تقارير سردیة: مختطفون ومختطفات: كأن ظلم داعش لم يكفنا فحرمتنا قوانين “التربية” من التعليم

مختطفون ومختطفات: كأن ظلم داعش لم يكفنا فحرمتنا قوانين “التربية” من التعليم

"أتذكر امي وهي تستيقظ باكرا وتجهزني للذهاب الى المدرسة...كل صباح ومساء اتذكرها... أحيانا افتقدها بشدة... لا اعلم عنها أي شيء ... كانت تلح علي بالذهاب الى المدرسة كل يوم .. كانت تقول عليك ان تكمل دراستك.... والآن حتى ذلك الأمل تبدد".

ذياب غانم/ دهوك

نحو اربع سنوات قضاها بين معتقلات داعش، وحين استعاد حريته وعاد الى مدينته وجد نفسه وحيدا بلا عائلة، وحين قرر اكمال دراسته التي انقطع عنها سنوات الاعتقال وقفت قوانين التربية في وجهه واصبحت عائقا أمام أمله في اكمال دراسته وتحقيق حلم أمه الغائبة.

“فيان سعيد” ابن قرية تل قصب الواقعة في جنوبي قضاء سنجار، كان قد وصل الى الصف الثاني المتوسط حين احتل تنظيم داعش قريته مطلع آب 2014 واعتقل عائلته المؤلفة من 12 شخصا ومعظم اقاربه وأصدقائه الذين قتل بعضهم في الساعات الأولى لحملة الابادة الجماعية فيما ظل مصير آخرين مجهولا.

“فيان” الذي كان في الثالثة عشر من عمره حين اختطفه التنظيم وعمل طوال سنوات من الاعتقال والتعذيب والتهديد كما الدروس التوجيهية على تغيير ديانته وأفكاره، استعاد حريته في 2018 وسبقه الى ذلك اثنين من أخواته “نجوى ونجمة” اللواتي تم تحريرهن قبله بأشهر، فيما نالت أخته عمشة حريتها بعده.

 

حتى ذلك الأمل تبدد

يعيش “فيان” في مخيم دركار للنازحين في اقليم كردستان العراق، والذي يقع في زاخو اقصى شمالي العراق قرب الحدود التركية، مع احد اقاربه، فرحلة الحزن والألم لم تفارقه عقب نهاية فصول قصة اعتقاله وتنقله بين سجون داعش، ووصوله الى مخيمات النازحين، فاثنتين من اخواته وشقيقه الأكبر ووالداه مازالوا مجهولي المصير.

يقول فيان:”أنا اعيش مع ابن عمي هنا في المخيم.. أفراد عائلتي الذين نجوا من الابادة هاجروا الى كندا مع الزوجة الثاني لوالدي.. هي هاجرت مع أطفالها واخوتي الى كندا… ولا اعرف شيئا عن الباقين ربما قتلوا او معتقلون في مكان ما.. لا أعرف”.

ويضيف وهو ينظر الى ما وراء سياج المخيم البارد المحاط بالجبال التي تهطل عليها الثلوج في كل شتاء: “مازلت اتذكر كل شيء وكأنه حصل يوم أمس … جراح وآلام تلك الأيام لا تغادرنا أبدا، وذكرياتها تلاحقنا دائما”.

ويستدرك بكلمات متقطعة: “أتذكر امي وهي تستيقظ باكرا وتجهزني للذهاب الى المدرسة…كل صباح ومساء اتذكرها… أحيانا افتقدها بشدة… لا اعلم عنها أي شيء … كانت تلح علي بالذهاب الى المدرسة كل يوم .. كانت تقول عليك ان تكمل دراستك…. والآن حتى ذلك الأمل تبدد”.

شعور الألم بفقدان أمه ووالده والعديد من افراد عائلته، يمتزج بألم العيش وحيدا ضائعا يقضي ساعات طويلة في المخيم بلا هدف في الحياة بلا دراسة ولا عمل، كما يقول.

“كنت ارغب بمواصلة الدراسة تحت اي ظرف كان، لكن يبدو ان ذلك أصبح مستحيلا، وان علي أن اتخلى عن ذلك الحلم حاليا وابحث عن عمل ما لأعيش به، بعد ان فقدت الأمل بالعودة الى مقاعد الدراسة فالقوانين لا تسمح بذلك”.

