

في 9 كانون الثاني/يناير 2022، افتتح مجلس النواب العراقي أولى جلساته في دورته الخامسة، وسط آمال بإصلاحات طال انتظارها بعد انتخابات أفرزت ثلاثة فائزين كبار (التيار الصدري، حزب تقدم، الحزب الديمقراطي)، سعوا الى بناء حكومة “أغلبية وطنية” تعيد تشكيل معادلة الحكم والقرار في البلاد، بعد عقد ونصف من حكومات “التوافق والتحاصص”.
لكن سرعان ما تحولت الآمال التي علقت بنتائج انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021 إلى خيبات، فالبرلمان الذي كان يُفترض به أن يرسخ الديمقراطية ويؤسس لثنائية حكومة ومعارضة، ويشكل قلب العملية السياسية الجديدة، وبتطلعات التخلص من هيمنة قرار الخارج، غرق سريعاً في صراعات سياسية، وعانى من تعطل متعمد في جلساته، ومن ثم سلسلة خروقات للدستور وللقوانين وللنظام الداخلي، وبالتالي الفشل في مهمات التشريع والرقابة والمساءلة.
هذا التقرير يتتبع مسار الدورة الخامسة للبرلمان حتى آخر جلساته للعام 2025، مسلطا الضوء على أحداثها المفصلية، وخروقاتها الدستورية، وضعف أدائها الرقابي، وهزال نتاجها التشريعي، والخلل البنيوي في العمل الذي جعل منها الدورة “الأسوأ” في تاريخ المؤسسة التشريعية العراقية.
بداية الفشل.. أزمة التشكيل
ظهر عجز البرلمان بدورته الخامسة عن أداء واجباته، منذ الأيام الأولى للدورة، وكان نتيجة متوقعة لصراع سياسي بدأ عقب إعلان نتائج انتخابات 2021. فاز التيار الصدري بالعدد الأكبر من المقاعد (73 مقعدا) مقارنة بالقوى الأخرى، لكنها ظلت تمثل أقل من نصف المقاعد التي حازت عليها باقي القوى والتحالفات الشيعية، واقل من ربع مقاعد البرلمان المؤلف من 329 مقعدا، وهو ما عطل تشكيل الحكومة في ظل عدم امتلاك أي من الطرفين القدرة على تأمين ثلثي الأصوات اللازمة لحسم كل المواقع السيادية.
وأعلن زعيم التيار مقتدى الصدر، مشروعا لتشكيل “حكومة أغلبية وطنية” في مسار مختلف عن مسار باقي القوى الشيعية المتبنية لسياسة التوافق التي حكمت النظام السياسي منذ 2003.
واشعل التوجه نحو “حكومة اغلبية” صراع سياسي قادته الكتل الشيعية المنافسة والتي كانت قد تكتلت في الإطار التنسيقي، فشكلت تحالفاً عرف بـ”الثلث المعطل” شمل قوى كردية وعربية سنية، لإفشال مشروع “الصدر” والتمسك بنظام التوافق والمحاصصة.
مع موقف التيار الصدري، دخل البرلمان سريعا في دوامة من التحركات المتضادة والاعتصامات والمواجهات السياسية والأمنية والاعلامية، انتهت في حزيران/يونيو 2022 باستقالة نواب التيار الصدري ليحل محلهم مرشحون من الإطار التنسيقي ومستقلون.
بعدها رشح الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة، كمرشح توافقي، لكن هذا الترشيح فجر أزمة جديدة. ففي 30 تموز/يوليو 2022، اقتحم أنصار التيار الصدري مبنى البرلمان واعتصموا داخله رفضًا لترشيح السوداني، معتبرينه امتدادًا لنفوذ امين عام حزب الدعوة نوري المالكي.
تطور الاحتجاج إلى اعتصام أمام مجلس القضاء الأعلى، وانتهى بمواجهات مسلحة في 29 آب/أغسطس 2022 داخل المنطقة الخضراء، أسفرت عن عشرات القتلى والجرحى، ليدخل البرلمان في حالة شلل تام، لم يخرج منه حتى مع اعلان التيار انسحابه من العملية السياسة بالكامل.
وشهدت الفترة بين 9 كانون الثاني 2022 ونهاية أيلول 2022 سلسلة خروقات للدستور والقوانين ونظام ادارة الجلسات، وسط خلاف قانوني حول تفسير الكتلة الأكبر، معه توقف البرلمان كليا عن أداء أدواره الدستورية.
