تحليل: أموال النهب والولاء: كيف تحوّلت الموازنة المالية إلى أداة لتقاسم النفوذ؟ 

أموال النهب والولاء: كيف تحوّلت الموازنة المالية إلى أداة لتقاسم النفوذ؟ 

لا يهدف هذا المقال إلى تكرار ما هو معروف عن اعتماد العراق على النفط، بل يتعمق في تحليل كيف أصبح النظام البرلماني، الذي يُفترض أن يكون وسيلة للمساءلة الرقابية، أداةً لتفاقم العجز المالي.

يُشكّل العجز المالي المزمن في العراق ظاهرة اقتصادية مثيرة للقلق، تتجاوز في أسبابها العوامل الاقتصادية التقليدية، مثل تقلّبات أسعار النفط العالمية أو سوء الإدارة المالية. ففي جوهرها، تُمثّل هذه الأزمة المالية انعكاساً مباشراً للأبعاد السياسية لنظام الحكم القائم. هذا المقال لا يهدف إلى تكرار ما هو معروف عن اعتماد العراق على النفط، بل يتعمق في تحليل كيف أصبح النظام البرلماني، الذي يُفترض أن يكون وسيلة للمساءلة الرقابية، أداة لتفاقم العجز المالي.

يمكن ملاحظة علاقة سببية بين طبيعة النظام البرلماني العراقي، القائم على المحاصصة والتوافق، وبين الاختلالات الاقتصادية المتمثلة في العجز المالي. نحن نفترض أن آليات توزيع السلطة والموارد المالية ضمن هذا النظام قد أفرزت أنماط إنفاق حكومي غير رشيدة، حيث يُستخدم الإنفاق لتعزيز الولاءات السياسية بدلاً من تحقيق التنمية المستدامة. وهنا لا بد من إلقاء الضوء على هذه الديناميكية الخطيرة، التي تُعرّف الاقتصاد العراقي بأنه اقتصاد مسيَّس، فالموارد العامة لا تُدار وفقاً للاحتياجات التنموية، بل وفقاً للأجندات السياسية للأحزاب المتنفذة. هذا المقال يهدف إلى الوصول لفهم أعمق لجذور الأزمة المالية، مما يمهّد الطريق لاقتراح حلول إصلاحية تتناول الأسباب السياسية قبل الاقتصادية.

البرلمان كحارس للمال العام: بين النظرية والتطبيق


يُعدّ البرلمان في الأنظمة الديمقراطية الركيزة الأساسية لضمان الاستقرار المالي وحُسن إدارة الموارد العامة. فنظرياً، لا تقتصر صلاحياته على إقرار القوانين فقط، بل تمتد لتشمل الإشراف المباشر على المالية العامة للدولة. وتتركز أبرز مهامه في هذا السياق في الموازنة العامة التي تُعَدّ أهم وثيقة مالية للدولة، حيث يمتلك البرلمان سلطة كاملة على إقرارها أو تعديلها، ورفضها إذا لم تتوافق مع الأهداف الوطنية. هذا الدور يمنحه القدرة على رسم خريطة الإنفاق الحكومي وتوجيهه نحو الأولويات التنموية، كما يمنعه من تجاوز صلاحياته.

ويُعَدّ مفهوم الرقابة البرلمانية حجر الزاوية في تحقيق الانضباط المالي والمساءلة. فالبرلمان، بصفته ممثلاً عن الشعب، يمتلك آليات رقابية صارمة لمتابعة أداء الحكومة في تنفيذ الموازنة، مثل الاستجوابات، وتشكيل لجان التحقيق، وتدقيق الحسابات الختامية، هذه الرقابة تهدف إلى ضمان أن الأموال العامة تُنفق بشكل رشيد وفعال، وأنها لا تُستخدم لتحقيق مصالح شخصية أو حزبية. وفي الأنظمة البرلمانية السليمة، يكون البرلمان قادراً على محاسبة الحكومة إذا ما ثبت من جانبها أي تجاوزات أو هدر في المال العام، مما يساهم في الحد من الفساد ويُعزز الشفافية.

