

يحمل الموسم الانتخابي الحالي ملامح جديدة، لم يسبق رؤيتها في الدورات السابقة، ملامح تعطي اشارات محبطة، بدءاً من الدعايات الانتخابية الضخمة وعمليات الترويج الغريبة، ومروراً بما جمعته القوائم من تناقضات ووجوه لا يجمعها جامع، وانتهاءً بطبيعة ومؤهلات الكثير من المتنافسين، وهي بمجملها “تضم تفاصيل” تُفقد الانتخابات جدواها ومعناها الحقيقي.
فالمشهد الذي يُفترض أن يكون ميدان تنافس بين البرامج والأفكار بما فيها الرؤى الاقتصادية والإدارية والسياسية، تحوّل إلى ساحة تجريب مفتوحة، تختلط فيها الشعارات المكررة بالاستعراضات، والوعود المثيرة بالضحك وأغاني “التبجيل”، والمنافسة غير المتكافئة بالمفارقات الصادمة، ويؤطر كل ذلك مسار يكاد يكون مغلقا من ناحية فرص احداث تغيير.
وظهرت مبكرا الانتهاكات القانونية، فرغم إعلان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أن الحملات الرسمية ستبدأ في أوائل أكتوبر وتنتهي قبل يوم الانتخابات مباشرة، إلا أن بعض المرشحين لم ينتظروا المدة القانونية، وبدأوا دعاياتهم وكأن القانون لا يعنيهم.
خرق شروط الدعاية
سجلت شبكة شمس لمراقبة الانتخابات “Shams Network” حوالي 301 حال انتهاك، شملت “بداية ترويج قبل بدء الموعد الرسمي للحملات في 3 أكتوبر 2025، ففي العاصمة بغداد تمّ رصد صور ولافتات لمرشحين قبل بدء الحملة بخمسة عشر يوماً تقريباً، وهو ما يعتبر ترويج مبكّر يمنح ميزة غير عادلة لبعض الأطراف ممن يملكون قدرات مالية كبيرة مقارنة بغيرهم.
من بين هؤلاء رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي غرمته المفوضية نتيجة استخدام صور وبوسترات قبل الفترة المحددة، وكذلك رئيس تحالف عزم مثنى السامرائي، ورئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي.
وفق المادة (32) من قانون الانتخابات رقم (9) لسنة 2020: “تُحظر الدعاية الانتخابية قبل المدة المحددة لها من قبل المفوضية، ويُعدّ كل نشاط ترويجي يُمارس قبل ذلك خرقاً لأحكام هذا القانون”.
أما تعليمات المفوضية الصادرة في نيسان أبريل 2025 فنصّت على “غرامة مالية لا تقل عن مليوني دينار عراقي ولا تزيد على خمسة ملايين دينار لكل مرشح أو كيان سياسي يبدأ الحملة قبل موعدها”.
ويعد القانون العراقي وتعليمات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات (IHEC) النشر على مواقع التواصل الاجتماعي جزءاً من “الدعاية الانتخابية”، وبالتالي يخضع لنفس القيود والعقوبات المفروضة على الترويج الميداني.
وجاء في تعليمات الدعاية الانتخابية رقم (1) لسنة 2021 الصادرة عن المفوضية: “تُعدّ الدعاية الانتخابية كل نشاط إعلامي أو شخصي أو إلكتروني يهدف إلى حثّ الناخبين على التصويت لمرشح أو كيان معيّن، بما في ذلك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية.”
وتشمل المخالفة إنشاء صفحات أو حسابات تحمل اسم المرشح قبل الفترة الرسمية، ونشر بوستات أو فيديوهات تعريفية تتضمّن شعار الحملة أو رقم القائمة أو دعوة للتصويت، وإطلاق حملات ممولة على فيسبوك أو إنستغرام أو تيك توك، وكذلك استخدام المؤثرين أو الصفحات العامة للترويج غير المباشر قبل الموعد.