اضافة الى حصول خروقات ترتبط بالمعالجات الأمنية للاحتجاجات والاعتصامات التي جرت داخله، حيث سيطرت مجموعات بشكل غير قانونية عليه وأثارت الفوضى في أروقته وسهلت الاعتصام داخله وصولا الى ادخال الأسلحة التي استخدمت لاحقا في مواجهات دموية.

الفراغ الدستوري وعزل الحلبوسي
بعد نحو عام من الهدوء النسبي في ظل عودة البرلمان لعمله تحت جناح نظام التوافق، الذي يُخضع تشريع القوانين وتوزيع المناصب الى آلية تشاركية ووفق مبدأ المحاصصة، حصلت انتكاسة مفاجأة لسياسة التوافق واتفاقات تشكيل الحكومة، حين أصدرت المحكمة الاتحادية العليا، في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، قرارا بعزل رئيس البرلمان محمد الحلبوسي على خلفية دعوى قضائية تتعلق بتزوير توقيع استقالة النائب ليث الدليمي.
هذا القرار ترك المؤسسة التشريعية في فراغ دستوري كامل استمر قرابة عام، لم تعقد خلاله جلسات، ولم يمر قانون واحد، وتوقف العمل الرقابي بشكل شبه كامل.
أدى هذا الفراغ إلى تغييب البرلمان، وتعطيله عن أداء واجابات التشريع والمراقبة والمساءلة في وقت كانت البلاد بأمس الحاجة إلى تشريعات جديدة لمواجهة أزمات البطالة والكهرباء وارتفاع نسب الفقر، والتلوث البيئي، وتشريع قانون النفط والغاز، ومجلس الاتحاد، والخدمة الإلزامية.
في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وبعد مفاوضات شاقة، انتخب البرلمان النائب السني المخضرم محمود المشهداني رئيسًا له، بأغلبية 182 صوتًا من أصل 269 نائبًا حضروا الجلسة، بدا هذا الانتخاب وكأنه بداية عودة الروح للمؤسسة، لكنه سرعان ما كشف هشاشة التوافقات.
فالمشهداني لم ينجح في فرض الانضباط على النواب، وتكررت ظاهرة الغياب المتعمد وعدم اكتمال النصاب، إلى جانب مشاجرات علنية واتهامات متبادلة، ما جعل البرلمان يبدو وكأنه انعكاس لصراعات الشارع أكثر من كونه ساحة للتشريع.
خلل بنيوي في النظام السياسي
يرى نواب وخبراء قانونيون أن الأزمة ليست مجرد صراع على المقاعد، بل انعكاس لخلل أعمق في النظام السياسي، فالمحاصصة الطائفية التي تحكم توزيع المناصب، والصفقات الحزبية التي تسبق كل جلسة، جعلت من البرلمان ساحة لتقاسم النفوذ لا منصة للتشريع، حسبما يقول عضو مجلس النواب هادي السلامي.
ويصف السلامي الأمر بقوله: “النظام السياسي أثبت مرارا أنه عاجز عن إنتاج مؤسسات مستقرة أو قرارات وطنية جامعة”، مؤكدا “كل كتلة تسعى لحماية مصالحها، وكل منصب يمنح وفقا للانتماء لا الكفاءة، ما أدى إلى شلل تشريعي مزمن”.
ويشير عضو مجلس النواب إلى أن “ما يجري داخل مجلس النواب من تمرير للقرارات عبر تفاهمات سياسية مغلقة وصفقات علنية، يكشف حجم الانحراف عن المسار الدستوري”، مؤكدا نحن “أمام منظومة سياسية تقوم على المحاصصة والترضيات، لا على الكفاءة أو المصلحة الوطنية”.
ويؤكد السلامي أن “هذا الخلل البنيوي هو ما يمنع البرلمان من أداء دوره الحقيقي، ويجعل من كل جلسة فرصة لتقاسم النفوذ بدلا من خدمة المواطن”.
المحلل السياسي اياد العنبر، يرى ان الخلل في أداء البرلمان لا يمكن فصله عن طبيعة النظام السياسي الذي تأسس بعد 2003 والذي قام على “مبدأ تقاسم السلطة لا بناء الدولة”.
