تحليل: “العشيرة تُبايع”.. الهجرة من الريف إلى السياسة  

“العشيرة تُبايع”.. الهجرة من الريف إلى السياسة  

من الحكم العثماني إلى دولة ما بعد 2003، قصة "الأرياف" العراقية وهجراتها المتعدّدة إلى المدن وهيمنتها على السياسة.. عن "العشيرة المُبايعة" و"المدن الريفية"..

لم تكن نتائج انتخابات المجالس المحلية في العراق مفاجِئة كثيراً، على الأقل في شقها الديموغرافي، المتعلق بالتمثيل الجهوي المناطقي داخل مجالس المحافظات، حيث باتت هيمنة المرشحين المتحدّرين من الريف بنزعات عشائرية، واضحةً في المشهد السياسي للمدن الكبرى التي غابت نخبها السياسية والاجتماعية عن الصورة بشكل يشبه أفولاً تاماً. 

تظهر هذه المعادلة الديموغرافية، بشكل واضح، في بغداد ونينوى والبصرة أكثر من غيرها، بعد سنوات من تجريف المدن على يد السلطات المختلفة؛ بفعل سياسات أغلبها متعمدة، لتصبح بغداد اليوم “قرية كبيرة”؛ تحكمها فصول العشائر وقوانينها، على حساب أجهزة الدولة وأذرعها القانونية. 

العشيرة تبايع الملك 

قامت الدولة العراقية الحديثة بعد حكم عثماني دام نحو 400 عام، تخلله صراع مع الصفويين والقاجاريين المنحدرين من الهضبة الإيرانية، وخلال تلك الفترة عرف العراق تجارب محلية ودخيلة من الحكم، لكن معظمها كان مهيمناً في مراكز المدن دون الأرياف والبوادي التي سيطرت عليها عشائر مسلحة، كانت كثيرة الصدام مع العثمانيين، مما جعل أبناء تلك العشائر موضع ريبة وحذر على الدوام من قبل حكام وولاة بغداد والموصل والبصرة. 

ان تنصيب الملك فيصل الأول بن الحسين لحظة مثالية لتعاطي العشائر العراقية مع السياسة

حين نشأت المملكة العراقية الهاشمية، اعتمدت في سنواتها الأولى بشكل رئيس على أعيان المدن ووجهائها، بالإضافة إلى الضباط العراقيين في الجيش العثماني المنحل. 

كانت عملية ولادة الكيان السياسي الجديد في بلاد الرافدين صعبة، وتخللتها مخاضات عسيرة، لكنها أفضت إلى شكل عصري للدولة جعلها على اتصال بالعالم الحديث وأنظمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. 

أدرك المؤسسون للدولة العراقية صعوبة إدماج العشائر العراقية في جسد الدولة، خصوصا وأنها تحمل ميراثاً طويلاً من العداء لفكرة الدولة والسلطات المتمركزة في المدن، واعتاد كثير منها قطع الطريق على قوافل التجارة، واستهداف جنود الحكومة وموظفيها. 

وبغضّ النظر عن دوافعها ومآلاتها، لكن يمكن اعتبار “ثورة العشرين” هي التمظهر الأبرز للريف العراقي وسكانه، الذين أحدثوا هذه المرة تأثيراً على الواقع السياسي، وجعلوا البريطانيين يعيدون النظر في كثير من سياساتهم، من أجل كبح جماح العنفوان المسلح للقبائل الراغبة بالحصول على سهم وافر من غنيمة الدولة الجديدة. 

كان تنصيب الملك فيصل الأول بن الحسين -محاطا بشيوخ عشائر ومطوقا ببيعاتهم- لحظة مثالية لتعاطي العشائر العراقية مع السياسة بشكلها الحديث، دون اللجوء للسلاح ومغالبة الدولة. 

لم يدرك أولئك الشيوخ وقتها أنهم سيبسطون، خلال أقل من قرن، هيمنتهم على مراكز المدن، ويفرضون عليها ثقافتهم وتقاليدهم، دون مقاومة ذات شأن من سكان الحضر. 

