رسائل الميليشيات للفارين منها “سنأتي بكم حتى وإن صعدتم للسماء”
السليمانية “منطقة خضراء” للصحافيين والنشطاء الهاربين من كواتم الصوت!
السليمانية “منطقة خضراء” للصحافيين والنشطاء الهاربين من كواتم الصوت!
يواجه عشرات الصحفيين والمدونيين والنشطاء الفارين من بغداد ومدن الجنوب الى السليمانية بإقليم كردستان، هرباً من انتقام الميليشيات، مصاعب كثيرة بسبب الخوف المزمن وانعدام فرص العمل والتجاهل من قبل الحكومة والمنظمات الدولية
صلاح حسن بابان/ اقليم كردستان
تخرج نسرين 27 عاماً (أسم مستعار) السيكارة ما قبل الأخيرة من علبتها. وتتطلع بحزن إلى زحام العابرين في الخارج عبر نافذة مقهى شعبي في حي سرجنار بمدينة السليمانية، قبل أن تقول وهي تنفذ الدخان بحرقة “الكثير من هذه الوجوه السمراء المتعبة، جاءت إلى هنا من بغداد ومدن الجنوب، هرباً من أدوات القتل بأيدي الميليشيات”.
تضيف مستعيدةً بعض تفاصيل الواقعة التي أجبرتها على ترك مدينتها: “كانت الساعة تشير الى السادسة مساء، حين رن هاتفي، فعلمت بأن أصدقائي الثلاثة، ينتظرونني بالسيارة خارج منزلي، لكي نذهب إلى مجلس عزاء صديقنا الناشط في احتجاجات البصرة تحسين أسامة بعد يومٍ واحدٍ من اغتياله بمسدسات مزودة بكواتم صوت أمام بيته”.
بمجرد خروجها من الباب وقعت عينها على سيارة سوداء مقبلة باتجاههم وهي تضم رجالاً يحملون مسدسات امتدت مع أياديهم الى خارج نوافذها الجانبية.
“لم أفكر لحظتها إلا بالصراخ لأنبه أصدقائي الذين هرعوا معي الى الداخل ووابل من الرصاصات يمطر علينا” تقول وهي تطفيء سكَارتها.
سبعة عشر رصاصة، أخطأتهم، باستثناء واحدة أصابت ساق نسرين اليمنى، فقد أنقذهم الجدار الخارجي لمنزلها الذي احتموا خلفه من موت محقق. دقائق صعبة وثقيلة عاشوها قبل أن تصل قوة من الشرطة وتنقلتهم إلى مكان آمن. بعدها ونزولاً عند نصيحة الأهل والأصدقاء قررت ترك مدينتها وعملها في منظمات المجتمع المدني والانتقال إلى مدينة السليمانية بإقليم كردستان خوفاً من استهدافها مرة ثانية، كما فعل المئات قبلها للنجاة بأنفسهم.
تميط نسرين اللثام عن تجربتها، كناشطة في ساحات التظاهر بالبصرة، أكبر مدن الجنوب العراقي والتي خرج شبابها ضد سياسات وفساد القوى المتنفذة في الدولة مطالبين “بالاصلاح واستعادة الوطن”. تتوقف بحزن عند العام 2018، حين نشرت صورة لها مع قنصل غربي وهو يكرمها مع مجموعة من زملائها الناشطين في البصرة. “تعرضت بسببها إلى شتى انواع التسقيط الأخلاقي والمعنوي من قبل الميليشيات والموالين لها. اتهموني بالتخابر والعمالة لإسرائيل. وتلقيتُ العديد من الرسائل النصية والاتصالات من أشخاص مجهولين هددوني بالقتل. وكانوا سينجحون في ذلك لولا عناية الله”.
تضمنت قائمة الاتهامات الطويلة الموجهة إليها من قبل الفصائل المسلحة وهي كثيرة ومتعددة ونافذة في كل أجهزة الحكومة، بالسعي لتحريف العادات والتقاليد الإسلامية والعشائرية السائدة في المحافظة. وأنها تنفذ أجندات أجهزة مخابرات دولية.