ومع ذلك، فإن هذا الدور النظري يواجه تحديات كبيرة في الواقع العملي، خاصةً في الدول التي تتسم أنظمتها السياسية بالهشاشة أو المحاصصة، فبدلاً من أن يكون البرلمان حارساً أميناً على المال العام، قد يتحول إلى فرشاة تطلي قرارات الإنفاق التي تخدم مصالح الكتل السياسية على حساب المصلحة العامة بالشرعية.

بشكل رئيسي، تؤثر الانتخابات على وظائف الحكومة في تحقيق الاستقرار وإعادة التوزيع، إذ يمكن أن يؤثر قرب موعد الانتخابات على قرارات الحكومة بشأن الموازنة، فإذا اعتقدت الحكومة أن فرص إعادة انتخابها ستتحسن مع نمو الاقتصاد فقد تفكر في إطلاق توسع مالي قبل الانتخابات، سيؤدي هذا السلوك إلى دورات موازنة سياسية. علاوة على ذلك، إذا لم يعوَّض هذا الإجراء بالكامل من خلال فترة ولاية الرئيس الحالي -أو السلطة التنفيذية- سيؤدي ذلك إلى تراكم الديون من دورة سياسية إلى أخرى.

النظام البرلماني العراقي ومشاكل العجز المالي


نصّ دستور العراق لعام 2005 على إقامة نظام حكم برلماني ديمقراطي، وهو ما يُفترض أن يضمن التوازن والتعاون بين السلطتين التشريعية (البرلمان) والتنفيذية (الحكومة). نظرياً، يمنح الدستور البرلمان سلطات واسعة، ومنها: صلاحية إقرار الموازنة العامة، حيث لا يمكن للحكومة أن تنفق الأموال العامة إلّا بعد موافقة البرلمان على قانون الموازنة، مما يجعله أهم أداة للرقابة المالية. ومع ذلك، فإن التطبيق العملي للنظام البرلماني في العراق قد انحرف بشكل كبير عن هذه المبادئ النظرية، فبدلاً من أن يكون النظام قائماً على التنافس السياسي والبرامج الحكومية أصبح يرتكز على مبدأ المحاصصة السياسية والتوافق. هذا الواقع أفرز جملة من الخصائص السلبية التي أثّرت بشكل مباشر على المالية العامة، حيث أصبحت الموازنة لا تُعدّ وثيقة اقتصادية بقدر ما هي وثيقة سياسية لتقاسم الثروة والنفوذ بين الكتل، يُلاحظ ذلك في تضخم الإنفاق على رواتب الموظفين والمخصصات لزيادة الولاءات، بدلاً من توجيهه نحو المشاريع الاستثمارية المنتجة. بالإضافة إلى غياب المساءلة، حيث إن الحكومة هي نتاج توافق الكتل السياسية الرئيسية في البرلمان، فإن هذه الكتل لا تمارس رقابة حقيقية على أداء الحكومة التي شكّلتها بنفسها، فبدلاً من محاسبتها على سوء الإدارة المالية، تقوم الكتل السياسية بحمايتها لضمان استمرار سيطرتها على المناصب والموارد.

في ظلّ النظام البرلماني العراقي، تُعتبر الموازنة العامة للدولة بمثابة عقد اجتماعي واقتصادي بين الحكومة والشعب، ومع ذلك، تتحول عملية إقرارها غالباً إلى صراع سياسي معقد، مما يؤدي إلى تأخيرات متكررة ونتائج سلبية على الاقتصاد. وتعد التأخيرات المتكررة في إقرار الموازنة مشكلةً رئيسيةً، حيث تتجاوز تأثيراتها مجرد تأخير صرف الرواتب. فبدون موازنة معتمدة، يُصبح الإنفاق الحكومي مُقيداً بـ “قاعدة الإنفاق الاثني عشري”، مما يعني أن الوزارات لا يمكنها الإنفاق إلا بمقدار 1/12 من موازنتها للعام السابق. هذا التقييد يؤدي إلى:

توقف المشاريع التنموية: تُجمَّد المشاريع الجديدة، وتُعطَّل المشاريع الجارية، مما يُؤثر على البنية التحتية وفرص العمل.


ضعف التخطيط الاقتصادي: لا يمكن للقطاع الخاص ولا للأفراد التخطيط لمستقبلهم الاقتصادي بوجود حالة من عدم اليقين.


