“الإعمار والتنمية، عراق متقدّر، على قدر أهل العزم، الإعمار والتنمية، لا تضيعوها، قوة القرار، على قدر أهل العزم، دولة القانون، حقوق، نحن أمة، الأساس، الإعمار والتنمية، منقذون، البديل، عراق قوي، عراق مقتدر، عراق عراق… إلخ”. هذا ما ترصده عين الراكب في شارع ليس رئيسياً من العاصمة بغداد، خلال أقل من دقيقة. هذه وغيرها من الشعارات الانتخابية حاصرت المساكن والمحال والشوارع، في عشوائية ضيّعت ملامح المدن المشوّهة أصلاً. لافتات وقطع وبوسترات رُصِدَت لها مبالغ كبيرة، تتفاوت تلك القطع في حجومها وألوانها، وتتشابه في أنها خطابات لكُتَلٍ وتحالفات تتبارى استعداداً ليوم 11 من تشرين الثاني، يوم انتخابات مجلس النواب في دورته السادسة.
ما تخفيه هذه العبارات الدعائية أكثر مما تُفصحه، فهي مراوِغة وغير مفسرة وضبابية بقدر ما هي واضحة، إنها تُضمِر صراعاً خفياً، وانغلاقاً سياسياً، وتنافساً حاداً تتوالى فصوله من حرب تمزيق الصور بين “عزم” و”تقدّم” في الأنبار وسامراء، وتمزيق وجوه المرشحين في مدينة الصدر، معقل التيار الصدري المقاطع للانتخابات، إلى اتهام الأطراف الشيعية لبعضها باستغلال موارد الدولة للدعاية والكسب الانتخابي، ولا تنتهي باغتيال مرشح “سيادة” صفاء المشهداني في الطارمية.
الشعار بوصفه تاريخاً قصيراً لصاحبه ترتبط العديد من هذه الشعارات بتاريخٍ فوري يسهل استدعاؤه، ذهب بعضها إلى نقد ضمني للعملية السياسية أو للحكومة الأخيرة تحديداً، غير أن ذلك ليس الأفق الوحيد للدعاية والخطاب والشعارات. فمنها خطابات ذات بعد مناطقي، وآخر طائفي، في بيئة سياسية لا تعبر فيها الشعارات عن الأهداف بالضرورة.
كتلة “منقذون”، التي لم توضح في أدبياتها الشحيحة، نظراً لعُمر الكتلة، لماذا “منقذون” ومِنْ ماذا، ترفع شعار “معاً لإنقاذ العراق” وتستخدم السفينة رمزاً للكتلة، رمزٌ يمكن تفسيره على نحو شائع بأنه إنقاذ من الغرق، غير أن الشعار وحده ليس كافياً لتفسير أفكار الكتلة، وهذا ما أوقعه في عمومية تخلو من الوضوح والمُباشَرة.
وهذا ينطبق أيضاً على شعار “البديل”، الذي وإن بدا خطابه أكثر تماسكاً، في كونه كتلة مدنية تطمح إلى أن تصبح بديلاً سياسياً، إلّا أنه لا يخلو من العمومية، ويقترب من خطابات الآخرين، فهو كتلة “تعوّل على الخط العشائري” في وقت تشكو فيه من سطوة المال السياسي على الانتخابات. فيما ينسجم تصميم الشعار مع فكرة خطاب التحالف، مستخدماً دلالة “إعادة التحميل” شعاراً رمزياً.
تتكئ قائمة رئيس الوزراء على إنجازات الحكومة في الإعمار والتنمية. كُتب اسمُ الكتلة بثلاثة أسطر شاقولية، لينتج شكل إنشائي يوازي الشعار “الإعمار”، ينتهي برافعة دلالة على “إنجازات” السوداني خلال دورته. فضلاً عن ذلك، استخدم المرشحون في الكتلة إضافة إلى صورهم صورة السوداني في الخلف، وهو يرتدي خوذة بيضاء إشارة إلى تخصصه “الهندسة”، ومحاولة للربط المباشر بين المشاريع الخدمية التي تحققت مؤخراً وبين قائمة لا تنفصل عن الحكومة، وهذا ما يعتبره الخصوم السياسيون تجييراً للمشاريع الحكومية لصالح الكتلة. ويعد في الوقت ذاته استغلالاً لموارد الدولة، وقد اتضح هذا الخطاب بعد نزول رئيس الوزراء إلى ملعب كربلاء، حيث أقام المؤتمر الانتخابي لكتلته.
