تقارير سردیة: النزوح أو البقاء على حد الكفاف.. هذا ما فعله التغيير المناخي بمربي الجاموس في ذي قار

النزوح أو البقاء على حد الكفاف.. هذا ما فعله التغيير المناخي بمربي الجاموس في ذي قار

مضت أربع سنوات ومربي الجاموس رعد الموسوي (55 سنة) من أهوار الجبايش في محافظة ذي قار جنوبي العراق، ينتظر إنقضاء مواسم الجفاف التي ترزح المنطقة تحت تأثيرها، لتعود المياه تغمر الأهوار وينمو القصب والبردي مجدداً بكثافة بما يحفظ قطيع جواميسه التي باع بعضها لتأمين العلف للمتبقي منها.

يشكو أبن الأهوار الذي قضى حياته فيها ولم يعرف غيرها، من تراجع حاد في معدل انتاج جواميسه الخمس المتبقية للحليب، الذي يعتمد على مردود بيعه في إعالة أسرته الكبيرة. يقول عن ذلك:”كانت الجاموسة الواحدة تنتج في اليوم 75 لتراً من الحليب، أما الان  فلايزيد انتاجها عن 20 لترا فقط”.

التحدي اليومي الذي يشغله في ظل ندرة القصب والبردي، هو تأمين العلف الكافي لإطعام جواميسه، لذا فان جل ما يحصل عليه من بيع الحليب بالكاد يغطي تكاليف العلف الذي يصل سعر الطن الواحد منه إلى 700 ألف دينار ( 535 دولار).

ما عوض جزءا من خسارته المزدوجة، نتيجة تراجع انتاج الحليب بنسبة 40% وتقلص عدد جواميسه، هو ارتفاع سعر اللتر الواحد من الحليب من 1000 دينار في السابق الى 1500 دينار اليوم نتيجة شحة الانتاج.

                                                      انخفاض انتاج الحليب

ابو محمد (50 سنة) مربي جاموس  يقطن في عمق أهوار الجبايش، بمنطقة تسمى ايشان الحلالب، يمتلك  خمسة عشر رأسا من الجاموس، تسعٌ منها إناث، يشتكي كذلك من قلة انتاجها من الحليب، إذ يؤكد بأن الواحدة منها لاتنتج أكثر من 15 لتراً في اليوم.

يقول وهو يشير اليها:”لا نأخذ كل ما في ضرع الجاموسة، نترك ما مقداره الثلث للعجول الصغيرة، فتغذية الجواميس بات همنا الأكبر”. لأجل ذلك قام ببيع العديد من جواميسه، وسيفعل ذلك مع عدد آخر في حال استمر الجفاف وظل نمو القصب والبردي محدوداً.

يؤكد علي جايد، وهو بائع حليب بالجملة في علوة الكسرة بقضاء الجبايش، تراجع كميات حليب الجواميس التي تصل الى السوق، على الرغم من وجود طلب متزايد عليه ولا سيما من بغداد والديوانية وبابل.

يذكر الرجل الكهل، الذي يعمل في مهنته ذاتها منذ عشرين عاما، بأنه كان يستقبل من مربي الجواميس ما يصل إلى ستة عجلات بيك آب، مليئة بعبوات الحليب يومياً، لكن بعد شحة المياه في الأهوار، انخفض عددها إلى عجلتين فقط.

ويضيف:”منذ سنتين والأمور تتدهور هنا، المياه تقل والجواميس تتناقص، لأن أصحابها يبيعون منها لكي يشتروا الاعلاف لما تبقى”.

وفقاً لرئيس قسم الثروة الحيوانية في مديرية زراعة ذي قار، د.ميثم عزيز، فأن 84 ألف رأساً من الجواميس تتواجد في المحافظة، ثلثها اناث. وتتركز 50% من الجواميس في مناطق الأهوار، ويعد غذائها الأساس القصب والبردي الذي يتطلب نموها أن تغمر الأرض بالمياه.

ويشير إلى تأثير بالغ خلفته التغييرات المناخية في السنوات 2021 و 2022 و 2023 على مربي الجواميس، فالجفاف أدى الى انحسار المساحات الخضراء التي تضم نباتات القصب والبردي “مما دفع بالمربين إلى شراء الاعلاف من الأسواق، فأنعكس ذلك على تراجع مستوى التغذية للجواميس، وبالنتيجة إنخفاض انتاجها من الحليب، بل وأثر حتى على جودته”.

ووفقاً لإحصائية أعدتها مديرية زراعة ذي قار، فان 6500 رأس من الجاموس، نفقت خلال سنة 2023 جراء شحة المياه وقلة المراعي.