مثل هكذا تهم توجهها ميليشيات تملك المال والسلاح والغطاء السياسي الى شخص في مناطق نفوذها تعني شيئاً واحداً لا غير وهو الموت.
تجفل من صوت سحب منضدة خلفها. تنظر بخجل إلى أصابع يديها المتشابكة أمامها :”لم أستطع التخلص من خوفي، حتى بعد مرور ثلاثة أشهر لي هنا. لا أخرج إلا عند الضرورة لشراء حاجةٍ ما أو لموعدٍ لا يمكن أرجاؤه. والطريق الذي أسلكه عند الخروج لا أعود منه مطلقاً “.
تلتمع دمعة في عينها، تديرُ وجهها مرة أخرى للنافذة : “غيرت لون شعري. وأحاول قدر الإمكان إخفاء وجهي. فأذرع الميليشيات طويلة. وكثيرون من أقراننا غادروا السليمانية إلى خارج البلاد، بعد شعورهم بأنهم ملاحقون من قبل جواسيسها. في إحدى رسائل عناصرها التي وردتني، قال بالحرف الواحد، سنأتي بكم حتى وإن صعدتم للسماء”.
لم تعد نسرين تحلم الآن بغير الحصول على فرصة تهاجر بها إلى أوروبا أو أية دولة أخرى تخلصها من خوفها وقلقها اليوميين. وتقول بقناعة تامّة : “لن تتركنا الفصائل التابعة للأحزاب الإسلامية الشيعية في حالنا حتى وإن انتهت المظاهرات”.
تلك الفصائل التي توالي غالبيتها ايران، وتعمل لصالحها حتى لو تقاطعت مع مصلحة بلدها، متهمة بارتكاب عمليات اغتيال مخطط لها وتنفيذ هجمات قتل عشوائية خلال الاحتجاجات الشعبية التي شهدها العراق في تشرين الأول اكتوبر 2019 واستمرت لنحو عام استهدف فيها مئات المتظاهرين والنشطاء المعروفين في بغداد ومحافظات ذي قار والبصرة والنجف والديوانية.
وبحسب الإحصائيات والأرقام الصادرة من أطراف حكومية ومنظمات حقوق الإنسان، فان أكثر من 560 شخصاً قتل خلال التظاهرات إلى جانب جرح الآلاف بينهم عشرات أصيبوا باعاقات تمنعهم من استعادة حياتهم السابقة، فضلاً عن مصير العشرات من الناشطين والصحفيين مازال مجهولا جراء اختطافهم من قبل الفصائل الموالية لإيران.
السليمانية ملاذ آمن
لايختلف واقع نسرين، عن الكثير من الناشطين والصحفيين الآخرين الذين لجأوا إلى السليمانية بسبب ملاحقة الميلشيات لهم بقصد الانتقام منهم نتيجة تواجدهم الدائم في ساحات التظاهر أو دعمهم للحراك في العاصمة بغداد أو المحافظات الجنوبية.
توثق جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق تعرض 341 صحفياً عراقياً منذ تظاهرات تشرين الأول 2019 إلى شتى أنواع “الانتهاكات الجسيمة والمضايقات”. طالت بوجه الخصوص العاملين منهم في المؤسسات الإعلامية المعروفة بتغطيتها للاحتجاجات. وتنوعت بين اغتيال وتهديد بالقتل فضلاً عن الاختطاف والاعتقال والاحتجاز.
مدير الجمعية مصطفى ناصر عبر عن قلقه البالغ مما يتعرض له الصحفيون، وقال بأنه “مؤشر خطير جداً على تدهور حرية الصحافة، وسيؤدي حتماً الى تراجع العمل الصحفي وتقييد امكانات السلطة الرابعة وقدرة الصحفيين على التعبير والتأثير في الرأي العام”.
