بين هلالي العيد والشيعة.. هل تعصف السياسة بالمؤسسات الدينية السنية في العراق؟
"الانقسام يتسلّل إلى المؤسسات السنية الدينية، ما دور أحداث المنطقة في ذلك؟
"الانقسام يتسلّل إلى المؤسسات السنية الدينية، ما دور أحداث المنطقة في ذلك؟

لم تكد نيران الحرب تندلع في لبنان وسوريا حتى ظهرت آثارها في العراق، خصوصا بعد مقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وصعود المعارضة السنية إلى سدة السلطة.
كانت الأحداث تجري بتسارع شديد، وتحرك مياهاً راكدةً في العراق، معيدة أجواء الشحن الطائفي بشكل كبير، خصوصا بعد تسنم أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني سابقا” رئاسة سوريا؛ التي حكمتها عائلة الأسد (العلوية) لأكثر من خمسين عاماً عبر بوابة حزب البعث العربي الاشتراكي؛ حليف السلطة في بغداد منذ العام 2011.
أحزاب التشيع السياسي الحاكمة في العراق؛ اعتبرت وصول الجهاديين إلى الحكم في بلد جار –بأهمية سوريا- تهديدا مباشرا لها، خصوصا وأن الرئيس الجديد سبق أن قاتل في العراق واعتُقِل لدى القوات الأميركية، وانتمى إلى تنظيم القاعدة ثم “داعش”؛ قبل أن يعلن انسلاخه عنه، ويبنى سلطة خاصة به في إدلب، كانت ركيزة لإسقاط نظام آل الأسد، بالإضافة إلى مخاوف عبّر عنها سياسيون ومدوّنون من امتداد شرارة الأحداث في سوريا إلى العراق؛ بشكل أو بآخر.
أما القوى السياسية السنية؛ فقد انقسمت بين الترحيب المباشر بالتغيير في سوريا، أو التحفظ مع الدعوة للتفاهم حول سبل إعادة العلاقات بين البلدين، لكن ذلك كله كان يخفي الجزء الأهم من “جبل الجليد” في الساحة العراقية، والذي بدأت تتضح معالمه عبر أحداث صغيرة متفرقة؛ أظهرت ملامح حراك جديد بدأ يتشكل في المنطقة، ولعل أبرز تلك الأحداث هو الانقسام حول رؤية هلال العيد لدى العرب السنة في العراق، وما تلاه من تداعيات، بالتزامن مع الحديث المستمر عن “انحسار الهلال الشيعي وتقليم أظافر إيران في المنطقة”، فيما تبدو المؤسسات الدينية السنية في قلب هذه المعمعة؛ دون خطاب واضح أو برنامج عمل للتعاطي مع المتغيرات الجديدة.
انقسام غير مألوف
للمرة الأولى منذ ولِدَت الدولة العراقية الحديثة على الأقل؛ ينقسم سُنة العراق رسميا حول تحديد موعد أحد الأعياد والمناسبات الدينية، بعدما أعلن ديوان الوقف السني أن يوم الإثنين الموافق 31 آذار هو أول أيام عيد الفطر؛ خلافا لإعلان السعودية وبعض الدول يوم الأحد عيدا، فيما تأخر إعلان المجمع الفقهي العراقي عن عدم ثبوت الرؤية عدة ساعات، ليثير ذلك جدلا وغضبا في المدن والمحافظات السنية، ورافق ذلك كسر الآلاف لقرار الوقف بتحديد يوم العيد، وأداء الصلاة في ساحات وحدائق عامة ببغداد والفلوجة والموصل وتكريت ومدن أخرى صبيحة الأحد 30 آذار، بعدما أمر رئيس ديوان الوقف مشعان الخزرجي بإغلاق المساجد أمام المصلين.
كثيرون اعتبروا ما جرى “تدخلا حكوميا” في قرار الديوان، في محاولة لتوحيد العيد مع المرجعية الشيعية وتحدث آخرون عن مصادرة آخر قرار مستقل يمتلكه السنة بعد 2003، فيما نفى المتحدث باسم الحكومة ذلك.
