تواجه الدول في مراحل نشوئها وبنائها وتحولاتها مشاكل متنوعة، سياسية واقتصادية واجتماعية، ووجودية تتعلق بالهوية في أحياناً، لكنّ مشكلةَ العراق ما بعد عام 2003 أن مشكلاته لا يمكن حصرها أو اختزالها.
النقاش في أية مشكلة من المشاكل الرئيسة في العراق، سينتهي المطاف عند الجدار الأخير الذي قد يعيد كلّ شيء إلى نقطة الصفر، وهذا الجدار هو الطرف السائب والقاعدة غير المحسومة التي تمنع اختيار الأدوات المناسبة من التوصّل إلى حل، وبدلاً من ذلك، قد تتفتّق المشكلة إلى سيل من المشكلات الأخرى.
يشتكي خبراء الاقتصاد عدمَ وضوح هوية الاقتصاد العراقي، هل هو اشتراكي أم رأسمالي؟ بينما يجد العاملون بالسياسة صعوبة في التعامل مع ما تحدده الدولة لنفسها وللمجتمع العراقي من هوية، فيما لو كان العراق دولة دينية أم ديمقراطية بهوية مدنية؟ وهل الحشد جيش عقائدي يخضع للفتوى والمتطلبات الجهادية، أم مؤسسة تخضع للأوامر العسكرية؟
هكذا ينسحب “الالتباس” والتداخل وعدم الوضوح بصفته هوية عامة للمشكلة/المشكلات العراقية، سواءً كانت على شكل قضايا أم اشخاص.
وسط طوفان المشكلات المتشابكة هذا، أصبح مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري أو (التيار الوطني الشيعي لاحقاً)، أحد أبرز المؤثرات في المجتمع والسياسة في عراق ما بعد 2003 بصفته ظاهرة غير واضحة أو قابلة للتفكيك والتنبؤ.
التحولات خارج السياق وفقاً لمتغيرات السياسية، فالتحولات في المواقف السياسية أمر طبيعي، وبعضها مفهوم، لكنْ في حالة الصدر، كانت التحولات في المواقف عصيّة على التأطير في سياق مفهوم، خلال مختلف مناسبات وأحداث ومراحل ما بعد 2003.
ونظراً لأهمية الصدر المنبثقة من إرث والده، فضلاً عن حجم قاعدته الشعبية في العراق الجديد الذي يضع “الأكثرية العددية” بالحسبان، تحوّل الصدر إلى سلاح يعوّل عليه البعض من مختلف الأطراف المتشابهة والمتضادة، ويخشاه البعض الآخر.
مواقف الصدر المتغيرة كانت في كلّ مرحلة تتطابق مع تيار وجهة وفكرة ما، السنّة والتيارات المدنية والعلمانية ومتطرفو الشيعة ومعتدلوهم، وجد كلٌّ منهم الصدر سلاحاً مهماً وعوناً، في مرحلة ما، وخصماً خطيراً في مرحلة أخرى.
في واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك، وبعد فشل مشروع الأغلبية والتحالف الثلاثي (الصدر/ شيعي، بارزاني/ كردي، الحلبوسي/ سُني) ضد الإطار التنسيقي (الأحزاب والتكتلات الشيعية الأقرب لإيران حينها) واستقالة نواب كتلته البرلمانية، تفرّغ الصدر للطروحات المذهبيّة بشدة، وانغمس بشيعيته طوال الأشهر اللاحقة، وهذا ما تظهره تغريداته وطروحاته في النصف الثاني من عام 2022 وحتى النصف الأول من 2023 قبل السابع من أكتوبر والحرب على غزة وتوجّه الاهتمام نحوها، حتى أن الصدر وصف في إحدى تغريداته من لا يؤمن بأن القرآن نصّ على خلافة الإمام علي للنبي محمد بأنهم “علماء المذاهب الشاذة”، وهو شيء لم يكن ليقوله في السابق.
وعلى الأغلب، يبدو أن “انغماس الصدر في شيعيته” تلك الفترة كان لسببين، الأول هو محاولة لدفع تهمة “التآمر على المذهب” التي طالته بسبب تحالفه مع الكرد والسنة ضد الإطار التنسيقي وصناعة أغلبية “وطنية” وليست شيعية، والثاني هو شعور الصدر بـ”الخذلان” من الشركاء الآخرين غير الشيعة، الذين استكملوا رحلتهم السياسية وانسجموا بالعملية مع الإطار التنسيقي سريعاً فور انسحاب الصدر.
