تقارير سردیة: في البصرة الغنية بالنفط .. عالمان وطبقتان، رفاه وامتيازات وبطالة وتردي خدمات

في البصرة الغنية بالنفط .. عالمان وطبقتان، رفاه وامتيازات وبطالة وتردي خدمات

يقضي عباس عبود (34سنة) الذي يعيش بمدينة البصرة الغنية بالنفط اقصى جنوبي العراق، معظم ساعات يومه في العمل بدوامين مختلفين، يبدأ الأول من الخامسة فجراً وحتى الرابعة عصراً بصفة عامل في موقع نفطي براتب شهري يبلغ 600 ألف دينار( 460دولار أمريكي)، ثم يلتحق بالعمل في متجر للمواد الغذائية بين الخامسة مساءً ولغاية العاشرة مقابل 300 ألف دينار، ومع ذلك لا يستطيع تأمين مستلزمات عائلته المكونة من زوجته وأربعة أطفال.

يضع يده على رأسه ويقول مازحاً:”كان شعري أسوداً فاحماً قبل أن أعمل في الموقع النفطي بصحراء البصرة تحت أشعة الشمس الحارقة التي تتجاوز صيفا الـ50 درجة مئوية، وأصبح الآن بنياً، لكن لا يهم على الأقل هنالك شعر على رأسي، والكثيرون يحلمون بوظيفتي!”.

عباس، الذي يسكن مع عائلته في بيت مستأجر بمنطقة حي الحسين الشعبية في مركز البصرة، توقف عن الدراسة في الصف الثالث المتوسط، بسبب الأوضاع الاقتصادية التي يقول بأنه عانى منها مع عائلته، لذا ليست لديه خيارات كثيرة متاحة فيما يتعلق بالعمل.

رغم عجزه عن تأمين ايجار منزله في بعض المرات، لكنه متشبث بعمله، كما يقول فالكثير من اقربائه الشباب حتى ممن اكلموا دراستهم الجامعية قبل سنوات لم يحظوا بفرص عمل برواتب جيدة “هم يعانون ايضا من ندرة فرص العمل وطول ساعات بعضها وقلة رواتبها”.

سمع من البعض أن المادة 55 من قانون العمل تحدد ساعات العمل بثمانية فقط:”لكنني مثال على عدم صحة ذلك، الشركات الأهلية تجبرنا على العمل أكثر من 10 ساعات يومياً، وباجور متدنية، وإذا اعترضنا يتم طردنا فوراً فلا عقود عمل ولا قانون يحمينا”.

يعتقد محمد حسين (28 عاما)، وهو خريج جامعي منذ ست سنوات يبحث عن فرصة عمل، أن الحكومة المحلية في البصرة غير عادلة مع فئات المجتمع بتوفير فرص العمل، ويتهمها بمنح الوظائف للأحزاب السياسية والفصائل والموالين لها دون غيرهم.

يقول حسين، الذي يقضي عدة ساعات من وقته في مقهى قرب منزله، انه تقدم لعشرات الجهات من اجل العمل دون نتيجة “يتواجد هنا عشرات آلاف الشباب من غير أبناء البصرة بحكم ندرة فرص العمل في محافظاتهم، وهم ينافسوننا في كل مجال ومستعدون للعمل بأجور أقل”.

ويضيف وهو يرفع صوته:”الفقراء ومحددو الدخل يعانون كثيراً في ظل قلة الشركات الصناعية الأهلية، واحتكار الأحزاب كل شيء فالشركات الكبرى تعمل بأمرها، ولا يمكننا العمل في أحدها اذا لم نكن منتمين لتلك الأحزاب، واذا سنحت لنا الفرصة فلن نكون غير عمال خدمات أو بناء أو أي مهنة اخرى شاقة وبأجور صغيرة”.