“لأول مرة، ينقسم السُنة فيما بينهم على تحديد موعد العيد، ويتمرّد عدد ليس بقليل على قرار مؤسسة دينية سُنية اتهموا رئيسها بالخضوع لضغوط رئيس الوزراء، الذي نفى المتحدث باسمه أن يكون له أيّ علاقة بالأمر”
في اليوم التالي خطب كبير علماء المجمع الفقهي العراقي الشيخ أحمد حسن الطه موضحا ملابسات ما جرى، وموجها نقدا شديدا لرئيس الديوان مشعان الخزرجي، “الذي حاول إجبار لجنة تحديد الرؤية الشرعية على إعلان يوم الإثنين أول أيام العيد في اجتماع عُقد قبل يومين على تجمع إعلان رؤية الهلال”.
قوى سياسية سنية دخلت على الخط، موجهة انتقادات لاذعة لإدارة الوقف، ومتهمة رئيس الديوان بالتواطؤ مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني؛ لتحديد موعد العيد بمعزل عن المؤسسات الدينية السنية، وتصدّر هؤلاء الساسة النائب السابق مشعان الجبوري، بالإضافة إلى تغريدات في نفس الخط لرئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، ورئيس حزب السيادة خميس الخنجر.
أحناف وشافعية ولكن!
رغم تلاشي نزعة التقليد المذهبي في أوساط سنة العراق منذ قيام الدولة الحديثة؛ إلا أن معظم العرب السنة يتبعون تقليديا المذهب الحنفي، خصوصا في المدن؛ كبغداد والموصل وسامراء وتكريت والرمادي والفلوجة وبعقوبة وكركوك وشمال بابل، فيما يقلد جزء من سنة البصرة ومناطق في بغداد ونينوى والأنبار وصلاح الدين مذهب الشافعي، أما المذهب الحنبلي فينتشر بين بعض سنة البصرة.
أما الأكراد فيعتنقون تاريخيا المذهب الشافعي، فيما يتبع التركمان السنة المذهب الحنفي.
لا تحظى قضية الانتماء المذهبي الفرعي بأهمية بين عموم الناس في المجتمع السُني، لكنّها تُستدعى في قضيتين أساسيتين هما: الأحوال الشخصية، وإعلان دخول رمضان والعيدَيْن
ولم تعد قضية الانتماء المذهبي الفرعي مهمة أو ذات شأن بين عموم الناس بالمجتمع السني، لكنها تُستدعى في قضيتين أساسيتين هما: الأحوال الشخصية، وإعلان دخول رمضان والعيدين.
يؤمن الأحناف بـ”وحدة المطالع”، وتعني أنه إذا شوهد هلال العيد في المشرق؛ فإن على أهل المغرب الصيام أو الإفطار، والعكس صحيح، ويتابع الأحناف في هذا المالكية والحنابلة، فيما يعتقد الشافعية أن أهل كل بلد يعتمدون على أنفسهم في رؤية الهلال.
لذا احتج الآلاف الذين عيّدوا يوم الأحد بفكرة أن الهلال شوهد في السعودية، وعليه فإن الإفطار واجب وفقا لـ “وحدة المطالع”، متسائلين عن سبب إعلان رمضان وفقا لهذه القاعدة، وعدم اعتمادها في إعلان العيد.
بين الاحتجاج والتمرد
وفي جانب من الموضوع؛ يمكن وصف ما جرى بأنه “تمرد” للشارع السني على قياداته التقليدية، وعدم رضوخه لها في هذه المسألة، مما يستدعي الحديث عن تأثير المؤسسات الدينية التقليدية على الجمهور، وحجم الحضور الذي تشكله في حياتهم العامة في ظل غياب فكرة “التقليد” بالمجتمع السني.
رافقت هذا التحرك الشعبي محاولات استثمار سياسي من قبل سياسيين أعلنوا العيد في حساباتهم على مواقع التواصل، منتقدين الموقف “المسيّس” للوقف السني، وما قالوا إنه رضوخ لجهات معينة في قضية إثبات رؤية الهلال.
