

لم تعد ملاحقة المعارضين بالرصاص الحي وتكسير العظام في الساحات العامة تتناسب مع مظهر الدولة “الديمقراطية” الذي يسعى العراق إلى تسويقه أمام العالم. لكن بدلاً من مراجعة أدوات القمع، طُوِّرت تحت غطاء قانوني ومنصات رقمية، وابتكرت السلطة ما يمكن تسميته بـ “القمع الديمقراطي”، حين أطلقت وزارة الداخلية مطلع 2023 منصة إلكترونية باسم “بلّغ”، تتيح للمواطنين الإبلاغ عن “المحتوى المسيء” على وسائل التواصل، بذريعة حماية الذوق العام والاستقرار المجتمعي.
شكّلت الوزارة لجنة مختصة لفحص آلاف البلاغات التي وردت إلى المنصة، لتحديد ما يعدّ “مسيئاً لقيم المجتمع العراقي وتقاليده”، ثم إحالة المتهمين إلى التحقيق. لكن، وبسبب غياب نصوص قانونية صريحة تُجرّم أغلب ما ورد، دخل مجلس القضاء الأعلى على الخط. ففي شباط 2023، وجّه رئيسه فائق زيدان تعميماً إلى محاكم الاستئناف والادعاء العام، مستنداً إلى ما وصفه بـ “رصد إعلامي” كشف عن محتوى مسيء في منصات التواصل، ودعا فيه إلى “اتخاذ إجراءات قانونية مشددة بحق مرتكبي تلك الجرائم”.
المفارقة أن رئيس مجلس القضاء يطالب بإجراءات ضد أفعال لم تُنظر بعد أمام القضاء، مستخدماً تعبير “مرتكبي تلك الجرائم”، وكأن الإدانة قد صدرت سلفاً، وهذا يتناقض مع مبدأ قانوني أساسي: “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”.
في ظل غياب تعريف قانوني دقيق لـ “الذوق العام”، يصعب تحديد ما يُعدّ فعلاً مسيئاً أو غير أخلاقي. وحتى عند العودة إلى قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969، وتحديداً المادة 403 التي تُجرّم نشر أو عرض أو حيازة مواد “مُخلّة بالآداب العامة”، فإن الأمر يظل خاضعاً للتكييف القضائي، الذي يفتقر إلى معايير واضحة. الأخطر من ذلك، أن توجيه رئيس مجلس القضاء أضاف بنداً غامضاً وهو “الإساءة المتعمدة لمؤسسات الدولة بمختلف عناوينها ومسمياتها”. فهل يعني هذا أن نقد أداء دائرة حكومية أو مسؤول ما قد يؤدي إلى الملاحقة القضائية؟ أم أن المقصود هو حماية رموز الحكم تحديداً، ومنع تكرار ما حدث في احتجاجات تشرين 2019، حين كان لوسائل التواصل الاجتماعي دورٌ في تأجيج الغضب الشعبي؟
إذا بات انتقاد المؤسسات الحكومية مهدّداً لحرية الفرد، فهل يبقى للديمقراطية معنى؟ وإذا أُجبر الناس على السكوت، فبمَ تختلف دولة تزعم أنها ديمقراطية عن أي نظام شمولي؟ إن محاولات تحجيم النقد باسم “الذوق العام” أو “المصلحة العامة” تفرّغ الحياة العامة من أي مضمون سياسي حقيقي، وتحوّل المشاركة المجتمعية إلى مجرّد تكرار لما تقوله السلطة.
باسم “مكافحة المحتوى الهابط”، اعتُقل العشرات من صنّاع المحتوى والمدوّنين بعد آلاف البلاغات التي استقبلتها منصة “بلّغ”. صدرت بحق بعضهم أحكام بالسجن، فيما أُرغم آخرون على حذف منشوراتهم، أو توقيع تعهدات بعدم النشر مجدداً. وعلى السطح، تبدو الحملة موجّهة ضد المقاطع المبتذلة أو المسيئة، لكن في العمق، استُخدمت أداةً لتكميم الأفواه، واستهداف أصحاب الرأي المستقل في وسائل التواصل، وحتى في الإعلام التقليدي.
