بعلم الحكومة ورعاية رجال دين .. مئات المزارات الوهمية تقام أملاً في قضاء الحوائج
مئات آلاف العراقيين يلجؤون لمزارات "وهمية" طلباً لتوفير الأرزاق وعلاج الأمراض والزواج والحمل
مئات آلاف العراقيين يلجؤون لمزارات "وهمية" طلباً لتوفير الأرزاق وعلاج الأمراض والزواج والحمل
العلوية بنت الحسن، أسم يطلق على مقام أستحدث العام المنصرم في منطقة البو حداري، الزراعية في قضاء الكوفة التابع لمحافظة النجف جنوبي العراق، ليضاف إلى مئات من المراقد والمقامات والمزارات التي ظهرت فجأة في العراق خلال العقدين المنصرمين والتي يصفها متخصصون بالوهمية التي لا أساس علمي ولا ديني لها.
تدافع أم محمد (66 سنة) بكثير من الحماس عن المقام المفترض ليس بصفتها المشرفة عليه فحسب، بل لأنها وكما تقول على صلة وثيقة باكتشافه في مزرعتها الخاصة، وتروي كيف أن أبنها المعاق شاهد رؤيا في منامه خلال فترة زيارة الأربعينية (مناسبة دينية شيعية سنوية) العام المنصرم، وكانت عن العلوية (إحدى بنات الحسن بن علي بن عبد المطلب) التي ارشدته لمكان المقام، وحين قص رؤياه على رجل دين في المنطقة، قال وبلا تردد أنها:”رؤيا صالحة ولا بأس من انشاء مقام في ذات المكان”.
يبدو على “ام محمد” التأثر وهي تتحدث عن وضعها المادي الذي كان صعباً للغاية وقتها، وكيف أنها اعتمدت على تبرعات من الأقارب والجيران لبناء المقام الذي هو عبارة عن غرفة صغيرة في منتصفه ما ما يشبه قفصاً حديدياً كبيراً مطلي باللون الأصفر تعلق في فتحاته قصاصات أقمشه خضراء اللون تسمى (العلك) وتوجد في جوانبه فتحات مخصصة للأموال التي يجود بها الزائرون الباحثون عن قضاء حوائجهم المختلفة “عند بنت سبط رسول الله”، حسبما تقول أم محمد بعينين فائضتين بالدموع.
وتضيف رافعة يديها بتضرع:”خلال سنة واحدة فقط، وجد اكثر من عشرين شخصاً مريضاً الشفاء من أمراضهم بعد ان زاروا المقام”. ثم تتابع مستدركة:”المقام جديد، وسيحتاج الى المزيد من الوقت حتى يعرفه الكثير من الناس ويزورونه من أجل قضاء الحوائج (تحقيق أمنياتهم)”، لافتة إلى انها تكرس معظم وقتها في سبيل ذلك.
وتذكر السيدة، انها تواصلت مع ملايات ينشدن في مجالس العزاء، من اجل إقامة مجالس عزاء في المقام، فضلاً عن تواصلها مع (الحملة دار) ووظيفتها التواصل مع النساء وجمعهن في وقت محدد للقيام بزيارات للمراقد والمقامات والمزارات. وتحرص “أم محمد” حسب قولها، على منح “الملاية والحملة دار” بعض العطايا والتبرعات التي تحصل عليها من الزائرين للمقام.
التفاصيل تكاد تكون متشابهة في معظم قصص المزارات المستحدثة، فبعد وقت قصير من اقامتها يزداد زوارها ليبلغ الآلاف اسبوعيا، ثم تحظى سريعاً بالتقديس لدى شريحة واسعة من الناس ولاسيما في المناطق الجنوبية الفقيرة من البلاد، لتتحول بعدها الى مقصد لعشرات الآلاف من الباحثين عن قضاء حوائجهم المستعصية، من مال وزواج وأبناء وعلاج للأمراض.
وعلى الرغم من أن الجهات الرسمية والمتخصصون من رجال دين وباحثين يعدونها وهمية ولا سند لها، إلا انها تزار وتقدم فيها النذور والتبرعات، وترفع أكف الدعاء أمامها طلباً لحل المشاكل الحياتية والصحية والاجتماعية وأيضاً لحجز أمكنة في الجنة.