وبحسب مركز”ميترو” المعني بالدفاع عن حقوق الصحفيين والذي يتواجد مقره الرئيسي في السليمانية، اتخذ 178 صحافياً وناشطاً بعد انطلاق احتجاجات تشرين الأول أكتوبر 2019 من محافظة السليمانية ملاذاً لتجنب المصير الذي لاقاه زملاء لهم “اغتيلوا بأيدي عناصر الأمن والميليشيات أو تم اعتقالهم وبعضهم مازال ومنذ اشهر مجهول المصير”.
يشير مدير المركز ديار محمد، الى ان هناك عشرات غيرهم في السليمانية، لكنهم يمتنعون عن تسجيل أسمائهم خوفاً من تسرب أي معلومات عنهم وبالتالي رصد أماكن سكنهم وتحركاتهم في المحافظة.
ويؤكد محمد بأن أغلب الصحفيين المسجلين في مركز ميترو “تعرضوا للتهديد بالقتل والاختطاف في محافظاتهم مع عجز الجهات الأمنية عن حمايتهم”، مبينا أن “العاصمة بغداد تأتي في مقدمة المحافظات التي غادرها الصحفيون والناشطون وتليها الديوانية ومن ثم ذي قار”.
ويشير ديار الى ان الكثير من الناشطين والصحفيين يعانون اضافة الى حالتهم النفسية السيئة من تدهور أوضاعهم المالية وحاجتهم للمساعدة العاجلة.
ويقول أن مركز “ميترو” سبق أن قدم مذكرة رسمية الى الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان في شهر ايلول/ سبتمبر من العام الجاري لتقديم المساعدات اللازمة للصحفيين والناشطين الهاربين من محافظاتهم “لكنهم لم يحصلوا سوى على وعود.. لم يتلق أيٌ منهم المساعدة، باستثناء ما قدمته بعض المنظمات الدولية”.
هددوا باغتصاب ابنتي
تحدّى أبو حليمة (اسم مستعار)، وهو محامٍ وناشط مدني، كل التهديدات التي وصلته بقتله وتصفيته جسدياً أو اختطافه كما حصل مع الكثير من أصدقائه اذا لم يتوقف عن المشاركة في التظاهرات التي كانت تجري في محافظة ذي قار.
لكن المليشيات رفعت سقف تهديداتها لهُ مطلع العام الجاري، وحذرته من امكانية خطف ابنته وتصويرها وهي تتعرض للإغتصاب ثم قتلها، في حال لم يترك ميادين الاحتجاج.
يقول بحرقة “لديّ طفلان، ابنتي البكر عمرها عشر سنوات فقط، وطفلي الثاني خمس سنوات. أرادوا بتلك الطريقة الدنيئة الانتقام مني بعد أن عجزت رصاصاتهم وأيديهم عن اغتيالي، لأنني كنت أتحصن بساحة الحبوي التي تحولت الى أيقونة التظاهر في ذي قار ولا أغادرها”.
بمجرد تلقيه التهديد عبر اتصال هاتفي، تسلل أبو حليمة، من ساحة التظاهر إلى منزله. وغادر مع زوجته وطفليه بالثياب التي عليهم.
يقول “كان الوقت منتصف النهار نهاية شهر شباط/فبراير 2020 توجهنا مباشرة الى بغداد ولم نبق فيها سوى نصف ساعة فقط لتناول العشاء، ومن ثم انطلقنا بسيارة خاصة إلى السليمانية”.
وكما حدث مع نسرين، لم يسلم أبو حليمة من الاتهامات الموجهة ضده من قبل الجيوش الالكترونية للميليشيات بالعمالة لمخابرات دولٍ أجنبية ونشره لمبادئ مخالفة للعادات والتقاليد الاجتماعية والعشائرية السائدة في محافظته.
ويكشف: “اعتدت مثل العديد من الناشطين على تهديدات القتل التي كانت تردنا عبر الهاتف، لكن مالم أستطع الاعتياد عليه هو أن أغلب تلك التهديدات مصدرها أرقام هواتف إيرانية، لكن لهجة المتحدث كانت عراقية على الدوام”.