يعطي المثال المذكور تصوراً عن نوع التحولات التي يتفرّد بها الصدر في الساحة العراقية، والتي لا يمكن اعتبارها طبيعية -أو متوقعة ومعقولة- في السياسة والفكر والمواقف، فغالباً ما تكون تلك التحولات محكومة بـ”مؤسسة” أو خطوط عامة عريضة، وحتى التحولات الشخصية، غالباً ما تبقى في إطار أدبيات المؤسسة الأم أو الجماعة الدينية أو الاجتماعية، لكن تحولات الصّدر، شخصية بالمُجمل، وناجمة- في أحيان كثيرة- عن ردود فعل، وليست مؤسسيّة، لهذا فهي تفتقر للضابطة، فالمؤسسة الصدرية بأكملها مُشيّدة على أساس شخص الصدر بذاته، ولا شيء آخر.
إشكالية المشاركة والمقاطعة أكثر تحولات الصدر تأثيراً وإثارة للاهتمام “الانسحاب والعودة” من وإلى العملية السياسية، ومقاطعة الانتخابات والمشاركة بها، وهذه ليست انعطافة جديدة، بل هي تفصيلة لازمت قصة الصدر منذ بداية عمليته السياسية الجديدة بعد 2003.
في 2005، وبينما كان الصدر قد خرج للتو من معارك شرسة مع القوات الأمريكية، أعلن أنه لن “يشترك بالانتخابات مادام العراق محتلاً”، لكن في 2010، وبينما كان العراق ما يزال محتلاً شارك الصدر بالانتخابات في الائتلاف الوطني العراقي مع عمار الحكيم، وعادل عبد المهدي، وإبراهيم الجعفري وآخرين. وبعد عامين من عملية “صولة الفرسان” التي قادها رئيس الوزراء المالكي عام 2008 ضد فصيل الصدر المسلح “جيش المهدي” ، أيّد الصدر عام 2010 المالكي لولاية ثانية.
وفي عام 2014 شارك الصدر أيضاً بالانتخابات عبر كتلة الأحرار وحصل على أكثر من 30 مقعداً، والتي ساهمت عبر تحالفاتها بالإطاحة بنوري المالكي من ولاية ثالثة كان يعمل لاستحداثها، وصوّت لصالح حيدر العبادي خلفاً للمالكي. وفي 2018 شارك التيار الصدري بالانتخابات وحصل على أكثر من 50 مقعداً وتحالف حينها مع العبادي وعلاوي لتشكيل ما عرف بـ “تحالف الإعمار والإصلاح”، يقابله تحالف البناء بقيادة هادي العامري، ونوري المالكي. وبالرغم من “سباق تشكيل الكتلة الأكبر” حينها، إلّا أن الصدر مضى في التوافق بين الإعمار والإصلاح وبين البناء لاختيار عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء، قبل أن يعبّر عن ندمه على هذا الاتفاق الذي وصفه بـ “خلطة العطار”، التي قال إنه لن يعود إليها مجدداً.
في عام 2021، شارك الصدر بالانتخابات بعنوان “الكتلة الصدرية”، وكان الفائز الأكبر بأكثر من 70 مقعداً، وتعهّد حينها بعدم العودة لـ”خلطة العطار”، فاختار تشكيل الائتلاف الثلاثي مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني وحزب تقدم برئاسة الحلبوسي، ليؤسس مبدأ “الموالاة والمعارضة” على ألّا يشترك الجميع بتشكيل الحكومة، لكن مشروعه لم ينجح بسبب “الثُلث المعطل” فقالت المحكمة الاتحادية حينها: إنه لا يجوز انتخاب رئيس جمهورية إلّا بأغلبية الثلثين ولن يتحقق نصاب الجلسة إلّا بهما، وهذا بالضبط ما حصل، حيث لم يتمكّن التحالف الثلاثي من جمع الثلثين رغم احتياجه لنحو 10 نواب فقط، لتحقيق النصاب وعقد الجلسة وانتخاب رئيس للجمهورية سيكلّف لاحقاً أحد المرشحين لتشكيل الحكومة ورئاستها.
بعد 8 أشهر من الشدّ والجذب والعناد، والثلث المعطل، وقرارات المحكمة الاتحادية التي منعت الصدر من تنفيذ مشروعه منذ إجراء الانتخابات في تشرين الأول 2021، وحتى حزيران 2022، دعا الصدر الكتلة الصدرية إلى الاستقالة من البرلمان، وترك العملية السياسية بالكامل، في أول غياب صدري عن البرلمان منذ 2010. وتم تكليف محمد شياع السوداني، رئيساً للوزراء رغم رفض الصدر وتظاهرات أنصاره، التي انتهت بـ “الدماء على أسوار الخضراء”، بعد أن كان الصدر يوصف بأنه “صانع الملوك”، الذي كان له دور إعطاء الضوء الأخضر في تنصيب المالكي بالولاية الثانية، والعبادي، وعادل عبد المهدي، ثم مصطفى الكاظمي.