ويوضح: “كل دورة برلمانية تبدأ بأمل وتنتهي بخيبة، لأن البنية الحزبية الطائفية لا تسمح بوجود مؤسسات مستقلة، بل تنتج برلماناً مشلولاً، عاجزا عن التشريع أو الرقابة، ويعمل كامتداد لصراعات الكتل لا كسلطة مستقلة”.
ويتابع العنبر: “ما نشهده اليوم هو انهيار تدريجي لفكرة التمثيل الشعبي، فالنائب لا يمثل ناخبيه بقدر ما يمثل حزبه، والقرارات تصاغ خارج القاعة، في غرف التفاهمات المغلقة، ما يجعل البرلمان مجرد واجهة شكلية لنظام سياسي مأزوم”.
ووفقا للعرف السائد في نظام تقاسم السلطة بالعراق، يتم اختيار شخصية من المكون العربي السني لمنصب رئيس البرلمان، بينما يتولى منصب رئيس الوزراء شخصية شيعية ورئيس الجمهورية شخصية كردية، حتى لو تغيرت معادلات توازن القوة الذي يرسمه عادة عدد المقاعد.

أرقام تكشف حجم الفشل
في خضم الفوضى السياسية والتشريعية التي عصفت بالدورة الخامسة لمجلس النواب، تكشف الأرقام الرسمية عن ضعف الأداء البرلماني وقلة الجلسات المنعقدة (بين كانون الثاني/يناير 2022 وآب/أغسطس 2025) مقابل انفاق مالي كبير يصفه ناشطون بـ”المال المهدور” على مؤسسة لا تقوم بواجباتها.
خلال تلك الفترة، عقد البرلمان 140 جلسة اعتيادية بالإضافة إلى 6 جلسات استثنائية و2 تداولية فقط، وهو عدد أقل بكثير من ما هو مطلوب سنويا، والذي يصل إلى 256 جلسة وفقا للنظام الداخلي للمجلس الذي ينص على عقد ثماني جلسات شهريا، و32 جلسة في كل فصل تشريعي يمتد أربعة أشهر، ما يعني أن البرلمان لم يحقق سوى جزء ضئيل من الحد الأدنى المطلوب لعقد الجلسات.
ووفق أرقام وزارة المالية ونظام توحيد حسابات الدولة للموازنة الجارية والاستثمارية حتى تموز 2025، بلغت الموازنة الجارية لمجلس النواب 346 مليارا و434 مليون دينار.
يعلق المحامي والناشط المدني، أحمد حسن، على ذلك قائلا:”يعني أن كل جلسة برلمانية تكلف الدولة ملايين الدولارات. وهذا يشكل عبئاً كبيرا على الخزينة مقابل خدمة تقترب من الصفر، فلا الرقابة فاعلة، ولا التشريع موجود كما يجب، والنواب تحولوا الى معقبي معاملات، وبات البرلمان بالنسبة لهم مصدر لتحقيق الأرباح والحصول على امتيازات”.
ويضيف:”دور البرلمان، بالنسبة للقوى الحاكمة بات يقتصر على التصويت لحكومة التحاصص ليستمر نظام الامتيازات والفساد تحت مسمى الديمقراطية”.
ويأتي ذلك في وقت اكتفى البرلمان طوال أربع سنوات من دورته الأخيرة بتشريع 69 قانونا فقط، وكان عدد ساعات دوام النائب لا تتعدى الست ساعات شهريا، وفقا لبيانات مرصد مدني يوثق أداء البرلمان.
واقتصر عمل النواب على قراءة أولى لـ 175 مشروع قانون، وقراءة ثانية لـ 116 مشروعا آخر، دون أن تتحول معظمها إلى قوانين نافذة.
أما في مجال الرقابة، فشل البرلمان أيضا في أداء دوره، فلم يستجوب أي وزير بشكل رسمي، واكتفى بتوجيه أربعة أسئلة شفوية فقط لوزراء المالية والداخلية، بالإضافة إلى تقديم طلبات استضافة لرئيس الوزراء ووزراء آخرين.

