تحليل: جماعة يهوه يدقون الجرس: هل تكفي ثلاثون ثانية فقط لإدخالي الجنة؟ 

جماعة يهوه يدقون الجرس: هل تكفي ثلاثون ثانية فقط لإدخالي الجنة؟ 

بين الموصل والنرويج، يروي نوزت شمدين حكاية قرعٍ متكرر على باب بيته من جماعة "شهود يهوه"، وكيف تحوّل الجرس إلى اختبار إيماني، ومرآة لذكرياته عن الدين والعنف والحرية..

منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا مكتفٍ بمتابعة صامتة لما يجري في العالم من حولي، لا يمكنني القول بأنها استراحة محارب، بل هو شيء يشبه كسل هرٍ في خريف عمره، وأحياناً يسوء الأمر في تقديري بنحو أكبر، فأشعر بأنني مطرقة، فعلت ما يتوجب عليها فعله في حياتها، وتُركت في صندوق المهملات لتقضي هناك فترة تقاعد طويلة.

ولا أعرف كيف فطن مبشّرو شهود يهوه اللحوحون لعزلتي، فأنا بالكاد أمنح لستائر النوافذ المطلة على الشارع شبر إزاحة في الأيام النادرة التي تشرق فيها الشمس هنا في النرويج، نهاية العالم، حيث هربت.

كان صباحاً خريفياً ممطراً عندما بدأوا محاولتهم الأولى لإخراجي من “الظلمات إلى النور” وفقاً للواجب الديني الذي تكفّلوا به. قُرع جرس الباب، فتجاهلته، وبعد ثلاثين ثانية قُرع مرة أخرى، فكان ردي بتلويحة من يدي كأنني أهش ذبابة، وتابعت قراءتي رواية قلم النجار لمانويل ريفاس، وأنا شبه مدفون في مقعدي الجلدي بقلب الصالة.

بعد ثلاثين ثانية قُرع الجرس مرة ثالثة! في مدينة الموصل، شمالي العراق، التي أتيت منها قبل نحو عشر سنوات، يمكن لبابك أن يطرق في أي وقت من النهار والليل، قد يكون واحداً من أقربائك قادماً من مدينة أخرى ليفاجئك بزيارة تستغرق مبيتاً لعدة أيام، أو جاراً يفرك يديه ببعضهما وهو يطلب بحرج حبتَي طماطم، أو قليلاً من الملح، وربما رغيفاً من الخبز، أو صبياً حافي القدمين يريد استعادة حمامته التي حطّت على سطح منزلك، أو متسولاً يعرض عليك تعديلات على قائمة حسناتك اليومية بأدعية ذات نغمات خشوع مدروسة يرددها مقابل عدة دنانير أو أي شيء قابل للأكل أو اللبس أو البيع، وقد تكون امرأة تسأل إن كانت هنالك في المنزل فتاة بعمر الزواج لابنها الموَظَّف حديثاً في دائرة البلدية.

“إنزع كرامتك يم الباب”: شهادة من داخل الكلية العسكرية العراقية
يحدث ذلك في الموصل، على بعد 2972 كيلومتراً عن بيتي، أما في النرويج، لا يمكنك حتى زيارة جارك المريض للاطمئنان عليه إلّا بموعد مسبق، والأوغاد الذين كانوا يقفون تحت وابل المطر أمام بابي تلك الساعة يعرفون جيداً هذه القاعدة الاجتماعية غير القابلة للتجاوز، لكن مع ذلك منحوا أنفسهم استثناء.

لا تتذاكى، وتعتقد بأن تجاهلك لقرع الجرس سيجعل جماعة يهوه يعتقدون بأنك خارج المنزل، فهم يمدون سباباتهم الطويلة البيضاء إلى جرس بيتك لأنهم يعرفون أنك بالداخل، ويمنحونك بين القرعة والأخرى ثلاثين ثانية قد تكون كفيلة بإدخالك الجنة وفقاً لظنّهم. ربّما حصلوا، بطريقة أو بأخرى، على معلومات كاملة عنك من أحد موظفي الكمونة، ووضعوا على أساسها خطة محكمة لمراقبتك وتتبع خطواتك، للقبض عليك ومنحك فرصة قد تكون الأخيرة لتتعرف بها إلى يهوه، أي الله.