21% نسبة الفقر في البلاد

تبلغ نسبة الفقر في العراق الذي وصل عدد سكانه الى 43 مليون نسمة، وفقاً للمتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي، أقل من 21%، وذلك بموجب آخر مسح نفذته وزارته سنة 2018. ويقول في تصريح صحفي، أن مسحاً جديداً هو الاقتصادي الاجتماعي بوشر بتنفيذه في يوليو/تموز 2023 بمرحلتين وينتهي في منتصف سنة 2024.

ونوه الهنداوي، أن الحكومة العراقية تضع ملف الفقر ضمن أولوياتها، وان وزارته تحاول عكس ذلك من خلال سياستها وخططها التنموية في مكافحة الفقر، وان العمل يسير بمسارين متوازيين، الأول:”وضع استراتيجية جديدة لمكافحة الفقر لخمس سنوات 2024 – 2028″، والثاني”خطة التنمية الخمسية التي وصلنا إلى مراحل متقدمة في إعدادها، وستكون أيضاً لخمس سنوات مقبلة”.

ويضيف:”هذا إلى جانب إنشاء صندوق لدعم الممحافظات الأكثر فقراً، والذي ورد ضمن الموازنة الثلاثية 2023و 2024و 2025″ وهو يعتقد أن الظروف في العراق أفضل من السابق للتقليل من نسبة الفقر، مع ارتفاع عائدات النفط في العامين الأخيرين.

ويرى اقتصاديون ان تحسن توزيع مفردات “البطاقة التموينية” على ملايين العراقيين وبشكل شبه شهري، والتي تتضمن مواد غذائية رئيسية كالرز والدقيق والزيت والسكر وبعض البقوليات، ساعد في خفض معدلات الفقر في العامين الاخيرين، لكن ارتفاع معدلات البطالة والتضخم في الأسعار وتزايد متطلبات المعيشة الأساسية من سكن وتعليم وصحة، يبقي أكثر من ثلث العراقيين قرب خط الفقر.

وتقدر شركة “statista” الألمانية المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين بالعالم، معدل البطالة في العراق في العام 2022 بـ 15.55% وهو واحد من اعلى معدلات البطالة في العالم، مشيرة إلى أن عام 2021 شهد أعلى معدل للبطالة في العراق خلال آخر 20 سنة وبلغ 16.23%.

وهذه الأرقام تتوافق مع ما يورده المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي حيث يذكر بان نسب البطالة وفق مسح نفذه الجهاز المركزي للاحصاء بالتعاون مع منظمة العمل الدولية في العام 2021 مع تأثر البلاد بجائحة كورونا، وصل الى 16.5% بين السكان الذين هم بعمر 18 الى 63 سنة ومن النشطين اقتصادياً الذين يبحثون عن عمل، وهذه النسبة لا تضع بالحسبان ربات البيوت وطلبة الجامعة فهم يصنفون خارج شريحة القوى العاملة.

وترتفع نسبة البطالة في العراق للأعمار بين 18 – 30 سنة لتصل الى نحو 21%، وهذه تمثل مشكلة كبرى كون الشباب الأغر عمرا تمثل الشريحة الأكبر في البلاد ومع تخرج مئات آلاف من الجامعات والمعاهد سنويا وبحثهم عن فرص عمل والتي يعجز القطاع الحكومي عن تأمينها فيما يظل القطاع الخاص ضعيفا، وهذه المشكلة واضحة في محافظات جنوب البلاد بما فيها البصرة حيث معدلات انجاب الأطفال أعلى.

البعض من الإقتصاديين يشككون في إحصائيات وزارة التخطيط ويرون بأنها غير صحيحة، ومنهم الأستاذ الجامعي صفوان غانم، الذي يعتقد بأن نسبة الفقر أعلى مما هو معلن، بسبب التزايد السكاني الحاصل دون أن ترافقه خطط استراتيجية لتنفيذ مشاريع ذات نفع عام، وإعادة إعمار المصانع والمعامل المتوقفة وهي بالعشرات في البصرة ومحيطها أو إنشاء الجديد منها.

