تقارير سردية: رغم المحاذير الطبية، تصاعد كبير في اللجوء للعمليات القيصرية مدفوعة برؤى مجتمعية وتسويق تجاري

رغم المحاذير الطبية، تصاعد كبير في اللجوء للعمليات القيصرية مدفوعة برؤى مجتمعية وتسويق تجاري

ديژين صدقي

يوم الثلاثاء 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 خضعت ماريا يوسف، التي كانت تبلغ من العمر 18 سنة لعملية قيصرية في مستشفى النسائية والتوليد الحكومية في محافظة دهوك بإقليم كردستان، وبدلاً من عودتها والسعادة تغمرها بإنجاب طفلها الثاني، دخلت في غيبوبة لم تفق منها لغاية الآن.

يروي ذلك بحزن، زوجها محمود موسى إسماعيل (39 سنة) ويضيف:”خلال العملية أصيبت ماريا بتسمم حمل كان يمكن ان يودي بحياتها، لكن اجراءات طبية ناجحة جعلتها تنجو هي وطفلها”.

ويستدرك:”لكن بعد خروجها من العملية مباشرة تدهورت حالتها في صالة المستشفى واحتاجت سريعا إلى  جهاز الأوكسجين ولعدم وجود غرفة الإنعاش وجهاز oxygen concentrator  عدا المتوفر في غرفة العمليات، نقلناها إلى مستشفى آزادي الحكومي”.

ومرة أخرى، وبسبب “عدم اعطائها الأوكسجين داخل سيارة الإسعاف وافتقار الكادر الطبي المرافق لمهارة التعامل مع هذه الحالات الحرجة، دخلت زوجتي في غيبوبة مستمرة لحد الان” يقول الزوج بينما يسرح بذهنه للحظات وكأنه يستذكر ما حصل.

بقيت ماريا في مستشفى آزادي نحو أربع سنوات غائبة عن الوعي، وخرجت في شهر أيلول/سبتمبر2020 بسبب جائحة كورونا، لينفق الزوج كل مدخراته من أجل معالجتها واعادتها الى حياتها السابقة لكن كل المحاولات الطبية لم تنجح.

يقول بنبرة صوت متقطعة:”بدلا من أن نكون سعداء بولادة طفلنا أصبحنا نعيش هذه المأساة وحرم الطفل من حنان والدته، ليس لدينا أمل في الشفاء سوى أن نوفر لها الرعاية الطبية في مركز متخصص”.

يتناوب الزوج مع والدة ماريا العناية بها في منزلهم، ويتم الاعتماد على الأدوية التي تقدمها المستشفى مجانا لمعالجتها، في حين تعتني عمة الطفلين بهما، والجميع ينتظر حدوث معجزة ما لتفيق ماريا مجددا.

هذه واحدة من قصص ضحايا العمليات الجراحية القيصرية التي اخذت بالازدياد في محافظة دهوك خلال السنوات الفائتة، لأسباب عديدة وفقاً لمتخصصين، منها خوف النساء من الولادة الطبيعية وآلامها، وإمكانية تحديد تأريخ الولادة، ورغبتهن في الحفاظ على جمال أجسادهن، في ظل جانب تجاري يسوق لهذه العمليات لتحقيق أرباح أكبر، لكن العواقف أحيانا تكون خطيرة.

اقبال متزايد

مع إقرار الأطباء بأن الولادة القيصريَة تعد من العمليات الجراحيَة الآمنة، لكنهم يشيرون في ذات الوقت الى اضرار وآثار جانبية تترتب عليها، قد تصيب الأم والجنين على في حد سواء، خلال أو بعد اجراء العملية.

ومدى خطورة ذلك تحددها عوامل عدة منها الصحة العامة للأم، وطريقة تحديد العملية؛ فقد تكون جراحة اضطرارية، أو قد يتم تحديد موعدها مسبقا من قبل الطبيب.

يقول مدير عام صحة دهوك، الدكتور أفراسياب موسى بأن أعداد العمليات القيصرية مقارنة بالولادات الطبيعية في المحافظة تتزايد عاما بعد آخر. وعبر عن قلقه حيال ذلك، معتقداً بأنها “تشكل تهديدا خطيرا على حياة النساء” اذا لم تتوفر متطلباتها الأساسية.

وأكد بان الكوادر الطبية تبذل قصارى جهدها في سبيل “تشجيع النساء على الولادات الطبيعية وجعلهن يفهمن أضرار الولادة القيصرية”.