“عهد مع الله“ في 15 حزيران، أي بعد حوالي 5 أيام من استقالة الكتلة الصدرية، استقبل الصدر اعضاء الكتلة المستقيلين في منزله، وكان أول ما أخبرهم به إنه “لن يشترك في الانتخابات القادمة إذا اشترك الفاسدون فيها” مضيفاً إن ذلك “عهد بيني وبين الله، وبيني وبينكم، وبيني وبين شعبي أيضاً، إلّا إذا فرّج الله وأزيح الفاسدون وكل من سرق العراق وأباح الدماء”.
مع مضي الأيام واستمرار المشكلات العراقية بالانشطار، بدا شرط الصدر “شديد الصعوبة” لدرجة أن المرجع الأعلى للشيعة في العراق، السيد علي السيستاني أشار في تشرين الثاني الماضي إلى” التحديات الكبيرة التي يواجهها العراق في الوقت الحاضر، وما يعانيه شعبه على أكثر من صعيد”، وذلك في بيانه الشهير بعد استقبال ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، محمد الحسان.
لم يمكث موقف الصدر و”عهده مع الله” في أذهان الأوساط السياسية، بل وحتى أنصاره وبعض الشخصيات السياسية السابقة التي كانت مقربة منه، مثل بهاء الأعرجي الذي كان “يبشر” بقرب عودة الصدر، على الرغم من الأهمية الشديدة لشرطه من أجل العودة، فكانت التحليلات والتوقعات والتكهنات تترادف حول اقتراب عودته إلى الانخراط بالعملية السياسية، ولاسيما قبل انتخابات مجالس المحافظات أواخر 2023، لكنّه لم يعد.
عام كامل من بوادر العودة.. وهدم مفاجئ
في 11 نيسان 2024، ظهرت أولى بوادر الصدر لإمكانية التحضير لمشروع سياسي، عندما قام بتغيير اسم التيار الصدري إلى “التيار الوطني الشيعي”، في وثيقة لا تحتوي على شيء آخر غير تغيير الاسم، وهي طريقة غالباً ما يتبعها الصدر لتمرير رسائل معينة.
وصلت الرسالة إلى الجميع بطريقة واحدة: الصدر يحضّر للانتخابات القادمة باسم جديد، واستخدام هذا الاسم هي محاولة لتوسيع شعبية الصدر وعدم اقتصاره على قاعدته الجماهيرية، بل محاولة منه لاستقطاب الشيعة الصامتين وجماهير التيارات الأخرى، وكل “شيعي وطني”، وعدم البقاء ضمن النطاق الضيّق في الفضاء الصدري فحسب.
بعد عام على ذلك، تسارعت مؤشرات ومعطيات العودة ولاسيما خلال شهر آذار الماضي والذي وافق شهر رمضان، لكن قبل رمضان بحوالي 10 أيام وتحديداً في 19 شباط، وفي إجابة على واحد من أسئلة الاستفتاءات التي ترد إلى مكتب الصدر بشأن الموقف من تحديث بطاقة الناخب، حثّ الصدر على تحديث البطاقة ووصفه بأنه “أمر لا بد منه” وأنه نافع للصدريين سواء دخلوا الانتخابات أم قاطعوها.
في السابع من آذار، أي بعد “الحثّ على تحديث بطاقة الناخب” بحوالي 17 يوماً، ظهر أعضاء الكتل السياسية الصدرية لجميع الدورات النيابية السابقة، وهم في ضيافة الصدر وتضمن الحضور نواب الكتلة الصدرية وكتلة الأحرار وغيرهم من النواب الصدريين، ثم بعد ذلك بـ 10 أيام، ظهر أعضاء الكتلة الصدرية في منزل رئيس الكتلة، حسن العذاري، لتُنعش هذه الأحداث المتتابعة احتمالية عودة الصدر وتياره إلى الساحة السياسية.
حدّثوا.. وقاطعوا.. بعد 10 أيام أخرى، وفي خضم تصاعد مؤشرات عودة الصدر، وانتشاء المبشّرين بعودته، باغت الصدر الجميع عندما أجاب على استفتاء حول المشاركة بالانتخابات القادمة بـ”النهي عن المشاركة والترشيح”، أي منع الصدريين حتى من التصويت لكتل أو مرشحين آخرين وليس منع تأسيس كتلة أو الترشح بالانتخابات بعنوان صدري، كما وصف المشاركة والترشح بأنهما “إعانة على الإثم”، وذلك بعد أن كرر المبدأ الذي سبق أن أطلق وفقه “عهوده مع الله والجمهور”، قائلاً، “ليكن في علم الجميع ما دام الفساد موجوداً فلن أشارك في عملية انتخابية عرجاء لا هَمَّ لها إلّا المصالح والطائفية والعرقية والحزبية”.