يعرض هذا التحقيق، لكيفية تصنيف المزارات بين حقيقية ووهمية، ويبحث في أسباب الانتشار الكبير للأماكن “المقدسة الوهمية” في العراق، ولماذا لا تقدم السلطات على غلقها ووقف انتشارها المستمر، وتسكت عن استحداث المزيد منها؟
يفرق الباحث الياس فائز جبار، بين المراقد والمقامات والمزارات بقوله:”المرقد هو مكان يعتقد ان رفاة شخص ذو مكانة دينية عالية موجودة فيه، كأن يكون نبياً أو من آل بيته او صحابيا أو رجل دين عرف بالصلاح. أما المقام، فهو المكان الذي اقام فيه واحد ممن سبق ذكرهم، أو عاش فيه مؤقتاً او بنحو دائم، اما المزار فهو المكان الذي كان قد زاره أو مر به او ترك فيه أثرا ما”.
وينبه إلى أن أياً منها لا تكتسب الإقرار إلا بأدلة وقرائن واجماع أهل الرأي. ويقول ان الكثير من تلك الأماكن وحتى بعض المشهورة منها وذائعة الصيت، لايوجد دليل أكيد على أنها حقيقية، وإنما “درج الناس على الاعتقاد بذلك جيلاً بعد جيل”، مستدركا:”باستثناء قلة قليلة، مثل قبر النبي محمد، وعدد من آل بيته”.
مصدر مقرب من ديوان الوقف الشيعي، يقول بأن دراسة غير منشورة أعدت قبل نحو ثلاث سنوات، توصلت إلى وجود نحو 700 موقع ديني وهمي في العراق، تقدم على انها مراقد او مقامات او مزارات لأشخاص من آل البيت أو أصحاب كرامات”، ويستدرك:”كان هذا قبل ثلاث سنوات، وبالتأكيد الان الحصيلة أكبر، لأنها تتزايد باستمرار ولا استبعد ان تكون قد زادت الآن عن الف موقع”.
رغم محاولاتنا المتكررة طوال أشهر، لم نحصل على رقم دقيق من جهة رسمية بشأن أعداد الأمكنة “المقدسة الوهمية” في البلاد، لكن يمكن الاستدلال إليها من خلال قوائم ديوان الوقف الشيعي التي تحدد الأماكن التي تعترف بكونها ذات مكانة دينية مقدسة ويمكن زيارتها.
المتخصصة بعلم النفس د.اخلاص جاسم، تفسر انتشار ظاهرة المراقد والمقامات والمزارات الوهمية بقولها: “عقيدة الخرافة المتوارثة هي المرسخة لهذه الأفكار، فمثلا ولي الأمر يصطحب ابناءه لزيارة مقام ما، فيمسح بيده الحجر ويربت بها على رؤوسهم ويخبرهم ان هذه المسحة للشفاء والحفظ من المكروه، ويتلو امامهم دعاء الزيارة”.
وتضيف أن الأبناء هناك يرصدون التغيير الطارئ على مزاج والدهم “اذ تغيب هناك صورته المتسلطة الآمرة وربما القاسية، ويبدو ضعيفا ذليلا، لتنتقل اليهم الرهبة وتترسخ لديهم قناعة بأن للمكان قدرة على احداث المعجزات بالفعل، فيقومون بدورهم بتكرار الزيارة ويفعلون مع أبنائهم لاحقا ما فعله أبوهم معهم وهكذا”.
وتشير د اخلاص، الى ان النفس البشرية تميل الى الحصول على ما تتمناه دون سعي، فتتقبل المخيلة خصوصاً ان كانت فقيرة التفكير، ان هذه الأحجار وهؤلاء الأموات قادرون على تحقيق احلامهم وانقاذهم من الأمراض وحمايتهم من الشرور”.
ويرى أستاذ جامعي متخصص بعلم الأنساب، من بغداد، طلب عدم الإشارة الى أسمه بسبب قيود وظيفية، أن الكثير من الأضرحة بما فيها بعض المعروفة منها هي “وهمية ومن نسج خيال البعض” أو ترويج بعض تجار الدين.