ومن أبرز محاولات الرقابة والاستجواب التي شهدتها الدورة، استجواب مجلس أمناء شبكة الإعلام العراقي على خلفية اتهامات بهدر المال العام، وتضخم المصروفات، ومخالفات قانونية تتعلق بتضارب المصالح. وتلك الاستجوابات القليلة كانت جزءا من الصراع على المواقع والامتيازات بين القوى الحاكمة، اكثر من كونها محاولات لتصحيح الأداء ووقف الفساد.
وللمقارنة، شهدت الدورة البرلمانية السابقة (2018–2021)، التي انتهت بانتخابات مبكرة قلصت نحو ستة أشهر من عمرها، 152 جلسة. وكانت تلك الدورة أفضل من الدورة الخامسة من ناحية عدد القوانين المشرعة التي بلغت 91 قانونا ومن ناحية عدد القراءات الثانية لمشاريع القوانين والتي بلغت 129 قراءة مقابل 116 للدورة الأخيرة.

أما فيما يخص الاستجوابات، فقد ركز المجلس خلال هذه الدورة على استجواب واحد فقط، تضمن خمسة أسئلة وجلستي استماع، وركز على رئيس هيئة الإعلام والاتصالات بشأن مزاعم تضليله لمجلس الوزراء فيما يخص تجديد عقود الهاتف المحمول وتجاهله بنود حماية المستهلك، وفي نهاية الاستجواب، صوت المجلس على إبداء عدم الرضا عن ردود رئيس الهيئة، وأقر سحب الثقة منه.
أما معدل الحضور العام لأعضاء مجلس النواب في الدورة الخامسة فلم يتجاوز 173 نائبا مقابل معدل حضور 203 في الدورة الرابعة، رغم أن عدد النواب يبلغ 329 نائبا، ما يكشف عن خلل مزمن في الالتزام بالحضور ويعزز الصورة السلبية لأداء البرلمان.

تراجع في الاستجوابات
تشير الإحصائيات إلى أن انتخابات عام 2014، التي مهدت الطريق للدورة البرلمانية الثالثة، شهدت نسبة إقبال بلغت 62٪، وهي أعلى نسبة مسجلة، ويعزى ذلك بنحو كبير إلى تشجيع المرجعية الدينية العليا في النجف على المشاركة في الانتخابات، معتبرة إياها وسيلة لتحقيق الحكم الرشيد.
في تلك الحقبة، سعى نوري المالكي، رئيس الوزراء آنذاك، إلى الحصول على دورة ثالثة مدعوما بالنتائج الشخصية التي حققها اضافة الى نتائج قائمته ائتلاف دولة القانون التي فازت بـ92 مقعدا من أصل 328 مقعداً، لكن سيطرة تنظيم داعش على عدة محافظات عراقية نتيجة أخطاء أمنية وعسكرية في القيادة، أبعدت المالكي عن المنصب، وذهبت رئاسة الوزراء الى حيدر العبادي الذي تعهد بمحاربة داعش وهزيمته وهو ما حصل في العام 2017.
فيما يتعلق بالاستجوابات في تلك الدورة (2014-2018)، خضع قاسم الفهداوي، وزير الكهرباء آنذاك، للاستجواب بناءً على طلب من النائب رزاق محيبس، الذي شغل لاحقا منصب وزير النقل، كما خضع وزير الاتصالات حسن الراشد للاستجواب بناءً على طلب من النائبة هدى سجاد، وخضع وزير التجارة بالوكالة سلمان الجميلي للاستجواب من قبل النائبة علياء نصيف.
بالإضافة إلى ذلك، خضع سربست مصطفى رشيد، رئيس المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، للاستجواب بمبادرة من النائبة ماجدة التميمي، فيما استجوبت وزيرة الصحة عديلة حمود بناءً على طلب من النائب عدي عواد.
أما سعد الدين ربيع، رئيس هيئة الإعلام والاتصالات، فقد خضع للاستجواب بناءً على طلب من النائبة حنان الفتلاوي، واستجوب واقيل هوشيار زيباري، وزير المالية، بناءً على طلب من النائب هيثم الجبوري. كما استجوب وزير الدفاع خالد العبيدي بمبادرة من النائبتين علياء نصيف وحنان الفتلاوي، وشهدت الجلسة كشف الكثير من الأسرار وملفات الفساد، ولاحقا أقيل الوزير بتصويت من البرلمان.
وبعكس الدورة الثالثة، اتسمت الدورة الرابعة والخامسة بتراجع كبير في الاستجوابات ، ما يعكس تراجعا مستمرا في الأداء الرقابي وما يرتبط به من مساءلة من قبل أعضاء المجلس.

