تقارير سردیة: معاقو الحروب في العراق منسيون يفتقدون الرعاية ويعيشون على لائحة الانتظار

معاقو الحروب في العراق منسيون يفتقدون الرعاية ويعيشون على لائحة الانتظار

المدن العراقية لا تضع المعاقين في حسبانها وقانون رعايتهم حبرٌ على ورق

عبد المهيمن باسل/ حزيران 2021:

لم يعد بوسع حميد عبد الله (34 سنة) سماع وقع خطواته التي كان الصدى يضخمها قبل سنوات وهو يمشي في الزقاق الضيق الذي يقع في نهايته منزله في شارع الفاروق بالجانب الأيمن لمدينة الموصل.

“كانت تلك متعتي قبل أن تبتر رجلي اليسرى” يقول ثم يضرب عكازيه المعدنيين ببعضهما ليُصدر عنهما فرقعة قوية “هذا ما تبقى لي الآن” !.

في أواخر شهر آذار 2017، كان حميد مختبئاً مع أفراد عائلته في سرداب منزل قريبٍ لهم في منطقة (الساعة) هرباً من صواريخ وقنابل “حرب تحرير” المدينة من تنظيم داعش الذي كان يسيطر عليها منذ حزيران/يونيو 2014.

كان هنالك أفراد عائلتين أخريين برفقة عائلة حميد، خمسة منهم دفنوا تحت انقاض جزء من السرداب الذي تهاوى فوقهم، شقيقة حميد الصغرى وخالته كانتا من بينهم الى جانب قدمه وجزء من ساقه.

يتجنب الخوض في تلك اللحظات، يمرر ذكرى الواقعة وما تبعها كتلة واحدة دون تفاصيل “بعدها بأيام أكلموا في أربيل، بتر رجلي لما فوق الركبة، لا أعرف كيف خرجت مع والديّ وشقيقتي الأخرى من هناك وكيف وصلنا الى القوات العراقية أو حتى إلى المستشفى في أربيل؟”.

حميد يملك “بسطية” لبيع السكائر في منطقة المجموعة الثقافية وسط الموصل، هو واحدٌ من (6500) معاق خلفتهم حرب التحرير من داعش، يواجه معظمهم أوضاعاً صعبةً جراء افتقار المدينة الى البنى التحتية الصحية ومستلزمات دعم المعاقين سواء المادية منها او النفسية.

هذا العدد الكبير من ضحايا الحرب الأخيرة يضاف الى اعداد أخرى للحروب السابقة وأحداث العنف في نينوى التي شهدت آلاف التفجيرات بالعبوات والسيارات المفخخة طوال الفترة الممتدة بين 2004 و2014.

يصارع هؤلاء لإدامة حياتهم في ظل بيئة لا تراعي حاجات “ذوي الاحتياجات الخاصة” وحكومة كما يقولون تتناساهم، ولا يهمها كيف يعيشون ويتدبرون قوت يومهم؟ أو أين يتلقون العلاج؟ وكيف يأمنون أطراف صناعية بديلة عن أطرافهم المفقودة؟

لم يحدث أن خرجت تظاهرة شعبية واحدة تطالب بحقوق المعاقين في نينوى وإن خرجت فستكون مؤلفة من مجموعة من المعاقين يطالبون برواتب لا غير كأنه حق يتيم لهم.. حق حتى مع ضمانه فهو لا يؤمن أبسط حاجاتهم”

 

المئات على لائحة الانتظار

المعمل الوحيد لإنتاج الأطراف الصناعية في نينوى شيدته منظمة الصليب الأحمر الدولية وافتتح في 14 تشرين الثاني/أكتوبر 2018  وهو يقتصر فقط على انتاج الأطراف لما “تحت الركبة”.

د. سعد الله المتيوتي مدير مركز التأهيل البدني الذي يشكل المعمل جزءاً منه، يقول أن 1450 معاقاً مسجلين كمراجعين للمركز حصل نحو 900 منهم على أطراف صناعية أنتجها المعمل الذي تتولى منظمة الصليب الأحمر إدارته بكادر مشترك يضم موظفيها وفنيين عراقيين.