أضواء المدينة 

كان عدد سكان العراق عام 1867 -بحسب بحث نشره معهد الإحصاء في جامعة أوكسفورد- لا يزيد كثيرا على المليون وربع المليون، بلغت نسبة البدو من بينهم 35 بالمئة، فيما مثّل الريفيون 41 بالمئة، أما سكان المدن فلم تزد نسبتهم على 24 بالمئة. 

أسهمت إصلاحات الوالي العثماني مدحت باشا (1869-1872) في تشجيع القبائل البدوية على الاستقرار وممارسة العمل الزراعي والتجارة، ثم ظهرت مدن جديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كالديوانية والرمادي والعمارة والعزيزية وقلعة صالح والكوت والناصرية والشطرة وغيرها، وانخفضت نسبة البدو بين السكان لتصل إلى 19 بالمئة بحلول عام 1905. 

ويبدو أن الاستقرار السريع للقبائل البدوية، ونمو مدن جديدة على أكتافهم، لم يتح الوقت بشكل كاف لنشوء تقاليد راسخة مرتبطة بالحواضر الجديدة. كما أن العشائر التي سكنت المدن آنفة الذكر أعادت تموضعها في أحياء سكنية جمعت بين الإخوة وأبناء العمومة، فغدت تجمعات قبلية داخل مدن. 

أسهمت الطفرات الاقتصادية التي شهدها العراق في بداية خمسينات القرن المنصرم؛ مع توسع صناعة النفط وزيادة حصة العراق منه، في تشجيع هجرة أبناء الريف إلى المدينة، فانخفضت نسب العاملين في قطاع الزراعة، خاصة بين الأعمار الأصغر سناً، ممن باتت تستهويهم حياة المدينة وطبيعتها الأكثر حداثة وانفتاحاً. 

كان دخول النفط إلى بنود موازنة الدولة حدثاً مفصلياً في التاريخ العراقي المعاصر، فقد حوّل اقتصاد الدولة إلى نظام ريعي أبوي بعدما كان قائماً على ضرائب الأراضي والصادرات الزراعية، فتضاءلت تبعا لذلك قيمة الإنتاج الزراعي، وأصبحت وظائف القطاع العام حلماً للجميع.  

تشير أرقام متفرقة إلى أن ثلاثة أرباع القوى العاملة في عموم العراق كانت تعمل في مجال الزراعة عام 1920، ثم انخفضت هذه النسبة إلى النصف في الخمسينات، ثم إلى الثلث في بداية تسعينات القرن المنصرم. 

كان الفقر سمة بارزة على المهاجرين الجدد، الذين اجتذبتهم وعود سدنة الجمهورية الناشئة بتخليصهم من الإقطاع والمظالم التي كانت تقع عليهم، وحين قرّروا المغادرة باتجاه المراكز الحضرية الكبرى؛ انقطعت صلاتهم بمهنهم التي توارثوها، وفي مقدمتها الزراعة وتربية الماشية، وكان معظمهم يفتقر للتعليم أو المهارات التي تتيح لهم تسنم مواقع مؤثرة داخل المدن، فلجأ أغلبهم إلى مهن بسيطة راكمت حالة الفقر لديهم، ولم تُحدث تغييراً كبيراً في حياتهم. 

وفي المقابل، خلت أراضٍ زراعية واسعة في الريف –خصوصا الجنوبي- من الفلاحين، وتراجع إنتاج المحاصيل بمرور الوقت، وبارت مساحات واسعة من الأراضي وباتت خالية من سكانها. 

شيوخ البرلمان 

يمكن القول إن الحضور الريفي في عالم السياسة كان أكثر وضوحاً وقوة في الساحة الشيعية قياساً بالسنية بعد قيام الدولة العراقية الحديثة، حيث مثّل شيوخ العشائر الكتلة الشيعية الأكبر الممثلة لمحافظات الجنوب والفرات الأوسط داخل البرلمان خلال العهد الملكي. 