أزمة بنيوية تغذيها التوافقات
أرقام الغيابات الكبيرة، التي عطلت عقد عشرات الجلسات ومنعت اقرار العديد من القوانين، كما المشاركات الهزيلة للنواب من ناحية المداخلات والمساهة في اقرار القوانين، لا تكشف فقط عن ضعف الإنجاز، بل حجم الفشل المؤسسي.
وتؤكد أن الأزمة لم تكن نتيجة الأحداث والانقلابات السياسية والصراع على المواقع فقط، بل في بنية العمل البرلماني ذاته، الذي أصبح عاجزا عن تبرير وجوده أمام شعب يواجه أزمات متراكمة، حسبما يقول عضو اللجنة القانونية النيابية محمد عنوز.
يؤكد عنوز: “الخلافات السياسية قضت على دور البرلمان التشريعي والرقابي، لأن الأحزاب النافذة تعرقل انعقاد الجلسات بصفقات سياسية بين الكتل والأحزاب”.
ويضيف: “العديد من المشرعين منذ شهر آب أغسطس صاروا يركزون بالفعل على حملاتهم الانتخابية للدورة السادسة، وانتهى دور المجلس قبل وقته، ورغم رغبة بعض الأعضاء في الأشهر الأخيرة لإعادته إلى الحياة، إلا أن القوى الحاكمة تمنعهم بأغلبيتهم المسيطرة”.
هذا التوصيف لا يقتصر على النواب فقط، بل يشاركه المحللون السياسيون، من بينهم مجاشع التميمي، الذي وصف الدورة الخامسة بأنها الأسوأ في تاريخ العراق، قائلاً:”منذ اليوم الأول، كانت الولاية الخامسة مليئة بالصراعات السياسية، وقد أضرت هذه الصراعات بشدة بقدرة البرلمان على أداء عمله”.
حتى رئيس مجلس النواب نفسه، محمود المشهداني، اعترف بفشل الدورة، حيث قال خلال منتدى عقد في أربيل في شباط/فبراير 2025: “شهد العام الأول توترات بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، والثاني صراعات داخلية في الأنبار، والثالث انتخاب رئيس جديد، والرابع تحضيرات مبكرة للانتخابات”.
من جانبه، أكد السياسي والنائب السابق مشعان الجبوري أن “أداء كل دورة برلمانية يتراجع مقارنة بسابقتها، خاصة فيما يتعلق بإجراءات الرقابة، كما في إقرار المشاريع التشريعية واستجواب المسؤولين، وغيرها من الواجبات”.
وأضاف أن”البرلمان كان يضم في السابق شخصيات مؤثرة تتمتع بسلطات كبيرة في اتخاذ القرار، لكن الآن يهيمن عليه أفراد يفتقرون إلى التاريخ والخبرة السياسية، وفي كثير من الحالات إلى الكفاءة”، مؤكداً “الدورتان الرابعة والخامسة هما الأضعف من حيث تشريع القوانين والرقابة”.
الغيابات وعدم تطبيق النظام الداخلي
تبرز قضية الغياب المتكرر للنواب كأحد أبرز مظاهر الفشل المؤسسي، ليس فقط من حيث تعطيل الجلسات، بل من حيث انتهاك واضح للنظام الداخلي والدستور.
النائب معين الكاظمي أشار إلى أن استمرار الخلافات بين المكونات السياسية حول قضايا جوهرية أدى إلى مقاطعة بعض الأطراف لجلسات البرلمان، مثل المكون الكردي لفترات عديدة، أو طرح شروط مسبقة من بعض الكتل لحضور الجلسات.
وأضاف أن “جدول الأعمال الذي يطرح قبيل عقد الجلسات، يقتصر على مواضيع روتينية، بعيدا عن المحاور الخلافية، ما يقلل من أهمية هذه الجلسات وحضور النواب فيها”.
ويؤكد الكاظمي أن “الانشغال المبكر بالحملات الانتخابية من قبل بعض أعضاء البرلمان ساهم في تعطيل انعقاد الجلسات وعدم تحقيق النصاب القانوني طوال شهري آب وأيلول، وهو ما أفقد المجلس دوره التشريعي والرقابي الحقيقي”.
