تقارير سردیة: الفتيات هنَّ الأكثر تسرباً من التعليم الابتدائي والتمييز الجندري على رأس قائمة الأسباب

الفتيات هنَّ الأكثر تسرباً من التعليم الابتدائي والتمييز الجندري على رأس قائمة الأسباب

الفقر ومستوى تعليم الأمهات مؤثران أساسيان على نسب تسرب الفتيات

وليد المصلح:

سريعا يتنقّل أربعة أطفال من بائعي المناديل الورقية وعبوات المياه ومنظفي زجاج السيارات من مركبة الى أخرى عند تقاطع الدورة في العاصمة بغداد، حيث تتوقف المركبات بانتظار إشارة المرور الخضراء لتنطلق الى وجهتها فيما يجلس الأطفال على حافة الرصيف منتظرين توقف السير مجددا.

نهار الصيف الطويل وحرارته الحارقة حتى في ساعات الصباح الأولى، لم يثن “عسل” ذات التسع سنوات في ذلك الطريق الذي يعد الأكثر اكتظاظا في بغداد وهي تزاحم أقرانها من بائعي عبوات المياه الباردة لسائقي المركبات.

مع حلول المساء تلاحق “عسل” مركبات النقل العام الصغيرة لتقلها إلى منزلها ذو الغرفتين الصغيرتين غير مكتملتي البناء في منطقة ابودشير جنوبي بغداد إحدى مناطق “التجاوز” المعروفة لسكان العاصمة، وهي تشد بين يديها مبلغاً لا يتعدى في الغالب العشرة آلاف دينار تحمله الى إمها وإخوتها الصغار عله يؤمن لهم طعام يومهم.

باب الصفيح المؤدي الى الممر الضيق الذي يأخذك الى غرفة معيشة الأسرة التي فقدت الأب المعيل قبل سنوات، يجبرك على الإنحناء عند ولوجك إلى الداخل قبل ان تعيق حركتك مبردة هواء قديمة أكل الصدأ بعض حوافها وضعت بشكل غير متسق أمام نافذة صغيرة وهي تصدر صوتا مرتفعا يختلط بكلمات الترحيب وانت تهم بدخول الغرفة الخاوية الا من بعض الفرش وجهاز تلفاز.

وهي تشبك أصابعها حيناً وتمسد رأس ابنتها حيناً آخر، حاولت أمّ عسل إظهار قوتها وطول صبرها، لكن الدموع التي التمعت في عينيها وتعثر الكلمات في فمها والحزن العميق في صوتها كان الأقوى حضورا وهي تتحدث عن الحرمان الذي أجبرها على أرسال ابنتها للعمل بدلاً من الدراسة مثل قريناتها.

وقفت للحظة وهي تنظر في عيني ابنتها التي جلست الى جانبها وكأنها تريد التأكد من كونها بخير، قبل ان تردف: “هذه غصة ألم كبيرة.. لا تعرفون أي قلق أعيشه خلال ساعات النهار وأنا أنتظر عودتها”.

آلاف الفتيات مثل عسل يُجبرن على ترك الدراسة بل والعمل خارج المنزل، وعشرات آلاف أخريات يبقين أسيرات المنزل لعدم تمكن عوائلهن من تأمين مصاريف تعليمهن.

في شوارع بغداد وغالبية المدن العراقية، تجد الكثير من قصص الفتيات اللاتي أُكرهن على ترك مقاعد الدراسة ومزاولة مهن مختلفة لتأمين لقمة العيش لعوائلهن في بلد تزيد نسبة عمالة الأطفال فيه عن 7 من كل 100 طفل وفق منظمة اليونسيف.

معدلات أكبر لتسرب الفتيات

أظهرتحليل البيانات الخاصة بنسب التسرب من المدارس على موقع الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية، للسنوات 2011-2019 تراجع معدّل التسرب الإجمالي من المدارس الإبتدائية خلال التسعة أعوام المنصرمة، ليصل إلى متسربين اثنين من كل 100 طالب خلال 2019، بعد أن كان المعدل يبلغ عشرة متسربين عام 2011.