ذلك الوضع الحرج لمربي الجواميس، دفع الحكومة في العام 2023 الى اطلاق مبادرة لدعمهم من خلال تجهيزهم بنوعين من العلف مجاناً “45 كيلو غرام من النخالة للرأس الواحد من الجاموس، وعلف المولاس بكمية 15 كيلو غرام لكل رأس، ولمرة واحدة فقط”.

المبادرة جاءت بطلب من وزارة الزراعة، واقرت من قبل مجلس الوزراء، وتضمنت، كما يقول د. عزيز “تخصيص مبلغ قدره 5 مليارات دينار عراقي لدعم التغذية وشراء علف الجاموس الأساسي وتوفيرها مجانا لمربي الجاموس في جنوبي البلاد، بإشراف من فريق مشترك متخصص من إدارات الثروة الحيوانية والإرشاد التابعة لوزارة الزراعة مع خبراء منظمة الأغذية والزراعة”.

تغيير مناخي وتقلص امدادات الأنهر

يشهد العراق منذ سنوات أزمات مياه تظهر بنحو لافت في أشهر الصيف وبداية الخريف حيث تنقطع الأمطار وترتفع معدلات تبخر المياه، بسبب التغيير المناخي والجفاف الذي أحدثه تقليص تركيا لإمدادات المياه لنهري دجلة والفرات النابعين من أراضيها وبنسبة تصل الى 70% الى جانب قطع إيران لمعظم الجداول والأنهر العابرة من أراضيها والتي كانت تغذي سابقا نهر دجلة في العراق.

وانخفض معدل الكميات المائية الواردة الى العراق بحسب البيانات التي اعلنها الجهاز المركزي للإحصاء، من نهري دجلة والفرات لعام 2021 -2022 عن العام 2020-2021 بمقدار 6.74 مليار متر مكعب.

وبلغت مساحات الأهوار المغمورة بالمياه في العام 2019 نحو 5600 كيلومتر مربع، قبل ان تتراجع بسبب الجفاف بنسبة 96% في العام 2023 بحسب منظمة طبيعة العراق الناشطة في المجال البيئي.

النقص الحاد في المياه، دفع السلطات المعنية الى تغيير مسارات جداول وروافد عديدة لتأمين المياه لسكان المحافظات، مما أدى إلى قلة منسوب المياه التي تصل الى الأهوار، وجفاف أجزاء واسعة منها، فأدى ذلك إلى موت النباتات، ونفوق الأسماك وقلة تواجد الطيور المائية، فضلاً عن أضرار كبيرة لحقت بمربي الجواميس والأهالي بنحو عام، ليعمد الكثيرون إلى الهجرة نحو المدن والإستقرار فيها.

ويأتي العراق في المرتبة الخامس على مستوى العالم من حيث التضرر نتيجة الظواهر المرتبطة بالتغيير المناخي، وكشفت الهيئة الدولية للصليب الاحمر في تقرير لها في عام 2021 أن العراق تعرض “لأكثر من 300 عاصفة رملية، بينما في الفترة ما بين عام 1950 إلى عام 1990 كانت أعداد العواصف الرملية أقل من 25 عاصفة في السنة الواحدة.

منظمة الامم المتحدة اشارت في تقرير لها نشره موقعها الالكتروني ان الهجرة المناخية في العراق اصبحت حقيقة “في نهاية عام 2021، سجلت المنظمة الدولية للهجرة ما يقرب من 20 ألف نازح بسبب ندرة المياه في 10 محافظات فقط من أصل 19 محافظة عراقية، واشارت الى ارتفاع الملوحة وسوء نوعية المياه في جميع أنحاء العراق”.

وتذكر تقارير دولية، ان 94% من النازحين في محافظات العراق الجنوبية، عدو “ندرة المياه” سببا رئيسيا لنزوحهم. وكان النزوح من الاهوار بدأ بشكل واسع في تسعينات القرن الماضي نتيجة سياسات حكومية، وبحلول عام 2001 اختفتى 90% من الأهوار وفقد العراق جزء كبيرا من تنوعه البيولوجي، وكان ذلك سببا لنزوح واسع النطاق”.

وأظهرت دراسة أجراها المجلس النرويجي للاجئين عام 2021 أنه في المناطق المتضررة من الجفاف كان لدى أسرة واحدة من كل 15 أسرة، فرد أجبر على الهجرة بحثاً عن عمل. وحذرت الدراسة من تزايد النزوح بنحو كبير، ودعت الجهات المحلية والدولية للإستعداد لمواجهة المخاطر المرتبطة بالهجرة الناجمة عن تغير المناخ باتخاذ إجراءات عاجلة ومنسقة.

ويوضح الخبير في الشأن المائي وفي واقع الأهوار جاسم الأسدي، ان مساحات شهدت تقلصا خلال السنوات الأخيرة، وان أهم المساحات المائية التي جفت هي الأهوار الوسطى وهور أبو زرك مما دفع بالأهالي لترك محل سكناهم والبحث عن أماكن بديلة مع مواشيهم.