ويرى ان الحكومة لاتملك إحصائيات دقيقة بشأن الفقر والبطالة “لأنها لم تجر بكل بساطة منذ سنوات بعيدة، وكل ما يطرح أرقام تقديرية أو مسوحات غير دقيقة”.

هذا مع إقراره، بأن الوضع الراهن هو أفضل من الفترة التي شهد فيه العراق نشاطاً للجماعات المسلحة بين 2003 ومنتصف سنة 2017، إذ بدأ ما يصفه بنوع من التعافي الاقتصادي الطفيف “لكنه غير كاف، ويحتاج إلى المزيد من الجهد الحكومي من ناحية تفعيل المشاريع ومحاربة الفساد الذي يعرقل التنفيذ ويهدر الأموال، لخلق فرص عمل”.

ويشدد على أهمية دعم القطاع الخاص الذي مازال ضعيفا جدا ودونه لا يمكن حصول تعافي اقتصادي حقيقي.

فقر وعشوائيات بأغنى محافظات البلاد

معدلات الفقر المرتفعة التي تتجاوز الـ40% في محافظات جنوب العراق (المثنى، الديوانية، ذي قار، ميسان) وفق المسح الذي اجرته وزارة التخطيط نهاية عام 2018، تدفع عشرات الآلاف من سكانها الى الانتقال للبصرة للعمل فيها وهو ما يشكل ضغطا على المحافظة التي تضم أكثر من 3 ملايين نسمة، وبلغت نسبة الفقر فيها 16% وفق ذات المسح. ومع الشلل الاقتصادي الذي حمله انتشار فيروس كورونا في عام 2020 ارتفعت معدلات الفقر لأكثر من الضعف بحسب تقديرات غير رسمية، رغم كونها محافظة غنية بالنفط.

وتضم البصرة 59% من أجمالي الاحتياطي النفطي العراقي بواقع (15) حقلاً نفطياً، عشرة منها منتجة،  وخمسة في طور التأهيل والتطوير، الى جانب إحتوائها على (6) موانئ تجارية وهي:” ( أم قصر، خور الزبير، المعقل، ابو فلوس، العميق، وأخيراً ميناء البصرة ) بالإضافة الى المنافذ البرية كمنفذي الشلامجة وسفوان.

وتنتشر في البصرة كما في غالبية مدن الجنوب النفطية، العشوائيات، وهي أحياء كاملة بنيت خلافا للقانون ودون تخطيط دقيق، وباتت تشكل ما يشبه المدن الصغيرة، كما تنتشر الأحياء الشعبية الفقيرة ببيوتها ذات البناء البسيط، وهي في غالبها تفتقر للخدمات، رغم انها تضم نسبة كبيرة من سكان البصرة.

تلك المناطق تجسد واقعاً تحاول الجهات الرسمية إخفاءه عن العالم، وقد عمدت الحكومة المحلية الى بناء جدران عازلة لحجب الأحياء الفقيرة في المدينة خلال بطولة “الخليج” بكرة القدم التي جرت في البصرة مطلع العام 2023.

وفقاً لناشطين مدنيين فان تلك المناطق تسود فيها الصراعات العشائرية وتشهد نشاطاً لعصابات الجريمة المنظمة، التي تتاجر بشكل اساسي بالمخدرات، وهي في غالبها تملك نفوذ وأسلحة ما يجعل مهمة مواجهتها معقدة.

منطقة ساحة الاحتفالات وسط البصرة، هي واحدة من نماذج المناطق العشوائية، تقدر مساحتها بـ(5 كم2 ) وتسكنها أكثر من(2000) عائلة. كما أن هنالك أحياء عشوائية أخرى على امتداد جانبي شارع بغداد الذي يشكل مدخل مدينة البصرة من جهة محافظة ميسان وذي قار، وتبلغ أعداد العائلات التي تسكنها قرابة (150) الف عائلة.

