من المواطنة إلى المذهب: قراءة في تداعيات المدونة الجعفرية
مع إقرار المدونة الجعفرية، يتجه العراق نحو مسار يعيد تعريف المواطنة، ويحوّل القانون من صمام أمان اجتماعي إلى أداة تعميق للطائفية والتفكك الأسري.
مع إقرار المدونة الجعفرية، يتجه العراق نحو مسار يعيد تعريف المواطنة، ويحوّل القانون من صمام أمان اجتماعي إلى أداة تعميق للطائفية والتفكك الأسري.

منذ أن عرف العراق الدولة الحديثة بعد تأسيسه في عشرينيات القرن الماضي، عرف، بالتوازي، صراعاً متفاقماً بين المرجعية الدينية والسلطة المدنية حول صياغة القوانين التي تنظّم حياة الناس، ولعلّ أبرز ساحة جسدت هذا الصراع كانت مجال الأحوال الشخصية، حيث يتقاطع الدين، والهوية، والأسرة، والعدالة الاجتماعية.
في عام 1959، جاء قانون الأحوال الشخصية رقم 188 ليكون نقلة نوعية في الحياة التشريعية العراقية، ليس فقط لأنه نظّم الزواج والطلاق والميراث والحضانة في إطار قانوني موحّد، وإنما لأنه مثّل في جوهره محاولة لصياغة هوية مدنية للدولة العراقية.
كان القانون، في حينه، خطوة جريئة على مستوى المنطقة العربية، إذ نجح في الجمع بين روح الشريعة الإسلامية من جهة، ومبادئ العدالة الحديثة من جهة أخرى، ما جعل العراق في مصاف الدول الطليعية التي تبنت رؤية إصلاحية للأحوال الشخصية.
لكن هذه التجربة لم تخلُ من المعارضة، فقد ظلّت المرجعيات الدينية، خصوصاً ذات التوجهات المذهبية الصارمة، تنظر بعين الريبة إلى هذا القانون بوصفه يتجاوز اختصاصها التاريخي في مجال الأسرة. ومع التغيرات السياسية التي شهدها العراق بعد عام 2003، وصعود الطائفية السياسية بوصفها المحرك الأساسي للعملية السياسية، عاد الجدل إلى الواجهة بصورة أكثر حدة، إلى أن أُقرّ إدخال المدونة الجعفرية كتشريع موازٍ أو بديل في بعض الحالات، وبذلك، وجد العراق نفسه أمام ازدواجية قانونية خطيرة: قانون مدني موحّد قائم على فكرة المواطنة، ومدونة مذهبية ترتكز على أسس فقهية خاصة بطائفة محددة.
لم تكن هذه الخطوة تعديلاً تقنياً أو خياراً قانونياً إضافياً، بل حملت في طياتها أبعاداً اجتماعية وقانونية وسياسية واقتصادية عميقة، وفتحت الباب أمام إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الدين والقانون، وبين الهوية الوطنية والانتماء الطائفي. ومن هنا، تصبح من الضرورة محاولة قراءة ما سيترتب على هذا التعديل، من أجل فهم استباقي لمستقبل المجتمع العراقي.
المجتمع العراقي، بطبيعته، متعدد الهويات، عاش على مدى قرون في ظلّ أنماط من التعايش المتوازن بين مكونات مختلفة، ولم يخلُ هذا التعايش من التوتر، لكن وحدة النظام القانوني للأحوال الشخصية كانت على الدوام صمام أمان يحفظ الحد الأدنى من المساواة في التعامل مع قضايا الأسرة. بإقرار المدونة الجعفرية، بدأت هذه الوحدة بالتفكك.
أحد أبرز التداعيات الاجتماعية هو مسألة الزواج المبكر، فالمدونة، في بعض تفسيراتها، تفتح المجال لزواج الفتيات عند سن التاسعة، هذا النص ليس مجرد مادة جامدة، بل هو واقع مرشّح للانتشار بسبب التقاليد الاجتماعية الضاغطة والفقر المنتشر في بعض المناطق، ما سيؤدي إلى ظهور أجيال من الفتيات اللواتي يُسلب منهن حق التعليم والعمل، ويدخلن دائرة الأمومة المبكرة بكل ما تحمله من تبعات صحية ونفسية، هذا الواقع سينعكس لاحقاً على معدلات الفقر، وعلى انتشار الأمية، وعلى ارتفاع نسب الوفيات بين الأمهات الصغيرات.