تاثير ذلك ظهر بشكل كبير على مهنة تربية الجواميس، وهي المهنة الأساسية لسكان الأهوار. وبحسب المختصة في الجغرافية البيئية الدكتورة منار ماجد، يرتبط حيوان الجاموس بشكل وثيق ببيئة الأهوار لحاجته الى تبريد جسمه الحار بالماء خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة في مناطق جنوب العراق، فضلا عن اهمية نبات القصب والبردي وما يحويه من مواد غذائية جيدة تنعكس على مستوى انتاج الحليب.

وتقول ماجد، ان انخفاض مستويات الاغمار المائي يؤثر بشكل مباشر على نوعية القصب الذي يتغذى عليه الجاموس اذ ان جزء مهم من القصب المسمى بـ”العنكر” والذي يتشكل في القسم المغمور بالماء، يعتبر مادة غذائية جيدة للجاموس ويتغذى عليه ايضا سكان الاهوار.

ويعد “العنكر” الذي هو أشبه بالألياف، قلب القصب، ولونه ابيض، وبات شبه مفقود في مناطق واسعة من الاهوار نتيجة قلة مساحات الاغمار، لذا يضطر الأهواريون الى البحث عن هذا النوع من النبات في أماكن اخرى بعيدة عن مناطق سكناهم، لأجل ان يكون غذاء “دسم” لهم ولمواشيهم.

حلول ولكن !

يرى أستاذ علم الجغرافيا الدكتور حسين الزيادي، ان أهوار جنوب العراق التي تشكل مثلثا زواياه البصرة وميسان وذي قار، لا تنتشر بنحو متساو في المحافظات الثلاث. ويقول ان مركز انعاش الأهوار التابع لوزارة الموارد المائية حدد الحصة الأكبر لمحافظة البصرة بنسبة 36.8% وميسان بنسبة 28.3% وذي قار 34.9%، وهذه فقدت حوالي ثلثي مساحاتها خلال المدة الممتدة 1973 وحتى 2016، اذ كانت تبلغ 19788 كيلو متر مربع.

ويقول الزيادي ان ذلك يظهر مراحل الجفاف التي مرت بها الاهوار خلال حقبة النظام السابق وخاصة بين تسعينيات القرن الماضي ومابعد 2003 نتيجة التغيرات المناخية.

ولتدارك مخاطر اختفاء الأهوار، يكشف مدير مركز انعاش الاهوار في ذي قار عدنان الموسوي، عن خطة يتم العمل عليها منذ سنتين، تتركز في كري وصيانة المسالك المائية المؤدية للأهوار الوسطى بدءاً من المغذيات الرابطة مع السدة القاطعة بين قضاء المديّنة شمال البصرة والجبايش وكذلك مع محافظة ميسان لضمان تدوير المياه والحفاظ على مستوى مائي جيد وهذا ينعكس بشكل إيجابي على إبقاء السكان المحليين في مناطقهم وعدم الهجرة وحماية الثروة الحيوانية من الهلاكات.

ويرى الموسوي أن أبرز المناطق التي شهدت انتعاشاً نسبياً بعد أعمال الكري، هي “هور أبو سوباط وأبو النمسي وجويلانه والمجري”. ويقول بأنها شهدت كذلك انخفاضاً واضحاً لنسب الملوحة.

مشكلة توفير العلف نتيجة قلة القصب تشغل كل مربي الجاموس بما فيهم الذين ينتشرون في الأهوار التي أجرت السلطات المعنية عمليات كري فيها. فـ(أبو سجاد) الذي يسكن هور أبو سوباط، يواجه صعوبة في توفير العلف المطلوب، ويحاول قدر الإمكان ان يجمع بين ما يحصل عليه من القصب وما يقوم بشرائه من “النخالة”، مبينا ان جواميسه تستهلك يوميا ما مقداره 15 كيلو غرام الا انه يقوم بتقديم كميات محدودة حسب قوله “قوت لا تموت”.

ويعرب (أبو سجاد) عن مخاوفه من تدهور أكبر في الصيف المقبل، ولا يعلم كيف سيتعامل مع احتمال استمرار مواسم الجفاف، والى أين يتجه؟ ففي الصيف الماضي فقد 11 من جواميسه التي نفقت نتيجة الجفاف، وباع ستة آخريات وبقي لديه الآن ثلاثة فقط.

ويرى أن المبادرات والخطوات الحكومية، مجرد محاولة لمعالجة او سد جزء من المشكلة لوقت محدد وليست حلاً دائماً، مع استمرار مواسم الجفاف وبقاء التغيرات المناخية تضرب بآثارها العراق والمنطقة.

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":23927}" data-page="1" data-max-pages="1">