ميزان مختلّ: ماذا ستفعل تعريفات ترامب بالتجارة العالمية والعراق؟
حين غيّر ترامب قواعد التجارة العالمية، لم تتوقف الارتدادات عند حدود الصين وأوروبا، بل وصلت إلى اقتصادات هشة مثل العراق. فماذا يحدث عندما يهتزّ السوق العالمي لدولة تعتمد على النفط وحده؟
حين غيّر ترامب قواعد التجارة العالمية، لم تتوقف الارتدادات عند حدود الصين وأوروبا، بل وصلت إلى اقتصادات هشة مثل العراق. فماذا يحدث عندما يهتزّ السوق العالمي لدولة تعتمد على النفط وحده؟
لطالما شُبّهت التجارة العالمية بميزان دقيق، يتطلب توازنه حرية الحركة وتدفق السلع والخدمات عبر الحدود بأقل قدر ممكن من العوائق. لكنْ مع وصول إدارة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، شهد هذا الميزان اضطراباً غير مسبوق، فمن خلال سلسلة من القرارات الجريئة والمثيرة للجدل بفرض تعريفات جمركية على واردات من دول حليفة وخِصمة على حدٍ سواء، سعت الولايات المتحدة إلى إعادة تشكيل قواعد اللعبة التجارية العالمية. لم تكن هذه التعريفات مجرد تعديلات طفيفة على الرسوم الجمركية، بل كانت بمثابة أوزان ثقيلة أُلقيت على كفتي الميزان، ما أدى إلى اختلاله بشكل واضح.
هذا المقال يسعى إلى تحليل دقيق لكيفية تأثير هذه التعريفات التي فرضها ترامب على هيكل التجارة العالمية، وتتبع ارتداداتها على العلاقات الاقتصادية بين الدول، وتقييم مدى قدرة هذا “الميزان المختل” على استعادة توازنه في المستقبل القريب.
هذا المقال يسعى إلى تحليل دقيق لكيفية تأثير هذه التعريفات التي فرضها ترامب على هيكل التجارة العالمية، وتتبع ارتداداتها على العلاقات الاقتصادية بين الدول، وتقييم مدى قدرة هذا “الميزان المختل” على استعادة توازنه في المستقبل القريب.
كانت الإدارة الأمريكية ترى أن العديد من الصناعات المحلية تعاني من منافسة غير عادلة مع الشركات الأجنبية، خاصة تلك المدعومة من حكوماتها أو التي تعمل بتكاليف إنتاج أقل (مثل الأجور المنخفضة أو المعايير البيئية المتساهلة) وربطت إدارة ترامب بين تراجع بعض الصناعات الأمريكية وفقدان الوظائف في قطاعات التصنيع وبين الواردات الرخيصة من الخارج، إذ تنطلق الإدارة الأمريكية من فرضية مفادها أن: زيادة تكلفة الواردات ستشجع الشركات على نقل عمليات الإنتاج مرة أخرى إلى الولايات المتحدة أو توسيع عملياتها المحلية، مما يخلق فرص عمل جديدة للأمريكيين، وكانت هذه النقطة جزءاً أساسياً من الوعود الانتخابية لترامب لجذب دعم الطبقة العاملة في المناطق الصناعية المتضررة.
إن أحد الدوافع المهمة لرفع التعريفات الجمركية؛ العجز التجاري الكبير (حيث تستورد الولايات المتحدة سلعاً وخدمات بقيمة أكبر مما تصدره) وهو ما يمثل مشكلة اقتصادية كبيرة ويضعف الاقتصاد الأمريكي، إذ تهدف هذه التعريفات إلى تقليل حجم الواردات، وبالتالي تقليل العجز التجاري، من خلال جعل السلع المستوردة أكثر تكلفة لثني المستهلكين والشركات عن شرائها، مما يزيد من الطلب على المنتجات المحلية ويقلل من الاعتماد على الواردات.