كما أن سلطة الرجل شبه المطلقة في الطلاق والحضانة تخلق بنية أسرية هشّة، فبدلاً من أن تكون الأسرة مؤسسة قائمة على الشراكة، تتحول إلى فضاء يكرّس التبعية وعدم المساواة، وهذا سيؤدي حتما إلى تزايد حالات الطلاق، وإلى ارتفاع أعداد الأطفال الذين يعيشون في ظروف غير مستقرة، ما يفتح الباب أمام مشاكل اجتماعية أوسع تشمل الانحراف والتفكك الأسري، بل وحتى ازدياد معدلات الجريمة على المدى البعيد.
وفي مجتمع يقوم على التعددية، فإن الفصل القانوني على أسس مذهبية سيعمّق الشعور بالتمييز بين المواطنين، فالطفل الذي يولد في أسرة سنية سيخضع لنظام قانوني مختلف عن الطفل الذي يولد في أسرة شيعية، وهو ما يعزز منذ الطفولة فكرة أن الانتماء الطائفي هو المحدد الأول للحقوق والواجبات، لا الانتماء الوطني. بهذا الشكل، تُزرع الطائفية في النسيج الاجتماعي منذ المهد، لتتحول إلى قاعدة للهوية الجمعية على حساب المواطنة الجامعة.
من الناحية القانونية، يعد اعتماد المدونة الجعفرية نقضاً صريحاً للمبدأ الدستوري القائم على المساواة وعدم التمييز، فالمادة 14 من الدستور العراقي تنصّ بوضوح على أن العراقيين متساوون أمام القانون بغض النظر عن الدين أو المذهب أو الجنس، لكن الواقع الجديد يضع العراقيين أمام نظامين قانونيين متوازيين، بحيث يختلف تطبيق القانون باختلاف المذهب، هذا لا يعني تناقضاً مع النص الدستوري فقط، بل يعني تقويضاً لوحدة القضاء أيضاً.
المحاكم العراقية باتت أمام معضلة حقيقية: هل تطبق النصوص المدنية الموحّدة، أم النصوص الفقهية المذهبية؟ وما الذي يحدث إذا تعارضت هذه النصوص مع بعضها البعض أو مع نصوص الدستور؟ هذه الازدواجية ستفتح الباب أمام اجتهادات متناقضة، ما يضعف ثقة المواطن بالقضاء، ويجعل القانون نفسه أداة للتمييز بدلاً من أن يكون أداة للعدالة.
إضافة إلى ذلك، فإن الاعتراف بنظامين قانونيين يخلق بيئة تسمح باستغلال القانون لتحقيق مصالح شخصية أو سياسية، فقد يسعى البعض إلى تغيير مذهبه أو انتمائه القانوني للاستفادة من أحكام أكثر ملاءمة لمصالحه في قضايا الزواج أو الطلاق أو الميراث. هذا الأمر، مع مرور الوقت، قد يحوّل القانون إلى أداة مرنة بيد الأقوى اجتماعياً أو سياسياً، بدلاً من أن يكون أداة ثابتة لحماية الأضعف.
البعد السياسي: تكريس الطائفية وإضعاف الدولة الوطنية إذا كان هنالك بُعد يكشف بوضوح خلفيات هذا التعديل فهو البعد السياسي، فاعتماد المدونة الجعفرية لم يأتِ في فراغ، بل جاء نتيجة لسلسلة صفقات سياسية حوّلت التشريعات إلى أوراق تفاوضية بين القوى الطائفية، لا إلى أدوات لصياغة مصلحة وطنية عامة.
بهذا المعنى، فإن المدونة تمثل انتصاراً لنهج الطائفية السياسية، وتراجعاً عن فكرة الدولة الوطنية الجامعة، فهي تمنح الطائفة الكبرى في العراق اعترافاً قانونياً خاصاً يعزز نفوذها، ويكرس الانقسام داخل المجتمع، ومع استمرار هذا النهج، ستجد بقية المكونات نفسها مضطرة للمطالبة بمدونات خاصة بها، ما سيقود إلى تشظٍّ كامل للنظام القانوني على أسس طائفية وعرقية.