وانتقد النائب رئاسة المجلس، قائلا أنه كان عليها تحمل مسؤولياتها من خلال التواصل مع رؤساء الكتل السياسية والضغط عليهم لتفعيل الأداء، والعمل على توضيح الموقف للرأي العام، لضمان أن يكون مجلس النواب مؤسسة فاعلة تعبر عن طموحات الشعب العراقي وتعمل على تحقيقها.
واقع غياب النواب، يتناقض بشكل صارخ مع ما تنص عليه المادتان 11 و18 من النظام الداخلي للبرلمان العراقي، حيث يعد حضور الجلسات التزاما قانونيا على كل نائب، ويترتب على الغياب المتكرر دون عذر رسمي توجيه تنبيه خطي من رئاسة المجلس، مع نشر الغيابات بشكل علني، كما تنص القواعد على إمكانية إقالة النائب إذا تجاوزت نسبة غيابه ثلث عدد الجلسات في الفصل التشريعي.
لكن كل تلك الاجراءات لم تحصل، الا بنحو نادر وفي حدها الأدنى، وذلك في اطار سياسة التوافق وعدم الاكتراث بأداء الواجب تجاه الناخبين والشعب عموماً.
وتمكن المادة 56 من الدستور العراقي، المجلس من تمديد الفصل التشريعي لمدة لا تزيد عن 30 يوما إضافيا لإنجاز مهام ملحة، وهو يتطلب تقديم طلب رسمي من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان أو 50 نائبا على الأقل، وهو ما لم يتم تفعيله في الفصول التشريعية الأخيرة رغم ان العديد من القوانين كانت تنتظر التصويت فقط.
النائبة ابتسام الهلالي، ذكرت في شهر آب أغسطس مع تعطل عقد الجلسات، أن الغياب المستمر بحجة الانشغال بالحملات الانتخابية أمر غير مبرر.
وقالت:”إذا كان النواب يتقاضون رواتب ويعتبرون أن هناك شرعية لتلك الرواتب، فمن الواجب عليهم أن يحضروا جلسات المجلس وأن يؤدوا مهامهم بشكل كامل، الى آخر يوم من عمر الدورة النيابية”.

خوف من تمرير قوانين
لكن النائب المستقل هيثم الفهد، يرى ان شلل البرلمان في الأشهر الأخيرة، جاء انعكاسا لضغوط سياسية متعمدة هدفت إلى منع تمرير قوانين حساسة قبل موعد الانتخابات، ولم يأت كمجرد نتيجة للإهمال أو الانشغال بالحملات الانتخابية.
يقول الفهد إن عددا من النواب طالبوا في وقتها بإيقاف عطلة البرلمان واستئناف الجلسات، للتصويت على قوانين مهمة كقانون الحشد الشعبي، إلى جانب ملفات تنظيمية أخرى، لكن القيادات السياسية امتنعت عن تقديم الدعم اللازم لعقد الجلسات، بسبب ما قد تسببه هذه القوانين من إحراج للحكومة أو لبعض الأحزاب النافذة.
ويضيف:”بعض تلك القوانين كانت يمكن ان تضع الحكومة أو أحزابا محددة في موقف حرج، ولذلك لوحظ التردد، بل التهرب التام.”
ويشير الفهد إلى أن دوافع متعددة وقفت وراء عرقلة الجلسات، من بينها مقاطعة النواب الكرد لبعض الجلسات احتجاجا على عدم صرف الحكومة الاتحادية رواتب موظفي إقليم كردستان في وقتها، إضافة إلى تجنب بعض النواب حضور الجلسات خشية تمرير تعديلات على قانون الانتخابات، والتي اعتبرها البعض تهديدا مباشرا لفرصهم الانتخابية.
ويشير إلى أن مجموعة ثالثة من النواب خشيت أن يؤدي تمرير تشريعات مثل قانون الحشد الشعبي إلى زيادة الضغط على رئيس الوزراء ويجعله في تحدي مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية التي رفضت بشكل علني تشريع القانون.
مرصد نيابي: الدورة الأضعف
ويوثق المرصد النيابي العراقي بمؤسسة مدارك، في تقرير رصد لأداء مجلس النواب في الدورة الخامسة للفترة بين كانون الأول/ ديسمبر 2022 وحتى منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2025، مخالفات كثيرة داخل المجلس وضعف في الجانبين التشريعي والرقابي، وفشل متكرر في عقد الجلسات نتيجة الغيابات.