لكن قبل أن تقدم على تلك الحماقة، يتوجب عليّ تحذيرك “فتح باب المنزل لرجل دين، يعني السماح لشيطان ما بالدخول”. وكي لا يفهمني الملالي والسادة والقساوسة والحاخامات والرهبان وأي رتبة دينية أخرى فهماً خاطئاً، فأنا أعني برجل الدين هنا كل من يحاول الحصول على شيء مقابل توسّطه بينك وبين السماء، حتى وإن كان حفنة من الحسنات!

أدرتُ المقبض بهدوء، فانفرج الباب عن ثلاثة وجوه باسِمة، كانوا رجلين، أحدهما شابٌ نحيلٌ بملامح فتاة، والآخر بمثل سنّي، في عقده الخامس، مع فارق طول لصالحه قدّرتُه بربع متر، ومعهما امرأة متوسطة العمر بدا عليها التوتر، وثلاثتهم كانوا متوشحين بالسواد وعلى رؤوسهم أغطية مطرية.

بدا من الواضح أنهم متهيئون لثلاثة احتمالات عمرية، وقد تدربوا جيداً على الحركة التي قاموا بها عندما شاهدوا وجهي العابس ونظرتي غير المبالية، إذ وقف الاثنان خلف الرجل الذي أخرج بارتباك كتيبات عديدة من حقيبة صغيرة كانت معلقة في مكان ما تحت وشاحه المطري الأسود الفضفاض، سألني بصوت خافت وهو يمدّها متجاوزاً بها عتبة الباب ليقيها من المطر: “هل تعرف الإنجيل؟”.

أخذت وقتي في الإجابة، فالجزء الشرير مني استمتع بمشهد الغربان الثلاثة وهم تحت قصف المطر، أراد إبقاءهم على تلك الحال لساعات طويلة عقاباً لهم على إزعاجهم لي. قُلت أخيراً بنبرة غير واثقة: “نعم أعرف” وأظنها كانت أقرب إلى: “وماذا يعني!” فراح الرجلُ يُقلب الكتيبات بخفة لاعبي البوكر، وسألني وهو يحاول ضبط فارق الطول بيننا: “بأي لغة يمكنك القراءة؟”، استغرق صمتي بضع ثوانٍ، وعاد ليسأل: “هل بوسعك القراءة؟”

جزئي الشرير أجاب على الفور رداً على ما عده إهانة: “كلا لا أعرف” وحفزني على أن أصفق الباب بوجوههم وصوته يضج في رأسي بالشتائم. مَدت لهُ ذراعٌ من الخلف، يرجح أنها للشاب، هاتفاً من نوع آيفون، أخذه الرجلُ بيد بينما أعاد بالأخرى الكتيبات إلى الحقيبة تحت وشاحه، وجاوز به أيضاً عتبة الباب ليمنع عنه المطر، سألني بارتباك وهو يشير إلي بشاشة الجوال المليئة بمقاطع فيديو: “بأي لغة يمكنك التحدث، أعني ماهي لغتك الأم؟”

أخبرته بخبث أنني كرديٌ وأتحدث الكرمانجية، وهي حيلة أتقنتها في أوروبا للتخلص من المتطفلين في محطات القطارات والمطارات والحافلات، ولا أعرف لم في تلك الأماكن بالذات، ينجذب البعض إلى مغناطيس سحنتي الشرقية. وجهٌ دائري مثل كرة سلة، وعينان منبهرتان على الدوام، وخدان منتفخان كبالونَي عيد، وأنف كبير يبدو أنه لن يتوقف عن النمو، مع كرش يترجرج مع أيّةِ حركة، وقد تكون مواصفاتي الشكلية هذه، تسبب لهم إفراطاً في تدفق هرمون الحنين لأوطانهم، فيندفعون نحوي للحديث معي. يقتربون بخطوات حذرة كأنهم أمام مزار مقدس، يسألون بارتباك:”هل أنت عربي؟” أو “هل أنت كُردي؟” أو”هل أنت تركي؟” وأحدهم سألني ذات مرة وهو يهز رأسه يميناً ويساراً وكفاه مطبقان على بعضهما في وضعية صلاة “هل أنت هندي؟” ويبدو أن هذه الاحتمالات الأربعة هي أكثر ما يخطر على بال من يلمحني، بهرمون الحنين أم بدونه. وعلى أية حال، إجابتي تعتمد على اللغة التي يتحدث بها من يسأل، فإن تحدث بالعربية، أجبتُ بالنرويجية، وإذا فعل ذلك بالكردية، راوغتهُ بالعربية، وإن سأل بالتركية، أجبته بالإنكليزية.