وبلغت نسبة شيوخ العشائر حينذاك ما بين 60-65 بالمئة من اجمالية النواب الشيعة، الذين فازوا بالانتخاب أو التزكية نيابة عن محافظات أو “ألوية” العمارة والديوانية والمنتفج والكوت والحلة وكربلاء، لكن البصرة كانت مختلفة نوعا ما؛ حيث مثّل مكونها الشيعي في البرلمان أبناء عائلات حضرية، كآل الملاك وآل سيد جعفر. 

 وبشكل عام، لم يحظ شيعة المدن والمثقفون غير المحسوبين على الأوساط العشائرية بأكثر من 30 بالمئة داخل البرلمان إلا قليلاً، كما أن تمثيل رجال الدين الشيعة داخل البرلمان لم يكن مؤثراً كما هو الحال لدى نظرائهم السنة. 

أما على الضفة السنية، فقد ظل تمثيل شيوخ العشائر ضعيفاً، ولم تتجاوز نسبتهم 10 بالمئة من إجمالي النواب السنة داخل البرلمان، وباستثناء زعماء الدليم من آل سليمان البكر وآل المشحن، فإن شيوخ العشائر الآخرين لم يحظوا بتمثيل نيابي حتى وقوع انقلاب بكر صدقي عام 1936، عندما وصل عدد النواب من شيوخ العشائر السنة إلى 9 نواب، وهو ما كان يظهر ميل بكر صدقي ورئيس الوزراء حكمت سليمان وقتها إلى تشجيع وصول شيوخ القبائل السنية والمدن الأخرى إلى البرلمان، على حساب النواب البغداديين. 

 وبعد انقلاب صدقي، حافظ شيوخ العشائر السنية على تمثيل بلغ نحو 15 بالمئة من نسبة النواب السنة في البرلمان، فيما مثّل وجهاء المدن والتجار والمسؤولون الحكوميون من أبناء المدن نسبة 85 بالمئة من النسبة المتبقية للسنة في برلمانات العهد الملكي. 

وخلافا للتمثيل العشائري السني الضئيل داخل البرلمان الملكي، فقد كان صعود الضباط السنة القادمين من أصول ريفية سريعاً داخل المؤسسة العسكرية، تناغماً مع هوية الدولة المستندة إلى حواضن اجتماعية وثقافية توفر لها الحماية والتمكين في البلاد. 

ابتلاع المدينة 

في نهايات العهد الملكي؛ بدأ العديد من سكان جنوب العراق بالاستقرار في بغداد، لأسباب متعددة، من بينها سوء حال القطاع الزراعي وتردي خدمات بعض الأرياف أو انخراط بعضهم في سلك الدولة ووظائفها، كما تضمنت موجة القادمين أشخاصاً هربوا من مناطقهم بسبب مشاكل عشائرية، وباحثين عن العمل والدراسة في العاصمة التي فتحت أبوابها للجميع.  

استوطن معظم النازحين الجدد صرائف شرق بغداد، تزايدت أعدادها بمرور الوقت، قبل أن يقرر النظام الملكي إدراج مناطقها ضمن مشاريع “مجلس الإعمار” الذي باشر نشاطه عملياً عام 1952، لكن انقلاب الجيش لم يمهل حتى إكماله. 

 استلم “الزعيم” الجديد عبد الكريم قاسم، الملف، وأكملت الدولة الجديدة بناء قطاعات سكنية عديدة في المنطقة التي عرفت لاحقاً بمدينة الثورة، وأحياء أخرى كالشعلة وحي العامل وتل محمد في بغداد، ومدينة الحيّانية في البصرة، فتضاعفت أعداد النازحين القادمين من الجنوب خلال عهد قاسم، الذي حاول تقديم نفسه نصيراً للطبقات المعدمة وأباً للفقراء، مما أكسبه كثيراً من الحب والولاء في أوساط الجنوبيين بشكل خاص. 