المتحدثة باسم المفوضية، جمانة الغلاي، كانت قد صرّحت سابقاً بأن “النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي يُعدّ دعاية انتخابية، سواء كان مموّلاً أو مجانياً، طالما يتضمّن دعوة مباشرة أو غير مباشرة للتصويت.”
ملايين بلا صوت
كما في انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في العام 2023، ستحدد المفوضية نسبة المشاركة اعتمادا على من حدثوا بطاقاتهم الانتخابية وليس العدد الحقيقي لمن هم مؤهلون للتصويت وهم كل من تجاوزوا 18 عاماً، وهذا سيعطي نسبة غير حقيقية للمشاركين من عموم المؤهلين.
ووفق المفوضية فان عدد من حدثوا بطاقاتهم الانتخابية بلغ حوالي 21 مليون و400 الف ناخب، بينما يبلغ عدد المؤهلين للتصويت نحو 29 مليوناً، وهذا يعني أن هناك حوالي 8 ملايين عراقي سيكون مسبقاً بلا صوت، باعتبارهم مؤهلين للإدلاء بأصواتهم لكنهم لا يرغبون بالمشاركة، إضافة إلى فئة أخرى هي جمهور التيار الصدري الذين حدّثوا بطاقاتهم لكنهم أعلنوا العزوف عن التصويت.
دعايات غريبة
أما على مستوى الدعاية الانتخابية نفسها، فقد سُجّلت خلال هذا الموسم أكثر الأساليب غرابة وسطحية في الوقت ذاته. فهناك من وزّع الورود على بسطة في شارع، ومن دعا جماهير برشلونة لعدم انتخاب مرشحة لأنها “مدريدية متعصبة” كانت قد دعت “المدريديين” بشكل خاص لدعم ترشحها.
وهنالك من نظّم رحلات وزيارات لكربلاء والنجف على حسابه الشخصي، أو اخذ الجمهور المؤيد له الى اقليم كردستان ونشر فديوهات توثق الرحلات لغرض الدعاية الانتخابية.
مرشح آخر تكفّل بإجراء عمليات تجميل مجانية في مراكز تجميل لمن يدعمه مع أخذ بطاقته الانتخابية، وآخر رمّم أسقف منازل متهالكة في أطراف مدن نائية، فيما ظهر البعض باكياً أمام الجمهور ورافعاً يديه بالدعاء للفوز، وكأن الانتخابات اختبار إيماني لا منافسة سياسية.
بعضهم أعاد تشغيل الخطاب الطائفي القديم محذّراً من هيمنة مكوّن على آخر، مستخدماً تشبيهات من نوع “هذه حرب بين الحسين ومعاوية”، وآخرون وعدوا جمهورهم بوساطات شخصية كقول إحدى المرشحات “إذا وكفكم أحد بالسيطرة فعدكم (اسم المرشحة).”
وفي مشهد لا يخلو من العبث والسطحية، خُدع عدد من طلبة الجامعات بحضور مؤتمرات علمية انتهت داخل مقرات حزبية لإقناعهم بالتصويت لمرشح ذو موقع حكومي بارز.
الى جانب اطلاق شعارات أثارت سخرية واسعة من المعلقين، مثل “الي عنده عقل ينتخبني” أو “اني جديد عالساحة راح أخدمكم لأن أريد أجلب بالانتخابات الجاية”، أو ان المرشح الفلاني “منكم وبيكم وباجر يفيدكم!”.
وبين اللقطات الأكثر جدلاً، كانت تصريحات صادمة لشيخ معمم، يقول فيها: “من قال لكم إن الشيعة يريدون خدمات؟ هم يريدون القتال والانتصار على أعداء الشيعة والإسلام”. والمفارقة أن بعض المرشحين أعادوا نشر تلك المقاطع على صفحاتهم الخاصة باعتبارها “منجزات” أو “مواقف شجاعة” قادرة على كسب الجمهور “الذي لا يريد خدمات ووظائف، بل يريد ان يموت على الجبهات”.
