رياض الحمداني: على أبواب مخيم السلامية جنوب شرقي الموصل، وقفت تطالع السياج الذي يطوق المكان، قالت بصوتٍ مبحوح وهي تمسح دموع التمعت في عينيها بينما أشارت بسبابتها إلى مجموعة صبية كانوا يجتمعون على مقربة منها: “بهؤلاء الجنود سأنتقم من المختار وأهالي الناحية واهدم دورهم على رؤوسهم”.
ساد الصمت المكان فيما ظل الصبيةُ يطالعون وجه جدتهم الذي مال الى اللون الأحمر، لم يكن اكبرهم يتجاوز الرابعة عشر من عمره وبالكاد بلغ أصغرهم الرابعة.
طوال ثلاث سنوات حاولت فاطمة موسى حميد البالغة ستين عاماً، والتي انتمى زوجها وأبناؤها الثلاثة لتنظيم الدولة الإسلامية، العودة الى منزلها الواقع في ناحية الشورة جنوبي الموصل، لكنها فشلت رغم تقديمها “بلاغ تبرئة” عنهم للسلطات العراقية، بسبب الرفض الشديد الذي ابداه أهالي بلدتِها لعودتها، وهذا ما دفعها الى التهديد.
تتذكر الجدة فاطمة جيداً تاريخ 27 تموز 2017 تقول “في ذلك اليوم المشؤوم انتهت دولة الخلافة” تصمت وهي تمسح دموعها بشالِها الأسود وتكمل “اضطررت لجمع زوجات أبنائي وأحفادي البالغ عددهم 27 طفلاً واتجهت بهم الى المخيم، واليوم أنا ابحثُ عن وسيلة من اجل العودة الى داري لكن لا سبيل لذلك”.
إبراهيم احمد الجبوري هو زوج فاطمة وقد قُتل بغارة جوية عراقية حسب قولها، اما أولادُها الثلاثة “خالد ووليد ومصطفى” فهم بين مقتولٍ اثناء تحرير شارع الفاروق في ايمن الموصل، وبين مفقودٍ وأصغرُهم في قبضة القوات العراقية.
بحسب مسؤول أمني بارز، رفض الكشف عن هويته، هناك ما يقارب “14767 عائلة” هم عوائل ينتمي فرد او فردين او أكثر من ابنائهم الى تنظيم الدولة الإسلامية، هذه العوائل لا تنتشر فقط في المخيمات وإنما في أماكن متفرقة تواجه ذات الظروف.
ويحذر باحثون في المجال الأمني من مشكلات سيخلفها عدم دمج عوائل التنظيم في المجتمع، كما حذر تقرير امريكي مؤلف من 76 صفحة أعده معهد “دراسات الحرب (ISW)، وهو مؤسسة أبحاث غير حكومية مقرها واشنطن، بعنوان “عودة داعش الثانية: تقييم تمرد داعش المقبل”.
أوضاعُ النازحين في المخيمات
تضم محافظة نينوى خمس مخيمات للنازحين من الحرب بين القوات العراقية وتنظيم داعش، معظمها تأوي افراد عوائل التنظيم، وهي (مخيم الجدعة 1، الجدعة 5، حمام العليل، جبل سنجار، ومخيم السلامية)، وجميعها تُدار من قبل المنظمات الدولية وبالتنسيق المشترك مع وزارة الهجرة العراقية.
يقول خالد عبد الكريم العبيدي مدير الهجرة والمهجرين في نينوى أن أعدد النازحين حالياً في المخيمات يبلغ “13025 عائلة، تضم 61000 فرد”.
حيثُ أوضح العبيدي ان هذه المخيمات تعاني النقص التدريسي حالها كحال المحافظة على الرغم من فتح رياض الاطفال والابتدائية بالتنسيق مع المنظمات، لكنها تتعامل مع هذه المخيمات كما لو انها حي من أحياء المدينة.
وأشار العبيدي ان عمل دائرة الهجرة والمهجرين يقتصر فقط على “تقديم المساعدات الإغاثية وتوزيع المادة النفطية بصورة منتظمة” إلا إن الدعم أحيانا يختلف باختلاف المنظمة سواء كان في إدارة المخيم أو القطاع الخاص.
