الأزواج التعامل مع بعضهم ومع أبنائهم بمقاييس المجتمع النرويجي، مع المحافظة على هوياتهم الثقافية. وإلا فإن خطر سحب الأطفال منهم أمر وارد وقد حدث لكثيرين”.

الهروب من البارنفارن

في صباح الثاني من أيلول/ سبتمبر 2015، تلقى هاتفا الزوجين العراقيين عادل وهناء رسالتين نصيتين مصدرهما سيدة تعمل مُترجمة فورية: “يرجى حضوركما إلى مؤسسة حماية الطفل بعد ساعة من الآن”.

كانا قد وصلا إلى النرويج قبل ثمانية أشهر فقط، ويحضران دروس تعلم اللغة. المسافة بينهما وبين مقر البارنفارن، في مركز مدينة شين Skien نحو نصف كيلومتر، “لكنها أصبحت مئات الكيلومترات أمامنا ونحن نسرع مفزوعين إلى هناك”، قال عادل لرصيف22، ملتقطاً مشاهد من ذاكرته.

وواصل: “تعطل الزمن في ذلك اليوم. حتى المصعد الذي نقلنا إلى الطابق الخامس في تلك البناية حيث مكتب البارنفارن كان بطيئاً وكأنه يتلذذ بما يحدث لنا”.

قابلتهما محققة وأخبرتهما أن محققين آخرين يستجوبان في المدرسة الابتدائية ولدهما سليم (6 سنوات) ومرام (9 سنوات) بشأن أختيهما الصغرى رواء (4 سنوات)، على خلفية تقرير رفعته معلمتها في روضة الأطفال إلى البارنفارن، عبّرت فيه عن شكوكها بوقوع انتهاكات جسدية على الأطفال داخل الأسرة.

تروي الزوجة هناء لرصيف22: “حققوا معي بمفردي لنحو نصف ساعة، ثم فعلوا الشيء عينه مع زوجي. أروني ورقة فيها واحدة من رسومات ابنتي رواء. وكانت عن طفلة صغيرة تبكي. قالوا إن المعلمة سألتها لماذا جعلتها تبكي؟ وفهمت من رواء أن الرسم لشقيقتها الكبرى التي يضربها والدها، مع أن رواء وبسبب حداثة وجودنا في النرويج لم تكن تعرف التحدث بغير العربية، فكيف فهمت المعلمة ما قالته؟”.

وتضيف: “في النهاية، أخبرتنا المحققة أن القضية أغلقت، ليس لأنني وزوجي نفينا تلك المزاعم الكاذبة، بل لأن ابنتي الكبرى هي التي نفت ذلك وكذلك شقيقها. هكذا، وبكل بساطة، طلبوا منا العودة لمواصلة حياتنا، في حين أن أرجلنا لم تكن قادرة على حملنا. وفكرنا جدياً بمغادرة البلاد”.

ما خطر في بال هذين الزوجين فكّر فيه كذلك في السنوات الثلاث الأولى من تواجدهم في النرويج نحو 40% من العائلات التي تواصلنا معها وعددها عشرون عائلة تقيم في مختلف المدن والمقاطعات النرويجية.

كانت لهذه العائلات تجارب متفاوتة مع البارنفارن. بعضها حزم أمره بالفعل وغادر البلاد خوفاً من انتزاع حضانة أطفالهم منهم، بمجرد تلقيهم استدعاءً بالحضور أو شعورهم بأنهم أصبحوا في دائرة الاتهام بسوء معاملة أطفالهم.

(م. ر.) مصري الجنسية، طلب عدم ذكر اسمه الكامل، هو ربّ أسرة قوامها زوجة وولدان وبنت. كان مقيماً في مدينة تروندهايم شمال أوسلو وكانت هنالك عائلة مجاورة أصبحت على تماس مع البارنفارن. ولكونه يتقن اللغة النرويجية كان يقرأ لجاره ما يرده من خطابات من المؤسسة، بل ورافقه في مشاويره إلى مكتب المحامي عندما سُحبت منه رعاية اثنين من أطفاله.

فوجئ ذات يوم من أيام شباط/ فبراير 2018 برسالة من البارنفارن تدعوه مع زوجته إلى اجتماع تم تحديد موعده. دخل في دوامة من الحيرة بين خوض تجربة الجار أو الرحيل عن البلاد. حتى دون أن يستوضح سبب الدعوة الموجهة.

قال لرصيف22 إنه كان تحت تأثير القصص التي سمعها عن سحب الأطفال من عائلاتهم، ولم يفكر هو أو زوجته بشيء آخر، سوى في الإبقاء على أطفالهم تحت جناحيهما، فقررا مغادرة البلاد إلى تركيا، حتى دون أن يعرفا لماذا استُدعيا.