ويضرب مثالاً على ما يتم تناقله من “قصص غريبة” في بعض المزارات، قائلا “في محافظة بابل هناك مزار شريفة بنت الحسن، وهو مزار يتم الترويج له عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتنشر قصص بشأن كراماته ومقدرته على حل مشاكل الناس كإعادة المطلقة الى زوجها، والحمل، وضمان سعة الأرزاق، وغيرها من الأماني، وهكذا يزداد زواره دون التحقق من تلك القصص”.
المزار المذكور يقع في منطقة الطهمازية بناحية ابي غرق، وهو عبارة عن مبنى مؤلف من غرفة ورواق كبير وقبة وصحن واسع، قيد التجديد منذ سنوات. ووفقاً لوكالة أنباء فارس الإيرانية، فأن مواطناً عراقيا حصل على مراده بعد زيارته للمزار فقام بتجديد الضريح على نفقته الخاصة، وسافر إلى أصفهان في ايران، وعهد بتصميم الضريح لأحد الفنانين هناك، وبعد إنجازه قام بنقله الى العراق.
يبلغ طول الضريح المصمم 5.5 مترا وعرضه 4.5 مترا وبارتفاع 365 سم، ويقصده الزائرون لتأدية الصلاة واقامة الطقوس الدينية المختلفة، الى جانب من يقصده بهدف الشفاء من الأمراض وقضاء الحوائج الأخرى، وبعد أن تقضى تلك الحوائج، يعلقون قطع القماش او لافتات تتضمن تقديرهم وامتنانهم لشريفة بنت الحسن، ويثبتونها في العادة على الجدران حول الضريح، وهنالك من يقدم الأضحيات ويطبخ لحومها ويوزعها في المكان.
يقول الأستاذ الجامعي، ان مزار شريفة بنت الحسن، تم تطوير بنائه من أموال التبرعات في الأعوام القليلة الفائتة، وساهمت الدعاية التي احيطت به في تحويل المنطقة حوله الى مشيدات، فبنيت مدينة العاب وافتتح فندق ومطاعم وشيدت أسواق، وتقصده يوميا العديد من أفواج المتبركين والزائرين من كافة المحافظات.
ويستدرك مستغرباً:”مع كل ذلك، وبعد البحث المطول في المصادر التاريخية وتوجيه السؤال لمتخصصين آخرين، لم أجد اثراً يجزم بوجود اسم شريفة بنت الحسن في المرويات عن أهل البيت والنسب اليهم”.
ويلفت إلى أن المشرفيين على خدمة المزار “يعرفون ذلك”، ويضيف :”لا توجد هناك لافتة تعريفية مثلا تشير الى نسبها، والبعض يعلل ذلك لإقناع أنفسهم، بقلة المصادر التاريخية”.
ويقول الأستاذ الجامعي:”للشريفة بنت الحسن ذاتها، ثلاث مقامات في محافظة بابل، وليس واحداً فقط، ففضلا عن الموجود في الطهمازية، هنالك آخر في ضواحي المحاويل، وثالث في منطقة الهاشمية على الطريق المؤدي لمحافظة الديوانية”.
ويعرب عن اعتقاده بأن الكثير من المزارات، لا تعدو عن كونها مشاريع تجارية تدر ربحا على القائمين عليها سواء كان، مرقدا او مقاما او مزارا “ويكفي أن يطلقوا أسما على المكان ويتناقلوا عنه بعض قصص الكرامات ليحصل على القدسية، ويجدون في الغالب أسماء لها علاقة ببنات الإمام الحسن!”
ويطرح أمثلة: “شريفة بنت الحسن، زكية بنت الحسن، خضروات بنت الحسن، العلوية بنت الحسن، لطيفة بنت الحسن”. ثم يعبر عن استيائه مما يصفه بالجهل المتفشي “تنتشر مقامات وهمية بعناوين وأسماء مخجلة ومضحكة، وهم لايكلفون أنفسهم أصلا باختيار أسماء مدروسة أو لها سند تاريخي.. لكن لم يفعلون ذلك مادام الناس سيصدقون أي اسم يطرحونه!”.
ولكن لم بنات الحسن بالذات؟ مع ان شقيقه الحسين، قدسيته أكبر لدى الشيعية بنحو عام بسبب الطريقة التي قتل بها ومبادئه وافكاره الثورية، يجيب الاستاذ الجامعي عن ذلك بقوله:”لأن الحسن عرف بأنه كان مزواجاً ومطلاقاً، رغم ذلك وبحسب المصادر التاريخية المؤكدة، كانت لديه ست بنات، وجميعهن عشن ومتن في المدينة المنورة وأشهرهن فاطمة وكانت قد تزوجت من الامام السجاد”.