بعد ذلك بحوالي أسبوعين، ورغم إعلان المقاطعة، ظهر الصدر متمسكاً بضرورة تحديث البطاقات الانتخابية، وهي خطوة قُرأت على أنها تراجع جديد من الصدر بعد إعلان المقاطعة، لكنّ إصرار الصدر على التحديث وإصراره على المقاطعة وما ذكره في إجابته على الاستفتاء المذكور، والذي وصف فيه “مقاطعة الانتخابات دون تحديث بطاقة الناخب لا أثر لمقاطعته” يوحي بهدف واحد يركز عليه الصدر حتى الآن، وهو تقليل نسبة المشاركة وإظهار حجم تياره وتأثيره على الانتخابات ونسبة المشاركة في حال مقاطعة الصدريين.
تظهر هذه الاستراتيجية مدى فهم واستغلال الصدر، أو الحلقات المحيطة به، للقوانين والأنظمة في المشاركة أو المقاطعة لتحقيق مكسب ما، فقانون انتخابات تشرين، كان الصدريون أكثر من عرف كيفية استغلاله لتحقيق المكاسب. وبالفعل، حققت الكتلة الصدرية المركز الأول، أما فيما يخصّ التوجّه الجديد، فالصدر يعلم أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تحتسب نسبة المشاركة بناء على من يحدّثون بطاقاتهم الانتخابية ويستلمونها، وليس على أساس عدد المشمولين بالتصويت حسب السنّ القانوني، على سبيل المثال إذا كان هناك 25 مليون شخص يحق له المشاركة بالانتخابات، لكن فقط 15 مليون منهم يحملون بطاقات انتخابية محدّثة، وقام 5 ملايين منهم بالتصويت في الانتخابات، لن تقول المفوضية إن نسبة المشاركة تبلغ 20 بالمئة لأن عدد المصوتين هم 5 ملايين من أصل 25 مليون يحق لهم المشاركة بالانتخابات، بل ستقول إن نسبة المشاركة تبلغ 33 بالمئة، لأن عددَ المصوّتين هم 5 ملايين من أصل 15 مليون يحق لهم التصويت لامتلاكهم بطاقات انتخابية محدثة.
السوداني في خارطة عودة الصدر ومقاطعته بالتوازي مع تراكم مؤشرات عودة الصدر، كانت الأنظار تتجه صوب السوداني، رئيس الحكومة الذي بنى مجسرات وافتتح مصانع، وغيرها من الآثار التي رفعت من رصيده وحكومته، برافعات الإيرادات النفطية التي لم تتوفر لحكومة من قبله سوى حكومة المالكي، وهذا ما تؤكده مراجعة بسيطة للبيانات التاريخية لأسعار النفط، كما أن أجزاءً كبيرة من المشاريع التي افتُتحت كانت حكومات سابقة قد تعاقدت عليها، وتأخر إنجازها بفعل الأزمات المالية.
كانت التحليلات السياسية تشير إلى أن الصدر قد يتحالف مع السوداني، خصوصاً وأن خصوم السوداني طوال الأشهر الماضية، هم خصوم الصدر ذاتهم، نوري المالكي، وقيس الخزعلي، وهذان الخصمان سيدخلان الانتخابات المقبلة بشكل منفرد، ومنفصل عن باقي أعضاء الإطار -الذين تقول معلومات سياسية لم تصل درجة اليقين إنهم سيدخلون الانتخابات بتحالف مع السوداني- عدا عمار الحكيم الذي سيدخل الانتخابات منفرداً هو الآخر، لكن لحسابات سياسية لا تتعلق بالتنافس ضد السوداني كما هو الحال مع المالكي والخزعلي.
لكن وجود الصدر محرج كما غيابه، فالآثار التي تحققت في حقبة السوداني، قد تُقرَأ شعبياً على أنها “نجاح تحقق عندما خرج الصدريون”، ومن هذا المنطَلَق ستكون العودة محرجة، خصوصاً إذا انخفضت أسعار النفط، وتوقفت المشاريع وهو أمر ترتفع احتمالاته في ظل وجود ترامب في البيت الأبيض وسعيه نحو هذا الهدف، وبسبب الإرباك الذي تخلقه سياساته الاقتصادية الأخرى في الأسواق العالمية والأسعار، حينها سيُحمَّل الصدريون مسؤولية الفشل المؤجل.