وتظهر البيانات حصول تقارب نسبي في ارقام تسرب الذكور مع تسرب الإناث بعد ان كان التباين كبيراً بين الفئتين قبل عشر سنوات، إلّا أن الفتيات مازلْنَ يتقدمْنَ الفتية في نسب التسرب بعدة محافظات عراقية.

فنسبة تسرب الذكور في عام 2011 كانت 7 من كل 100 طالب ذكر، مقابل تسرب 13 طالبة من كل 100 من الإناث،  لكن الفارق بينهما تقلّص في السنوات الأخيرة، فأصبح  يتسرب 2 من كل 100 من الذكور، مقابل تسرب 3 فتيات من كل 100 من الاناث خلال 2019.

مسؤولة التخطيط التربوي في وزارة التربية العراقية “منى خضير” عزت عدم القضاء على التسرب عموما إلى أحداث تشرين عام 2019 وما شهدتها من تظاهرات في عموم مدن العراق أدت لتعطيل العملية التعليمية في غالبية المدارس، فضلا عن الحظر المفروض بسبب جائحة كورونا.

وتعليقاً على تسرب الفتيات، أكدت خضير أن “الوعي المجتمعي في بعض المناطق مازال بدائياً لا يرى في تعليم الإناث أهمية أو ضرورة وذلك ما يجعلهن أكثر عرضة للتسرب وترك الدراسة في سن مبكرة مقارنة بالطلاب الذكور”.

التركيبة الذكورية هي السبب

وترجع المشرفة التربوية “ليلى سلمان” ارتفاع نسبة تسرب الإناث في محافظات وسط وجنوب البلاد الى جانب مناطق الأطراف إلى “التركيبة الذكورية للمجتمع والتقاليد القبلية السائدة في الأرياف وضواحي المدن، التي لا تميل كثيراً لتعليم الفتيات أو توظيفهن، مما يدفعهن إلى  التفرغ للعمل في المنازل  بغياب القوانين التي تلزم الأهل بإكمال تعليم بناتهم وتحد من تفشي زواج القاصرات، مما زاد من معدلات الأمية لديهن مقارنة بالذكور”.

رغم أن نسبة التسرب الإجمالي للتعليم الابتدائي في محافظات الوسط والجنوب، هي متسربين اثنين من كل 100 طالب، إلا أن  بابل ضاعفت من تلك النسبة، متفوقة على باقي المحافظات في عدد التلاميذ العازفين عن المدارس.

ففي مدارس المحافظة نجد أن من بين كل 100 من الذكور هناك 4 يتسربون ويتركون التعليم، مقابل 5  فتيات متسربات من كل 100 فتاة، وهي أعلى نسبة تسرب شهدها العام الدراسي 2019-2018.

يُرجع مدير التخطيط في تربية بابل عماد الموسوي، النسب المرتفعة التي سجلتها مؤشرات التسرب في المحافظة، الى “ضعف المستوى الاقتصادي للعوائل، وانخراط التلاميذ في سوق العمل لسد احتياجات الأُسر”.

يضيف الموسوي الى ذلك السبب “البيئة التعليمية غير الجاذبة والممارسات التربوية الخاطئة، كالعنف المدرسي الذي يسبب الانطواء والعزلة، الى جانب قلة الأبنية المدرسية في القرى والمناطق النائية بالمحافظة”.