كما تواجهك العشوائيات في مناطق الحيانية والقبلة وحي المهندسين والموفقية والعالية والعشار والجمهورية وحي الشرطة والامن الداخلي، ويقدر نشطاء أعداد المساكن العشوائية فيها بما يزيد عن (100) الف وحدة سكنية، بالإضافة الى العشوائيات خارج مركز البصرة مثل الزبير الذي يضم أكثر من (300) الف وحدة سكنية.

تلك المناطق وبنحو عام تفتقر إلى البنى التحتية، كالمستشفيات والمراكز الصحية والمدارس،  وخدمات الكهرباء والماء والطرق المعبدة، وتتكدس النفايات فيها لأنها ليست مشمولة بدخول شركات التنظيف، وتتجمع فيها مياه المجاري الآسنة لعدم وجود نظام صرف صحي.

عقدان من تلكؤ خطط التطوير والتنمية، مع الفساد المستحكم، وصراعات القوى السياسية والمليشيات على موارد البصرة، خَلَفَ مدينة بائسة رغم امكاناتها الهائلة، يعاني الجزء الأكبر من سكانها من سوء الأوضاع المعيشية نتيجة ضعف الاقتصاد وتردي الخدمات وغياب التطوير الحضري وفي ظل تزايد السكان والنزوح المستمر للمواطنين من خارجها.

تمايز طبقي

الناشط المدني زين العابدين الخويلدي، يقول:”منذ عام 2003 والى اليوم نلمس عدم مقدرة الحكومات المحلية المتعاقبة على تشييد مجمعات سكنية لإنقاذ سكان المناطق العشوائية من أوضاعهم المأساوية”.

يضيف بعد لحظات صمت:”نحن جميعاً نتهم سكان تلك المناطق بالإجرام والتخلف والجهل وغيرها من التهم، متناسين واقعهم المعيشي، وعدم سعي الحكومة الى توفير بيئة جيدة حاضنة لهم عن طريق سكن لائق وتعليم مناسب وصحة جيدة وغيرها من الأمورالأساسية”.

ويتابع:”بالمقابل نشاهد انتشاراً للمجمعات السكنية الحديثة في بعض مناطق البصرة، والتي تمتاز بأعلى مستويات الرفاهية والأمان وطبعا الخدمات، وتحيط بها جدران من الأسمنت وبوابات تمنع الآخرين من الدخول اليها. مجمعات غالبية سكانها من المسؤولين او أبناء الطبقة المترفة الجديدة”.

ومن أمثلة تلك المجمعات السكنية التي تحدث عنها الخويلدي:”مجمعي الأمل، والآمال، السكنيين الذين تبلغ مساحتهما قرابة ( 4 كم2 )، ومجمع النرجس الذي تبلغ مساحته ( 6 كم2 )، ويمتاز كل واحد من هذه المجمعات بنظام أمني متكامل وبنى تحتية ممتازة ومدارس وخدمات متكاملة.

ويتابع:” كانت الفكرة التي تم الترويج لها من بناء هذهِ المجمعات، هي أيجاد حل لمشاكل السكن وتمكين المواطن من اقتناء وحدة سكنية لائقة، وبناءً على ذلك تم تقديم تلك الأراضي بمساحاتها الواسعة من قبل الحكومة المحلية للشركات المنفذة بأسعار رمزية، لكن أسعار بيعها تضاعفت وباتت خيالية تبدأ من 350 مليون دينار عراقي وحتى مليار دينار، في ظل قلة المعروض ووجود حاجة لبناء عشرات آلاف المساكن الجديدة”.

ويعدد الخويلدي، طبيعة غالبية مالكي الوحدات السكنية تلك: مدراء عامون في الدوائر الحكومية، قضاة، اعضاء بمجلس النواب ومجالس المحافظات، سياسيون وأعضاء متنفذون في الأحزاب الحاكمة وتجار، وطبقة جديدة من الأثرياء. “هؤلاء أحاطوا أنفسهم بجدران عالية ولا يريدون ان يروا واقع البصرة وأحياء الفقراء ومتوسطي الدخل فيها”.