ويشير إلى أن الطاقة الإنتاجية للمعمل تبلغ 28 طرفاً شهرياً وهذا يعني أن الأمر قد يستغرق سنوات عديدة قبل تغطية الحاجة الكاملة للمعاقين في المحافظة لذا فأن المصابين بالبتور والقادرين منهم مادياً تحديداً يسافرون الى مدن عراقية أخرى كالسليمانية في إقليم كردستان للحصول على أطراف صناعية.

يبلغ مجموع المعاقين في نينوى لأسباب حربية (22500) معاقاً غالبيتهم العظمى فقدوا أطرافهم كاملة أو أجزاء منها خلال الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 والحربين ضد الولايات المتحدة الأمريكية 1991- 2003، وبعدها خلال حقبة سيطرة الجماعات المسلحة ومن بينها داعش وصولاً الى حرب التحرير منه والتي انتهت بطرده في صيف 2017.

غياب الدعمين المادي والنفسي

تمرر إسراء حمدون (23 سنة) يدها في الفراغ أسفل كتفها الأيمن وتقول بشيء من الحيرة أنها تشعر أحياناً بذراعها المبتورة وكأنها ما زالت في مكانها “حدث أنني أحاول مدها لالتقاط شيء والاستناد عليها للنهوض وأيضاً برغبة مستحيلة في أن التقط قلماً وأكتب مجدداً” .

أصيبت ذراع “إسراء” بشظية عبوة ناسفة من مخلفات مرحلة داعش انفجرت على مسافة قريبة منها في غربي مدينة الموصل عندما كانت ترافق أقرباء لها في نزهة للبرية ربيع 2018.

لم تجد إسراء الخريجة من كلية الآداب جامعة الموصل العناية الطبية الكافية بسبب تداعيات الحرب التي دمرت خمس مستشفيات بالكامل مع العشرات من المراكز الصحية والمختبرات الطبية وجعلت نحو أربعة ملايين مواطن من سكان نينوى يفتقرون الى أبسط مقومات الرعاية الصحية.

“الأمر لا يتعلق بضمادة للجرح أو قطعة بلاستيكية أضعها أسفل كتفي لسد النقص الحاصل في جسمي” تقول إسراء وبريقٌ في عينيها قبل أن تتابع: “مشكلتي نفسية بنحو كبير، فلم أعد إسراء التي كنت عليها سابقا، تقلصت حظوظي في كل شيء، حلم العثور على وظيفة، الزواج، حتى الناس الذين أعرفهم أخذوا ينظرون إلي بطريقة مختلفة، نظرة عطف توحي بأنني كائن ناقص”.

الدعم النفسي الذي تفتقر اليه إسراء يكاد أن يكون معدوماً في نينوى، فلا أقسام نفسية في المواقع البديلة للمشافي، والمحافظة بأسرها ليس فيها وبحسب معلومات حصلنا عليها من دائرة صحة نينوى سوى 12 طبيباً نفسياً أربعة منهم فقط اختصاصيون.

وعلى نطاق تأهيل المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة فالقسم الوحيد المتخصص في ذلك (قسم تأهيل ذوي الإعاقة) والذي افتتح في آذار/مارس 2021 “يحتاج الى عادة تأهيل” كما يقول موظف يعمل فيه رفض الإشارة إلى اسمه.

فالقسم يفتقر إلى الأدوية والكراسي بمختلف أنواعها (المتحركة والثابتة وبمسند ذراع متحرك وبمسند ذراع ثابت) وغيرها من المستلزمات الأولية التي تتطلبها اعادة تأهيل المعاقين.

يرجع السبب بحسب معنيين، الى عدم وجود تخصيصات مالية كافية في مدينة خرجت من حرب دمرت فيها 80% من بناها التحتية ونحو 11 ألف وحدة سكنية، قدرت تكاليف إعادة أعمارها في سنة 2017 بحسب المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي بما بين 50- 100 مليار دولار أمريكي.