ظننت بأن تلك الاستراتيجية قد تنفع مع جماعة يهوه، فلم أتوقع أبداً أن تكون الكرمانجية ضمن قائمة اللغات الطويلة التي يستخدمونها في وظيفتهم التي ترتكز بالأساس على إزعاج الناس الآمنين في بيوتهم. ضغط الرجل بحماس على الشاشة التي رفعها بالعرض إلى الأعلى، فارتفع الصوت:” Bavê me yê li ezmanan……” وترجمتها الحرفية “أبانا الذي في السماوات.. “. وضعتُ كفي الأيسر على الشاشة وأبعدتها بهدوء، ظهر رأس الشاب من جهة الرجل اليمنى ورأس المرأة من جهته اليسرى، كأنهما نميا للتو من جذعه، وأخذ الثلاثة يترقبون باهتمام ما سأقوله، وفي وجوههم ابتسامة قلق.


قلت: “أنا لا أستحق العناء”، لأبين لهم أنهم يضيعون أوقاتهم التبشيرية الثمينة مع شخص قطع خلال حياته المليئة بالمآسي شوطاً طويلاً في بناء اعتقاده الخاص، ولا يمكنه الرجوع عنه بمجرد أن يقف ثلاثة معتوهين أمام بيته تحت المطر ومعهم كتيبات وهاتف جوال من نوع آيفون.

وأردت أن أضيف بأنني قادم من بلد يُقتل فيه المرء بكل سهولة بسبب طائفته أو اسمه الذي يدلُّ على معتقده الديني، وأن ذاكرتي ممتلئة بعشرات القصص عن ضحايا قتلوا أو خُطِفوا أو هُجِّروا وسُلِبت أموالُهم باسم الدين. لكن بدلاً من ذلك، تابعت بنبرة حزن: “لستُ مهماً”.

قال الرجلُ وهو يعيد الهاتف من فوق كتفه للشاب “كل المخلوقات التي على هذه الأرض، مهمة وتستحق….” قاطعتهُ بشيء من الانفعال: “بماذا تختلفون عن الأديان والطوائف الأخرى؟ أتباع كل واحدة منها يعتقدون بأنهم على حق، والأخرون من أتباع الطوائف الأخرى سيحترقون في نار أزلية أو في الأقل لن تشم أنوفهم رائحة الجنة!” سعل الشاب مرتين وأراد أن يقول شيئاً لكنّه تراجع، ربما جذبتهُ المرأة من ثيابه ليصمت أو رفسه الرجل مذكّراً إياه بسلطته. هز الرجلُ رأسه بثقة وقال: “ستتحقق في نهاية الأمر مشيئة الله”، قلّدت حركة رأسه وأنا أصحح له “تقصد يهوه!”

طغى صوت المطر على كل شيء، وتراجعي لخطوة واحدة أعلن بوضوح تام أن تلك المقابلة قد انتهت، فانسحب الثلاثة بهدوء وساروا مبتعدين واحداً خلف الآخر، الرجل في الأمام وخلفه الشاب ثم المرأة التي تلفّتَتْ ناحيتي مرتين وملامحها متوقفة عند لحظة الهلع.

لم أصغِ لجزئي الشرير وهو يدعوني للاحتفال بما عدّه نصراً، فواقع الأمر هو أنني تعاملت بنحو غير ودي مع أناس أدوا وبغاية اللطف ما يرونه واجباً. ولو شطبنا الجزء المتعلق بقرعهم الجرس ومضايقتهم لي في منزلي لبدوت في ذلك الموقف شخصاً غير متحضر أبداً.

لكن ثمة سبب آخر لا علاقة له بالتطفل والإزعاج، يكمن وراء ظهوري مثل ديكٍ منفوش الريش أمام ضيوفي غير المرحب بهم في ذلك اليوم، وهي الشائعات الكثيرة التي سمعتها من قبل عن استغلالهم الأوضاع النفسية والمعيشية للاجئين، ولا سيما أولئك الهاربين من بلدان تنشط فيها مجموعات مسلحة تستخدم الدين غطاءً لها، فيصلون منهكين ومشكّكين في معتقداتهم، وبعضهم يكون جاهزاً لاستقبال بدائل إيمانية تتوافق مع حياتهم الجديدة، مقابل بعض الامتيازات كالإقامة والعمل.

في مطلع كانون الأول، قام شهود يهوه بطلعتهم الثانية. كانت الساعة العاشرة صباحاً عندما خرجتُ منتعلاً جزمتي الطويلة وفي يدي قفازي الجلديين السميكين لأجرف الثلج المتراكم أمام العتبة، وأفتح ممراً من هناك نحو الشارع.

