تقارير سردیة: البهائيون في العراق: تشتّت وخوف دائم تحت “غطاء قانوني”

البهائيون في العراق: تشتّت وخوف دائم تحت “غطاء قانوني”

مناف الساعدي/ بغداد:

“تخيل أنك تعيش في مجتمع يرفض وجودك أصلاً ويجهل ديانتك”، تقول إيمان إبراهيم بصوت أقرب إلى الهمس لتصف معاناة أبناء جلدتها من أتباع الديانة البهائية في العراق، ومن ثم تلتفت للتأكد من أن الموجودين في المكان لم يسمعوا كلامها.

لم يكن الترتيب لإجراء حوار مع إيمان سهلا، ولم يحصل إلا بعد ترتيبات طويلة ومعقدة، حيث انتهى بنا المطاف بمكان منعزل بعيد عن الأنظار، مشترطة استخدام اسم مستعار.

تتأكد إيمان من أن الأشخاص القليلين في المكان منشغلون بأنفسهم، لتضيف: “نحن كبهائيين نعيش تحت تهديد دائم من خطر داهم بإزالتنا من وجه البسيطة. ذنبنا الوحيد هو ديانتنا، حيث يرفضنا الجميع”.

إيمان في ربيعها الـ 28، ولا يبدو عليها ما يجعلها مختلفة عن أي شابة عراقية أخرى. تقول “19 عاماً مضوا على انهيار نظام البعث في العراق، وما زلنا نصارع لإثبات وجودنا والاعتراف بنا رسمياً. سينتهي خريف التهميش القسري ذات يوم”.

تتأمل إيمان نهر دجلة في قلب العاصمة بغداد وقد بانت بعض المناطق اليابسة في وسطه لانخفاض منسوبه. وتقول: “رغم التهميش وعدم الاعتراف بنا والحرمان من ممارسة طقوسنا الدينية علناً، فإننا نتمسك بهذه الأرض كأي عراقي آخر، هنا وُلدنا ولعبنا ودرسنا وهنا أفنى الأجداد أعمارهم”.

يجري نهر دجلة شحيحاً حاملاً بقايا ذكريات ذلك اليوم الذي أعلن فيه حسين علي النوري، المعروف ببهاء الله، عام 1863 دعوته في حديقة النجيبية على هذا النهر. فبعد نفيه من إيران عام 1853 وسجنه في حواضر المنطقة التي كانت تابعة للدولة العثمانية، أعلن بهاء الله أنه رسول الطائفة البهائية المنتظر.

 حقوق مسلوبة

هنا في بغداد أيضاً أُسس أول محفل روحاني بهائي في العالم عام 1931، كما يشير الدليل الرسمي للمملكة العراقية لعام 1936، وكان مكانه في محلة السعدون وسط بغداد، لكنه صودر وأصبح المبنى مديرية للأمن وزنزانتها المحشوة بالمعذبين. كما شيدوا مقبرة لهم في بغداد عام 1952 عرفت حينها بـ “الروضة الأبدية”. وقامت الحكومة العراقية بتسجيل ديانتهم رسمياً في التعداد السكاني لسنة 1957، كان ذلك في الحقبة الملكية من تاريخ العراق.

لا توجد أي إحصائية دقيقة عن أعداد البهائية في العراق، لكن بحسب الجامعة البهائية في العراق فإن أعداد البهائيين في العراق يقدر بــ 5 الأف شخص. فيما يرى رئيس مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية، والمهتم بأوضاع المكونات، بان أعدادهم باتت تقارب الألف بهائي في عموم المدن العراقية.

تقول إيمان إن أبناء طائفتها يتعرضون لأقسى أنواع التهميش والتغييب، مضيفة: “حقوقنا مسلوبة. جميع ممتلكاتنا صودرت إبان حكم البعث وما زالت حتى يومنا هذا. لا يحق لنا تسجيل ديانتنا في الوثائق الرسمية كباقي أتباع الديانات الأخرى في العراق. يُكتب في وثائقنا الرسمية أننا مسلمون”.