قلة التخصيص المالي سبب لتعثر أو عدم الشروع بتنفيذ مشاريع اعادة إعمار للكثير من المرافق في نينوى كما يذكر محافظها نجم الجبوري.

ويقول أن آخر تخصيص مالي من الحكومة المركزية هو 60 مليار دينار كان يفترض صرفه دفعة واحدة إلا أنه فوجئ مطلع حزيران/ يونيو 2021 بتقسيطه على شكل دفعات شهرية تبلغ الواحدة ملياري دينار.

ما يعني أن الحصول عليها كاملة سيستغرق سنتين ونصف السنة. ودعا الجبوري الحكومة العراقية الى التعامل مع نينوى بمسؤولية تتلاءم مع حجم الضرر الواقع عليها جراء الحرب.

“الحكومة لا تقوم بواجباتها ولا تؤمن الحد الأدنى من حاجاتهم المالية والصحية والمعنوية، وتكتفي بالاتكال على ما تجود به المنظمات الدولية لإعانة ذوي الاحتياجات الخاصة”

مدينة لا تراعي وجودهم

جولة صغيرة في مدينة الموصل كافية لمعرفة حجم الخراب الذي أحدثته الحروب والتوترات الأمنية المتلاحقة، وآثارها ليست ظاهرة فقط على الأبنية أو التي كانت كذلك قبل استحالتها ركاماً، بل على الناس الذين يمكن أن تصادف كثيرين منهم في الشوارع والأسواق يكابدون لتأمين قوت يومهم ويصارعون مشاق الإعاقة  الجسدية في مدينة لا تضعهم أبداً في حسبانها.

الباحث الجامعي عادل محمد، يعتقد بأن الإدارات المتعاقبة في نينوى ومنذ تأسيس الدولة العراقية قبل نحو قرن لم تشمل المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة في خطط تنفيذ تصاميم الشوارع والأرصفة وباقي المرافق العامة.

فلا توجد مناطق مخصصة لعبور كراسي المعاقين المتحركة في الشوارع وعلى الأرصفة ولا محال لوقوف مركباتهم أو دورات مياه خاصة بهم كما هو معمول به في دول العالم المتحضرة. ويتساءل “كيف يمكن لمن أطرافه مبتورة ان يركب حافلة نقل؟ او يراجع دائرة حكومية مؤلفة من طابقين أو ثلاثة دون مصعد لاكمال معاملته”.

ويرى بأن السبب الرئيس في ذلك هو المواطنون أنفسهم والثقافة السائدة بينهم جيلاً بعد جيل، إذ “لم يحدث أن خرجت تظاهرة شعبية واحدة تطالب بكل ذلك للمعاقين وإن خرجت تظاهرة ما، فستكون وبكل تأكيد مؤلفة من مجموعة من المعاقين يطالبون برواتب لا غير كأنه حق يتيم لهم”.

ويتهم الباحث عادل مؤسسات الدولة المعنية من الصحة والعمل والضمان الاجتماعي بالإتكال على ما تجود به المنظمات الدولية لدعم وإعانة وإعادة تأهيل المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة وهي في الأصل من واجباتها الرئيسية، وفقاً لتعبيره.

وتنص المادة 32 من الدستور العراقي على أن تراعي الدولة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، وتتكفل بتأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع وينظم ذلك بقانون.

وقد كفل ذلك فعلياً بالقانون رقم 38 لسنة 2013 الذي أقر للمعاقين حقوقاً عددها المحامي ميسر مال الله سمير وهي: صحية وتأهيل مجتمعي وتأمين التعليم بمختلف مراحله وتوفير فرص متكافئة في مجال العمل والتوظيف، وفق مؤهلات ذوي الاعاقة وتقديم معونات شهرية لغير القادرين على العمل منهم.