أرسلوا تلك المرة رجلين بوجهين حليقين ممتلئين، يصعب على المرء التفريق بينهما لشدة التشابه في ملامحهما، كأنهما حبتا بطاطس قطفتا من مزرعة بعيدة وزرعتا مجدداً في الثلج أمام منزلي. حيّاني الأول بانحناءة متواضعة وحركة بيده، قلّده الثاني، وقال متأتئاً: “صباح الخير”.

قلتُ وأنا أقذف بحمولة المجرفة: “إذن واحدة على الأقل من الشائعات المتعلقة بكم صحيحة”، نظرا لبعضهما باستغراب، سألتهما وأنا أغرز المجرفة في الثلج وأستند عليها بكلتا يدي: “ألستما من شهود يهوه؟”

هزا رأسيهما، فتابعت مبتسماً: “الشائعة تقول بأنكم تلحون كثيراً في الظهور أمام الأبواب إذا لم يتم منعكم بوضوح”، تقدم الأول نحوي بخطوة واحدة وقال بطريقة مندوبي المبيعات “هدفنا أن تجد الحقيقة والخلاص”.

حطَ غرابٌ على مسافة قريبة منّا وأخذ ينعق ويدور حول نفسه، فكرتُ بقناعتي التامة أن بوسع الناس جميعهم الوصول إلى الحقيقة والخلاص دون حاجة إلى مرشدين، سألتهُ بذهن شارد: “ألن يجعلنا الوصول مُنقادين إليهما مختلفين عن الآخرين، عن مليارات من البشر الذين توصلوا إلى الحقائق والخلاصات الخاصة بهم؟”

أخرج الرجل الثاني مجموعة كتيبات من حقيبة يد جلدية، وناولها للأول كأنه يقدم له أدلة ثبوتية لدحض ادعائي. “أنت تقرأ بالكرمانجية ؟” أجبتهُ بضيق: “أتكلمها لكنني لا أتقن القراءة بها” فتح عينيه على وسعهما، فقلتُ بصوت عالٍ أفزع الغراب وجعله يطير هاربا: “إنه أمرٌ معقد، يشبه أن تجوبوا الأحياء السكنية بيتاً بيت لإنقاذ سكانها من الهلاك، بينما تحرمون نقل الدماء إلى محتاجيها وتتركونهم للموت!”.

رد علي الرجل الأول بنفاذ صبر: “الموت نهاية المخلوقات جميعاً، المهم أن يذهب المرء إلى خالقه وهو خالٍ من الخطايا، بعد أن عرف الطريق الصحيحة”.

“انظر” أشرتُ إلى الممر الذي بدأ بالتشكل من عتبة الباب بعد جرفي قليلاً من الثلج: “هذا طريقي الخاص الذي سيؤدي إلى الشارع، الخلاص، لقد وجدته بنفسي مستخدماً مجرفتي، أي معرفتي، وكذلك يفعل الآخرون، والكل في النهاية سيصل إلى ذات الهدف، بطرق قصيرة أو طويلة”.

ركل الأول برجله الثلج أمامه وصاح: “وسيضل كثيرون ولن يصلوا مطلقاً، لأنهم يعتمدون على معرفة خاطئة”، لسبب لعين ما، بقيتُ هادئا طوال الوقت، رغم أنهما كسرا قاعدة عدم المجادلة، ربما لأنهما لم يقرعا الجرس، لذا فعقلي الباطن لم يتعامل معهما على أنهما متجاوزون، أو لأنني كنتُ مندمجاً في لعبة جر الحبل الجارية.

“لو أنكم يا رجال الدين بمختلف مسمياتكم ومذاهبكم، تركتم الناس بحالهم، لتركوا هم من تلقاء أنفسهم الأشياء القليلة التي تفرقهم، وتمسكوا بملايين المشتركات الأخرى التي تجمعهم، وأوجدوا مساحات يعيشون فيها بسلام بعيداً عن الحروب والصراعات الكاذبة التي تشعلونها باسم الرب”.

تأتأ الرجل الثاني مدافعاً: “نحن لا نتدخل بالسياسة” واحتاج إلى بعض الوقت ليكمل وقبضتاه مشدودتان مثل تلميذ يؤدي نشيداً في الصف: “ولا نبحث عن المناصب وغايتنا دوما السلام”، اقترب الأول مادّاً لي الكتيبات: أخذتها منه دونما اهتمام، فقط لكي أسرع بإنهاء المقابلة وإكمال فتح ممر خلاصي نحو الشارع.