ولذلك يرى، ان كل الأضرحة والمقامات لبنات الحسن في العراق “وهمية، حتى المقامات التي اعترف بها الوقف الشيعي وتم شراؤها من منشئيها بطريقة المقايضة أو دفع المال مباشرة”. ويعني بالمقايضة، هي ان يمنح الوقف الشيعي للمنشئ او المشرف، أرضاً في مكان آخر كأن تكون منطقة تجارية.
ينتقد باحثون في التأريخ ورجال دين ومواطنون، ظاهرة وجود مزارات وهمية، وظفها أشخاص كمصدر دخل يجنون من ورائها أموال كبيرة، تستحصل من أناس بسطاء محددوا العلم، دون ان تتدخل الجهات الرسمية لمنع هذه المزارات.
الباحث الاجتماعي إسماعيل علي، يعبر عن دهشته من وجود مكان معلوم ويتردد عليه الناس بكثرة بسبب ما يروج عن كونه مقدسا، وتعلم الحكومة بأنه وهمي “ومع ذلك لا احد يفعل شيئا!”.
ويضيف بسخرية:”المفارقة هي أن الجهل المجتمعي أصاب الجميع، حتى الذين يفترض أنهم متعلمون، إذ تتوجه الى تلك الأماكن مثل قطارة الإمام علي، وفود من الجامعات تضم تدريسيين وطلاباً، ومن ينبههم الى خطئهم وعدم جواز المضي وراء الأوهام، يتهمونه بخيانة الدين والمذهب أو أنه مدعوم من اجندات خارجية، ويصل الأمر الى نبذه”.
ويؤكد الباحث إسماعيل، انه وعلى الرغم من اتضاح حقيقة قطارة الإمام علي قبل نحو ثلاثة سنوات، إلا ان “الزيارات مستمرة اليه، وبهذا نستنتج ان هنالك تغييباً للعقل وتدجيناً للمواطنين وسلباً لإرادتهم بحجة الدين، وضخ الخرفات والخزعبلات في رؤوسهم لمنعهم من مواكبة التطور، خاصة بوجود من هم مستفيدون ماديا من تلك المزارات”.
وقطارة الأمام علي، هو بناء بسيط عليه قبة خضراء، يقع في وسط الصحراء غربي كربلاء بالقرب من بحيرة الرزازة، سمي بالقطارة على أساس أنه يضم نبع مياه، وأدى انهياره في 21 أغسطس/آب 2022 إلى مقتل عشرة اشخاص وإصابة آخرين بينهم نساء وأطفال، ووفقاً لرواية الدفاع المدني، فان الرطوبة المشبعة في التل الملاصق هي التي أدت الى الإنهيار.
واعلن ديوان الوقف الشيعي وقتها في بيان أصدره عدم مسؤوليته عن إدارة الموقع واكد:”قطعة الأرض المشيد عليها البناء غير مسجلة باسم الوقف وانها عائدة لمستثمرين”.
وذكر محافظ كربلاء نصيف الخطابي، لجهات إعلامية بعد وقوع الحادث المميت، ان قطارة الامام علي “ليست تابعة لجهة معروفة”.
الإعلامي حسام الكعبي، يقول بانه زار المكان بعد فترة وجيزة من انهياره، وأنه لم يجد هنالك أي ينبوع مياه كما كان يتم التداول، وإنما عبارة عن انابيب مياه مدفونة في الأرض تم مدها من مسافة بعيدة، وتنتهي بمضخة ماء وبجوارها مولدة كهربائية.
ويوضح:” وثقت كل شيء بمقطع فديو. توصل المياه بتلك الطريقة الى الموقع، ويوهمون الناس بأنها مياه مباركة، فتباع القنينة الصغيرة منه سعة نصف لتر بخمسة آلاف دينار”.