أجور متدنية

الناشط المدني حيدر باسم، يؤكد بأن جولة صغيرة في محافظة البصرة، كافية ليرصد فيها المرء مستوى الفقر المرتفع. ويضيف:”من غير المنصف محاولة تزييف حقيقة واقع البصرة والقول بأنها مليئة بفرص العمل، وان مستوى الأجور والرواتب يسد الحاجات الأساسية للعائلة”، متسائلا: “من يستطيع ان يعيش براتب 600 أو حتى 800 ألف دينار.. كيف يمكن تأمين مبالغ ايجار منزل أو مراجعة طبيب”.

ويشير إلى إحصائية أعلنها مكتب مفوضية حقوق الإنسان في المحافظة نهاية 2020 وهو العام الذي شهد انتشار فيروس كورونا، ذكرت فيها أن نسبة الفقر وصلت إلى 40%، ويستدرك:”أي أن هناك مليون و200 الف شخص لا يستطيعون تأمين حاجاتهم المعيشية الأساسية!”.

ويعدد الناشط حيدر أسباب شيوع الفقر في مدينة غنية كالبصرة:”توزيع غير عادل للثروات، والانتقائية في منح فرص العمل، وتدمير القطاع الصناعي والخاص، بل محاولة الأحزاب إبقاء الشباب في نطاق الفقر والحاجة كي تتمكن من إستغلالهم في سياساتها ولمصالحها”.

وعن الأجور المقدمة في المحافظة على مستوى القطاع الخاص، يقول حيدر:”الكثير من الشركات العاملة في القطاع الخاص تدفع الحد الأدنى من الأجور للعاملين لديها وفقاً لقانون العمل العراقي رقم 37 المعدل 2015 والذي حدده بـ 350 ألف دينار عراقي فقط”.

ودعا إلى تعديل القانون ليتماشى مع الوضع الاقتصادي الراهن، ويستدرك:”بالتأكيد حسب هذهِ الأجور ومع عدد ساعات العمل الطويلة لا يمكن للعاملين تأمين حتى احتياجاتهم الشخصية وليس حاجات عائلاتهم”.

كما دعا الحكومة المحلية لاطلاق مجموعة من المبادرات “كافتتاح معاهد للتدريب على مهن وحرف مطلوبة في السوق، وأن تمنحهم بعد ذلك قروضاً مالية تساعدهم على بدء مشاريعهم الخاصة في سوق العمل الحر”.

وكان وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي، قد ذكر في تصريح له أواخر سنة 2022، أن الحد الأدنى لرواتب العمال سيكون 450 ألف دينار، تعادل( 346دولار أمريكي) مع إقرار قانون الضمان الاجتماعي، لكن لم يحدد موعد رفع الحد الأدنى، وهو أمر يحتاج مسبقاً إلى إقرار برلماني.

عضو مجلس النواب عن محافظة البصرة، عدنان الجابري، يقول بأن هنالك ثلاثة أسباب للبطالة وتدني الأجور الذي يبقي نسبة كبيرة من أبناء المحافظة ضمن خط الفقر، وهي:”مزاحمتهم من قبل العمالة الوافدة من باقي المحافظات، وعدم وجود شفافية في آلية التشغيل بكل القطاعات، وعدم امتلاك اغلب الشباب البصريين للخبرات المطلوبة في سوق العمل لعدم وجود دورات تأهيلية تطورهم من الجانب العملي”.

ويعتقد بأن الحل يكمن بوقف العمالة الوافدة وبنحو كلي “خصوصا العمالة الأجنبية”، وأن يكون هنالك اهتمام من الحكومتين المحلية والمركزية بتدريب وتأهيل الشباب وتطوير قدراتهم، محذرا من أن الفقر والبطالة سيؤديان إلى تفاقم مشكلات أخرى وصفها بالخطيرة كتفشي المخدرات والعنف وهجرة الشباب إلى خارج البلاد.