الاستثمار في الهشاشة تتعدّد العلامات وتشتبك أحياناً، حيث تحالف “خدمات” استخدم في شعاره نصف عجلة مسننة تضم داخلها خارطة العراق، في إشارةٍ تبدو صناعية ميكانيكية بحتة، لكن خطاب الكتلة لا يشير إلى ذلك بوضوح. فالشعار مرفق بثلاثة وعود مستقبلية: “عدالة، تنمية، إعمار”، حتى بدا الشعار مفرغاً من ميزته، مقترباً بذلك من شعار “الإعمار والتنمية”، وقاطعاً وعوداً كلية ليس هناك ما يجعلها واقعية، خصوصاً وأن الكتلة لديها جناح مسلح خارج إطار الدولة، ولم يكن لها تاريخ في التمثيل النيابي.
رغم التفكك الظاهري للإطار التنسيقي، إلّا أن السباق الانتخابي وضع “منظمة بدر” وكتلة “صادقون” التي تمثّل فصيل “عصائب أهل الحق” في الفضاء الرمزي نفسه، يبحث الأول عن “عراق مقتدر” والآخر عن “عراق قوي”، دون أن يوضح أيٌّ منهما شكل وملامح ذلك العراق القوي المقتدر. وقد يكون لهذه الشعارات إحالة مباشرة لما تعرضت له سيادة البلاد من انتهاكات خلال أحداث الشرق الأوسط الأخيرة، وحرب الـ 12 يوماً بين إسرائيل وإيران، حسبما يشير خطابهم وتاريخهم مع رئيس الوزراء الحالي، حيث يشتركان -بدر والعصائب متمثلة بصادقون- في الاتجاه نفسه باصطفافهما ضمن “محور المقاومة”، رغم أن انتهاك السيادة ليس جديداً على العراق، فالانتهاكات التركية شمال البلاد والاغتيالات التي نفذت في الداخل لا ترتبط بالحكومة الحالية قدر ارتباطها ببنية النظام السياسي الهشّة.
تحاول كل من الكتلتين “صادقون” و”بدر” الربط بين أحداث المنطقة وضعف العراق، لاستثمار الأحداث منذ السابع من أكتوبر 2023، رغم أنهما شريكتان في العملية السياسية، وهما ضمن ما صار يعرف في الأدبيات السياسية بـ”الإطار التنسيقي”، الذي انبثقت منه الحكومة “الضعيفة” التي يشيران إليها بشكل غير مباشر في شعاراتهما. وليست قائمة رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، “ائتلاف دولة القانون” بعيدة عن هذا الفضاء في شعارها التقليدي الذي لم يتغير، باستخدامه رمزية ميزان العدل، فهي تشير إلى “قوة القرار” و”قوة وازدهار”. ورغم أن هذه القائمة ترتبط بمفهوم “البَطَل” وتحاول بلورته من خلال الخطاب والرموز والإشارات، إلّا أنها في الوقت ذاته لا توضح مكامن الضعف المقصودة.
عودة الرقم واحد “دولة القانون” لم تتخلَّ عن خطابها الذي لا ينفك يرتبط برمزية رئيس الوزراء الأسبق نوري كامل المالكي منذ تشكُّلها، غير أن هذه المرة تبدو الكتلة أكثر قدرة على إحياء ذلك الخطاب المرتبط بالهيمنة والقوة والسلطة بالمعنى التقليدي، وذلك بعد أن قرر المالكي الترشح شخصياً هذه المرّة، خلافاً للدورات الأخيرة السابقة التي اكتفى فيها بدور رئيس الكتلة ورمزها، ما فتح باباً لتنافس جديد عُرفَ شعبياً بـ”واحد عراق، واحد بغداد، واحد بصرة..الخ”، في إشارة إلى الرقم واحد في القوائم.