“أ.ع” ناشطة مدنية وحقوقية، طلبت بدورها عدم ذكر أسمها، أكدت انها وناشطين آخرين مدافعين عن حقوق الانسان، خططوا بعد شيوع خبر انهيار القطارة للبدء بحملة لمكافحة المراقد الوهمية:”لكن وقبل انطلاق الحملة تلقى زميل لنا رسالة تهديد من رقم مجهول تقول، من يتجرأ على التصدي لمراقدنا نتصدى له برصاصة، وهكذا انتهت الحملة قبل أن تبدأ”. تؤكد الناشطة، بان العديد من الحملات المشابهة لاقت نفس المصير بعد التهديد والوعيد.
الطبيب الجراح علي الشمري، من النجف، يتحدث عن واحدة من تجاربه مع المؤمنين بقدرات المراقد والمزارات، عندما توجب اخضاع مريضة في الأربعينات من عمرها، لعملية جراحية فوق الكبرى من اجل رفع ورم بزنة 4 كيلو غرام من بطنها.
يقول:”كانت فقيرة معدمة، لذلك قررنا انا والطاقم المساعد لي التنازل عن اجورنا الخاصة والتكفل بنفقات اقامتها في المشفى الخاص من اجل انقاذها، وبقينا لساعات عديدة في غرفة العمليات نعمل على رفع الورم”.
يبتسم الطبيب وهو يتذكر:”ما حدث انه بمجرد افاقتها من التخدير، شكرت شريفة بنت الحسن لإنقاذها من الموت، وذكرت بأن الكَيمة، المسؤولة عن المرقد اخبرتها بأن لا تقلق أبدا، لأن شريفة بنت الحسن ستتواجد في غرفة العمليات لرعايتها”.
الطبيب المتخصص بالجملة العصبية محمد زوين، يقيم في تركيا، يقول:”الحكومة بنظامها السياسي الديني الفاشل جعلت من الناس جهلة يتوسلون بالمقامات والأحجار، بدلاً من ان يحتجوا على واقعهم ويطالبوا بالخدمات التعليمية والصحية وغيرها من الحقوق”.
ويضيف:”خلال خمس سنوات من مزاولتي لعملي في مناطق ريفية بالعراق، كنت وفي كل يوم أكتشف إماماً أو سيداً جديداً، يشفي المرضى بدلاً من الأدوية، وكنا نمزح نحن الأطباء فيما بيننا ونحن نمر بمرقد ما ونقول بأنه هذا أكثر كفاءة وحظاً منا !”.
العديد ممن التقيناهم، خلال اعداد التحقيق، حملوا بعض من يدعون بأنهم رجال دين، مسؤولية انتشار المراقد والمقامات والمزارات الدينية الوهمية في جنوبي العراق، وسكوتهم عن حقيقتها، كونها تدر عليهم الأموال والعطايا، خاصة ان القاسم المشترك بين جميع تلك الأمكنة، وجود مستفيدين، رجل أو امرأة، يطلق عليهم (الكَيم) وهو القائم على خدمة المكان والمسؤول عنه.
وفي العادة يبيع هؤلاء ما يعرف بـ(الحرز) وهي ورقة مكتوب عليها دعاء وأرقام، تلف بقطعة قماش خضراء، و(العلك) وهو عبارة عن خرقة خضراء اللون، تقدم للتبرك أو لشفاء المريض. كما يقدمون خدمات أخرى، مثل ما يعرف بـ”أخذ الخيرة” أي معرفة المستقبل، أو ربط الأشخاص المصابين بأمراض نفسية أو بالتوحد والصرع، الى شباك المقام او المرقد طلباً لشفائه.
باحث أكاديمي من محافظة النجف في جنوبي العراق، طلب عدم ايراد اسمه، كما فعل العديد ممن قابلناهم بسبب حساسية طروحاتهم، يقول بأنه هجر النجف منذ سنوات ليعيش في محافظة أخرى، بعد اتهامه بالإلحاد والكفر، وتم هدر دمه من قبل عشيرته، بسبب موقفه من “تقديسهم لأشياء لايمكن لها ابداً ان تكون مقدسةّ” حسب قوله.