بدأ هذا التهميش عام 1970، حين حظرت الديانة البهائية بقرار لمجلس قيادة الثورة المنحل، ليتم بعد ذلك تجميد قيود البهائيين في سجلات الأحوال المدنية عام 1975. حرم القانون رقم 105 لعام 1970 أي نشاط بهائي على أرض العراق، فقد نصت مادته الأولى على أنه “يحظر على كل شخص تحبيذ أو ترويج البهائية أو الانتساب لأي محفل أو جهة تعمل على تلقين أو نشر البهائية أو الدعوة إليها بأي شكل من الأشكال”.

ونصّت المادة السادسة من القانون على أنه “يعاقب المخالف لأحكام هذا القانون بالحبس مدة لا تقل عن 10 سنوات”. ولاحقاً من السنة ذاتها، تحول هذا الحكم إلى الإعدام. عندها “توالت النكبات” على البهائيين فقد جُردوا إثر تلك القرارات من جميع ممتلكاتهم وسُجن بعضهم وأُعدم آخرون وغُيب الكثير منهم في تلك الفترة.

سقط البعث وبقي المنع

تعرف إيمان جيداً ما يمر به البهائيون اليوم، لكن جلال رؤوف بأعوامه الـ 64، وهو الآخر بهائي الديانة، يتذكر تماماً عقد السبعينات الأسود على أبناء ديانته. يقول جلال الذي فضل الحديث تحت اسم مستعار أيضاً، إن “وجود ديانتنا مرهون بإلغاء قانون 105 سيء الصيت”.

يتذكر جلال تلك الفترة قائلاً: “إبان حكم البعث تعرضنا لشتى ألوان العنف والترهيب والملاحقة والتهميش. كنا نتعرض للتحقيق في مديريات الأمن كل شهر. وجهوا لنا تهماً عديدة من الدعوة إلى الإلحاد وصولاً إلى الإباحية. كانوا يقولون لنا إننا نتبع ديانة من صنيعة الصهيونية”.

حفاظاً على سلامة عائلته من الملاحقة والعنف الطائفي، اختار جلال العيش في أربيل منذ 14 عاماً. ويضيف: “كنا نتطلع كغيرنا من العراقيين إلى الحرية ورفع الظلم عنا بعد 2003، لكننا صُدمنا بالمد الديني الذي زاد من نبذنا في المجتمع. بات قتلنا وسيلة للتقرب إلى الله. اضطررت لمغادرة بغداد مع عائلتي أثناء فترة الاقتتال الطائفي بعد أن عرف البعض هناك أنني بهائي الديانة”.

يحلم جلال هو الآخر بممارسة طقوسه وعباداته في العلن وليس خلف الأبواب الموصدة. ويشرح: “لكم تمنيت أن أشاهد ممثلاً للبهائيين حاضراً مع ممثلي الديانات الأخرى خلال الصلاة الموحدة التي أقامها بابا الفاتيكان في اليوم الثاني من زيارته إلى العراق”.

ولجأ قسم كبير من البهائيين إلى مدن إقليم كردستان العراق بعد 2005 أثناء الاقتتال الطائفي الذي شهدته العديد من المدن العراقية. وهناك تم الاعتراف الرسمي بـ “المجلس البهائي لإقليم كردستان العراق” بموجب الأمر الوزاري الصادر عن وزير الداخلية بالإقليم المرقم 5292 والمؤرخ في 26 شباط/ فبراير 2021، حيث تم تثبيت ممثل رسمي للبهائيين في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في حكومة الإقليم أسوة بباقي الديانات من غير المسلمين. وشارك البهائيون رسمياً بمناقشات حراك دستور الإقليم ومشاريع صياغة وتعديل القوانين ذات العلاقة، ومنها قانون 5 لسنة 2015 لحماية حقوق مكونات الإقليم.

تناقض دستوري

بعد قرابة عقدين على إسقاط نظام صدام حسين ومنظومة البعث، ما زال القانون رقم 105 نافذاً، رغم أن منظومة الحكم الجديدة أسقطت الكثير من قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل. وجاء الدستور العراقي الذي أثبته العراقيون في استفتاء عام 2005 لينص في مادته الثانية على أنه “لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور”. وأكد كذلك في مادته الثانية على أنه “يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية، كالمسيحيين، والأيزديين، والصابئة المندائيين”.