مدونو الإطار وبعض الجهات الشيعية تعاملوا مع الموضوع بشكل مختلف، حين اعتبروا ما جرى مقدمات لتمرد شعبي جديد في المناطق السنية، ربما يأخذ طابعا سياسيا أو عنيفا في وقت لاحق، لذا هاجموا خطوة الصلاة في الساحات والأماكن العامة؛ رغم أن الخلاف سني داخلي، واتهموا القائمين على الموضوع بالرضوخ للسعودية، و”التبعية لأطراف خارجية”.
تدوينات ومقالات ربطت ما جرى بما أسموه “الصعود السني” في المنطقة، وسقوط نظام الأسد في سوريا، وانهيار نفوذ حزب الله في لبنان، والأحداث الدامية التي شهدها الساحل السوري، خصوصا وأن ذلك ترافق مع انتعاش للخطاب المذهبي في وسائل الإعلام مجددا، بل تعدى الأمر لدى البعض إلى ربط ذلك بمسلسل “معاوية”، الذي عُرض في شهر رمضان؛ بعد سنوات على تصويره وتأجيل بثه.
وتشهد مواقع التواصل انتعاشا وإحياء للمصطلحات التاريخية ومحاولات ربطها بالحاضر؛ كـ”الأمويين الجدد” و”البويهيين الجدد” و”السفياني”، ونبشا في صفحات الصراع التاريخي بين الأمويين والعباسيين والطالبيين؛ بشكل يحمل تحريضا متبادلا، وإسقاطات متكلفة على الواقع، دون وجود مؤسسات دينية قادرة على ضبط إيقاع الشارع، ومنعه من الخروج عن السيطرة.
منصب في مهب الريح
منذ إعلان تأسيسه بعد الغزو الأميركي؛ صار الوقف السني ساحة لنزاعات القوى السياسية السنية، التي سعت لترسيخ وجودها في داخله؛ عبر حصص ومناصب يتم الاتفاق عليها في المواسم الانتخابية، وتنفذ تبعا لأحجام الكتل الفائزة.
ولا يُخفي كثير من السياسيين سعيهم للهيمنة على الوقف الذي يتمتع بميزانية ضخمة، وأملاك تتوزع على مساحة العراق من الشمال إلى الجنوب، حتى إنه يمتلك عقارات وأراض شاسعة في البصرة وكربلاء وذي قار وواسط وبابل؛ فضلا عن المحافظات ذات الأغلبية السنية، الأمر الذي جعله هدفاً يستميت البعض للظفر به.
وكان رؤساء الوقف الأوائل عدنان الدليمي وأحمد عبد الغفور السامرائي ومحمود الصميدعي أكثر صراحة فيما يتعلق بالصراع السياسي في العراق، عبر مواقف اعتبرتها القوى الشيعية مناوئة لها، ومنحازة بشكل واضح إلى القيادات السنية الممثلة في جبهة التوافق وقتها.
لكن متغيرا جديدا طرأ على الوضع بعد حزيران من العام 2015؛ وتمثل بدخول القوى الشيعية على خط الصراع، والعمل على الدفع بشخصيات قريبة أو موالية للسلطة لتولي رئاسة هذه المؤسسة، تزامناً مع ذروة سيطرة داعش على المدن السنية واحتدام القتال معها، وتحقق ذلك بتولي عبد اللطيف الهميم رئاسة الوقف، بدعم من رئيس البرلمان وقتها سليم الجبوري.
وظل الوضع على ما هو عليه بعد رحيل الهميم، وتولي سعد كمبش الذي فارق الحياة بطريقة دراماتيكية، ثم عبد الخالق العزاوي الذي حاول التملص من بعض القيود المفروضة عليه إلا أنه أقيل بعد مدة قصيرة؛ ليتولى بعده رئاسة الوقف مشعان الخزرجي، الذي يتهمه كثيرون بالتسبب بالمشكلة الأخيرة.
في الغرف المغلقة، يدور كلام كثير خلال السنوات الأخيرة؛ عن سيطرة فصائل مسلحة على أبنية وعقارات وقطع أراض تابعة للوقف في بغداد وديالى والبصرة ونينوى وغيرها، عبر اتفاقات تُعقد مع رؤساء الوقف؛ ضمن صفقات تتعلق بمواقف سياسية؛ تكون على الأرجح لتثبيت رئيس الديوان في منصبه؛ الذي فقد قيمته، وبات مهددا بالإقالة في أي لحظة.