الى جانب انشاء المراكز والأندية الرياضية الخاصة بهم ودعمها وتخفيض أسعار تذاكر السفر الجوي لهم بمقدار خمسين بالمئة ولمرتين في السنة مع تأمين السكن الملائم ومنحهم اعفاء بنسبة عشرة بالمئة من مدخولاتهم من ضريبة الدخل وقروض ميسرة.

وأيضاً راتباً للمعين وعقوبات جزائية ضد المتجاوزين عليهم وعلى المعاقين ذاتهم إذا أدعوا الإعاقة او أستغلوه للتسول، مع استحداث هيئة رعاية ذوي الاعاقة والاحتياجات الخاصة، تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، تضم عددا من الوزارات ذات العلاقة.

ويستدرك المحامي ميسر “معظم ما يحمله القانون من حقوق بقي حبراً على ورق بسبب عدم تنفيذه من قبل الوزارات ذات الصلة وفي كل سنة يخفق البرلمان العراقي في شمول المعاقين ووضع حقوقهم ضمن قانون الموازنة الاتحادي السنوي”.

يتقاضى معظم ذوو الاحتياجات الخاصة في العراق راتب الرعاية الاجتماعية الذي تم اقراره سنة 2014 بمبلغ شهري مقداره 100 ألف دينار عراقي نحو 75 دولاراً، وهذا المبلغ لا يكفي لمراجعة اي مستشفى أهلي او عيادة خاصة للحصول على علاج بسيط لمرة او اثنتين في الشهر. وهم ينتظرون اقرار قانون جديد على أمل تحسين أوضاعهم الاجتماعية.

يغطي سالم حمدون (34سنة) رأسه بمنديل ليقي رأسه حرارة الشمس اللاهبة وهو يزاول عملهُ مستنداً على عكاز خشبي، يستلم التذاكر بمرآب عام للسيارات شرقي الموصل. توفر له وظيفته هذهِ بدل أيجار المنزل وتُسد جزءاً من نفقات المعيشة.

تسبب انفجار سيارة مفخخة في شهر آب/أغسطس 2007 ببتر في قدمه اليسرى وفقئ عينه اليسرى كذلك، وأنهت عملهُ يقول بلهجة ساخرة وهو يبتسم “منذ 2007 وأنا استمع الى وعودهم.. يقولون خاصة قبيل كل عملية انتخابية بأنهم سيحسنون اوضاعنا المعيشية، لكن ما يحدث أن أوضاعنا تسوء يوماً بعد آخر” .

وزير العمل والشؤون الاجتماعية عادل الركابي ذكر بأنه جادٌ في متابعة واستحصال حقوق شريحة ذوي الإعاقة وإدراجها ضمن قانون الموازنة الاتحادية لسنة 2021، دون أن يبين الآلية التي سيتبعها.

وأقر بأن حقوق ذوي الإعاقة غير مضمونة بسبب عدم تطبيق قانونهم رقم 38 لسنة 2013، رافضاً أن تتحمل وزارته وحدها مسؤولية ذلك، بل هي مسؤولية تكاملية تتحملها الدولة بمختلف اجهزتها. كما يقول.

يجلس حميد طوال اليوم أمام “بسطية السكائر” على الرصيف المقابل لجامعة الموصل، ورأسه يدور بنحو آلي في الاتجاهين خوفاً من تعرضه لهجمة من موظفي بلدية الموصل الذين يكافحون الباعة على الأرصفة لتخفيف الزحام.

يتحسس عكازيه الموجودتين تحت رجله السليمة تحسباً لأي طارئ يستدعي الهرب “لا أصدق أي شيء يقولهُ السياسيون والمسؤولون ولا أريد منهم أو من  قانونهم الذي سمعنا عنه، غير أن يتركوا لي هذه البسطة، فبيع السكائر هو العمل الوحيد الذي أستطيع القيام به”.

 

أنجز التقرير بدعم من مؤسسة نيريج للتحقيقات الاستقصائية ونشر بشكل مختصر في موقع درج

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18982}" data-page="1" data-max-pages="1">