أما المنظمات الإنسانية العاملة في المخيمات يقول احمد صبحي القرغولي ممثل منظمة بريدج للإغاثة والتنمية في العراق نحن كمنظمة إنسانية نفذنا برامج داخل المخيمات منها العلاج النفسي للأطفال لكن “هناك نقصٌ كبير في الامكانيات والمشكلة الأساسية يجب أن يكون هناك برامج خاصة بالأطفال والعائلات”.
ويضيف القرغولي “يجب أن تتعاون عدة منظمات مع بعضها لإعادة الأطفال ودمجهم بالمجتمع وبالتعاون مع الحكومة والأُمم المتحدة”، لان العائلات لاتزال عالقة عليهم ملامح الخوف والقلق من “المصير المجهول”.
فيما أشار العبيدي لبرنامج عودة “عوائل الدواعش” المتمثلة بالأطفال والنساء فهي من مهمة “لجان المصالحة الوطنية”، إذ إن هنالك مناطق أستقبلتها بالعودة على عكس مناطق رفضت العودة اليها رفضاً شديداً مثل منطقة “الشورة والقيّارة جنوبي الموصل”.
لماذا البقاء في المخيم؟
من الناحية الإنسانية أكد القرغولي بأنه لايحق للحكومة ان تترك هذه العوائل في ظروف صعبة وفي أماكن تفتقر الى ابسط الخدمات، ويجب أن تكون هناك خطة حكومية لتوفير متطلبات الحياة الأساسية، كما ان الحكومة تعتبر الراعي لتلك العائلات ويجب أن توفر لهم ما يحتاجونه.
حيثُ أشار القرغولي ان “دور الحكومةِ ضعيفٌ في هذا الجانب”، فقد مضى على وجود الأطفال في هذه المخيمات خمسُ سنوات، ومن الضروري توفير متطلباتهم الأساسية لإعادتهم الى مدارسهم ومسح مشاهد الحرب من ذاكرة الاطفال وهو أمرٌ في غاية الأهمية ويجب أن يكون للحكومة دور واضح في ذلك من اجل إعادة دمجهم في المجتمع.
الكثير من العائلات اضطرت للبقاء في المخيمات وفي ظروف إنسانية صعبة بسبب انتماء احدِ أبنائها لتنظيم الدولة الإسلامية، وذكرت مصادر استخبارية رفضت الكشف عن اسمها ان عدد أطفال عوائل التنظيم المتطرف في هذه المخيمات بلغت “17364 طفل” إضافة الى الأطفال المجهولي الهوية حيث بلغ عددهم “743 طفل” منهم من تم تبنيه من بعض العوائل.
وذكر القرغولي أن عدة أسباب تمنع عودة العائلات الى مناطقهم منها “الاجتماعية والأمنية والعشائرية”، لكن ينبغي أن تكون الحكومة الراعي لهذا الأمر ووضع خطة لإعادتهم دون حدوث مشكلات، وقد حدثت خروقات في مناطق مختلفة مما ولد خرقاً أمني ويجب على الحكومة وضع حد وخطة وبرنامج سليم دون أي مشكلات متوقع حدوثها.
وذهاباً الى مجلس القضاء الاعلى في بغداد أكد أحد قضاة الإرهاب رفض الكشف عن اسمه أن “التبرئة” هي ليست قانوناً ولا يوجد لها أصل في القانون العراقي وإنما هي “عرف” تبناهُ القضاء من اجل تسيير معاملات العوائل المنتمي أحد أبنائها لتنظيم الدولة الإسلامية.
ويُشيرُ القاضي الى ان هذه العوائل بعد أن تكمل “إجراءات التبرئة” يحق لها العودة الى منازلها ، لكن هناك مناطق يمنع شيخ العشيرة او المختار او مسؤول الحشد من عودتهم ، وان مثل هذه التصرفات تعتبر “فردية” لكنها تؤثر على تماسك المجتمع ، لان منع هذه العوائل من العودة سيجعلهم ينظرون بنظرة “حقدٍ وكره” ، فهم ضحايا سياساتٍ خاطئة ، محذراً من انها مسألة وقت ، وربما سيعودون مرة ثانية من أجل “الانتقام”.