الآن، وبعد سنتين من ذلك، يفكر في العودة مع عائلته مرة أخرى إلى النرويج، ولا سيما أن لدى أفرادها إقامات دائمة، لكنه يخشى من مساءلة البارنفارن له، ويحاول أن يجد حلاً لذلك.

يعلق أود مارتن أندرسن على رحيل أو تفكير عائلات بالرحيل عن البلاد بسبب البارنفارن بالقول: “أمر محزن حقاً سماعنا برغبة شخص بالهرب عندما تفتح قضية تتعلق بطفله. رفاهية الطفل مخيفة لدى البعض، خصوصاً الذين لا يفهمون ما يحدث أو لا يعرفون التشريعات والقوانين أو لديهم مشكلة في اللغة أو الحقوق الخاصة بهم”.

وأكد مجدداً اعتماد البارنفارن على أساس قانوني في عمله وهو ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة. وقال باختصار: “لا يمكن لمؤسسة حماية الطفل أن تفعل ما يحلو لها ويجب أن يكون كل شيء وفقًا للتشريع ويجب متابعة الإجراءات عبر القضاء”.

وتحدث عن جوانب في عمل مؤسسته، كقيامها باتخاذ تدابير علاجية قبل تقديم القضية إلى مجلس المحافظة أو المقاطعة، وأكد أن للوالدين حقوقاً عديدة منها الحصول على محامٍ مجاني في حالات تولي الرعاية (ويعني بها سحب حضانة الطفل)، وعلى مترجم فوري يساعدهم في فهم جميع الاجتماعات مع البارنفارن، وكذلك في القضايا المعروضة على المحاكم.

لذا، يتابع، فالعائلة يكون لديها علم بأن هنالك قضية وتتم زيارتها بمواعيد مسبقة أو دون سابق إنذار لدراسة كيفية تعاملها مع الطفل، ويتم النظر في كثير من التفاصيل والإجراءات الإرشادية، وكل ذلك يجري في جوّ من السرية التامة، إذ لا يمكن للبارنفارن مشاركة المعلومات مع أي جهة لا علاقة لها بالقضية كالأصدقاء وأقرباء العائلة وجيرانها. ويخضع المترجمون الفوريون أيضاً لنفس واجب السرية وقد يتعرضون للعقاب إذا انتهكوه.

جهل بالقوانين

من خلال متابعة سير عمل البارنفارن، يتضح أن القرار الابتدائي للتدخل في التحقيق بأي قضية يبدأ بإشعار مجلس البلدية الذي يمتلك سلطة القرار، ويتم إعلام المحكمة في الحالات التي تستوجب تدخلها، فتقوم بإصدار القرارات حسب طبيعة القضية.

وسحب رعاية الأطفال من الأهل نادراً ما يكون نهائياً، إذ عادة ما يكونُ مؤقتاً، عبر إيداع الطفل لدى عائلة مهيأة لهذا الغرض، إلى حين تأمين وضع مناسب لتنشئته في كنف عائلته الأصلية، وإذا كان ذلك متعذراً تتولى عائلة أخرى تربيته لحين بلوغه الثامنة عشر.

ولكن لمَ يبدو كل هذا غامضاً بالنسبة إلى كثير من العائلات ضمن الجاليات المقيمة في النرويج بمختلف هوياتها الثقافية؟

يوجز النرويجي من أصل عراقي محمد سيف المفتي، المدير التنفيذي في منظمة U-TURN الناشطة في النرويج، الإجابة عن هذا السؤال بعبارة هي: “الجهل بالقوانين”. فعدم فهم سبب اتّخاذ الإجراءات وعدم الالتزام بالاتفاقات بين العائلة ومكتب حماية الطفل تسيء إلى علاقة الثقة المتبادلة والمصداقية بين الطرفين.

وقال لرصيف22: “تنظر جالياتنا إلى إجراءات مكتب حماية الطفل وفقاً لثقافتها، وتعدها تدخلاً سافراً وغير مقبول في الحياة العائلية وتجاوزاً على حقوق أولياء الأمر في تربية الطفل. وقد يعتبر بعضهم ضرب الطفل من دواعي التربية وليس التعنيف، والصراخ والزعيق بوجوه الصغار لأجل الحصول على طاعتهم وليس لأجل تعنيفهم نفسياً، وهذا ما يتعارض مع روح القانون النرويجي الذي يمنع ذلك قطعاً”.

وتابع: “المهاجرون الجدد يترجمون القانون وفقاً لمفاهيمهم ويعتقدون أن قوانين بلدانهم هي التي ستطبّق”، و”بهذا تتخذ بعض الإجراءات نتيجة لسوء الفهم الثقافي وقد سمعت أنه في الفترة الأخيرة تم استخدام مترجم ثقافي، بحيث يكون وسيطاً للتفاهم، يتجاوز عمله دور المترجم الفوري”.

  • التحقيق انجز من قبل نوزت شمدين عضو شبكة نيريج لحساب موقع رصيف 22

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18157}" data-page="1" data-max-pages="1">