رغم مرور نحو عشرة أشهر على مكوثه في السليمانية، إلا أن أبو حليمة مازال هو الآخر واقعاً تحت تأثير الأحداث التي تركها وراءه في ذي قار التي تشكل احدى أكثر ساحات الاحتجاج سخونة ضد الأحزاب الحاكمة والتي سقط فيها مئات المحتجين بنيران القوات الأمنية والمليشيات.
يقول انه يحاول كتم الأسى الذي في داخله، كلما سأله طفلاه عن سبب تركهما لأصدقائهم وأقاربهم للعيش وحيدين في مدينة غريبة عنهم؟ ومتى سيعودون الى بيتهم؟ “مازلت لا أعرف بأي كلامٍ أردّ على أجوبتهم… أشعر بحزن عميق كلما تذكرت حياتي ومنزلي الذي قضيت سنوات شبابي أجاهد من أجل بنائه ومازالت ديونه تلاحقني”.
يقضي أبو حليمة أياماً صعبة في مكان النزوح الذي أجبر عليه. فهو لم يتمكن وللشهر الثاني على التوالي من دفع بدل إيجار المشتمل الصغير المؤلف من غرفة واحدة وصالة والذي يسكنه مع عائلته بمبلغ 200 ألف دينار (نحو160 دولار).
لكن ذلك الواقع الصعب لم يكسر ارادته كما يقول: “عائلتي محرومة من ملذات الحياة، ولا نأكل إلا وجبتين خفيفتين في اليوم الواحد، لكن هذا لن يقلل من عزيمتي على الاستمرار بدعم التظاهرات على الأقل معنوياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي. بُعدي عنها لن يوقفني عن مساندتها”.
ليس أبو حليمة وأفراد عائلته الوحيدين الذين يعيشون ظروفاً اقتصادية حرجة في السليمانية التي تراجعت فرص العمل فيها في ظل الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها اقليم كردستان نتيجة تأخر صرف رواتب موظفيه وتراجع الأعمال اثر انتشار فيروس كورونا.
هنالك على حد علم أبو حليمة نحو 100 صحفي وناشط من جنوب العراق في السليمانية، يعيشون الظروف القاسية ذاتها. لكنه وبخلاف كثيرين غيره، رفض فرصة للهجرة الى خارج العراق قدمت له من منظمة دولية. لأنه يعتقد بأن ذلك يعني ان المليشيات حققت أحد أهدافها الرئيسية “هذا ما يريدونه، أن نموت أو نترك البلاد”.
ويعدد الناشط الفار من الملاحقة في ذي قار، ستة جماعات مسلحة تستهدف نشطاء التظاهرات، رغم انها تنفي تورطها في عمليات القتل والخطف وتعلن ان التظاهرات حق للمطالبة بالاصلاح ومواجهة الفساد المستشري.
وتسجل ذاكرتهُ قيام تلك الفصائل باغتيال شباب بارزين في ساحات التظاهر بمحافظته كـ (أزهر الشمري، علي العصمي، علي الخفاجي، حسن المهلل) وآخرين، في مشهد يتكرر “عناصر يحملون مسدسات مزودة بكواتم للصوت، يترجلون من سيارات مظللة النوافذ ولا تحمل أرقام تسجيل. يقتلون أو يخطفون ثم يختفون بكل بساطة، لتعلن الجهات الأمنية بعد ساعات عن فتح تحقيقات تظل مفتوحة للأبد بدون اي نتائج”.
يرى نشطاء أن سطوة “الفصائل الولائية” وهو مصطلح يطلق على القوى الموالية لايران، وصلت الى حد اختراقها للأجهزة الأمنية عبر ما يعرف بـ ضباط الدمج، وهم أشخاصٌ ينتمون للأحزاب الشيعية النافذة وحصلوا من خلالها على رتب عسكرية كبيرة بعد 2003 دون أن يدخلوا أو يشاركوا في دورات عسكرية أكاديمية وبعضهم أنصاف متعلمين.
ويرجع متابعون للملف الأمني سبب تهاون الأجهزة الأمنية مع منفذي الاعتداءات بحق المحتجين رغم امتلاكهم معلومات كافية عن القتلة والخاطفين والجهات التي تقف خلفهم، الى وجود هؤلاء الضباط في مواقع أمنية رفيعة.