واستناداً إلى التجارب الحديثة، فإن من الطبيعي أن تذوب الجماعات الريفية المهاجرة إلى المدن الكبرى في المجتمعات الجديدة، وتصبح جزءاً منها بمرور الوقت، لكن الريف العراقي ابتلع المدينة، وحولها، بمرور الوقت، إلى “قرى كبيرة”. وعجزت الحكومات المتوالية عن تذويب موجات المهاجرين من الريف في مجتمع المدينة لعدة أسباب، منها أن المهاجرين تكتلوا كمجموعات عشائرية داخل أسوار المدن أو على تخومها، ناقلين معهم معظم تقاليدهم وعاداتهم وأنماط حياتهم، بما فيها تلك التي تتعارض مع أشكال المدن العصرية، بالإضافة إلى ضعف الدولة، وتعثر عملية التحديث وانتكاسها بفعل سلاسل الحرب الطويلة التي عاشتها البلاد. 

لم يندمج معظم القرويين الذين سكنوا المدينة في مجتمعها رغم محاولات بعضهم، كما أن حياتهم الجديدة لم تعد تشبه نمط معيشتهم في الريف، الأمر الذي ولّد ظواهر اجتماعية كثيرة تشير في مجملها إلى العجز عن استيعاب الانتقالة الاجتماعية التي مرت بها تلك المجموعات السكانية. 

أزمة التمثيل السياسي 

كان من الطبيعي أن تبحث تلك الكتل الحيوية من العراقيين عن تمثيل سياسي، لكنها على مدى عقود وقعت في “فخ الأدلجة” كما تشير مجريات الأحداث، فكانت الأحزاب الإيدلوجية هي الأكثر جذباً واستقطاباً لهم. 

الاستقرار السريع للقبائل البدوية، ونمو مدن جديدة على أكتافهم، لم يتح الوقت بشكل كاف لنشوء تقاليد راسخة

ولظروف تتعلق بارتفاع نسب الفقر في الريف الجنوبي، والتحالف الوثيق بين طبقة ملاك الأراضي والمؤسسة الدينية الشيعية، وجد الحزب الشيوعي أرضاً خصبة له في تلك المحافظات، واتسعت بمرور الوقت قاعدة المنتمين. 

نشأ التوجه اليساري في العراق بشكل رئيس في بغداد، على أكتاف خريجي المعاهد العليا وعدد كبير من المثقفين عبر “جماعة الأهالي” التي تصدرها حسين جميل وكامل الجادرجي ومحمد حديد ومحمد جعفر أبو التمن، إلا أن انقسام الجماعة اللاحق وخروج عدد كبير من أعضائها مشكلين “لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار” ثم “الحزب الشيوعي العراقي” ساهم في تحويل بوصلة اليسار نحو الريف، لا سيما وأن برنامج الحزب الشيوعي كان يتبنى قضايا الطبقة العاملة ومن بينها الفلاحون. 

أما الريف السني، فلم يشهد انقساماً طبقياً حاداً كما الحال لدى نظيره الجنوبي، وكانت أواصر الدم المشترك أكثر تأثيراً من التفاوت الطبقي والاقتصادي. 

ورغم النشأة الجنوبية لحزب البعث في الناصرية، إلّا أن الحزب الجديد لاقى كثيراً من القبول والارتياح في بغداد والمحافظات الغربية، التي لم تعرف وجود مؤسسات دينية ذات تأثير كبير على الحياة العامة، أو تشهد نشوء طبقة متمايزة من الإقطاعيين، أو تمزقها الفروق الطبقية، وكان حديث البعث المتكرر عن العروبة والتاريخ والتقاليد والهوية عوامل جذب للكثيرين ممن انتظموا في صفوفه لاحقاً. 