ويوضح:”قبيلتنا تتواجد في منطقة زراعية شبه منعزلة، والكثير من الأشياء بالنسبة لأفرادها قابلة للتقديس، ولذلك يسهل اقناعهم باكتشاف مقامات مقدسة جديدة، كل سنة خمس أو ست مقامات”، يغرق في نوبة ضحك قبل ان يتابع وقد ارتسمت على ملامحه هالة من الحزن:”هناك أشياء لا تصدق، الزائرون خاصة في أيام عاشوراء يأتون مشياً على الأقدام من أمكنة بعيدة جداً الى المزار، يمشون لساعات، فيتم استقبالهم، ومن يجدون ان اقدامه قد ظهرت فيها دمامل، يتم سحب المياه منها بالحقن الطبية، ويجمعونها في زجاجات صغيرة ويبيعونها على أنها دواء!”.
ويروي كيفية تحويل المزارات والمراقد المفترضة الى مقدسة توجه اليها الزيارات:”يتفق الكَيم، مع رجل دين، فيحضر الأخير الى مجلس عزاء ما، ويسرد للحاضرين قصة من نسج الخيال، تتضمن كيفية اكتشاف قدسية المكان، والحاجات التي قضيت لزائريه، مثل شفائهم من المرض، أو تضاعف كبير في أموالهم بسبب تبرعهم للمكان”.
ويلفت الباحث، الى أن خطابات رجال الدين هؤلاء، ولاسيما في المزارات او المراقد الوهمية، يحضرها أحيانا سياسيون، وهم يعلمون جيداً بانهم في مكان وهمي. ويصف المزارات الوهمية بأنها “مشاريع تجارية تدر الأموال لمن يديرونها، والسبب في عدم مساءلتهم من قبل السلطات هو ان رجال الدين أداة السياسيين القوية في اقناع الناس لإعادة انتخابهم، وترسيخ شرعية الحكومة في اذهانهم”.
ويضيف:”هكذا، نجد في العراق فقط، أنه من الممكن ان يتحول جرار زراعي عاطل في مكان ناء إلى مزار مقدس، تعلق علية الخرق الخضر للتبرك والتمني، ويتحول عمود الإنارة الى عمود مقدس يقصده قليلو الحظ والفقراء المحرومون من التعليم الجيد والمال والسعادة”.
يعود مصدرنا للضحك ثم يقول بمرارة:”بدلا من انشاء مطعم او أي مشروع تجاري آخر قد يحتاج الى سنوات من أجل ازدهاره، يمكن لأي شخص سليم مخادع، أن يجلس على كرسي متحرك في أي مناسبة دينية و فجأة وبكل بساطة ينهض ليصلي، فيصرخ رفيق له بأعلى صوته أن الأمام شافى صديقه فيحيطهم المندهشون وتجمع على الفور التبرعات”.
يصمت للحظات ثم يزيد:”هذه ليست قصصاً من وحي الخيال، بل تحدث بنحو متكرر في محافظات جنوبي العراق، ولاسيما في أوقات المناسبات الدينية كالاربعينية وغيرها”.
باحث اكاديمي هو د.علي القيسي، يقول بان الانسان عندما يعيش في بيئة فقيرة:”يشعر بالعجز أمام مصاعب الحياة ويشكو من العوز والبطالة والمرض. في هذا الوضع يبحث العقل عن أي منفذ يخفف من وطأة هذه المعاناةّ”.
هنا تظهر المراقد والخرافات وسيلة للهروب وملاذاً نفسياً، وفقا للقيسي الذي يضيف:”هي تقدم له اجابات مبسطة لحياة معقدة. تريد وظيفة، عانس أو مريض؟ زر ضريحاً وستحل مشكلتك. تخاف من العين؟ خذ حجاباً أو تعويذة او بصقة من السيد!”.
ويتساءل:”لماذا تمسك الناس بهذه المعتقدات بدلاً من البحث عن حلول منطقية لمشكلات حياتهم؟” ويجيب عن سؤاله:”هناك اطار فكري اسمه الاستلاب الثقافي”، يوضحه:”في المجتمعات المتخلفة يتم استغلال ضعف الإنسان وقلة وعيه لتحويله إلى تابع وترس في عجلة، بدلاً من إنسان يسعى للتغيير وتطوير حياته”.
والخرافات هنا تصبح وسائل تبقي الفقراء في حالة انتظار دائم للمعجزات، بدلاً من النهوض والعمل “ويتم استغلال هذه الحاجة النفسية من قبل النظم السياسية والدينية.. الخرافات تُحول إلى أدوات للسيطرة، والضريح يصبح رمزاً لتأبيد القهر، يدعو الإنسان لانتظار المعجزة بدلاً من السعي لتغيير واقعه، وهكذا تخلق دائرة مغلقة من التبعية، يغذيها الجهل والفقر”.