لا تختلف أوضاع الصحفيين الهاربين من ملاحقة المليشيات عن أوضاع النشطاء كثيرا، باستثناء ان بعض هؤلاء حصلوا على دعم من مؤسساتهم لفترة قصيرة.
يقول صحفي يقيم في السليمانية منذ سبعة أشهر عقب تلقيه تهديدات بالتصفية، متحدثاً عبر الهاتف بعد أن طلب اخفاء هويته تجنباً لأي ضغوط قد تتعرض لها عائلته “جئت الى هنا، لكني أتردد على عائلتي بين فترة وأخرى بشكل سري. لم أتوقف عن العمل، لكن طبعا ان تكون بعيدا عن ميدانك الرئيسي يعني عمليا أن تفقد تدريجيا فرصة العمل المتاحة وحينها ستصبح الأمور أصعب وكل الخيارات صعبة”.
يضيف، بعد نوبة من السعال نتيجة نزلة برد اصيب بها في أجواء السليمانية الباردة التي لم يتعود عليها “لا اعرف كم نستطيع ان نقاوم؟.. هم وبعد أن سلبوا وطننا يريدون اسكاتنا وسلب حقنا في التعبير والاحتجاج، بل يريدون سلب حقنا في الحياة على أرضنا”.
واقع لم يتغير منذ 2005
وتفتقر السليمانية الى وجود مؤسسات إعلامية ناطقة باللغة العربية وهذا ما يصعّب الحياة المعيشية للصحفيين النازحين اليها، فلم يجد إلا نسبة قليلة جدا منهم العمل بصفة محرري أخبار أو معدي تقارير وبرواتب شهرية لا تتجاوز في احسن الأحوال الـ500 دولار.
رغم ذلك يفضلها الصحفيون على باقي مناطق الاقليم، خاصة ان المدينة كانت في أوقات سابقة ملاذاً للصحفيين والناشطين الهاربين من العاصمة بغداد والمحافظات الأخرى خوفاً من عمليات التصفية تحت يد فصائل مختلفة الولاءات، فقد لجأ الكثير من الصحفيين إليها بعد 2003 وفي فترة الاقتتال الطائفي بين عامي 2006-2008 وبعدها خلال سنوات تعاظم نفوذ تنظيمي القاعدة وداعش في المناطق السنية.
تقول الصحفية البغدادية هناء رياض التي تسكن السليمانية منذ العام 2007 عقب تعرضها مع زملاء لها لهجوم من تنظيم القاعدة استهدف مؤسستهم اذاعة دجلة في بغداد، ان واقع الصحفيين لم يتغير فهم منذ 17 عاما يُستهدفون بالقتل والخطف ومن جهات مختلفة.
احد المواقع التي تعرف باستقطابها النازحين في ساعات المساء
وحتى بعد مرور 13 عاما مازالت رياض تحتفظ في ذاكرتها بشريط أحداث ذلك اليوم حيث شن التنظيم هجوما بالسيارات المدججة بأنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وعشرات المسلحين كأنها تقاتل أحد جيوش العالم بقصد السيطرة على مبنى المؤسسة، لكنهم فشلوا نتيجة المقاومة التي أبداها الحراس ومع تمكن العاملين وهي من بينهم، الهرب عبر أسطح المنازل القريبة.
تقول: “بالأمس كانت القاعدة وشقيقاتها تستهدف الصحفيين بالقتل والخطف والتهجير. واليوم تعيد السلطة بفصائلها ومليشياتها ذات السيناريو، ذلك أصبح واضحاً بعد احتجاجات تشرين”.
وترى رياض أن الإعلامي والصحفي في بغداد والمحافظات الجنوبية والوسطى مازال يحلم بحرية العمل وإبداء الرأي بخلاف زملائهم في إقليم كردستان الذين يتمتعون بمساحة حرية أوسع رغم الملاحظات المسجلة ضد الإقليم من غلق بعض المؤسسات ومحاولة تكميم أفواه المعارضين للسلطة سواء كانوا أشخاصاً أو مؤسسات.