وعلى الرغم من العدد الكبير لسكان البصرة، إلا أن أعداد الموظفين الحكوميين فيها لاتتجاوز 90 ألف موظف، وفقاً لعضو مجلس النواب السابق رحيم الدراجي، الذي يقول بأنهم يتوزعون على دوائر تابعة لوزارات التعليم والصحة والكهرباء والزراعة والنفط وديوان المحافظة.

ولا يمكن للتوظيف الحكومي استيعاب ملايين العاطين في البلاد، لكن مع ندرة فرص العمل في القطاع الخاص يتقدم سنويا مئات آلاف الشباب خاصة من خريجي الجامعات للوظائف المعلنة على أمل الفوز بفرصة تعيين. وفي مؤشر على حجم المشكلة كان قد تقدم أكثر من 8 ملايين عراقي بطلبات توظيف لدى جهاز «مكافحة الإرهاب» خلال 24 ساعة، وفق ما أكده رئيس جهاز مكافحة الإرهاب الفريق الركن كريم التميمي.

ويلفت الدراجي إلى أن أغلب المواطنين في البصرة عاملون في القطاع الخاص، وان مستوى دخل الفرد أو ما يجنيه لا يسد الحاجة اليومية بسبب ارتفاع أسعار السلع واجور بعض الخدمات، كالطبية، وكذلك ارتفاع اسعار العقارات. ويذكر:”على أي حال فأن دخل العامل لايتخطى الـ25 ألف دينار في اليوم الواحد”.

                                       تلاشي الطبقة الوسطى

مشكلة الفقر والعشوائيات لاتقتصر على مدينة البصرة مركز المحافظة فقط، بل أيضاً تمتد إلى الأقضية والنواحي المرتبطة بها، ففي قضاء الزبير البالغ عدد سكانه نحو نصف مليون نسمة هنالك أكثر من 44 ألف عاطل عن العمل مسجل، وفقاً للناشط المدني نور الدين الخيكاني، الذي يسكن في محلة العرب، بالزبير.

الخيكاني قام مع مجموعة من الناشطين في المدينة بالتعاون مع مكتب تشغيل الزبير، بإعداد قاعدة بيانات تتعلق بالعاطلين هناك ممن تقدموا للحصول على عمل، وتوصلوا فيها إلى أعدادهم وقدموها إلى قائم مقام قضاء الزبير. طبعا القائمة لا تضم آلاف العاطلين الآخرين ممن لا يثقون بجدوى تسجيل أسمائهم، وممن لم يسمعوا بها أصلا.

وينبه الخيكاني، الى أن الطبقة المتوسطة في البصرة تلاشت “هنالك فقط طبقة الفقراء ومحدودي الدخل وهم الأغلبية الساحقة، الى جانب طبقة الأغنياء وأغلب هؤلاء من العائلات التي تربطها علاقات بالأحزاب والسلطة الحاكمة”.

ويقول بأن قضاء الزبير ممتلئ بالنازحين من خارج محافظة البصرة، أغلبهم هرب من الفقر المدقع وجفاف الأراضي الزراعية في محافظتي ذي قار والمثنى، وهم يمارسون ما متاح من أعمال حرة، كالعمل بصفة سائق تكسي أو في أفران الخبز أو الأعمال الإنشائية كالبناء وبأجور متدنية.

لا ينكر مسؤولو حكومة البصرة الأزمات التي تعيشها المحافظة، لكنهم يؤكدون اطلاق مشاريع لتحسين الواقع المعيشي والخدمي، معلنين عن توزيع 32 الف قطعة أرض سكنية على شرائح مختلفة بسعر رمزي، وعن مشاريع لتطوير شبكات المجاري والطرق الى جانب توفير المياه للاستهلاك المنزلي، وهي مشكلة مزمنة حيث يشتري سكان المحافظة المياه من شركات خاصة.