وقد استفاد البعث من الوجود الكثيف للتوجه القومي في بغداد، خصوصا في المناطق القديمة كباب الشيخ والفضل والأعظمية والكرخ، فضلاً عن مدن أخرى كالموصل وتكريت والفلوجة وسامراء، واستطاع احتواء قطاعات واسعة من العروبيين هناك، بعدما عجزت الأحزاب القومية التقليدية عن تقديم طرح سياسي مؤثر، أو بناء هياكل تنظيمية قادرة على التصدي للموج الشيوعي الكاسح. 

الريف في القصر الجمهوري 

كان الجيش هو البوابة الرئيسية التي عبر منها الريف بقواه المتنوعة نحو عالم السياسة بعنفوان وفاعلية بالغة، فأبناء المدن الذين انخرطوا في الوظائف الحكومية بدأوا الابتعاد تدريجياً عن عالم العسكر بشكل أكثر وضوحاً منذ عقد الأربعينات من القرن الماضي، وبدأت بالظهور أسماء ضباط مؤثرين من أصول عشائرية ريفية. 

ويبدو أن الأمر حظي بانتباه رئيس الوزراء الشهير نوري السعيد، الذي كان يتخوف من اختلال التوازن الاجتماعي في مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش، لذا لم يبد كثيراً من الارتياح للضباط الجدد المفعمين بروح المغامرة والعنف والقوة، كما تشير إلى ذلك بعض الأحداث والمدونات والمذكرات الشخصية لساسة العهد الملكي. 

عملياً، كان صدام حسين أول حاكم ريفي للعراق منذ نشأته الحديثة، ورغم انتماء الرئيس أحمد حسن البكر إلى أرومته العشائرية نفسها، إلّا أنه تربى في مدينة تكريت ثم بغداد، وتشبع بقيم العسكرية ومفاهيم الدولة الحديثة التي أبعدته عن جذوره العشائرية. 

أما صدام، فلم يقطع صلته بثقافة منبته الأول: قرية “العوجة”، ثم حمل قيمها وتقاليدها المحلية معه إلى السلطة في بغداد، رغم محاولاته الظهور بمظهر الرجل العصري، واعتنائه الخاص بملبسه وشكله الخارجي، إلا أن أول امتحان حقيقي له، بعد الخروج من الكويت، أعاده إلى مربع الريف والعشيرة. 

أعاد نظام صدام إحياء منظومة العشيرة بعد أن كادت تذوي بشكل كامل، وبث فيها الروح، ومنح بعض الشيوخ مكانة اعتبارية في المجتمع، بعدما ضعف سلطان الدولة، وباتت بحاجة إلى حلفاء محليين في جميع المحافظات. 

ويلاحظ كثيرون أن صدام خلال تسنمه منصب نائب رئيس الجمهورية في عقد السبعينات، كان حريصا على الحديث بلهجة بغدادية لا تشوبها لكنة ريفية، لكنه استعاد لهجته القديمة بعد وصوله إلى الرئاسة، وباتت تعبيرات لسانه المنتمية لبيئته المحلية أكثر وضوحاً في عقد التسعينات، من خلال لقاءاته مع الناس في الشارع وأحاديثه التلفزيونية. 

البعث “التقدمي” العشائري 

أحكم البعث قبضته على السلطة عام 1968، وحاول بداية الأمر إقامة تحالفات مع الشيوعيين وأحزاب أخرى في ما عرف بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” عام 1973، لكنه ارتد إلى محاربة حلفائه وتوجيه ضربات قوية لهم، أجبرت الكثيرين على مغادرة البلاد أو اللجوء للانخراط في صفوف الجماعات الكردية المسلحة المعارضة للدولة وذات الهوى الماركسي؛ للقتال في صفوفها. 

ومع نشوب الحرب العراقية الإيرانية، تعاظمت هواجس النظام تجاه الجماعات الشيعية، التي منحتها ثورة الخميني قبلة حياة ومثلت لها حلم الخلاص من نظام البعث؛ الذي كانت تصفه في أدبياتها الخاصة بـ”الملحد والطائفي”. 