تعدّ التعريفات الجمركية ضريبة خاصة على الواردات، ولها غرض مزدوج: فإلى جانب زيادة الإيرادات الحكومية، تهدف هذه التعريفات إلى حماية الصناعات المحلية من المنافسين الأجانب، وتشجيع استهلاك السلع المحلية من خلال رفع أسعار المنتجات المستوردة.
انصبّ التركيز بشكل خاص على العجز التجاري الكبير مع الصين، حيث كانت الولايات المتحدة تستورد كميات هائلة من السلع الصينية. ولطالما نُظِرَ إلى التعريفات الجمركية كأداة ضغط على الصين لزيادة مشترياتها من المنتجات الأمريكية وتقليل فائضها التجاري مع الولايات المتحدة، حيث ارتفع الفائض التجاري للصين مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى (170.52) مليار دولار في يناير 2025 مقارنة مع (125.16) مليار دولار في نفس الفترة من العام السابق، وتعتقد إدارة ترامب إن العديد من الدول وعلى رأسها الصين تمارس سياسات تجارية “غير عادلة” تستفيد منها على حساب الولايات المتحدة، مثل الإغراق (بيع السلع بأقل من تكلفة إنتاجها أو بسعر أقل من سعرها في السوق المحلية)، وسرقة الملكية الفكرية، والدعم الحكومي المفرط للصناعات المحلية، والقيود غير الجمركية على الواردات الأمريكية، فاستخدمت هذه التعريفات كورقة ضغط في المفاوضات التجارية مع الدول الأخرى.
تأمل الإدارة الأمريكية في أن يؤدي الألم الاقتصادي الناتج عن التعريفات إلى إجبار هذه الدول على تغيير سياساتها التجارية وتبني ممارسات أكثر “عدلاً” و “تبادلية” مع الولايات المتحدة.
الهدف المعلن للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بتوطين الصناعات وتعديل الميزان التجاري يرتكز على رؤية اقتصادية قومية تهدف إلى تعزيز الإنتاج المحلي وخفض الاعتماد على الواردات. هذا الهدف، في جوهره، يتعارض بشكل كبير مع مبادئ التجارة الحرة، كان الهدف المعلن هو إعادة الشركات الأمريكية التي نقلت عملياتها الإنتاجية إلى الخارج -بسبب انخفاض تكاليف العمالة أو المواد الخام أو غيرها- إلى داخل الولايات المتحدة، على أمل خلق وظائف جديدة للأمريكيين، وتعزيز القاعدة الصناعية المحلية.
سَعَتْ إدارة ترامب لتطبيق هدف توطين الصناعات عبر آليات عديدة، وكانت الأداة الرئيسية لتحقيق هذا الهدف هي فرض رسوم جمركية على مجموعة واسعة من السلع المستوردة من دول مختلفة، بما في ذلك الصين، وكندا، والمكسيك، والاتحاد الأوروبي، لجعل المنتجات الأمريكية أكثر تنافسية وتشجيع الشركات على الإنتاج محلياً، كما سعت الإدارة إلى إعادة التفاوض على اتفاقيات تجارية قائمة مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) بهدف الحصول على شروط أفضل للولايات المتحدة وتشجيع الشركات على الاستثمار والإنتاج داخل البلاد.
إن هدف توطين الصناعات من خلال جعل الواردات أكثر تكلفة يمثّل شكلاً من أشكال الحماية الصناعية، وهو ما يتناقض مع مبادئ التجارة الحرة، التي تعتمد على المنافسة العالمية لتحفيز الكفاءة والابتكار، وتسمح للشركات الأجنبية بالتنافس في السوق المحلية. وتتطلّب سياسات توطين الصناعات وتعديل الميزان التجاري تدخلاً حكومياً كبيراً في الاقتصاد من خلال فرض التعريفات والضغط على الشركات، بينما تُفضِّل التجارة الحرة، في المقابل، دوراً محدوداً للحكومة وتعتمد على قوى السوق لتحديد أنماط الإنتاج والتجارة.