الى جانب ذلك، اكتسحت صفحات المرشحين، الأهازيج الشعبية والأغاني الحماسية الداعمة، المليئة بأوصاف القوة والهيبة والعزيمة والشهامة والكرم والإقدام، والتي تكاد تكون نسخ متطابقة لجميع المرشحين والمرشحات.
مرشحون بلا رؤى
من الظواهر الأخرى الغريبة في هذه الانتخابات، هي طبيعة وخلفيات المرشحين في قوائم التحالفات المتنافسة، فهي ضمت وجوها وشخصيات لا يجمعها جامع ايديولوجي او فكري او عقائدي أو حتى رؤى متقاربة، فأقحمت من اجل كسب الأصوات، العلماني مع الشيخ و”المجاهد”، والعقائدي مع البعثي السابق ومع الملشياوي و”التشريني”. وجمعت السياسي والمقاول وصاحب “المحتوى الهابط”، والاستاذ الجامعي مع رجل الأمن مع الفنان والرياضي.
كل ذلك النشاز اللامعقول واللامنطقي يحصل على أمل جذب أصوات جديدة، مع تراجع ثقة الجمهور بقدرة اي حزب او قائمة في تبني برامج انتخابية حقيقية، وبعد فشل الطرق التقليدية في جذب المقاطعين والمترددين.
كل ما سبق هو محاولات لتحريك بعض فئات المجتمع ودفعها نحو صناديق الاقتراع في ظل موجة من الاستياء وفقدان الأمل من جدوى الانتخابات في تحقيق التغيير السياسي أو الاقتصادي – المعيشي، الذي ينتظره العراقيون منذ نحو عقدين من الزمن.
وسط موجات الاعلانات تلك، التي تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، ومع شغل كل متر من أرصفة شوارع وميادين المدن بصور المتنافسين، تتلاشى تفاصيل البرامج الانتخابية، على حساب بروز الوعود العامة، ويتهرب البرلماني من تحديد أولويات عمله وخططه، والفرص المتاحة أصلاً لتحقيق وعوده، ويختبئ الجميع خلف عبارات “محاربة الفاسدين” و”تحقيق العدالة” و”خلق فرص التنمية والرفاه” حين يُحاصر في الزاوية.
بعض المرشحين لا يعرفون، أي شيء عن المعادلات والرؤى السياسية التي تحكم البلد أو أبرز التحديات السياسية والاقتصادي والأمنية، بل لا يعرفون حتى عدد مقاعد مجلس النواب، وآخرون لا يعلمون عدد الأصوات التي يحتاجها للفوز أو كم مقعداً خُصص لمحافظته. وكأن الجهل أصبح جزءاً من الحملة الانتخابية نفسها.
من جانب آخر، برز تصدير “الفاشنيستات” وبعض أصحاب منصات التواصل الشهيرة مع غياب النخب بمختلف تخصصاتهم، وهو ما يجعل من الوجوه المعروفة في الأحزاب التقليدية الخيار الاكثر منطقية للناخب، خاصة مع حفاظ الأحزاب المهيمنة على نمط معقول من التنظيم والتحشيد الانتخابي، وبالتالي سيرى الناخب دعاية سيئة ويقارنها بدعاية تقليدية اعتاد عليها، لتكون التقليدية اكثر اقناعا بالنسبة له.
السياسة بوصفها عرض ترفيهي
الجيل الجديد، من الشباب الذين تمتد أعمارهم ما بين 18 و30 عاماً، يبدو الأكثر تفاعلا مع تمظهرات وتقلبات المشهد الانتخابي الملتبس، وهم الأكثر سخرية من وجوهه ورمزياته، فعلى مواقع التواصل الاجتماعي، لا تمر حملة دون أن تتحول إلى موجة من الميمز والتعليقات الساخرة، حيث السياسة تُقدَّم كعرض ترفيهي أكثر من كونها خطاباً جاداً.
الشباب اليوم يعيشون ثقافة سياسية ناقدة لا تقدّس الرموز ولا تنخدع بالشعارات، يبدون أكثر فهما للواقع من الأجيال السابقة لهم الذين تقيدهم انتماءاتهم وافكارهم التقليدية ويجدون حرجا في أعلاء أصواتهم تجاه ما يشاهدونه من فوضى وانتكاسات.