انعكست خلافات البيت الشيعي الداخلية على طبيعة العلاقة بالسلطة، وتسارعت وتيرة هجرة قادة الأحزاب والحركات المعارضة وأعضائها إلى إيران وسوريا بشكل أساسي؛ بعد عمليات الاعتقال والإعدام الواسعة التي تعرض لها مناصروها، فخلت الساحة من أيّ نشاط سياسي حزبي ذي خلفية شيعية، فيما ظلت المؤسسة الدينية في النجف بمنأى عن السياسة منذ رحيل المرجع الشيعي محسن الحكيم عام 1970، مما جنبها معارك كثيرة، خاضتها نيابة عنها أحزابٌ وجماعات أخرى. 

ظل البعث يقدم نفسه كحزب تقدمي اشتراكي معادٍ لـ”الرجعية” بمنظوماتها الدينية والاجتماعية حتى جاءت هزيمة حرب الخليج الثانية وخروج مناطق واسعة في جنوب العراق عن قبضة الدولة، في ما أسماه النظام السابق بـ “الغوغاء”، وأسمتها المعارضة “الانتفاضة الشعبانية”. 

تآكل حضور البعث كحزب ونظام سياسي في الجنوب، مقابل صعود نجم شخصيات دينية وعشائرية، كان في مقدمتها رجل الدين محمد محمد صادق الصدر، الذي بات يحظى بشعبية واسعة في أوساط الشيعة، خصوصاً في المناطق الشعبية الأكثر فقراً وتهميشاً وذات الخلفيات الريفية، والأرياف. 

 لجأ صدام إلى العشيرة لأول مرة منذ قيام العراقية الحديثة، وأعاد إحياء منظومتها الاجتماعية وحضورها داخل أسوار المدن وخارجها، من أجل سد الفراغات الأمنية التي بدأت تتسع بمرور الوقت؛ مع زيادة النقمة الشعبية عليه في سنوات الحصار المليئة بالفقر والحرمان. 

لكن كل شيء كان تحت السيطرة، ولم يجرؤ أحد من “شيوخ التسعينات” -كما عُرفوا- أن يمارس دوراً يتجاوز السقوف التي تسمح بها الدولة في الحياة العامة. 

ازدراء المدينة 

في المدينة، وبعد تكاثر أعداد المهاجرين، بدأت المغالبة الديموغرافية تأخذ دورتها الطبيعية مع سكان الحضر، الأكثر مسالمة، والأبعد عن التكتلات العصبوية، لكنّ الدولة ظلت كابحاً قوياً لجماح بعض المجموعات الريفية المتطلعة للهيمنة والتأثير داخل المدن، حتى الغزو الأميركي، حين انداحت مجموعات قبلية داخل المدن، وبات شيوخ العشائر هم السادة الجدد، بالتحالف مع العمامة هذه المرة، ولعب بعض مرتدي “العكال” أدواراً تشبه ما كان يقوم به “الأشقياء” في المدن العراقية، خلال العقود التي سبقت مجيء العهد الجمهوري. 

صندوق الانتخابات أولاً 

كان السياسي العراقي في العقود السابقة بحاجة إلى استرضاء مجتمع المدينة بالدرجة الأولى، وتقريب نخبها ووجهائها، لاستثمار خبراتهم وتوظيفها في تطوير الدولة وبنائها، لأن شرعية الأنظمة السابقة لم تكن تعتمد على الانتخابات وعمليات التصويت “الديمقراطية”، وإنما على الوراثة أو الدبابة التي تقتحم باحة القصر الجمهوري. 

لكن نظام ما بعد 2003 أيقظ نَهَم الأحزاب للتقرب إلى زعماء العشائر وشيوخها، المقيمين في المدن وخارجها، لضمان حصد أكبر من عدد من الأصوات، وفّرها لهم انتعاش العصبيات القبلية بشكل واضح. 