في المنطقة التي يعيش فيها فيان، كما كل مخيمات انتشار الايزيدية، لا توجد مدارس لليافعين يمكن ان ينخرط بها الفتيان والشباب الذين انقطعوا عن الدراسة لأي سبب. ولا مدارس للتعليم السريع. وهذا يعني حرمان مئات الايزيديين والايزيديات اللواتي تعرضن للخطف والاعتقال عدة سنوات من التعليم، بعد ان كبروا في السن وصار من المتعذر ان يلتحقوا بالمدارس الاعتيادية.

يتابع “فيان” كمن يحاول اقناع نفسه “للظروف احكام وظروف خطفي واعتقالي حكمت على كل حياتي ومستقبلي.. ويشهد الله اني حاولت لكن دون جدوى”.

مسار غامض

رغم اليأس الذي يبدو انه يلف “فيان” فان أملا يلوح في الأفق فأخته تعمل على ان يلتحق بها في كندا، وينطلق من هناك بحياة جديدة ويحقق أمله بالعودة لمقاعد الدراسة.

لكن الالتحاق بعائلته قد يتطلب سنوات أخرى من الانتظار، وهو ما يدفعه الى عدم ابداء أي تفاؤل:”سنوات عمري هنا تضيع، ولا أملك الا الانتظار.. لم احصل على فرصة عمل الى الان، ولا اعلم ان كنت سالتحق بافراد عائلتي في كندا أم لا… أنا افقد حياتي ونفسي بين هذه الخيارات”.

حياة المخيم الرتيبة بظروفها القاسية، وتلك الخيارات المرتسمة أمامها بمساراتها الضيقة والمظلمة، يبددها في روح “فيان” أمله بعودة والديه ,اخوته اليه:”لم افقد الامل ابدا بعودة امي وأبي واخواتي، كما لم افقد الأمل حين كنت معتقلا بامكانية تحرري وعودتي لحياتي… لو عادوا من الممكن ان انسى كل المآسي والعوائق التي مررت بها”.

 

المآسي بالارقام

بحسب ارقام دائرة اوقاف الايزيدية في حكومة اقليم كردستان، خطف تنظيم داعش اثناء هجومه على قضاء سنجار 6417 ايزيديا من كلا الجنسين ومن مختلف الفئات العمرية.

يقول مدير مكتب انقاذ المخطوفين والمختطفات الايزيديات حسين القائدي، ان 3543 ايزيديا مختطفا تحرر في السنوات الست الماضية، بينهم 339 رجل و 1203 امرأة و2001 طفل/ة،  ومايزال 2874 مختطف/ة مجهولي المصير الى الآن.

ووفق احصائيات غير رسمية حصل عليها معد التقرير، بعد التقصي بشأن اعداد المنقطعين عن الدراسة، هناك اكثر من 200 ناجي/ة ايزيدي حرموا من الدراسة بعد خطفهم من قبل داعش وذلك بسبب تجاوزهم للسن القانوني الذي يسمح لهم بالدوام في المدارس الاعتيادية، فيما استانف العشرات من المختطفين والمختطفات دراستهم عقب تحررهم من داعش وهم الان في مختلف المراحل الدراسية.

 

محاولات لم تثمر

لم تنقطع محاولات الايزيديين المتحررين من الاعتقال، كما المسؤولين في سنجار، عن البحث لايجاد سبيل لضمان عودتهم للدراسة. هؤلاء طرقوا عشرات الابواب وتواصلوا باستمرار مع وزارة التربية العراقية لاصدار قرار خاص بهم يعيدهم الى سلك التعليم، لكن قلة اعدادهم وانتشارهم في مخيمات متباعدة يحول عمليا دون تحقيق ذلك.

يقول مدير تربية سنجار سعد حمد، معلقا على ذلك “ان هناك الكثير من الناجيات والناجين الراغبين باكمال مشوارهم الدراسي لكن لا نستطيع فعل اي شيء لأن القرارات تصدر من التربية ونحن سنكون سعداء بصدور اي قرار يحل تلك المشكلة”.

ويضيف “خاطبنا الوزارة والجهات العليا والمنظمات الدولية والبرلمانيين.. لم نترك مسؤولا معنيا دون دعوته للتدخل لحل المشكلة… وانا آمل أن يتم حلها قريبا”، مشيرا الى ان الناجيات اللواتي في مخيمات النازحين ليسوا تابعين لممثلية تربية نينوى في دهوك التي تدير مدارس عربية في المحافظة.