التقرير الذي رصد “الأداء التشريعي والرقابي ونشاط النواب” مقارنة بالدورات الانتخابية السابقة، لكشف مستوى الإنتاجية البرلمانية، ومدى التزام النواب بواجباتهم وفق النظام الداخلي والقوانين النافذة، ذكر أن المجلس لم يشهد طوال عمره حضور جميع أعضائه في أي جلسة.
وكشف التقرير عن تراجع أداء الدورة الخامسة في مؤشرات النشاط التشريعي، مقارنة بجميع الدورات الانتخابية السابقة، فعدد الجلسات المنعقدة كانت أقل من الدورتين الثانية والثالثة، بينما كان عدد القوانين المصوت عليها محدودا مقارنة بالدورات السابقة.

ست ساعات عمل شهريا
وأظهر التقرير تكرر عدم اكتمال النصاب في عشرات الجلسات، والتأخر المستمر في عقد الجلسات عن مواعيدها المحددة، مع توثيق حالات تجاوزت تأخيرات الانعقاد ثمان ساعات، وذكر أن نحو ثلث النواب لم يحضروا الجلسات بانتظام، وان معدل الحضور العام بلغ 173 نائبا لكل جلسة “ولم تُنشر أسماء النواب المتغيبين وفق النظام الداخلي، ما يعد إخلالًا بالشفافية”.
ووثق المرصد عدم مشاركة نحو ربع النواب بأي مداخلات أو نقاط نظام خلال الدورة، وقيام نحو ثلث النواب بمداخلات محدودة، مرة أو مرتين او ثلاثة، طوال الدورة.
يقول مزهر الساعدي، مدير المرصد النيابي في مؤسسة مدارك، ان 76 نائبا لم يناقشوا اي قانون، لا في القراءة الاولى ولا الثانية، ولم يشتركوا في الموضوعات العامة التي نوقشت في البرلمان، ولم يتداخلوا ولو لمرة واحدة طوال الدورة البرلمانية البالغة اربع سنوات. وان هناك 48 نائبا تحدثوا لمرة واحدة خلال الدورة، و48 نائبا قاموا بمداخلتين، 26 نائبا كانت لهم ثلاث مداخلات خلال أربع سنوات.
https://www.facebook.com/reel/4129086180679181
ويؤكد مزهر الساعدي، ان الدولة تصرف 500 مليار دينار على أعضاء مجلس النواب وحماياتهم للدورة الواحدة، ما عدا مصاريف رئاسة المجلس وموظفي البرلمان والتفاصيل الخدمية، مبينا أن تلك المبالغ صرفت على أعضاء البرلمان بدورته السادسة، والذين بلغ المعدل العام لساعات عملهم، ست ساعات شهريا فقط، بواقع ساعتين وكسر للجلسة الواحدة.
https://www.facebook.com/reel/1372022101185490
ويشدد المرصد النيابي، على تعزيز الانضباط التشريعي والالتزام بالنظام الداخلي والنشر الشفاف للحضور والغياب، وتمكين النواب من ممارسة دورهم الرقابي بشكل فعال “لضمان تمثيل كامل لمصالح المواطنين وتعزيز الشفافية والمساءلة داخل المجلس”.
بهذا الأداء الهزيل انتهت الدورة الخامسة للبرلمان، وانخرطت القوى السياسية في حملاتها الدعائية للانتخابات المقررة في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر، والتي يحق فيها لنحو 30 مليون عراقي المشاركة، لكن نحو 7 ملايين منهم لم يهتموا بالمشاركة سلفا وامتنعوا عن اصدار بطاقاتهم الإنتخابية، فيما يتوقع ان ينضم لهم رقم أكبر من المقاطعين في ظل عدم ايمانهم بالتغيير من خلال نواب يتلاشى حضورهم مع وعودهم عقب جلسة القسم، وبرلمان يعجز عن أداء واجباته في التشريع والمراقبة والمساءلة.
*انجزت المادة تحت اشراف الشبكة العراقية للتحقيقات الاستقصائية “نيريج” وبدعم من برنامج “قريب”
المزيد عن تقارير سردية
تقارير سردية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":30939}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">