انعدام ثقة المستثمرين: يتردد المستثمرون الأجانب والمحليون في الاستثمار في بيئة اقتصادية غير مستقرة، حيث لا يمكن التنبؤ بالسياسات المالية.

Screenshot 2025 10 22 at 9.56.08 am
المصدر: بالاعتماد على الجريدة الرسمية “الوقائع العراقية” لسنوات مختلفة.

لم تُقَرّ أيٌ من الموازنات في مواعيدها المحددة في قانون الإدارة المالية، وكان آخرها موازنة سنة 2021، التي لم تقرّ إلّا بعد مرور 102 يوم، وتطول المدة عندما يزداد حجم الريع النفطي. ولم تقرّ موازنة سنة 2014، التي كانت سنة انتخابات ونكسة أمنية على يد تنظيم داعش الإرهابي وصراع سياسي على أشده، وهذه المرة الأولى التي لم تقرّ فيها موازنة خلال التاريخ المالي في العراق. وفي سنة 2020 أيضاً لم تقرّ الموازنة بسبب الصدمة الثلاثية واستقالة حكومة عادل عبد المهدي. ومع تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي في أيار من عام 2020، لم تقدم الحكومة قانون الموازنة العامة إلى البرلمان، بل قدمت قانوني الإقراض وقانون تمويل العجز لتوفير غطاء قانوني للإنفاق العام. ولا يختلف الأمر في سنة 2022، التي شهدت غياب إقرار الموازنة العامة أيضاً، وظلت حكومة تصريف الأعمال اليومية تدير الأمور المالية للدولة وفق مبدأ الإنفاق المقرّ 1/12، وشهد هذا العام أيضاً إقرار قانون الأمن الغذائي من قبل مجلس النواب ليعطي غطاء قانونياً للإنفاق العام.

وعندما تُقرّ الموازنة أخيراً بعد تأخير، تكون غالباً نتيجة لتسوية سياسية لا تخدم الأهداف الاقتصادية الوطنية، هذا ما يُسمَّى بـ الإنفاق غير المُخطَّط له، ويتمثل في زيادة الإنفاق التشغيلي، حيث تُفرض على الحكومة زيادة الإنفاق على الرواتب والامتيازات لإرضاء الكتل السياسية، حتى لو كان ذلك على حساب الإنفاق الاستثماري الذي يُحفز النمو. بالإضافة إلى تضخيم الإنفاق على القطاعات غير المنتجة، حيث يُوجه الإنفاق إلى قطاعات لا تُساهم بشكل فعّال في الاقتصاد، بل تُعدُّ بمثابة مكافأة سياسية للأحزاب المُسيطرة عليها.

التوظيف المُفرط في القطاع العام: دوره كأداة للمحاصصة السياسية


يشير “التوظيف المُفرط في القطاع العام” إلى ظاهرة تنامي أعداد الموظفين الحكوميين بشكل غير طبيعي وغير مبرر اقتصادياً، حيث لا تتماشى الزيادة في أعداد الموظفين مع الحاجة الحقيقية للمؤسسات الحكومية أو مع النمو الاقتصادي للبلاد. في سياق النظام البرلماني العراقي، أصبح هذا التوظيف أداة رئيسية من أدوات المحاصصة السياسية، التي تقسم المناصب والموارد على أساس الانتماءات الحزبية والطائفية، إذ تُستخدم الوظائف الحكومية كجائزة أو مكافأة لأتباع الأحزاب السياسية، مما يضمن دعمهم في الانتخابات القادمة. كلما زاد عدد الموظفين التابعين لحزب معين في وزارة ما زاد نفوذ ذلك الحزب داخل الوزارة، مما يُتيح له التحكم في قراراتها وإدارتها، إذ بلغ عدد الموظفين في القطاع العام (1,912,605) موظف في حكومة نوري المالكي الأولى عام 2006، وأخذ عدد الموظفين في القطاع العام يزداد مع تغير الحكومات العراقية المتعاقبة، إذ بلغ عدد الموظفين في حكومة حيدر العبادي (2,905,226) موظف في عام 2016، ولم تختلف حكومة محمد شياع السوداني عن سابقاتها من استخدام التوظيف الحكومي كأداة سياسية لتوسيع القاعدة الزبائنية للنظام السياسي، إذ بلغ عدد العاملين في القطاع العام (4,074,697) موظف في عام 2023. يؤدي هذا التوظيف غير المُخطَّط له إلى عبء مالي هائل على ميزانية الدولة، إذ تُشكل الرواتب والامتيازات جزءاً كبيراً من الموازنة التشغيلية للدولة، مما يُقلل من الموارد المتاحة للاستثمار في المشاريع التنموية، مثل البنية التحتية والتعليم والصحة. مع ارتفاع النفقات التشغيلية، وعدم وجود زيادة مقابلة في الإيرادات يتفاقم العجز المالي للدولة، مما يضطر الحكومة إلى الاقتراض أو الاعتماد بشكل أكبر على الإيرادات النفطية، التي تكون غالباً غير مستقرة. ويُظهر التوظيف المُفرط في القطاع العام كيف أن الأسباب السياسية تؤدي بشكل مباشر إلى اختلالات اقتصادية، حيث يُحوَّل القطاع العام من مُحرك للتنمية إلى أداة لتعزيز المصالح الحزبية، مما يُزيد من العبء المالي على الدولة ويُعرقل التنمية الشاملة.