ويضيف:”وفقا لبيانات مديريتنا، كان معدل العمليات القيصرية يبلغ (18.1%) في عام 2010 لكنه ارتفع إلى ( %43.3) بحلول عام 2022″. ويبين بأن الولادات القيصرية معدلاتها في المشافي الأهلية اعلى بكثير من الولادات الطبيعية.

وتشير إحصائية صادرة عن قسم التخطيط في المديرية العامة لصحة دهوك، أن نسبة العمليات القيصرية في المستشفيات الخاصة بالمحافظة خلال عام 2022 بلغت ( 93.5%) مقارنة بـالولادات الطبيعية التي بلغت(6.5%)، بينما بلغت النسبة في المستشفيات الحكومية (31.7٪) مقابل (68.3٪) للولادة الطبيعية.

Image

حتى نهايات القرن الماضي، كان اللجوء الى الولادة القيصرية بدلا من الطبيعية، يتم كحل طبي لمشكلات الولادة المتعسرة، لكن تحولا كبيرا حصل في السنوات العشرين الأخيرة حيث تضاعفت نسب اجراء تلك العمليات دون دواع طبية ودون النظر في العواقب المحتملة، ما جعل عشرات آلاف النساء ضحايا لتلك العمليات، بحسب مؤسسات صحية.

وبات اللجوء للعمليات القيصرية هو الشائع، في دول كثيرة، ففي نحو 100 دولة، تجاوزت معدلات الولادة القيصرية تلك الموضى بها من منظمة الصحة العالمية، والتي تتراوح بين 10% و15% وفق معدلات النساء اللاتي تتطلب اوضاعهن الصحية الولادة من خلال عملية قيصرية.

ووفقاً لبحث لمنظمة الصحة العالمية (WHO) نشر في العام 2021، تصاعدت معدلات العمليات القيصرية على مستوى العالم، لتصبح أكثر من حالة واحدة لكل خمس حالات ولادة، اي ما يتجاوز 20% من جميع الولادات.  وسيستمر الارتفاع وفق ما هو مرجح لتتم نحو 30% من جميع الولادات عن طريق العملية القيصرية بحلول العام 2030.

وبحسب مصادر طبية، فان العملية القيصرية التي يمكن أن تكون ضرورية ومنقذة للحياة في حالات عديدة مشخصة طبياً، قد تعرض النساء والأطفال لأخطار محتملة ولمشاكل صحية قصيرة وطويلة الأجل إذا تم إجراؤها عندما لا تكون هناك حاجة طبية.

موافقة لجنة مختصة

مسؤول الإعلام في صحة محافظة دهوك حمزة رزيكي، يقول ان تعليمات دائرته:”لا تسمح للنساء الحوامل بالخضوع  للعمليات القيصرية في المستشفيات الحكومية، إلا إذا كان هنالك خطر جدي على حياة الأم أو الطفل”.

وذكر انه في السنوات السابقة كانت هنالك بعض الحالات التي تم فيها إجراء عمليات جراحية في المستشفيات الحكومية بناء على طلب الأمهات، ولكن بعد زيادة الإقبال على هذه العمليات اتخذت دائرة صحة دهوك قرارا بعدم خضوع أي امرأة حامل لعملية قيصرية إلا بعد موافقة لجنة مختصة.

وعدد الأسباب الموجبة للعملية القيصرية وفاً لمحددات دائرته:”فقط لنساء يُعانينّ ارتفاعاً في ضغط الدم أو اللواتي أنجبن طفلهم الأول عن طريق الجراحة أو لأي سبب آخر يشكل خطرا على حياة الطفل أو الأم”.

ش. س (٣٠ سنة ) سيدة من مدينة دهوك، تتحدث بحزن بالغ عن فقدانها لشقيقتها التي قالت بانها لم تكن قد أكملت عامها الـ16 حين خضعت لعملية ولادة قيصرية أودت بحياتها.

وتروي ان ذلك حدث في مطلع العام 2023 :”كانت أختي في الخامسة عشرة من عمرها حين تزوجت في محكمة الشيخان (50 كلم شرق دهوك ) والتي تتبع اداريا محافظة نينوى، لأن الفتيات دون سن الثامنة عشرة لا يسمح لهن بالزواج في دهوك”.