جزئي الشرير لم يفوّت الأمر، وجعلني أهتف خلف حبتَي البطاطس المبتعدتين والراسمَتين آثاراً عميقةً لخطواتهما في الثلج: “اطمئنّا لست من أولئك السخفاء الذين يحرقون الكتب المقدسة في الشوارع!” ثم تفوهت بتلك العبارة التي لا تصدر إلّا عن صبي لا يعرف شيئاً عن الأدب: “لن أفتح الباب بعد الآن لأي رجل يرتدي السواد ويحمل حقيبة فيها كتيبات وجهاز آيفون!”.

هل يحتاج الأمر إلى توضيح أكثر، لقد أخبرتهما أنني لا أريد جماعة شهود يهوه أمام باب بيتي بعد الآن؟ لكن تأكدوا بأنهم على نياتهم، مثل باقي أتباع الجماعات الدينية السماوية والأرضية الأخرى، أو كما نسميهم في العراق (من أهل الله)، لأنهم فسّروا إعلاني رفض فتح الباب لأي رجل بثياب سوداء، على أنني من الذين لا يجدون طريق الهداية والخلاص إلا بمساعدة من امرأة.


ولا شك أن دوام جماعة شهود يهوه اليومي يبدأ في الساعة العاشرة صباحاً، لأن جرس الباب قُرع بالضبط في هذا التوقيت صباح أول يوم جمعة من شباط في العام التالي. وبعد ثلاثين ثانية قُرع مرة أخرى، كانتا سيدتان مسنّتان متأنقتان مثل اللواتي تجدهن في الصفوف الأولى في حفلات الأوبرا. الأولى ذات شعر فضي وعينين زرقاوين، كانت تهمّ بقرع الجرس للمرة الثالثة عندما فتحت الباب متمتماً بالشتائم، تراجعت خطوتين لتنضم إلى الثانية ذات القبعة المطرزة بالزهور. القتا سوية التحية، ودخلت الأولى في الموضوع مباشرة دون أي مقدمات: “هل تعرف الإنجيل!”، وناولتني الثانية مجموعة كتيبات وعيناها ترمشان كأنها تتعرض لصعقة كهربائية.

سألتُ بضيق وأنا أخذ الكتيبات: “لماذا ترهقون أنفسكم معي؟”، لم أنتظر إجابة من السيدتين اللتين أخذتا وضعية الاستعداد للدخول في محاورة، تابعت: “أنا مؤمن بالله، ربما ليس على طريقتكم، ولكن على الأقل أعرف أنه موجود، وهذا يعني أن وضعي الإيماني الدنيوي لا يستدعي تسخير جهودكم وكوادركم البشرية، هنالك أناس غيري يعبدون حيوانات وحجارة، أو لا يؤمنون بأي شيء..” كنت أشير بيدي من فوق رأسيهما فالتفتتا ظنا منهما أن من أقصدهم محتشدون في مكان ما خلفهما.

سألتني الأولى كأنها روبوت: “بأي لغة يمكنك القراءة؟” وعندما استغرق صمتي بضع ثوانٍ، عادت لتسأل: “هل بوسعك القراءة؟” جزئي الشرير تولى الإجابة فوراً “كلا لا أعرف”، ثم فعلت الشيء الذي توجّب علي القيام به أول مرة قرع فيها جرس بيتي وأقلقت راحتي، ففي الوقت الذي كانت فيه المرأة الثانية منشغلة بالبحث عن مقاطع الفيديو في هاتف جوال من نوع آيفون، قمتُ بانسحاب تكتيكي إلى الداخل وصفقتُ الباب بقوة. بقينا نحن الثلاثة نحو دقيقة واقعين تحت تأثير تصرفي، فلا شك أنهما كانتا مذهولتين من فشلهما الذريع في إرشادي نحو المسار الذي يحدّد جماعتهما شروط الدخول إليه والوجهة التي يفضي إليها، كنت في الداخل منتشياً بنصر معنوي حققته على امرأتين! وعلى جماعة مختصّة بإزعاج الآخرين، لكنها كانت واقعة صغيرة في حربٍ يبدو أنها اتُخذت ضدي وربما لأجلي، إذ عادوا لقرع جرس بابي في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة التالي، ثلاث مرات متتالية، بين الواحدة والأخرى ثلاثون ثانية!

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":31010}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">