الأستاذ الجامعي المتقاعد، د.مهدي غالب، يرى ان دراسته الطويلة في علم الاجتماع جعله يتوصل الى نتيجة مفادها أن “الفقر في العراق ممنهج، وتتعمد الأنظمة والحكومات المتعاقبة في اشاعته لكي تحقق أهدافها الضيقة”.
ويشير إلى أن تعمد اهمال الصناعة والزراعة “دليل قاطع على المسعى نحو الإبقاء على شريحة واسعة من الفقراء، يكونون في العادة وقودا في المعارك وأبواقا في الانتخابات، ويسهل اقتيادهم نحو أي هدف او توجه مقابل فتات تمنح لهم”.
في منطقة زراعية تسمى (الجماعة) تبعد نحو كيلومترين عن مركز مدينة الكوفة، كان هنالك جمع غفير من النسوة المتشحات بالسواد متحلقات حول نخلة، يطلقن عليها (شجرة العباس)، وحين سألنا إحداهن وكانت سيدة في عقدها الرابع، عن سبب قدومها للمكان، فأجابت بعينين دامعتين:”لدي سبع بنات، وأنا حامل الآن، وجئت هنا لكي يتحقق مرادي وانجب ولدا”.
ثم وضعت كف يدها اليمنى على بطنها وقالت بنبرة أقرب الى الترنيم وعيناها مصوبتان ناحية الشجرة:”ياشجرة العباس ان كانت بنتاً فحوليها الى ولد بجاه كل من له جاه”.
وتقسم بأغلظ الأيمان، فيما باقي النسوة يصغين باهتمام، ان جارة لها أجرت فحص سونار فتبين بأن الجنين الذي في بطنها بنت، لكنها عندما قدمت الى المكان ودعت فيه، اكتشفت بعد عودتها بأيام عبر السونار ان الجنين قد أصبح ذكرا.
ضج المكان بالصراخ ثم انتظم ترديد النسوة بصوت عال:”الصلاة على محمد وعلى آل محمد”.
بعد نحو ساعة كانت الوجوه قد تغيرت عدة مرات، فيأتي البعض وتذهب أخريات، وفجأة القت شابة في عقدها الثالث عباءتها وأخذت تنثر الحلوى (الجكليت) فوق الرؤوس، وما أن فرغت من ذلك، حتى قامت بحل قماشة خضراء اللون كانت مربوطة الى خصرها، وقالت بصوت فيه كثير من الفرح ويداها على جذع النخلة:” مشكورة يا شجرة العباس، غسان ابن أمه، صارت بيه جلطة بالدماغ”، وتعني ان شخصا ما أصيب بسكتة دماغية، ويبدو أنها كانت امنية لها، أسرتها في وقت سابق للشجرة فتحققت!.
زيارات المراقد والمقامات وسواها، لا تكون في الغالب بنحو عفوي، بل هنالك جهات واشخاصاً ينظمون الكثير منها، والعلوية أم محمد (55 سنة) أرملة من محافظة الديوانية، واحدة من اللواتي يفعلن ذلك، انها (حملة دار) تتضمن مهامها التواصل مع الأقارب والجيران أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومجاميع الواتساب لتنظيم زيارات الى المراقد والمزارات، بعضها في مناطق زراعية نائية.
تقوم هي بتوفير وسائط النقل ذهابا وإيابا، وتقول بان لكل إمام (أي لكل مرقد) يوم مخصص للزيارة:”فالحسين ابن الامام علي يومه الخميس، والسبت مخصص لشقيقه العباس”، وتذكر بأن الأجور تختلف بحسب بعد المكان وعدد المراقد التي يتم زيارتها في الزيارة ذاتها.
ولأم محمد، مهام أخرى، منها تلقي النذور من الشيعة المقيمين في خارج العراق، وتقوم بإيصالها بنفسها الى المراقد. وتضيف:”من لايستطيع القيام بالزيارة بنفسه، يكتب حاجته بقصاصة ورق صغيرة وأقوم أنا بوضعها في المرقد او المزار وكل يدفع لي حسب امكانيته”.