مُشكلاتٌ اجتماعية وعشائرية
يقولُ ممثل عشائر جنوب الموصل لدى هيئة الحشد الشعبي أبو يحيى الحاتم أن بقاء العوائل في المخيمات شيء سلبي وتترتب عليه قضايا مستقبلة، ويعتبر هذا “نذيرُ شؤم” لان الفكر الذي يحملونه “فكرٌ مقيت” وهؤلاء لا يمكن محاسبتهم على ذنب اقترفه الأب او الأخ وهناك في كل منطقة بجنوب الموصل مختار او شيخ عشيرة يمنع عودتهم الى منازلهم.
ويُكمِلُ الحاتم قائلاً إن البعض من هذه العوائل لا تريد العودة “خوفاً من العداء العشائري” لكن يفترض بالحكومة ان تقوم بالتنسيق مع العشائر ومختاري المناطق ضمن نطاق قانوني معين من اجل تغيير هذه الأمور وإعادة دمجهم بالمجتمع، محذراً من لغة العنف التي سيتخذونها في المستقبل، بسبب عزلهم وعدم الاهتمام بهم.
أمُ محمد 44 عاماً، زوجها تورط بالانتماء لتنظيم الدولة الإسلامية لمدة شهر واحد إبان سيطرته على المدينة، عادت مع اطفالها الى منزلها في ناحية الشورة جنوبي الموصل، بعد ان سلم زوجها نفسه للسلطات الأمنية وقد حكم 15 عاماً، في سجن الحوت بمحافظة ذي قار جنوبي العراق.
يقول الرائد احمد وهو مقاتل من الحشد العشائري جنوبي الموصل “إن زوج أم محمد لا يحمل فكر متطرف وانضم إليهم بسبب العوز المادي ولحماية اطفاله من الجوع الذي أصاب الناس آنذاك”، وينوه إن زوجها “لم يحمل سلاح ضد الناس” لذلك تم السماح لعائلته بالعودة الى منزلهم.
فيما مدد مجلس الأمن الدولي تفويض بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق عاماً آخر وقالت البعثة إنه بتبنّي القرار “2470 لعام 2019” بالإجماع بموجب الفصل 6 من ميثاق الأمم المتحدة، ووفقًا للقرار، تم أيضًا تفويض يونامي – وبالشراكة مع حكومة العراق – بتشجيع ودعم وتيسير تنسيق وتقديم المساعدة الإنسانية للنازحين والعودة الآمنة والمنظّمة والطوعية أو الاندماج المحلي، حسب الاقتضاء، للاجئين والنازحين، بما في ذلك من خلال جهود فريق الأمم المتحدة في العراق.
اتهام حكومة عبد المهدي
أشار رئيس مركز الفكر السياسي العراقي الدكتور احسان الشمري أن لجان المصالحة الوطنية التي شُكلت في مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي آنذاك وما بين ممثلي اليونامي، أخذت بنظر الاعتبار كل المشكلات، وكانت أقرب إلى الواقع وحصلت هناك اجتماعات مطولة فيما بينهم حول هذا الموضوع، ووضعت إستراتيجية للتحرك بالتعاون مع رجال الدين والحكومات من أجل العمل.
الشمري اتهم حكومة عادل عبد المهدي التي أتت بعد العبادي انها لو مضت لتطبيق هذا البرنامج من أجل المصالحة المجتمعية كنا سنرى وضعاً مختلفاً لإعادة دمج العوائل بالمجتمع واستطعنا حسم كثير من القضايا عشائرياً لكن المؤسف إن حكومتهُ “أسقطت هذا المشروع”.