هذا المسار يضع العراق في مواجهة سيناريو مشابه لسيناريو لبنان، حيث باتت الطائفية السياسية والقانونية عثرة أمام بناء دولة قوية في لبنان، وأدى تعدد قوانين الأحوال الشخصية إلى تكريس الانقسام الاجتماعي والسياسي، وإلى إضعاف مؤسسات الدولة، حتى باتت كل طائفة بمثابة دولة داخل الدولة.
العراق، وهو يتبنى نهجاً مشابهاً، مرشح لأن يشهد مسار لبنان ذاته: دولة ضعيفة أمام قوة الطوائف، وهوية وطنية باهتة أمام سطوة الانتماءات الفرعية.
قد يبدو النقاش بشأن المدونة شأناً اجتماعياً أو فقهياً بحتاً، لكن أبعاده الاقتصادية لا تقل خطورة، فتمكين المرأة أو تهميشها يرتبط مباشرة بمسار التنمية الاقتصادية، والمدونة الجعفرية، بما تتيحه من زواج مبكر، وبما تكرّسه من سلطة ذكورية مطلقة، تدفع النساء إلى الهامش، وتحرم الاقتصاد العراقي من نصف طاقته البشرية.
الفتاة التي تتزوج في سن مبكرة غالباً ما تنقطع عن التعليم، وتدخل في دائرة الحمل والإنجاب المبكر، ما يقلّص فرصها في دخول سوق العمل. ومع تزايد نسب الطلاق، تزداد أعداد النساء المعيلات لأسر فقيرة، اللواتي يجدن أنفسهن بلا حماية قانونية كافية، ما يفاقم معدلات الفقر ويقلّص الطبقة الوسطى. هذا الواقع ينعكس على الإنتاجية الوطنية، وعلى قدرة العراق على استقطاب الاستثمارات الأجنبية التي تبحث عادة عن بيئة قانونية مستقرة وشفافة.
كما أن ازدواجية القوانين تخلق حالة من عدم اليقين القانوني للمؤسسات الاقتصادية، فعقود الزواج والمواريث والشراكات العائلية، التي تشكل أساساً لكثير من المعاملات الاقتصادية، ستخضع لنصوص مختلفة باختلاف المذهب، ما يفتح الباب أمام نزاعات اقتصادية وقانونية معقدة. في نهاية المطاف، يصبح القانون عامل إعاقة للنشاط الاقتصادي بدلاً من أن يكون إطاراً داعماً له.
أخطر ما تحمله المدونة الجعفرية ربما لا يكمن في نصوصها التفصيلية بقدر ما يكمن في رمزيتها، فهي تعيد تعريف المواطنة العراقية على أساس مذهبي، فالمواطن لم يعد متساوياً مع غيره أمام القانون بحكم عراقيته، بل صار يُعرّف أولاً بصفته المذهبية شيعياً أو سنياً أو غير ذلك، هذه النقلة تعني أن فكرة “العراقي أولاً” تتراجع لصالح فكرة “المذهب أولاً”، وهو مسار شديد الخطورة على المدى البعيد.
هذا التحول في تعريف الهوية سينعكس على كل مجالات الحياة، التعليم، والعمل، والزواج المختلط، والولاءات السياسية، ومع ترسيخ هذا المنطق، ستصبح الطائفة هي الوحدة الأساسية للانتماء، بينما تصبح الدولة مجرد إطار إداري هش، وهكذا يتحول العراق من دولة مواطنة إلى دولة طوائف، ومن وطن جامع إلى فسيفساء متنافرة.
ويبدو هذا أمراً واقعاً، العراق مقبل على مرحلة جديدة من إعادة التشكل، ليس فقط في قوانينه، بل في هويته العميقة، فالمدونة الجعفرية لا تقف عند حدود تنظيم الأسرة، بل تعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين المواطن ومذهبه، وبين المذهب والوطن، وهذا هو جوهر الخطر، أن تتحول الطائفة إلى دولة داخل الدولة، وأن يصبح القانون أداة لتفكيك المجتمع بدلاً من أن يكون أداة لوحدته.