وتشير إلى الحاجات الشائعة التي بوسع المراقد والمزارات تلبيتها:”زواج الأحبة، وشفاء المرضى، وتحرير السجناء، وتوفير الأرزاق”. وتعدد “أم محمد” اكثر الأمكنة التي تنظم زيارات اليها:”الحمزة الشرقي، والحمزة الغربي ، الحمزة أبو ديوجة، سيد محمد، سيد جودة، شريفة بنت الحسن، سيد صالح، أبو الكرامات، بنات الحسن، أولاد الرضا، اولاد الكاظم ….الخ “.
الخبير القانوني صفاء اللامي، يتهم الحكومة بعدم اتخاذ إجراءات قانونية بحق “المزارات الوهمية” وكأن الموضوع لا يعنيها. كما يتهم الوقف الشيعي بالمسؤولية عن انتشار هذه المزارات بشكل كبير: “رؤساء الاوقاف هم مدراء دوائر بدرجة وزير ويمتلكون كافة الصلاحيات ولهم تخصيصات من ميزانية الدولة بالاضافة الى استثماراتها من المزارات والمشاريع والشركات”.
يضيف:”الوقف الشيعي لا يقوم بكشف احصائيات دقيقة عن المراقد الوهمية، يدل ذلك على الانتفاع المادي والفساد الإداري، أو الإهمال”. ويذكر اللامي بأن اصغر مرقد وهمي “يكسب شهريا في الأقل خمسة ملايين دينار”.
وبشأن، الإجراءات القانونية التي يمكن إتخاذها، يقول اللامي ان بوسع الممثل القانوني للوقف الشيعي “تقديم شكوى الى المحكمة ضد القائمين على أي مزار، ويمكن للمحكمة ان تأمر بإزالته”.
حيدر أبو رغيف، رجل دين، يقول بأن تحديد إن كان المرقد او المزار حقيقياً أو لا، هي مهمة المؤرخين ورجال الدين وأصحاب العلم “وعندما يتم اثبات ان المرقد وهمي، فتقع مسؤولية إزالته على عاتق الوقف”.
ويرى بأن هنالك حاجة ماسة الى “منبر حسيني توعوي، يتناول مثل هذه القضايا المجتمعية المهمة ويُسخر أدواته الى أبعد حد تتطلبه شؤون الناس”.
كما يعتقد أبو رغيف، أن جزءا كبيرا من المسؤولية تقع على عاتق النخب والاكاديميين المعنيين بصناعة الوعي، وانها ومن أجل تفكيك هذا الجهل المركب يجب ان لا تبقى بعيدة عن المشهد.
عضو في مجلس محافظة النجف، طلب عدم الإشارة الى اسمه، ذكر بأن ملف المزارات الوهمية، طرح في مجلس النواب لمرات عديدة من قبل عدد من النواب “لكن بعض الأحزاب السياسية الاسلامية تعترض”.
ويقول بأن “ترميم بعض المراقد الوهمية والتبرعات التي تصلها، أصبح عملية تقودها جماعات منظمة لمصالح خاصة، لاسيما ان مراقد لديها حسابات بنكية”.
على بعد 70 كم شمال مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار جنوبي العراق، يقع مزار سيد لهمود، وهو بناء جديد بسيط متكون من غرفة صغيرة ومصلى مصبوغ باللون الأخضر وأركانه مخضبه بالحناء.
السيد لهمود، وبحسب زائريه، بوسعه معالجة “تشققات القدم والبسامير والثأليل”. أحد الزائرين وهو عامل بناء أسمه حيدر علاوي (43 سنة) يقول:”بعد اتصالنا بالكَيم، ارسل الينا حفنة من التراب، وقال بأن علينا إضافة الماء اليها، ووضعها على التقرحات الجلدية، وأكد لنا إننا سنشفى خلال أربعة الى عشرة أيام في اقصى حد”.
يضيف العامل، وهو يشير بعيون لامعة، الى حفنة تراب ضمها بيده:”الكَيم، يرسلها من المزار الى أي مكان عبر خدمة التوصيل، وقد حصلنا على رقم هاتفه عبر الفيسبوك”. يتابع بثقة:”جربت ذلك بنفسي، وشفيت خلال أسبوع واحد فقط، ولهذا جئت لزيارة السيد وطلب حاجة في نفسي أرجو ان يتم تلبيتها!”.