في هذا السياق، يفسر الصحافي والباحث في شؤون الأقليات علي عبد الزهرة نص المادة الدستورية بالقول: “هنا جاءت (الكاف) في (كالمسيحيين، والايزديين، والصابئة المندائيين) للمثال لا للحصر”.

وفي المادة (3) عاد المشرع العراقي ليؤكد أن “العراق بلدٌ متعدد القوميات والأديان والمذاهب (..)”، فيما شدد الدستور في مادته (37/ ثانياً) على أن “الدولة تكفل حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني”. ونصّ في المادة (42) على أنه ” لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة”.

وعاد الدستور العراقي ليفصل أكثر في حرية اعتناق الأديان وممارسة شعائرها في مادته (43/اولاً) أن أتباع كل دينٍ أو مذهبٍ أحرارٌ في “ممارسة الشعائر الدينية، بما فيها الشعائر الحسينية” وعلى “الدولة تكفل حرية العبادة وحماية أماكنها”، وهو ما ينسجم مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته (18) حيث ينص على أن “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة”.

وفقاً لذلك، يرى عبد الزهرة أن “الديانة البهائية تعاني من اضطهاد مزدوج متمثل بقانون مجلس قيادة الثورة الجائر، والأحزاب الإسلامية التي تنظر لهم نظرة المرتد عن دينه وهو ما يعني ضمناً تكفيرهم”. ويعزو عبد الزهرة ذلك “الاضطهاد” إلى عدم إلغاء قانون 105 على الرغم من الجهود المبذولة للتصويت على إلغائه لأكثر من مرة في دورات مجلس النواب المتتالية.

ويضيف أن هذه الأحزاب تمتنع عن التصويت لإلغاء القانون “لاتهام البهائيين بارتباطهم بعلاقات مع الصهيونية وإسرائيل. وهذا مفهوم خاطئ فالعقيدة البهائية تمنع أتباعها من الدخول في الحكومات والعمل السياسي”.

ويبدو أن هذا الربط بين البهائية وإسرائيل يتأتى لدى الكثيرين من حقيقة وجود المركز البهائي العالمي في مدينة حيفا الإسرائيلية حالياً. فقد دُفن بهاء الله في أقصى الشمال على مشارف عكا، ويُعدّ ضريحه أقدس مقدسات العقيدة البهائية وقبلة لهم أثناء الصلاة. كما يشجع البهائيون على حج مرقده مرة واحدة على الأقل في حياتهم.

محاولات لتغيير واقع مؤلم

ويختصر الناشط البهائي علي حسين (اسم مستعار)، المقرب من ممثلي الديانة البهائية في العراق الذين يؤثرون الصمت وعدم الإفصاح عن وجودهم خشية على حياتهم، الوضع بالقول: “لا نواجه الاضطهاد من الحكومات المتعاقبة فحسب، بل نعاني أيضاً من الرفض المجتمعي، وهو ما يتسبب بضياع هويتنا في العراق”.

نتيجة لذلك، بات بهائيو العراق في تشتت جراء العزلة والخوف من السلطات والمجتمع، على حد قوله. ويوضح أن أبناء جلدته يناضلون من أجل “استعادة الحقوق التي كفلتها القوانين الدولية والدستور الحالي الذي صوتنا عليه عام 2005، فطموحنا الحصول على حقنا بالاعتراف الرسمي كمكون ديني في العراق وذلك من خلال إلغاء قانون 105”.

وعُقدت لقاءات مع مسؤولين في الحكومات العراقية المتعاقبة بعد 2003 ومع ممثلي المنظمات الدولية بسرية تامة.

ويضيف: “صدمنا برفض التصويت على إلغاء القانون رقم 105. وتبين لاحقاً أن عدم الموافقة جاء من قادة الكتل الإسلامية المرتبطة مرجعياً بإيران”. وينوه حسين الى وجود مساع جديدة سيخوضها البهائيون قريباً بعيداً عن الإعلام من أجل انتزاع “حقوقهم المشروعة”.

وتقول منظمة هيومن رايتس ووتش إن إيران دأبت طيلة أربعة عقود على مضايقة البهائيين وملاحقتهم وحبسهم لمجرد ممارستهم لعقيدتهم، مشيرة إلى أن الدستور الإيراني الحالي لا يعترف بالطائفة البهائية التي تضم أكثر من 300 ألف عضو في البلاد.