وتشير إلاحصاءات أن الطلاب في مرحلة الخامس الابتدائي هم الأكثر عرضة للتسرب مقارنة بباقي المراحل، يأتي من بعدها مرحلة السادس بفارق قليل، فمن بين كل 100 طالب متواجدين في المدارس، هناك 3 ذكور يتسربون في المرحلة الخامسة مقابل 4 متسربات من الإناث، وفق أرقام العام الدراسي 2019-2018.

https://public.flourish.studio/visualisation/7366263/

وعلى العكس من المحافظات التي ترتفع فيها معدلات التسرب مثل بابل ونينوى وكربلاء، فإنها تنخفض في محافظات أخرى لتصل إلى مادون المعدل الإجمالي العام، ففي ديالى نجد أن من بين كل 250 طالبا يوجد متسرب واحد فقط، لتكون بذلك المحافظة الأقل في عدد الأطفال الموجودين خارج المدرسة خلال العام الدراسي 2019-2018.

ويعود ذلك بحسب المشرف التربوي في تربية المحافظة “وليد محمد” إلى دور وتأثير “الشراكة المجتمعية بين إدارات المدارس وأولياء الأمور ومساهمة المنظمات الدولية في إبراز أهمية التعليم والتحاق الأطفال بالمدارس من خلال البرامج التوعوية والتثقيفية، كمنطمة اليونسيف وميرسي كور”.

فتيات الريف والتمييز الاجتماعي

من خلال مقارنة نسب التسرب بين المدن والأرياف، نجد أن من بين كل 25 طالبا، هناك طالبان يتسربان في المناطق الحضرية وثلاثة طلاب في الأرياف، ومقابل كل 10 ذكور متسربين من كل 100 طالب ذكر في الريف، هناك 13 فتاة متسربة من كل 100 فتاة في مدارس الأرياف.

وتكشف البيانات ان فتيات الأرياف حتى اليوم يعانين من عدم التكافؤ والمساواة مع الذكور في نواحي شتى، لعل التعليم أكثرها حساسية وأهمية. ويظهر ذلك جليا من خلال انخفاض نسبة التحاقهنّ بالتعليم الابتدائي في مناطق الأرياف، حيث أن نسبة التحاق الذكور تبلغ 90 طالب من كل 100 من الذكور، بينما تلتحق 87 فتاة من كل 100 فتاة في أحسن الأحوال وفق المسح العنقودي متعدد المؤشرات للعام 2018.

ذلك الاختلاف والتمييز بين الذكور والاناث في الالتحاق بالمدارس، ترجعه مسؤولة التخطيط في وزارة التربية “منى خضير” إلى أن قلة  المدارس في القرى والمناطق البعيدة ذات التجمعات السكانية القليلة والاختلاط بين الذكور والاناث في بعضها”.

تقول خضير ان ذلك من “الأسباب الرئيسة التي تثير مخاوف الأهالي وتجعلهم يترددون في إرسال بناتهم إلى المدرسة”، موضحة أن الوزارة “تعمل على إنشاء مدارس كرفانية جديدة لاستقطاب أعداد إضافية من الطلبة، وجعل الدوام فيها نهاري ومسائي لفك الاختلاط بين الذكور والإناث”.

وتعلل الباحثة “نعيمة عبود”  رئيسة منظمة البسمة الإنسانية للطفولة، إرتفاع نسب تسرب الفتيات في الأرياف والعشوائيات إلى “تفضيل العوائل للذكور أكثر من الإناث، كونهم قادرين على العمل الشاق والحركة في البيئات القاسية التي لا تستطيع الإناث التواجد فيها”.

إضافة الى إعتبار البعض أن “الفتاة عبء على كاهل الأسرة لايُزاح إلاّ  بتزويجها، وذلك ما ضاعف من معاناتهن  وحرمانهن من العدالة والحق في التعليم”.

وترى عبود أن “مواقع التواصل الإجتماعي التي تعمل بلا رقابة، والابتزاز الإلكتروني الذي تتعرض له الفتيات يدفع بعضهن الى التسرب وترك الدراسة، وأن النزاعات والتفكك الأسري الذي يصل الى الهجر أو الطلاق، غالبا ماتكون ضحاياه من الفتيات اللاتي تكون فرصهن في الحصول على التعليم ضئيلة أو معدومة”.