التقارب الرمزي بين “العصائب” و”بدر” ينطبق على تحالفين متشابهين من ناحية الاسم ولون الدعاية: تحالف “الحسم الوطني” وتحالف “العمق الوطني”، ورغم أن الأول يستخدم يد إنسان مرفوعة منها إصبعان دلالة على النصر، والآخر يستخدم النسر على شكل خطوط دون ملامحه الحيوانية، إلّا أن التقارب بين التحالفين والتداخل واضح من ناحية التسمية واللون في الدعاية، حيث استخدما درجة متقاربة من الأحمر، حتى يكاد الخلط بينهما ممكناً، على الرغم من أنهما على المستوى السياسي ليس بينهما علاقة تقارب تذكر، لكن ذلك قد يعود لصدفة تقنية فحسب.
أسئلة انشطارية يرفع تحالف “الحسم الوطني” شعار “آن الأوان”، ورغم أن الشعار يبدو حاسماً، غير أن حجم الكتلة الانتخابي يشكّل مفارقة بين الهدف والواقع، فهو يبدو مبالغة في وضع نهاية ما، تعكس أفكار الكتلة وتصوراتها السياسية. وهذا ما يبدو عليه تحالف “الأساس” الذي يتجنب المغالاة، مستنداً إلى اسم العراق، فشعاره “العراق هو الأساس” فيه إشارة رمزية تطرح سؤالاً: هل الشعار يستهدف تشكيلات سياسية أخرى ليس أساس مشروعها العراق؟ قد يبدو هذا تأويلاً للشعار، لكنّه يكشف آليات الصراع ومضامين الشعارات التي تُظهر شيئاً فشيئاً خلافات وخصومات سياسية، تعيش جنباً إلى جنب في البرلمان المقبل.
لم يُجب الشعاران “نحن أمة”، و”كنا وما زلنا وسنبقى أمة” عن العديد من الأسئلة البديهية التي يمكن طرحها، مثل: هل مفهوم الأمة هنا قومي؟ أم طائفي؟ أم ديني؟ من هم الأمة؟ فقط “تقدّم” وجمهوره؟ هل هناك أمة جديدة في طور التشكل؟ أين؟ ما هي مقومات هذه الأمة؟ واستخدم “مطرقة العدالة” هذه المرة، متخلياً عن رمز الصقر بمنقاره الأبيض الذي كان يخترق اللون البرتقالي في الشعار السابق. لم تُحدد ملامح الأمة التي يفكر بها “تقدم”، لكن رئيس القائمة في إحدى كلماته قدّم خطاباً طائفياً، يجعل مفهوم الأمة ضيقاً إلى حد ما، فقد استبعد كل من هو غير سني. الشعار الجديد لـ”تقدم” وإن بدا متحالفاً مع باقي الشعارات التي تشير إلى الدولة والعدالة و”القضاء” بشكل خاص، لكنه مختلف من الناحية اللونية والمفاهيمية التي صاغت الشعار. على المستوى الرمزي قد يحيل استخدام “نحن” في شعار “تقدّم” وتحالف “البديل” (نحن البديل) إلى إقصاء ما، لكن استخدام رمز “مطرقة القضاء” يقرّبه من “ميزان العدالة” الذي عُرفت به “دولة القانون” وما تزال تستخدمه، رغم أن كلا الكتلتين لديها تاريخ ملتبس مع القضاء العراقي. وفي الحقيقة، لم يكن رمز “المطرقة” سوى اتّكاء آخر على زعيم الحزب محمد الحلبوسي، نظراً لكونه شغل منصب رئيس مجلس النواب واستخدم المطرقة تلك مراراً.
استدعاء مقتطع يحاول تحالف “عزم” بقيادة مثنى السامرائي أن يبني خطابه على التراث العربي، واضعاً أحد أشهر أبيات المتنبي “على قدر أهل العزم” شعاراً لقائمته، في استدعاء مباشر للجملة مع قطعها لتنتهي مع انتهاء كلمة “عزم” دون إكمال البيت الشعري. هذا الاقتطاع يشير إلى علاقة مباشرة بين بيت المتنبي و”عزم”، فالمراد ليس استعادة الشاعر أو مفهوم العزم، بل خلق رابط مبني على مفردة “عزم”، فبَدَت الجملة عائمةً وعموميةً، وتحمل طابعاً تحفيزياً، جملة من إرث شعري تتوسطها نجمة خماسية خضراء تقترب من ناحية الخطوط من النجوم الثلاث التي كانت تتوسط العلم العراقي السابق.