خلال محاولتنا سؤال أعضاء اللجنة القانونية في مجلس النواب العراقي الحالي عن التناقض بين الدستور وقانون رقم 105، تبين أن العديدون يجهلون وجود القانون أصلاً. لكن عضواً سابقاً في الدورة السابقة، فضّل عدم الكشف عن اسمه “لدواع أمنية”، يوضح: “كأعضاء في اللجنة القانونية، كنا قد أجرينا العديد من المباحثات مع ممثلي الديانة البهائية في العراق وعدد من الناشطين وممثلي المنظمات الدولية لغرض التصويت على إلغاء قانون مجلس قيادة الثورة لكن تلك الجهود لم تكلل بالنجاح”.

ويضيف: “العراق محرج دولياً بسبب عدم إلغاء قانون مجلس قيادة الثورة، فمثل هذه القوانين الرجعية تتناقض مع النظام الديمقراطي والدستور الدائم الذي كفل الحريات الدينية لمواطنيه”، مشيراً إلى ضرورة الاعتراف بحقوق هذا المكون “وأن تحترم أحزاب السلطة الدستور الذي صوت عليه الشعب والذي يعد البهائيون جزءاً منه”.

وسجلت مبادرة “سلام بغداد”، وهي مبادرة مجتمعية لمواجهة خطاب الكراهية، خلال عملها الميداني انتهاكات صارخة بحق أتباع المكون البهائي، متمثلة بحق الاعتراف، ومصادرة الحريات والممتلكات. وفي هذا السياق يقول مؤسس المبادرة علي عادل: “هناك صورة نمطية خاطئة مبنية على التمييز والعنف رسمتها الحكومات السابقة تجاه البهائيين، ففي كل مناسبة يثار الحديث عن ديانتهم يتضح بالملموس حجم الجهل المعرفي حول قضيتهم وديانتهم”.

ويقول عادل الذي يعمل على إلغاء قانون حظر الديانة البهائية منذ نحو أكثر من ستة أعوام مع عدد من الناشطين العراقيين والدوليين: “المفارقة الغريبة أننا التقينا ضمن حملات المدافعة عن البهائيين بأحد مستشاري رئيس الوزراء سابقاً وتحدثنا معه عن قانون تحريم النشاط البهائي، حينها صُدمنا بأنه يجهل تماماً وجود قانون مماثل يحرم نشاطهم”.

ورغم عقد جلسات عديدة مع صناع القرار من أجل التصويت على إلغاء قانون الحظر، “جوبهت جميع محاولاتنا بالرفض لأسباب غامضة”، كما يقول.

يقول رجل الدين الشيعي محمد التميمي أن سبب الرفض مبني على أحكام وفتاوى دينية “تعتبر البهائيين من الناحية الشرعية كفرة لنكرانهم خاتمية النبي محمد وإيمانهم بغير الأنبياء كزرادشت وبوذا ضمن سلسلة الرسل والأنبياء وعدم إيمانهم بالجنة والنار”. ولا يختلف هذا الموقف عن موقف الأزهر في مصر من البهائية بتحريم اعتناق أفكارها ومعتقداتها.

لكن التميمي يقول: “طالما هم لا يكنون العداء لديننا وشريعتنا الإسلامية، فمن الممكن أن تربطنا بهم علاقة مبنية على رابطة الصداقة والأخوة الإنسانية”.

ويكشف عن وجود تباين واختلاف في وجهات النظر بين حوزتي النجف العراقية وقُم الإيرانية بالتعامل مع البهائيين، إذ تُعرف الأخيرة بـ “مواقفها المتشنجة” تجاههم، على حد وصفه.

أما سنّة العراق فينظرون الى البهائيين وفق فتاوى الأزهر التي تعتبرهم من الملحدين والكفرة الخارجين عن الملة. وكانت أولى الفتاوى ضدهم هي فتوى شيخ الأزهر سليم البشري عام 1910، وهو الموقف ذاته الذي تكرر في فتاوى أخرى عن الأزهر خلال العقود اللاحقة.

  • الصور مأخوذة من موقع الجامعة البهائية في العراق

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":19065}" data-page="1" data-max-pages="1">