ويتابع: “نحن في تربية سنجار على اتم الاستعداد لقبول هذه الفئة التي تعرضت الى الظلم وهم بحاجة الى الدراسة لاكمال حياتهم بشكل طبيعي وضمان مستقبل افضل لهم ومساعدتهم على تخفيف آثار ما حصل معهم”.

ويشير حمد الى وجود طريقيتين لتمكين هؤلاء من اكمال دراستهم ” الأولى تتمثل في فتح مدارس للتعليم السريع او مدارس اليافعين، والثانية ان تصدر الوزارة قرارا باستثناءهم من القرارات الوزارية التي تعيقهم و تحرمهم من اكمال الدراسة”.

العقدة المخيفة

يقول الدكتور سالم سعيد، المختص في المعالجة النفسية، ان الدراسة “تعتبر الحجر الاساس لحياة الفرد وازدهاره وهي من اهم متطلبات الحياة اليوم، لذلك فان ترك الفرد الاعتيادي لدراسته بشكل قسري وخارج ارادته ورغبته يترك آثاراً سلبية عميقة عليه بشكل عام، فكيف بالناجيات اللواتي واجهن ظروفا قاسية جدا”.

وينبه الدكتور سعيد الى تداعيات ذلك، قائلا: “أغلبية الناجيات واجهن آلاماً كبيرة ومررن بظروف نفسية وصدمات قاسية ويشعرن بالضعف، لذا فإن ترك الدراسة سيلعب دورا سلبيا مفاقما لوضعهن النفسي الذي سيصبح من سيء إلى أسوء خاصة في ظل وجود رغبة في إكمال الدراسة من قبل الناجيات، فقد يزيد ذلك من احتمالية الإكتئاب أو القلق المتعلق بالمستقبل المجهول”.

ويشير الى ان الدراسة “تزيد من ثقة الناجيات بأنفسهن وتساعدهن على الإنخراط في المجتمع وتكوين صداقات جديدة مما يدعم الجانب النفسي ويقلل من حالات التوتر والإكتئاب”.

ويخلص الى القول: “التعليم يزيد من نشاط الدماغ ويخلق مسارات جديدة للحياة والتي بدورها مع مرور الزمن تقلل المسارات التي تكونت بسبب صدمة الخطف والتعذيب على يد داعش”.

 

ظلموا كثيرا.. فماذا فعلنا لاجلهم؟

ما بين التشديد على أهمية اكمال ضحايا تنظيم داعش لدراستهم لأهميته في معالجة وضعهم النفسي ومنحهم فرصة أكبر لبناء مستقبل أفضل، والواقع الذي يعيشونه في مخيمات النزوح، خاصة الفتيات اللواتي يواجهن النظرة الاجتماعية وساعات الفراغ الطويلة وضعف في فرص التمكين والعمل، يدعو نشطاء الى ايجاد حلول عاجلة تنصف هذه الشريحة الأضعف.

يقول الناشط برزان شقو: “داعش ظلم هؤلاء، وغيبهم واعتقلهم وعذبهم وحرمهم من عوائلهم، ونحن لم نستطع فعل شيء لتخفيف معاناتهم، حتى الدعم النفسي عجزنا عن تقديمه”.

ويضيف :”هؤلاء فقدوا الكثير، وخسروا سنوات من عمرهم، ونحن لم نستطع حتى تأمين الدراسة البسيطة لهم، او ضمان دخل شهري يساعدهم على تجاوز ظروفهم الاقتصادية والنفسية الصعبة… نتحدث كثيرا عنهم في المؤتمرات والمناسبات لكننا فعلنا القليل القليل لأجلهم”.

ويستطرد شقو:”بعد النزوح انفتح مجتمعنا اكثر بعد ان كان مغلقاً الى حد ما، والجميع اصبح يبحث عن شهادة علمية حتى الكبار في السن اصبحت لديهم رغبة في الدراسة والتحقوا بمدارس محو الأمية أملا في مستقبل افضل”.

ويختم “لكن عدم وجود مراكز حكومية او منظمات متخصصة تتوجه للمجتمع النازح لتطوير بنيته الاجتماعية والثقافية ودعم واقعه النفسي المضطرب وفي ظل أزمة اقتصادية يعيشها وضبابية مستقبله، أدى الى ازدياد حالات الانتحار في الآونة الخيرة، وهو ما يجب العمل على معالجته سريعا”.

 

* انجز التقرير ضمن مشروع “التربية الاعلامية” لصحفيين من ثلاث مدن عراقية

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18350}" data-page="1" data-max-pages="1">