حاول تحالف “أبشر يا عراق” وتحالف “قوى الدولة” الذهاب باتجاه صياغةٍ شعبية، في محاولة لكسر الفصاحة والحدة السياسية، وجعل الشعار قريباً من المجتمع. قد يراد من صياغة شعار “أبشر يا عراق” و”لا تضيعوها” الاقتراب، إلا أن قيادة الشيخ همام حمودي والسيد عمار الحكيم، بوصفهما رجال دين، قد تمنح الشعارين بعداً دينياً، فالبُشرى ببعدها الديني ترتبط بوعد قريب التحقق، فيما تتعدّد تفسيرات “لا تضيعوها” التي قد تحيل إلى الاستحقاق الشيعي في الانتخابات وفرصة الشيعة في الدولة، كما صار يُفسَّر شعبياً. وفي الوقت نفسه من الممكن أن تكون وليدةً للحديث النبوي: “إنَّ اللهَ فرض فرائض فلا تضيّعوها”، للربط بين حتمية الانتخاب والتكليف الشرعي، وهو معنى ذهبت إليه القوى الشيعية في أكثر من مناسبة. هذا قد يبدو تعسفاً في فهم الشعار، إلا أن شعار “لا تضيّعوها” يضمر نسقاً ذا بُعد ضيق، يخاطب جمهوراً محدداً ومعروفاً في تركيبته الطائفية والاجتماعية. حتى إنه بعد إطلاق الشعار باتت كوادر “قوى الدولة” تطلق على بعضها البعض في الاجتماعات الخاصة “جماعة الأمانة”، أي بمعنى أن المقصود بـ”لا تضيّعوها” الأمانة، دون أي إفصاح عن نوع الأمانة، فهل هي الدولة؟ أم السلطة؟
هذا الطابع الشعبي المراوغ ليس جديداً على “قوى الدولة” التي كانت شعاراتها في انتخابات مجالس المحافظات 2023 “بغداد تستاهل، والديوانية تستاهل… إلخ”.
الألوان في دائرة بعد أن اجتاح اللون الأصفر الدعاية الانتخابية الماضية، فُسح المجال هذه المرة لتعدد لوني هيمن عليه الأزرق والأخضر بتدرجاتهما، ابتداءً من التصاميم والبوسترات الخاصة بالكتل والتحالفات، أبرزها: “دولة القانون”، و”الإعمار والتنمية”، و”صادقون”، و”عزم”، و”تحالف قوى الدولة”، وصولاً إلى “الميديا” الخاصة بالكتل، وكلا اللونين وإن اختلفا بالدلالة، لكنهما يتواطأان لتحقيق الأهداف النفسية من استخدامهما: الأول يرمز للحماية وللسماء، ويمنح إحساساً بالثقة والأمان، وإن بدا من ناحية نفسية ثقافية لونا ذكورياً، فيما يرتبط الأخضر بالحياة والتوازن، لكنّه أكثر صرامة من الأزرق الذي قد يشير إلى معنى مراوغ.
الفضاء الرمزي الذي تدور فيه القوائم الكبيرة، التي توزِّع مرشحيها على أكثر من محافظة وتضم أطيافاً واسعة من المكونات العراقية، يستخدم مفاهيم تخص بناء الدولة مثل: العدالة، والتنمية، والقوة، والازدهار، فيما تُوظَّف كلمة “عراق” بأشكال مختلفة.
لكن الحال مختلفة في القوائم التي تخصصت في المحافظات “دائرة واحدة”، فهي أكثر انغلاقاً، منها: “الأنبار هويتنا” التي يضم شعارها خارطة الأنبار، و”نينوى لأهلها”، و”واسط أجمل”، و”الشرگاط لأهلها”، فهي لا تخرج عن حدود الدائرة الواحدة انتخابياً، مكتفية بمخاطبة “أهل” مدينة واحدة دون أن يشمل الشعار البلاد، في محاولة لكسر المسافة بين المواطنين وأعضاء مجلس النواب بمعناه الوطني، وهذا ما قد يخدمها انتخابياً على نطاق ضيّق، لكنّه في الوقت ذاته يضع أمامها أسواراً مستقبلية، لن تزول إلّا بالتحالفات العابرة التي ستتشكّل بعد الانتخابات ونشر نتائجها.