ذلك الواقع المختلف والذي فرضه استقلالية الاقليم الادارية والامنية عن باقي مناطق البلاد، هو الذي جعله ملاذ الصحفيين الهاربين من التصفية خاصة بعد تحول بغداد التي تضم أكبر عدد من المؤسسات الإعلامية والوكالات ومقرات الصحف، الى ساحة للاغتيالات مع اشتداد تظاهرات تشرين وعقب تعرض مؤسسات اعلامية معروفة إلى هجمات من قبل فصائل مسلحة وتحت مرأى الأجهزة الأمنية كما حصل مع قناتي “NRT” ودجلة وغيرهما.
يسرد الصحفي بكر 25 عاماً (اسم مستعار) تفاصيل اعتقاله من قبل عناصر ميليشيا ترفع رايات الحشد الشعبي وذلك بعد سلسلة من تهديدات القتل التي تلقاها عبر الهاتف أو حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي بسبب دعمه للاحتجاجات “في 28 من تشرين 2019 اعتقلتنا قوة مسلحة أنا ومجموعة من الصحفيين ونحن في طريقنا الى ساحة التحرير. أنقضى يوم كامل من التحقيق رافقه سيل من التهديدات والمضايقات، ثم اطلقوا سراحنا بعد اجبارنا على كتابة تعهدات خطية بعدم المشاركة في التظاهرات مجدداً”.
يضيف “بعدها بأيام تلقينا جميعا تهديدات عبر الهاتف، تتوعد باختطافنا وقتلنا اذا لم نكف عن الكتابة عن التظاهرات وواصلنا نقل مطالب المحتجين وحراكهم”.
إثر ذلك غادر بكر ومعه تسعة صحفيين آخرين بغداد باتجاه السليمانية ليواجهوا هناك صعوبات مختلفة عقب فقدان وظائفهم، وفي ظل انعدام فرص العمل في السليمانية وتكاليف المعيشية وعدم حصولهم على أي دعم من الحكومة أو المنظمات.
يقول: “اضطر اثنان من زملائنا الذين أتوا معنا الى الهجرة خارج البلاد، فسافر أحدهم إلى تركيا والآخر إلى الأردن، مدفوعين بتهديدات وصلتهم من كتائب حزب الله، وعصائب اهل الحق، وهما أكثر فصيلين يمارسان التهديد ضد الصحافيين والنشطاء”.
لا تملك نقابة صحفيي كردستان الكثير لتقدمه لهؤلاء الصحفيين، يقول نقيبها أزاد حمه أمين: “تعاملنا بمهنية مع قضية التهديدات التي طالتهم بعد تظاهرات تشرين، وتواصلنا مع قوات الآسايش (جهاز الأمن) لتسهيل اجراءات سكنهم، الى جانب تأمين مساعدات مادية لهم تبرعت بها منظمات دولية”.
يقضي الصحفيون والنشطاء المطاردون في بلدهم، أوقاتا عصيبة مع مرارة الخيارات المتاحة أمامهم بين التخفي الدائم بعيداً عن عيون المليشيات ورصاصاتهم الكاتمة، أو الهجرة والاغتراب لمن استطاع الى ذلك سبيلاً، او النزوح لاقليم كردستان ومواجهة العوز في ظل أزمة اقتصادية خانقة هناك.
“كل ذلك يمكن احتماله”، يقول صحفي بارز، تردد وجود اسمه ضمن قوائم الموت التي تنشرها المليشيات. يضيف متحدثا عبر الهاتف من خارج العراق “لكن ما لا يمكن احتماله، هو أن تذهب كل تضحيات أصدقائنا هباءً في ظل محدودية الانجازات المتحققة مع استمرار القوى ذاتها في الحكم.. كل ليلة نعيش ذلك الرعب ونحن نتذكر وجوه اولئك الذين تركونا الى الأبد”.
*انجز التقرير بدعم من مؤسسة نيريج للصحافة الاستقصائية