 الثروة وتعليم الأم عاملان أساسيان

عند الاطلاع على النسب الخاصة بالتسرب من التعليم الابتدائي، نجد ان المستوى المعاشي للعوائل، عامل رئيسي في زيادة  أو تحجيم الظاهرة، فمقابل كل 10 ذكور متسربين من ابناء العائلات الفقيرة، هناك 6 ذكور من العائلات متوسطة الدخل، مقابل 3 متسربين من الذكور المنحدرين من عوائل ثرية.

ومقابل كل 17 فتاة متسربة من بنات العوائل الفقيرة، هناك 9 فتيات من عوائلهن متوسطة الدخل، مقابل 4 فتيات من العائلات الثرية. وهذا يُظهر أن الفتيات يتأثّرنَ بالوضع الاقتصادي لعوائلهن أكثر من الذكور، ويتسربْنَ بوتيرة أعلى نسبياً حتى لدى العوائل الثرية.

وهو ما واجهته بائعة الماء “عسل” فمستوى الفقر الذي عانته عائلتها بعد فقدان الأب والمعيل، أجبرها على العمل في الطرقات بعيداً عن طريق المدرسة، فأصبحت مجرد رقم يُضاف لأرقام تسرب الفتيات.

ولا يقل مستوى “تعليم الأم” اهمية وتأثيراً عن عامل الثروة لدى العائلات، في صعود أو هبوط مؤشرات التسرب لدى الأبناء، فكلما ارتفع مستوى تعليم الأمهات انخفض التسرب، ليصل إلى ما دون الثلث مقارنة بالأمهات غير المتعلمات.

فمقابل كل 16  متسرب من الذكور أمهاتهم غير متعلمات، هناك 8 متسربين أمهاتهم أنهين الابتدائية، و 5 متسربين أمهاتهم أنهين المتوسطة مقابل 3 ممن أنهت أمهاتهم المرحلة الإعدادية.

https://public.flourish.studio/visualisation/7388091/

وبمقارنة تأثير مستوى تعليم الأم على تسرب الذكور والإناث، فإننا نجد 14 متسربا من الذكور ممن أمهاتهم غير متعلمات، مقابل 18 فتاة متسربة ممن أمهاتهن غير متعلمات.

ونجد مقابل كل 6 ذكور متسربين ممن أمهاتهم أنهين الابتدائية هناك 9 فتيات متسربات ممن أنهيت أمهاتهن الابتدائية، ومقابل كل 4 ذكور أمهاتهم أنهين المتوسطة هناك 6 من الفتيات المتسربات، ومقابل كل 3 ذكور متسربين أنهت أمّهاتهم الإعدادية ثمة 2 من المتسربات فقط.

وبملاحظة نسب التسرب لكلا الجنسين، نجد أن ارتفاع مستوى الثراء يقلل من تسرب الأولاد أكثر من البنات، بينما زيادة مستوى تعليم الأم يخفض نسبة تسرب الإناث لتصبح أدنى من الذكور!

وترى المسؤولة في وزارة التربية منى خضير، أن الوقت مازال مبكرا للحديث عن المدة اللازمة للقضاء على ظاهرة التسرب من المدارس الابتدائية خاصة مع التداعيات التي خلفتها جائحة كورونا من فقر وبطالة وانقطاع عن الدوام، موضحة أن “التعليم الالكتروني تجربة جديدة لم تألفها المنظمة التعليمية في العراق بمستلزماتها الضعيفة”.

ورغم تراجع التباين، لكن تبقى الفتيات متصدرات لمشهد التسرب في التعليم الابتدائي بغالبية مناطق البلاد، في انتظار الحلول التي تساهم في القضاء على مسببات المشكلة سواء ما ارتبط منها بالبيئة الثقافية والاجتماعية او بالبيئة التعليمية.

  • انجز التقرير بدعم وتحت اشراف منظمة انترنيوز ضمن مشروعها للتحقيقات المعززة بالبيانات

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":19259}" data-page="1" data-max-pages="1">