شلل الرقابة البرلمانية: تسييس دور المشرّع


يُفترض أن يكون مجلس النواب هو الجهاز الرقابي الأقوى، كونه يُمثل الشعب، إلّا أنَّ الدور الرقابي للبرلمان يُعاني من شلل هيكلي، حيث لجان الرقابة البرلمانية، مثل لجنة النزاهة واللجنة المالية، تُسيطر عليها الكتل السياسية الكبرى، وهذا يعني أنَّ قرارات التحقيق والاستجواب غالباً ما تكون أدوات للمساومة السياسية أو تصفية الحسابات بين الكتل، وليست إجراءات حقيقية للمساءلة، وفي ظل ضغط الوقت والتسويات السياسية، يتم إقرار الموازنات الحكومية دون تدقيق مالي ورقابي كافٍ من قِبل البرلمان، مما يُشرعن الخلل في التخطيط والإنفاق.

جاء في نص الدستور العراقي في المادة (62): “يقدم مجلس الوزراء مشروع قانون الموازنة العامة والحساب الختامي إلى مجلس النواب لإقراره”، وجاء في نص المادة (21) من قانون مجلس النواب رقم (18) لسنة 2018 المعدل: “يُعرض الحساب الختامي على مجلس النواب في مدة لا تزيد على تسعة أشهر من انتهاء السنة المالية”. وإن آخر حساب ختامي تمت المصادقة عليه في موازنة 2014، وكذلك أُرسل الحساب الختامي لسنة 2015 إلى مجلس الوزراء لإرساله إلى مجلس النواب، وكذلك الحساب الختامي لعام 2016 أنجز، والديوان الآن يعمل على تدقيق الحساب الختامي لسنة 2017.

عدم الإقرار يعني حجب البيانات المالية الدقيقة عن الرأي العام والأجهزة الرقابية، مما يجعل من المستحيل تحديد حجم الهدر وسوء الإدارة بدقة. وتُعتبر الحسابات الختامية دليل الإدانة الذي يعتمد عليه ديوان الرقابة المالية والبرلمان في تحديد المخالفات، وعدم إقرارها أو مناقشتها يعني إلغاء أثر التدقيق على الحكومة المنصرفة. عندما تعلم السلطة التنفيذية أنَّها لن تُحاسَب على أدائها المالي في نهاية المطاف ستتشجّع على مواصلة الإنفاق غير المخطط له، وتوجيه الأموال بناءً على المصالح الحزبية دون خوف من المساءلة. إنَّ عدم تصويت البرلمان على الحسابات الختامية هو إلغاء طوعي لدوره الرقابي، ويعدُّ من أقوى الأدلة على أن الخلافات السياسية والمحاصصة قد عطلت المؤسسات الرقابية، مما يفسح المجال واسعاً أمام الفساد ويحول العجز المالي إلى ظاهرة هيكلية بدلاً من كونه مجرد مشكلة اقتصادية عابرة.