واعلنت حكومة البصرة في نهاية العام 2019 عن تخصيص 30 الف درجة وظيفية في مختلف المؤسسات الحكومية لأبناء البصرة لتخفيف أزمة البطالة.

وضمن الموازنة الاتحادية للعام 2023 التي تضمنت استحداث 150 الف درجة وظيفية في عموم العراق، بلغت حصة البصرة منها 13295 درجة، تقدم اليها أكثر من 340 ألف شخص، في مؤشر واضح على حجم البطالة.

موازنات انفجارية وتظاهرات

بلغت التخصيصات المالية للبصرة في موازنة العام 2023 نحو 2 ترليون و800 مليار دينار، بحسب مدير قسم التخطيط والمتابعة في ديوان محافظة البصرة ولاء عبد الكريم، بينها تخصيصات البترودولار التي بلغت 1447 مليار دينار، وتخصيصات تنمية الأقاليم بـ 187 مليار دينار، والتي ستؤمن الأموال للائحة طويلة من المشاريع، فضلا عن تخصيصات إستراتيجية مكافحة الفقر بـ 5 مليار و600 مليون دينار.

الى جانب تخصيصات لمشاريع أخرى مثل محطة تحلية المياه بـ 500 مليون دولار، ومشروع إنشاء الطريق الحولي بـ 100 مليار، وانشاء مركز معالجة السرطان والكلى بـ20 مليار، والمرحلة الأولى لمشروع جامعة النفط والغاز بـ 50 مليار، ومشروع البصرة عاصمة العراق الاقتصادية بـ 200 مليار، وتخصيصات اخرى بمبلغ 260 مليار دينار .

يعلق ناشط مدني فضل عدم ذكر اسمه، على ما وصفه بالاعلانات الحكومية عن خططها للتنمية، قائلا “نعم هناك حركة اعمار بعد عقدين من الشلل التام، لكن كل ذلك لا يشكل الا نقطة في بحر حاجات البصرة”، مشدداً ” رغم الموازنات الانفجارية التي تعادل موازنات دول، لا تغير حقيقي حصل في واقع البصريين المعيشي والسكني والتعليمي والصحي”.

والى جنب معضلتي الفقر والبطالة، يعدد الناشط ثلاثة مشاكل تزداد تعقيدا وخطورة دونما حل “الأسلحة ونزاعات العشائر والفصائل، تضاعف متعاطي المخدرات، والتلوث القاتل الذي بات في الماء والهواء والتربة”.

في ظل الواقع المتردي للبصرة، خرج أبناؤها في عشرات التظاهرات خلال السنوات القليلة الماضية احتجاجا على سوء الخدمات واستشراء الفساد في تنفيذ عقود البناء وهدر مليارات الدولارات، وكانت ذروتها في أيلول سبتمبر 2018 إثر تسمم آلاف الأشخاص من جراء تلوث مياه الشرب، وفي حزيران يونيو وكذلك تشرين الأول اكتوبر 2019 في ظل تعثر وفشل تنفيذ عقود المشاريع التي تتحكم بها احزاب نافذة وفصائل مسلحة تتدخل في عمليات الاحالة والتنفيذ ومع غياب المحاسبة.

عودة مجالس المحافظات؟

هنالك في البصرة، من يؤمن بأن عودة مجلس المحافظة سيساعد على إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية وتقليل مستوى البطالة باعتبار ان المجلس سيركز على خدمة اهل البصرة، إلا أن آخرين يعتقدون بخلاف ذلك، ومنهم الناشط المدني عمار الحلفي، الذي يقول بأن عودة المجالس “تعني عودة الفساد والصفقات وهيمنة الكتل السياسية على المشاريع بنحو أكبر، وعرقلة كل طرف مشاريع الطرف الآخر لاستهدافه سياسيا”.