التركيز على تقليل العجز التجاري كهدف رئيسي يتعارض مع مبدأ التدفق الحر للتجارة: في إطار التجارة الحرة، يمكن أن يكون هناك عجز تجاري أو فائض تجاري بشكل طبيعي نتيجة لعوامل اقتصادية مختلفة مثل مستويات الادخار والاستثمار في كل بلد. بينما محاولة تقليل العجز التجاري بشكل مصطنع من خلال القيود التجارية تشوه آليات السوق الحرة.
بدافع تعزيز الاقتصاد الأمريكي من منظور قومي، يهدف ترامب إلى توطين الصناعات وتعديل الميزان التجاري. ولتحقيق هذا الهدف، لجأت إدارته إلى أدوات اقتصادية خشنة تتعارض بشكل قاطع مع مبادئ التجارة الحرة التي تقوم على إزالة الحواجز التجارية، وتشجيع المنافسة، والسماح بتدفق السلع والخدمات بحرية بناءً على الميزة النسبية. هذا التناقض يثير جدلاً واسعاً حول الآثار الاقتصادية طويلة الأمد لهذه السياسات على الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي.
يتعارض ما يفعله ترامب مع مبدأ “دعه يعمل، دعه يمر” الذي يُعدّ من الركائز الأساسية التي قامت عليها الرأسمالية، والذي يعني عدم تدخل الحكومات في الأنشطة التجارية، وهو أحد القوانين الجوهرية التي تدعمها الليبرالية الاقتصادية، بينما لا يعترض ترامب طريق البضائع والسلع والخدمات بحواجز التعريفات الثقيلة.
عندما تفرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية على السلع المستوردة، فإن السؤال الحاسم الذي يطرح نفسه هو: من يتحمل التكلفة النهائية لهذه الرسوم؟
ليست الإجابة بسيطة، بل تعتمد على عدة عوامل، ولكن التحليل يشير إلى أن العبء الأكبر يقع غالباً على عاتق المستهلكين والشركات الأمريكية، وليس الشركات الأجنبية المصدّرة، والتعريفات هي في الأساس ضرائب على السلع المستوردة، والشركات الأمريكية التي تستورد هذه السلع تدفع هذه الضرائب عند دخولها البلاد، هذا يعني أن المستهلك الأمريكي سيدفع المزيد مقابل مجموعة واسعة من المنتجات المستوردة، بدءاً من الإلكترونيات والملابس وصولاً إلى المواد الغذائية وقطع غيار السيارات.
وتزيد التعريفات من تكلفة التجارة عبر الحدود وتخلق حالة من عدم اليقين، مما قد يدفع الشركات إلى إعادة تقييم سلاسل الإمداد العالمية الخاصة بها والبحث عن بدائل محلية أو في دول أخرى أقلّ عرضة للتعريفات، وهذا يمكن أن يؤدي إلى إعادة هيكلة سلاسل الإمداد وتقليل الكفاءة العالمية، بالإضافة إلى الإجراءات المتخذة من قبل الشركاء التجاريين للولايات المتحدة.
ردّت الصين على تعريفات ترامب بمثلها، وانقسم الأوربيون بين رد متماثل وتفاوض، وهرولت المكسيك لطاولة حوار مع ترامب، ما ينذر بـ”حروب تجارية” تقلّل من حجم التجارة بين الأطراف المعنية وتضر بالشركات والمستهلكين، وبينما قد يبدو فرض التعريفات كإجراء مباشر لحماية الصناعات المحلية الأمريكية، فإن “الوجه الآخر” لهذه السياسة يكشف عن تأثيرات سلبية واسعة النطاق على النمو الاقتصادي العالمي وحركة التجارة الدولية.
من خلال تشويه آليات السوق، وزيادة التكاليف، وتقليل القدرة الشرائية، وإثارة التوترات التجارية، يمكن للتعريفات أن تقوّض الازدهار الاقتصادي العالمي وتعيق التنمية، على المدى الطويل، وغالباً سيكون الثمن أكبر بكثير من الفوائد قصيرة الأجل التي قد تحققها بعض الصناعات الأمريكية المحلية.