ثلاثة أنماط في سلة انتخابية واحدة سواء في الشعار أو عبر الميديا أو في الحوارات التلفزيونية، هناك ثلاث سرديات أساسية مهيمنة تحكم علاقة الناخب بالمرشحين: الأولى، والأكثر وضوحاً، هي تلك التي تربط الناخب بالمرشح بعلاقة لحظية / الحاضر، من خلال خدمة مباشرة، خدمة عينية يمكن أن تتجلى على شكل “تبليط” (تعبيد الطرقات)، كما هي علاقة النائب مهدي اللامي من ائتلاف “دولة القانون” مع مدينة “خضراء الدسيم، أو كرسي متحرك لذوي الاحتياجات الخاصة واستحصال موافقات محطات الكهرباء كما في علاقة عالية نصيف من ائتلاف “الإعمار والتنمية” مع جمهورها، أو توزيع المبردات كما فعل عثمان الشيباني من “دولة القانون”، أو أعطيات نقدية للأطفال كما فعلت رواء الفهداوي من “تقدّم”. وهذه العلاقة عادة ما تعقدها الكتل الكبيرة التي لديها تمكين مالي وسياسي، ولديها القدرة على التحرك في الحاضر، من خلال استغلال موارد الدولة انتخابياً، فالوعود بالتعيينات، وإصدار راتب رعاية، واستحصال قطع أراضٍ، وسُلف مصرفية، تجري خفية في جسد العلاقة بين الناخب والمرشح الذي لديه تمكين يؤطر علاقته بالجمهور من الفئات الهشة. وهو ما أشار إليه بعض المرشحين، مثل مرشح “البديل” في ذي قار حسين الغرابي الذي ندّد باستغلال أحمد الأسدي، وزير العمل والشؤون الاجتماعية، لمنصبه وتمريره معاملات الرعاية الاجتماعية، وتوزيع محافظ ذي قار قطع أراض قبل أقل من شهر على الانتخابات، مطالباً المفوضية بمراقبة ما أسماه خروقات.
هذا الحاضر المرتبط بالخدمة المباشرة غير متاح للكتل متوسطة الحجم والصغيرة، التي عادة ما تعطي وعوداً كبيرة ومستقبلية في آن واحد، لتضم في طياتها رغبة في تحقيق تنمية وإعمار وعدالة اجتماعية وإصلاح للبيئة السياسية، وهذا ما ذهبت إليه الكتل ذات الإطار المدني. قد تبدو تلك الرغبات وعوداً مستقبلية، لكنها فخ وعبء في الوقت ذاته. وبعيداً عن المستقبل والحاضر، تقف بعض الكتل التقليدية في منطقة الماضي، وهي في الغالب ذات مناخ طائفي، مستغلّة بذلك سيرة المكونات بناءً على الأحداث التي تحفز الجماعات انطلاقاً من عدم الشعور بالأمان، ومن رصيد جمعي ينمّي ذلك الخطاب الذي تعتمده أدبيات بعض الأحزاب والكتل التي صار رصيدها هي تلك الفجوة بين المكونات.
شعار قاتل.. شعار خاوٍ من “على قدر أهل العزم” إلى “لا تضيعوها”، يتكشّف انتقال اللغة من الشعر إلى الشعور، ومن البلاغة إلى العاطفة، ومن الوعي الجمعي إلى الاستقطاب الطائفي، ما يكشف عن أزمة في الخطاب الانتخابي، تتمثّل في تجرّدها وانفصالها عن الفعل، ذلك ما تعمّقه الصراعات التي تخوضها الكتل في تنافس تصاعد من الاتهامات إلى تكسير الصورة ليصل حد الاغتيال.
هذا مقطع عرضي من مشهد الدعاية والخطاب الانتخابي للانتخابات المقبلة، يكشف جانباً من طبيعة اللغة السياسية التي تتبدل ملامحها مع كل دورة، لكنها تحتفظ بخصائصها الجوهرية في المراوغة والتكرار وإنتاج المعنى ذاته بألفاظ مختلفة.
المشهد لا يبدو صراع برامج بقدر ما هو سباق على من يمتلك القدرة على احتلال الفضاء البصري واللغوي للمدن؛ تتنازع الكتل على المفردة والصورة واللون كما تتنازع على المقاعد، فيتداخل وعد “الإعمار” مع وعد “الخلاص”، ويختلط شعار “الدولة” بشعار “الطائفة”، حتى لا يعود من السهل التمييز بين اللغة التي تريد بناء وطن، وتلك التي تحرس جماعة.