تحذيرات …
فيما حذر أستاذ علم الاجتماع حازم حسام الزبيدي من بقاء هذه العوائل في المخيمات لأنها تؤثر على “التماسك الاجتماعي” وهذه العوائل كانت جزء من مجتمع والآن اصبحت غير مرحب بها وهذا بدوره خلق “فجوة أدت الى التأثير على التماسك الاجتماعي”، فلم يعد هناك تفاعل وتواصل اجتماعي فيما بينهم لان الكثير من الناس ليس لديه رغبة في زيارة هذه العوائل او حضور مناسباتهم، بل حتى علاقات الزواج لم تكن كما كانت سابقاً، واليوم الكثير منهم عندما يقبل على الزواج يبتعد عن العوائل التي لها صلة قرابة بداعش.
عبد الله ذو الخمسة عشر ربيعاً، كان يقف امام الجدة فاطمة بملابسهِ المهترئة ويحملُ عصا يلوّحُ بها، يقولُ لها “حبوبه علمونا الكثير في معسكر اشبال الخلافة على أنواع الأسلحة والاقتحامات وكل شيء”، تردُ الجدة: “أملي بكم وأنا أدعو الله ان ينصركم من أجل اخذ كل الحقوق”.
ويشيرُ حازم الزبيدي أن هذه العوائل سيكون لها تأثير على المجتمع لما تحمله من افكار ستنقل الى أطفالهم، مما يستوجب على الجهات المختصة معالجة هذه الأفكار التي نقلت الى هؤلاء الأطفال كي لا تكون عبئ على مجتمعنا والتي بدورها تمثل سبباً رئيسياً في “خلق فجوة مجتمعية في المستقبل”.
ويبين الدكتور إحسان الشمري أن “استمرار هذه العوائل لا يرتبط فقط بمشاكل اجتماعية، هناك تداعيات على المستوى المتوسط والبعيد، فالأمر يرتبط بالجانب التعليمي والثقافي والعزلة تولد المشكلات الكبيرة والكثيرة مع المعاناة المستمرة”، ونحن بالسنة الثالثة لإعلان الانتصار على داعش، ولا يمكن القبول بوجود المخيمات وحياة النزوح الداخلية، وهذا الى الآن يعتبر “مؤشر تفاقم أزمات قادمة ويمكن أن يستغل داعش هذه الثغرة للنفاذ”.
وقد عقد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في كانون الثاني (يناير) 2017 شراكة مع لجنة تنفيذ ومتابعة المصالحة الوطنية لإطلاق مشروع دعم المصالحة المتكاملة في العراق، ويدعم هذا المشروع جهود تعزيز المصالحة باعتبارها طريقاً إلى عراق أكثر بعداً عن العنف وأكثر تمثيلاً ومرونة، وتبلغ موازنة مشروع دعم المصالحة المتكاملة في العراق 50 مليون دولار أمريكي على مدى 5 سنوات.
وفي آب 2019 أعلنت “هيومن رايتس ووتش” أن السلطات المحلية طردت قسراً أكثر من ألفي عراقي من مخيمات النازحين في محافظة نينوى، وأُجبر البعض على العودة إلى مناطقهم الأصلية رغم مخاوف حيال سلامتهم، بما فيها التهديد من جيرانهم السابقين الذين يعتقدون أن لهم علاقة بتنظيم “الدولة الإسلامية”، وهوجم بعضهم بقنابر صوتية سقطت على منازلهم، فيما منعت سلطات نينوى تحرك أُسر حاولت مغادرة المخيمات لتجنب الطرد.
وأعلنت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية، في أيلول سبتمبر 2019، إغلاق أربع مخيمات للنازحين في محافظة نينوى شمالي العراق وإعادة سكانها إلى مناطقهم الأصلية وقال وزير الهجرة والمهجرين، نوفل بهاء موسى، “تم إغلاق أربع مخيمات تتخذها العوائل النازحة سكناً لها، وهي، الجدعة الثاني والثالث، والمدرج، والسلامية الثالث، في محافظة نينوى”.
*انجز التقرير بدعم منظمة (cfi) ضمن مشروع “تفاءل” 2020
المزيد عن قصص
Stories
قصص","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":18375}" data-page="1" data-max-pages="1">