غضب وإحباط
لم يكن الاحتجاج السني على موقف الوقف في قضية رؤية الهلال لحظيا كما يؤكد الكثيرون، لكنه نابع من شعورهم بالغضب تجاه المؤسسة التي تدير أملاك وأوقاف أجدادهم، ثم أصبحت اليوم “بؤرة فساد مالي كبيرة”، وميدانا لمساومات وترضيات و”هبات” تمنح للآخرين، في سياق انحسار سياسي وديموغرافي كبير، يجد العرب السنة مرارته منذ 2003، لكنه تضاعف عقب هزيمة داعش الإرهابي، ودخول قوى شيعية إلى مناطقهم ومحافظاتهم، وسيطرتها على مواردهم تحت لافتة “المكاتب الاقتصادية”.
في هذه الأجواء التي يسودها كثير من الاحتقان والشقاق الداخلي، عادت إلى الواجهة مجددا دعوات إقالة رئيس الوقف الحالي مشعان الخزرجي، وخرج بعض النواب عن صمتهم، ليطالبوا بشكل واضح بالإطاحة بالخزرجي، بالتزامن مع وقفات احتجاجية متفرقة، ومطالب عبّر عنها مدونون، حمّلوا فيها الخزرجي مسؤولية الانقسام الذي حصل، وأفقد السنة “فرحة العيد”؛ بحسب تعبيرهم.
يتمثل الصراع داخل الوقف منذ تأسيسه بالتدافع والتنافس بين جماعات الإخوان والسلفية والصوفية، لكن جهات سياسية دخلت على الخط خلال العقد الأخير، وبات الوقف مطمعاً للأحزاب وقادتها
كان الصراع داخل الوقف منذ تأسيسه يتمثل بالتدافع والتنافس بين جماعات الإخوان والسلفية والصوفية، لكن جهات سياسية دخلت على الخط خلال العقد الأخير، وباتت تهيمن على حصص كبيرة في المؤسسة، وتعتمد على موارده في تمويل مشاريعها السياسية.
وليس ببعيد عن هذا المشهد، كانت الساحة السنية تشهد نمو وصعود المجمع الفقهي العراقي، الذي تأسس استجابة لدعوات تشكيل “مرجعية سنية”، وحظي باعتراف قانوني خوّله الموافقة على شخص رئيس ديوان الوقف السني قبل تثبيته في منصبه، إلا أن هذه الصلاحية قد عُطلت على الدوام لأسباب واعتبارات مختلفة.
جدل “المرجعية”
بعد العام 2003 وحالة التمزق التي عاشتها الساحة السنية العراقية؛ برز الحديث بقوة عن ضرورة إنشاء مؤسسة مرجعية دينية، تكون “خيمة” يجتمع تحتها أبناء السنة بمختلف توجهاتهم السياسية.
لكن هذه الدعوة ووجهت بمشكلتين أساسيتين، أولاهما عدم اعتراف السُنة بفكرة التقليد والمرجعية؛ التي يتبناها الشيعة الإمامية، والثانية أن هذه الدعوة طارئة ولم تُطرح في ساحة سنية من قبل. على الرغم من تجربة “هيئة علماء المسلمين” التي تأسست بعد الغزو الأمريكي للعراق، لكنّها تحولت، بعد فترة وجيزة، إلى جهة سياسية تجاوزت الهدف الذي أنشئت من أجله، ليتم تصنيفها حكوميا كـ”جهة معادية”.
وبعد هذا الإخفاق، تبّنت جهات دينية أخرى مهمة بناء جسم مؤسسي يصلح أن يكون إطارا مرجعيا للسنة في العراق، فتشكل مجلس علماء العراق؛ ثم المجمع الفقهي العراقي في جامع الإمام أبي حنيفة بالأعظمية في العام 2012.
حرص القائمون على المشروع الجديد على تأكيد التوازن داخل المؤسسة الوليدة، فتمت دعوة أطراف مختلفة في الساحة السنية للانضمام إلى المجمع، دون محاصصة، من أجل تحقيق حضور فاعل للجميع؛ كما أفصح عن ذلك المؤسسون وقتها.