ويشير إلى أن الواقع الخدمي تحسن نسبياً منذ توقف عمل مجالس المحافظات قبل سنوات، ويعود للقول:”قبل ذلك لم نشاهد سوى الفساد، فضلا عن استنزاف الأموال لتغطية مخصصات أعضاء المجالس التي تثقل كاهل الدولة، وسيميل أعضاؤه كالعادة إلى تشغيل عناصر أحزابهم والقريبين منهم فقط وستظل البطالة متفشية والفقر في ازدياد”، على حد تعبيره.

لكن الناشط المدني علي النور، يرى أن عودة مجلس المحافظة “ضرورة ملحة للوقوف على المشاكل التي تعانيها البصرة بسبب تفرد ديوان المحافظة في اتخاذ القرارات طوال الفترة السابقة، ولإيجاد الحلول لها”.

ومن إيجابيات وجود مجلس محافظة بالنسبة إليه:”المتابعة والرقابة، فالبصرة تواجه مشاكل يتوجب على المجلس متابعتها بعد سنوات خلت فيها الساحة لديوان المحافظة الذي عمل من أجل مصالح شخصيات دون مصلحة المواطنين”على حد تعبيره.

ومن بين الملفات الواجبة البحث حسبما يقول:”السكن والبطالة وارتفاع الأسعار وعمل الشركات المتلكئة في مشاريعها والتي تخالف القانون بتشغيلها اياد عاملة اجنبية فوق النسبة المحددة”.

البحث عن راتب مجزي

علي شاكر حسين(33سنة) من منطقة دور نواب الضباط، أب لطفلتين من ذوي الإحتياجات الخاصة، يتنقل بين الأعمال أو كما يسميها المحطات الشاقة، عله يحصل من أحدها أجراً مجزياً يدفعه للإستقرار.

“لكن دون جدوى” يقول وهو يضرب يديه ببعضهما “ابنتاي معاقتان ذهنيا منذ الولادة، ويتوجب علي توفير الأدوية وجملة من المستلزمات بشكل دوري لهما، وهذا ما لا أستطيع القيام به في الغالب، لأن الوظائف التي أحصل عليها اجورها غير كافية”.

هو مختص بالإسعافات الميدانية، ومدرب حراس أمنيين، ويتحدث الأنكليزية، لكن وعلى الرغم من ذلك، تنقل في العمل خلال سنوات بين خمس شركات، وكان يتركها واحدة تلو الأخرى بسبب الأجور الزهيدة التي تمنحها للعاملين من أمثاله.

آخرها شركة اتصالات عمل فيها بنحو يومي من الثامنة صباحاً حتى السابعة مساءً مقابل أجر يومي بلغ 16 ألف دينار (12 دولار أمريكي) دون ضمان اجتماعي أو صحي أيضا أو أجور نقل وطعام.

وقبلها عمل بصفة عامل في شركة نفطية براتب شهري مقداره 400 دولار، ثم خيرتهم الشركة بين ترك العمل أو القبول بتخفيض الراتب إلى 400 ألف دينار (307 دولا أمريكي)، فترك العمل مضطرا.

يقول بنبرة حزن:”أعاني كثيراً لايجاد عمل يؤمن الحاجات المعاشية لأسرتي ومعالجة أبنتي المريضتين، لكن الأمور محسومة دائماً لصالح فئة محدودة هم مسؤولو الأحزاب ومن يوالونهم، هم يستحوذون على الفرص والوظائف، ويشيدون منازل أحلامهم كما متاجرهم الخاصة بل ومدارسهم وجامعاتهم، ويوسعون تجارتهم وأرباحهم، لهم عوالمهم الخاصة”.

يسكت لبرهة ثم يتابع:”أما نحن الأغلبية، فعلينا الجري في عوالم البطالة والفقر وتردي الخدمات  والعيش ولو على حد الكفاف”.

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":23090}" data-page="1" data-max-pages="1">