ولن ترحم نتائج التعريفات الترامبية، والحرب التجارية، الدول الأضعف اقتصادياً وتلك المجتمعات النامية الفقيرة، حيث يتفاقم تأثير هذه التغيّرات وحجم الضرر نظراً لهشاشة هذه المجتمعات والدول، وبهدف تقليل هذا الضرر دعت ريبيكا غرينسبان، رئيسة وكالة الأمم المتحدة المعنية بالتجارة والتنمية (الأونكتاد)، إلى إعفاء أفقر الدول – التي ليس لها تأثير يُذكر على العجز التجاري الأمريكي – من هذه التعريفات.
وحذّر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من أن تأثير ذلك على الدول الضعيفة قد يكون “مدمراً”.
فرضت الإدارة الأمريكية تعرفة جمركية على الواردات العراقية بمعدل (39 بالمئة)، وعلى الرغم من ذلك فإن العراق يصدّر النفط وسلعاً محدودة جداً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وإن النفط معفىً من رسوم ترامب الكمركية الشاملة، وبحسب بيانات وزارة التجارة العراقية في عام 2024 بلغت إجمالي صادرات العراق إلى الولايات المتحدة الأمريكية النفطية وغير النفطية 7,689,606 مليار دولار، بينما بلغت صادرات العراق النفطية إلى الولايات المتحدة الأمريكية 7،643,468 مليار دولار أي ما نسبته 99.4 بالمئة وهي غير مشمولة بالتعريفة الجمركية، بينما بلغت الصادارات غير النفطية 46,138 مليون دولار أي ما نسبته 0.6 بالمئة من إجمالي الصادرات وهي مشمولة بالتعريفة الجمركية الجديدة، ومن هنا يتضح أن تعريفات ترامب الجديدة ليس لها تأثير مباشر على الاقتصاد العراقي، إلا أن التأثير غير المباشر لهذه التعريفات سيصيب الاقتصاد العراقي حتماً.
قد يؤدّي تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي الذي يدفع إلى تقليل الطلب على النفط الخام، إلى انخفاض الأسعار في الأسواق الدولية، وهو ما حدث فعلاً، إذ انخفضت أسعار خام برنت من 72 دولار إلى 63 دولار في الأسواق العالمية، ومع هشاشة الاقتصاد العراقي المعتمد كلياً على النفط الخام، إذ تبلغ نسبة الإيرادات النفطية 88 بالمئة من إجمالي الإيرادات العامة، وهي نسبة مرتفعة جداً بالمقارنة مع الدول النفطية الأخرى، بالإضافة إلى ذلك تم تصميم الموازنة العامة الثلاثية للسنوات المالية (2023-2024-2025) على أساس سعر نفط مقداره 70 دولاراً وهو سعر غير تحوطي، ولم يأخذ بعين الاعتبار المخاطر الناشئة في عالم تسوده حالة من عدم اليقين، وعلى الرغم من ذلك فإن العجز المالي بلغ 64 ترليون دينار.
إن انخفاض سعر النفط إلى أدنى من المستوى المقدّر في الموازنة العامة سيعمق من العجز المالي، ومع نمو المتطلبات الثابتة التي لا يمكن التنازل عنها، ستجد الحكومة العراقية صعوبة بالغة بالإيفاء بالتزاماتها المالية وهو ما سيدفعها إلى المزيد من الاقتراض الداخلي. في الوقت الذي يمتلك العراق الكثير من الموارد التي تؤهله لبناء اقتصاد قوي إلّا أنه ما يزال يعاني من بطء الاستجابة لأيّة أزمة داخلية أو خارجية وذلك بحكم الهشاشة الاقتصادية؛ بمعنى أن هشاشة الاقتصاد العراقي هي التي تستقبل الأزمات وتساعد على استفحالها وليس الأزمات هي من تتسبب هشاشة الاقتصاد العراقي.