وبمرور الوقت انضمت شخصيات إخوانية وسلفية وصوفية وتقليدية إلى المجمع، وباتت جزءا من واجهته؛ التي تضم اليوم شخصيات من توجهات مختلفة معظمها من خطباء المساجد الكبيرة والأساتذة في الكليات الشرعية.
إلّا أن الحضور الإخواني خلال تشكيل المجمع؛ دفع الكثيرين إلى تصنيفه كمؤسسة قريبة من الجماعة وخطها العام، فيما ظل المجمع يؤكد على كونه جهة مستقلة وغير سياسية، تكتفي بتوجيه نقد للحياة السياسية العامة من خلال خطب الجمعة، وعلى أن جميع التوجهات السنية ممثلة بداخله.
إفتاء برعاية حكومية
بعد غزو العراق، برزت عدة فصائل سنية مسلحة أعلنت مقاتلة الجيش الأميركي، كان من بينها فصيل أطلق على نفسه “الجيش الإسلامي السري”، تزعمه إمام جامع أم الطبول “ابن تيمية سابقا” مهدي الصميدعي، الذي كان وما يزال يطرح نفسه ممثلا للتيار السلفي في العراق.
اعتقلته القوات الأميركية بتهمة الإرهاب، ثم أُفرِجَ عنه بعد 5 سنوات ليتوجه بعدها إلى سوريا في العام 2009، ثم ليفاجىء الجميع بالعودة إلى بغداد سنة 2011؛ تحت حماية رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بناء على صفقة سياسية قيل وقتها إن المخابرات السورية السابقة كانت طرفاً فيها.
وخلافاً لما اعتقده كثيرون؛ فقد أعلن الصميدعي تأييده لخط المالكي السياسي، وأبدى استعداده للتعاون معه، ثم أعلن في العام 2014 تنصيب نفسه مفتيا للجمهورية، الأمر الذي ووجِهَ بكثير من الاستهجان والرفض.
كان الاحتقان الطائفي بلغ ذروته وقتها، وأسفر اصطفاف الصميدعي إلى جانب المالكي في تأجيج مشاعر العداوة تجاهه، واتهامه بـ”العمالة للسلطة وبيع ذمته مقابل المال والعفو عنه”.
اتخذ الصميدعي من جامع أم الطبول مقراً لما أسماها “دار الإفتاء العراقية”، وبدأ نشاطه من هناك، بعد أن دخل في صدامات مع ديوان الوقف السني، انتهت بسيطرته على الجامع وسحب يد الوقف من إدارته.
وخلال فترة الحرب على داعش، أعلن الصميدعي تشكيله فصيلاً حمل عنوان “حركة أحرار العراق”، وشارك بحسب أعضائه في العديد من المعارك ضد التنظيم الإرهابي، كما حرص خلال هذه الفترة على تأكيد حلفه مع “الحشد الشعبي”، وتوثيق علاقاته بقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني الذي التقاه أكثر من مرة برفقة أبو مهندس المهندس وقيادات أخرى.
وقد توثقت علاقات الصميدعي بالسفارة الإيرانية في العراق، عبر لقاءاته بسفراء طهران في بغداد، ودعواته المستمرة للاصطفاف إلى جانب إيران في حال شنت الولايات المتحدة حربا عليها، وتجاوز ذلك ليدعو إلى تبني تسمية “الجمهورية الإسلامية العراق”؛ تأسّياً بإيران.
كل ذلك حرمه من الحصول على تأثير ملموس في الشارع السني، وجعله عرضة للانتقاد و”السخرية” من قبل كثيرين، كانوا يرون فيه مجرد “أداة” للأحزاب الشيعية في المناطق السنية.
الصراع على الغنائم
خلال السنوات الأخيرة؛ زادت وتيرة صراع الساسة السنة على الوقف، من خلال التنافس على منصب رئيس الديوان والمدراء العامين ومدراء الشعب أيضا، وبعد كل موسم انتخابي تتغير خريطة المواقع داخل المؤسسة، عبر صعود أشخاص وهبوط آخرين، أو إحالتهم إلى التقاعد.