وخلال قرن من الزمن، انتقلت مراكز التأثير في مؤسسات الدولة ودوائرها من وجهاء المدن وأبناء البيوتات الكبيرة إلى الضباط، ثم دفعها نظام صدام حسين إلى أحضان العشيرة لأول مرة منذ قيام الدولة العراقية الحديثة. 

أما نظام ما بعد 2003؛ فقد أعاد إحياء وتفعيل معادلة النظام الاجتماعي القديم في الجنوب، مجدداً الحلف التقليدي بين شيوخ العشائر والمؤسسة الدينية، فبات المعممون وشيوخ العشائر هم الأكثر تأثيراً ونفوذاً في الشارع. 

توازياً مع ذلك، تضاعف النفور من الزراعة، بعدما أسفرت سيطرة بعض السياسيين على الملف النفطي في ضخ مزيد من المهاجرين الريفيين إلى المدن الكبرى، وبات حلم الشاب المهاجر الحصول على تعيين حكومي عبر بوابة تلك القوى المؤثرة، وهو ما يغنيه عن أرض تذبل من الجفاف، وبذل التعب في زراعة الأرض وفلاحتها، مقابل أقل مقدار من الجهد في الوظائف الحكومية. 

معالم المستقبل 

وفقا لتقديرات وزارة التخطيط، فقد بلغ عدد سكان العراق في العام 2023 أكثر من 43 مليونا و324 ألف نسمة، 69.9 بالمئة منهم يسكنون الحواضر، بينما بلغت نسبة قاطني الأرياف 31.1 بالمئة. 

تقديرات أخرى للوزارة خلال العام نفسه، أظهرت أن عدد سكان المناطق العشوائية في عموم العراق بلغ أكثر من 4 ملايين نسمة، يقطنون 5 آلاف تجمع، بلغت حصة بغداد منها نحو ألف تجمع “حواسم”. 

عام 2023 شهد كذلك ارتفاعاً في معدلات جفاف الأهوار جنوبي العراق، مما دفع الآلاف ممن تبقوا فيها للنزوح إلى المدن المجاورة والتهيؤ للاستقرار فيها. 

ومن البديهي أن يتراجع حضور الدولة بين معظم هذه التجمعات، ويبرز مقابل ذلك تأثير الروابط العشائرية وأحكامها العرفية، التي تتحكم في أرقام بشرية “يسيل لها لعاب” كثير من الساسة الحريصين على حصاد أصوات أكثر لقوائمهم، الأمر الذي جعل العلاقة بين السياسي وشيخ العشيرة في تلك المناطق حيوية وفاعلة باستمرار. 

ورغم أن الدولة حاولت تجريم بعض الممارسات العشائرية كـ “الدكة” و”النهوة” وزواج “الكصة بكصة” إلّا أن ذلك يبقى مجرد حبر على ورق، ما دامت الأحزاب التي تشكل عصب النظام الحالي بحاجة إلى أصوات تملأ صناديق الاقتراع في المواسم الانتخابية. 

يحدث كل ذلك فيما يستمر تقطيع الأراضي الزراعية في حزام بغداد وأطرافها، وتحويلها إلى مناطق سكنية، فضلاً عن ارتفاع نسب الأمية والبطالة، وعجز الحكومة عن استيعاب الأعداد الهائلة من المواطنين ضمن برامجها التعليمية والصحية والخدمية. 

لذا، فإن من المستبعد أن يتراجع حضور العشيرة بتمظهراتها الاجتماعية والثقافية في المشهد السياسي، وربما تشهد السنوات القادمة محق مزيد من معالم المجتمعات الحضرية في مراكز المدن، بعد أن أصبح الانتماء للعشيرة عنواناً للقوة والسطوة والنفوذ لدى معظم العراقيين، ورافعاً لاحتمالات الوصول للكراسي ومغانمها. 

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":23315}" data-page="1" data-max-pages="1">