الخطر هنا، انه وفق نظرية ما بعد الحداثة في الاتصال السياسي، لم تعد السياسة في عصر الإنترنت جادة، بل تحولت إلى عروض رمزية تُستهلك مثل أي محتوى ترفيهي آخر. وعندما يستخدم المرشحون أساليب غريبة للتعبئة الجماهيرية، فإن الجمهور يتعامل معها كمحتوى للضحك لا للإقناع؛ السياسة هنا تُستهلك وتُسخر ثم تُنسى، لتفقد قدرتها على التغيير.
أما نظرية التعبئة العكسية فتقدّم تفسيراً آخر لرد فعل الجيل الشاب تجاه الحملات الحالية، إذ ترى أن الإفراط في استخدام الدعاية السطحية أو المبالغ فيها يولّد رد فعل عكسي بدلاً من التعبئة الإيجابية. وبدلاً من تحفيز الشباب على التصويت، تتحول الحملات إلى مادة للسخرية، ما يُفقدها هيبتها ويُضعف قيمتها الرمزية، وبالتالي قدرتها على التأثير.
الضجيج الدعائي الذي يغمر الشارع ووسائل الإعلام، يولّد شعوراً عاماً باللامبالاة، لأن الناخب يرى السياسة كلعبة “صور وشعارات” لا تستطيع أن تغيّر واقعه.
وينتج عن هذه الفوضى الدعائية ما يمكن وصفه بـ”تفريغ السياسة من المضمون”، حيث تفقد الانتخابات دورها الحقيقي كآلية تنافس بين الأفكار والبرامج “يمكنها ان تحدث التغيير”، وتتحول إلى مناسبة رمزية لإعادة تدوير نفس الخطاب القديم بطرق أكثر صخباً وأقل جدوى، وهو ما يعيد انتاج النظام نفسه وان تغيرت بعض الوجوه.
وهذا يدفع الكثير من الشباب اليوم الى المجادلة بأن العملية الانتخابية فقدت قيمتها كأداة للتغيير، وتحولت إلى مشهد استعراضي يغلب عليه الشكل على حساب المضمون.
يعزز تلك الرؤية، طبيعة الحملات الدعائية التي ركزت على الصور والشعارات والمقاطع القصيرة بدل تقديم خطط واقعية أو رؤى اقتصادية واجتماعية واضحة، ما جعل الخطاب الانتخابي يبدو بعيداً تماماً عن هموم المواطن اليومية.
وقد انعكست هذه الحالة بوضوح في منصات التواصل الاجتماعي، التي امتلأت بالميمز والتعليقات الساخرة، كأنها وسيلة للتنفيس عن الإحباط العام بعد فقدان الأمل بالاصلاح.
هذه السخرية الرقمية التي تتصدّر المشهد الانتخابي لا يمكن قراءتها فقط كاستهزاء، بل بوصفها شكلاً من أشكال الاحتجاج السياسي الصامت. إنها تعبير عن فقدان الثقة بالمؤسسات، وعن إحساس جمعي بالعجز من إمكانية التغيير الحقيقي.
ومع استمرار هذا النمط من الحملات بما تعكسه من ضعف في التمثيل والمحتوى، يتكرّس شعور الجيل الجديد بأن المشاركة الانتخابية لم تعد فعلاً سياسياً مؤثراً بل حدثاً إعلامياً لا يجسد جوهر الديمقراطية، حيث تُستبدل الإرادة الشعبية بالتفاعل الإلكتروني، والبرامج السياسية بالصور الساخرة.
هكذا، يتحول الموسم الانتخابي إلى مرآة لسياسة بلا حلول، سياسية تحبس البلد في حلقة خانقة، تتغذى على الرموز وتعيش على الضجيج، لكنها عاجزة عن إقناع من يعيش الواقع بكل تعقيداته بأنها يمكن ان تخرج البلد من أزماته المتفاقمة.
المزيد عن آراء
آراء
آراء","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":30990}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">