تجاوزت حملة “تكميم الأصوات” منصات التواصل، لتطال الصحافة التقليدية أيضاً. أصواتٌ إعلامية بارزة عُرفت بانتقادها للسلطات التنفيذية والتشريعية، اختفت فجأة، بإرادتها أو تحت الضغط. تدخلت هيئة الإعلام والاتصالات في أكثر من مناسبة لمنع ظهور إعلاميين بعينهم، وأُجبر بعض الصحفيين على التوقيع على تعهدات بعدم تكرار نقدهم، بينما خضع آخرون لتحقيقات ومحاكمات، صدرت في بعضها أحكام بالسجن.
اللافت أن نقابة الصحفيين العراقيين، بدلاً من الدفاع عن أعضائها، أدّت دوراً معاكساً في كثير من الحالات، عبر “خبراء” أوفدتهم إلى المحاكم بطلب من القضاء، ليشهدوا ضد الصحفيين أنفسهم. أما نقابة المحامين، فذهبت أبعد من ذلك، حين بدأت بمحاسبة المحامين الذين يصرّحون لوسائل الإعلام، بل خاطبت غرف الانتداب في محاكم البلاد، لتحديد أسماء المحامين المسموح لهم بالظهور الإعلامي.
كل هذه الإجراءات، ورغم تناقضها الصريح مع الدستور العراقي، صدرت بعلم مجلس القضاء الأعلى وموافقته، وأحياناً بطلب مباشر منه، والذي يُفترض به أن يكون الضامن لحرية التعبير، لا أداة لقمعها.
في حزيران 2025، وجّه رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، خلال اجتماع في محكمة استئناف نينوى، بمتابعة مستخدمي وسائل التواصل الذين “يسيئون إلى الدولة ويحرفون الحقيقة”. وجاء التوجيه في ذروة التوتر الإقليمي بين إيران وإسرائيل، حين كان العراق في قلب القلق، سواء من الانخراط في الحرب أم البقاء على الحياد فيها. وبدلاً من فتح نقاش عام حول المسار المصيري وقدرتنا على التعامل معه، والتساؤل عن الدولة ودورها، لجأت السلطات إلى لغة الملاحقة.
الأكثر إثارة للسخرية، أن وزارة الداخلية نفسها، التي أطلقت منصة “بلّغ” لمكافحة “المحتوى الهابط”، بدأت تلاحق أيضاً التصريحات الطائفية وخطابات الكراهية، مستخدمة الأدوات ذاتها. لكنها لم تحرّك ساكناً حين أطلق سياسيون ومحللون تصريحات علنية شكّكوا فيها بولاء مكوّنات كاملة من المجتمع العراقي أثناء القصف المتبادل بين طهران وتل أبيب، ولم تعتبر تلك التصريحات مسيئة للذوق العام، ولم تصل بشأنها بلاغات، ولم تُفتح بشأنها أي تحقيقات.
وفي الحال هذه، في دولة تُطوّع قوانينها وفق الحاجة السياسية، يتحول القانون من مرجع إلى أداة، ويُلاحق الرأي ويُترك التحريض، ويُحاسَب المواطن ويُحصّن المسؤول. وباسم “الذوق العام” تُكمّم الأفواه، وبذريعة “الأمن” تُفرّغ الديمقراطية من معناها، وكل هذا يعني، من بين ما يعنيه، أن ما يجري ليس تقنيناً للمحتوى، بل إعادة هندسة للصوت العام: صوت واحد، اتجاه واحد.
المزيد عن تحليل
تحليل, غير مصنف","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":31016}" data-page="1" data-max-pages="2" data-start="1" data-end="1">