أما العلاقة بالمجمع الفقهي، فقد حرص رئيس حزب السيادة خميس الخنجر ورئيس تحالف العزم مثنى السامرائي على تأكيد الدعم الكامل لما يعتبرونها “مرجعية أهل السنة”، فيما ظل الحلبوسي يبدي قدراً كبيراً من التحفّظ في التعامل مع هذه المؤسسة، التي سبق وأن لمزها في مواقف عدة، بسبب ما قال إنها علاقتها بالإخوان.
وظهرت معالم هذا الالتباس بالعلاقة أثناء الجدل حول قانون الأحوال الشخصية، وما تبع ذلك من حديث للمجمع عن ضرورة إقرار المدونة السنية الخاصة، ليظهر الحلبوسي في أكثر من مناسبة وينتقد ما أسماها بـ “المحاولات الإخوانية” للعبث بالقانون، قائلا إن السنة يتبعون “السلف الصالح” في هذه المسائل، الأمر الذي فهمه البعض على أنه مغازلة للتيار السلفي، الذي تؤيد قطاعات واسعة منه مرشحي “تقدم” في المواسم الانتخابية.
وضمن أجواء الخلاف غير المصرح به هذه، عمل الحلبوسي وحزب “تقدم” على إعطاء حيّز كبير في منصاتهم ووسائل إعلامهم للشيخ عبد الملك السعدي، وتقديمه بصفته “فقيه العراق الأول”، إلى جانب الحضور الواضح لشقيقه الشيخ عبد الرزاق السعدي في الحياة العامة بالأنبار.
مواسم التأثير والحضور
مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في تشرين الثاني من العام الحالي، لا يبدو تصاعد التأجيج المذهبي والمناطقي أمراً غريباً في العراق، لكن الأشهر الأخيرة شهدت متغيرات جديدة في الإقليم، أضفت على الجو العام في البلاد مزيدا من الحدة والاستقطاب المدجّج بآلاف الحسابات والصفحات في مواقع التواصل.
“مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في تشرين الثاني من العام الحالي، لا يبدو تصاعد التأجيج المذهبي والمناطقي أمراً غريباً في العراق، لكنّ متغيرات المنطقة أضفَتْ مزيداً من الحدّة والاستقطاب المدجّج بآلاف الحسابات والصفحات في مواقع التواصل”
وفيما يتحدث البعض عن تغيير جذري قادم، يبشّر به ساسة ومدونون من خارج الحدود، يشوب الوضعَ في الداخل السني كثيرٌ من الإرباك والغموض، مع تزايد حملات استهداف هذه المناطق وأبنائها في مواقع التواصل والقنوات الفضائية.
ولم تصدر المؤسسات الدينية السنية مواقف واضحة تجاه التحولات التي تشهدها المنطقة، واكتفت بالدعوة لتوحيد صف الشعب السوري وقطع الطريق على “الأعداء” الراغبين بتمزيقه، فيما ظلت القضية الفلسطينية حاضرة على الدوام في خطب الجمعة، بالإضافة إلى الوقفات الاحتجاجية والتظاهرات التي ينظمها المجمع الفقهي بين الحين والآخر، ليعلن من خلالها استنكاره للعدوان الإسرائيلي على غزة.
ويرى البعض أن هذه المبادرات والتحركات التي يمكن وصفها بـ”المتواضعة”، هي أقصى ما يمكن أن تقدمه هذه الجهات، التي لم تحظ بالاعتراف الشعبي الكامل حتى الآن خلافا للساحة الشيعية، إلّا أن التطورات السياسية خلال الفترة القادمة ربما تمنحها شيئا من القوة والتأثير، خصوصا مع اقتراب الانتخابات، التي تؤكد فيها هذه المؤسسات في العادة على ضرورة المشاركة الواسعة وعدم مقاطعة التصويت، الأمر الذي يجعلها مقصداً لرؤساء أحزاب ونواب أو مرشحين، سعيا للحصول على شيء من شرعية يفتقدونها في مجتمع لم يقتنع بالمشاركة السياسية بشكل حقيقي حتى الآن.