Screenshot 2025 10 22 at 6.25.04 pm

تجفيف منابع الفساد: من صناديق الاقتراع إلى خزينة الدولة


الخطوات الرقابية المتأخرة، كالتدقيق في الحسابات الختامية، تظل غير كافية ما دامت منابع الفساد تتدفق من البداية؛ أي من عملية الوصول إلى السلطة نفسها. في ظل النظام البرلماني الذي تسيطر عليه المصالح الحزبية، يُستخدم المال السياسي غير النظيف كوقود للانتخابات، مما يضمن وصول أشخاص يرون في المناصب الحكومية فرصة لـ”استرداد” تكاليف حملاتهم الانتخابية من خلال صفقات مشبوهة وعقود وهمية. هذا يُنشئ حلقة مُغلقة: المال غير المشروع يشتري السلطة، والسلطة تُنتج المزيد من المال غير المشروع.

في الخامس من تشرين الأول، أصدرت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لائحة بالتعليمات الخاصة بالإنفاق المالي على الدعايات الانتخابية التي تنفذها الشخصيات والتحالفات السياسية المرشحة، لخوض الانتخابات البرلمانية العامة المقررة في 11 تشرين الثاني، وذكرت المفوضية في لائحة التعليمات أن الحد الأعلى للإنفاق الانتخابي للمرشح يُحدد بمبلغ قدره 250 ديناراً، يُضرب في عدد الناخبين في الدائرة الانتخابية التي يترشح عنها. أما سقف الإنفاق الانتخابي للقائمة فيُحتَسَب من خلال المعادلة الآتية: (عدد المقاعد في المحافظة × 2 × 250 ديناراً × عدد الناخبين).

حتى موعد إصدار تعليمات الإنفاق هذه، تجاوز عدد الناخبين الذين حدّثوا بياناتهم في العاصمة بغداد أربعة ملايين و300 ألف ناخب، يعني أن سقف الإنفاق على الدعاية الانتخابية لكل مرشح يتجاوز المليار و70 مليون دينار، بينما عدد مقاعد محافظة بغداد 71 مقعداً، مما يعني أنّ عدد مرشحي القائمة يبلغ 142 مرشحاً، وهذا يعني أن سقف الإنفاق الانتخابي للقائمة الواحدة أعلى من 153 مليار دينار.

ألزَمَ قانون الأحزاب السياسية رقم (36) لسنة 2015 الأحزابَ بالإفصاح عن مصادر تمويلها، وخصصت الموازنة العامة الثلاثية منحة مالية للأحزاب السياسية تبلغ خمسة مليارات دينار. إلّا أن الأحزاب السياسية لم تفصح عن مصادر تمويلها، وهذا الأمر يجعلها محل شبهات وشكّ بارتباطها بالفساد السياسي، أو تلقي تمويل من الخارج، وهو محظور دستورياً.

التحدي هو أن الإنفاق الفعلي للأحزاب النافذة والكتل الكبيرة يتجاوز بكثير السقف الرسمي، العالي أصلاً، هذا الإنفاق غير المُعلن هو ما يسمى بالمال السياسي الخفي، وهو غالباً ما يأتي من الأموال المنهوبة من الخزينة العامة (الفساد، العمولات، سوء الإدارة المالية).

لذا، فإنَّ الخلاصة لا تترك مجالاً للشك، لن يتحقق الاستقرار الاقتصادي ولن تُسد فجوة العجز المالي إلّا من خلال إرساء إصلاحات سياسية حقيقية وجذرية، هذه الإصلاحات يجب أن تستهدف تفكيك شبكة المصالح الحزبية المُسيطرة على الموارد المالية والإدارية، ويجب إعادة تفعيل المؤسسات الرقابية والقضائية وتحريرها من قبضة التعيينات السياسية، لضمان أن يكون المال العام خاضعاً للمحاسبة وبعيداً عن الاستغلال الفئوي.

إنَّ مستقبل العراق الاقتصادي مرهون بقدرة النظام السياسي على التخلي عن أدوات المحاصصة، والتحول من نظام لتوزيع الغنائم إلى نظام يخدم التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، ولن يمضي هذا النظام إلى هذا البرّ طالما يعتمد في إنتاج وإعادة إنتاج نفسه على انتخابات مشبوهة وملوّثة بالمال العام أو مجهول المصدر.

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":30827}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">