يوقفها البكاء للحظات عن متابعة قصة شقيقتها المتوفية، ثم تعود للمواصلة:”في أواخر فترة حملها، وبسبب صغر سنها وخوفها وقلقها، خضعت لعملية قيصرية، وبعد ثلاثة أيام تدهورت صحتها، وتوفيت بعد ساعات قليلة من نقلها إلى مستشفى خاص (أهلي) في دهوك”.

بشأن هذه الواقعة، تواصلت معدة التقرير مع موظف في المستشفى الخاص الذي توفيت فيه الأم الشابة، فطلب بإلحاح عدم ذكر اسمه، وأوجز ما حدث:”أتذكر ذلك جيدا، لقد عانت من نزيف أثناء العملية ولم يستطع جسدها تحمل نقل الدم، واصيبت بالتسمم، بعد ثلاثة أيام داهمتها حمى شديدة وتوفيت”.

وترتفع بشكل كبير نسبة العمليات القيصرية التي تجرى بشكل خاص في مستشفيات دهوك الأهلية، ووفقاً لإحصائية صادرة عن مستشفى (ڤين) الأهلي في دهوك،  فإن أعداد العمليات الجراحية القيصرية التي أجريت فيها خلال ثلاث سنوات كانت على النحو التالي:

Image

ويقول مسؤول الإعلام في المستشفى، صلاح ريكاني إن غالبية النساء اللاتي خضعن لعملية الولادة القيصرية “هن من قررنها، أي كان ذلك بإرادتهن” وليس بتوصية من المستشفى، وأنهن طلبن الجراحة القصيرية لأسباب عديدة منها:”اختيار بعض الأمهات إنجاب طفل في موعد معين، أو خوفا من ألم الولادة”.

ورغم لجوء غالبية النساء الى تلك المستشفيات لإجراء عمليات الولادة، فان ريكاني لا يتردد في الاشارة الى محاذيرها على صحة الأمهات، يقول ان بعض تداعياتها تتمثل بـ:”صداع وآلام ظهر مزمنة، وهما من الحالات الشائعة التي يمكن أن تعانيها الأمهات بسبب العمليات القيصرية”.

مخاطر كبيرة

الأستاذة المساعدة في أمراض النساء والتوليد بكلية طب/جامعة دهوك د. جنان نوري، تتحدث عن مخاطر يمكن ان تكتنف العمليات القيصرية:”مثلها مثل أي عملية جراحية أخرى، قد يحدث فيها نزيف حاد أو عدوى، الى جانب مشكلة بطء التعافي بعد الولادة”.

وتزيد على ذلك:”حقن التخدير ضارة، وغالبا ما يتم حقنها في الظهر ونتيجة لذلك تعاني الأم من الصداع وآلام الظهر بشكل دائم، وفي بعض الأحيان وخلال العملية عند استعمال أدوات القطع الجراحية الحادة يتم قطع أحشاء الأم ومثانتها وتتعرض  إلى النزف”.

وتشير إلى أن “الدم الذي يسيل أثناء الولادة الطبيعية إذا كان 500 سم مكعب، فأن كميتها  أثناء العملية القيصرية يكون 1000 سم مكعب أو أكثر، مما يسبب أحيانا إصابة الأم بالنزيف”.

بنار هوشيار، ممرضة متخصصة في صالة الولادة بمستشفى اهلي في محافظة دهوك، تقول مستندة الى تجربتها اليومية، ان بعضاً من النساء، يفضلن العملية القيصرية لأنهن يعتقدن بانها: “أسهل وأقل ايلاماً من الولادة الطبيعية”.

كما أن البعض الآخر يخترنها لكي:”لا تتأثر قوام اجسامهن بفعل الولادة الطبيعية”، وتتابع:”بنحو عام، هنالك اعتقاد شائع بان العملية القيصرية سهلة، لكن هذا أمر غير صحيح بالمرة”.

عن مخاطر الولادة القيصرية، تقول طبيبة أمراض النساء، الدكتورة ديلڤين عبد العزيز، أنها تشكل “خطرا على حياة الأم”. وتضرب مثالاً على ذلك:”قد تعاني النساء اللواتي خضعن لأكثر من عمليتين جراحيتين، من ولادة مبكرة عن المعتاد”.

وتشدد دكتورة ديلڤين، على ضرورة الالتزام بعدم اجراء العملية القيصرية الا في الحالات التي تستدعي ذلك مثل:”تعثر الولادة الطبيعية، أو في حال ازدادت الخطورة على الأم والجنين”.

وبناء على ذلك فهي ترى بأن العملية القيصرية:”حل أمثل وأسلم للجنين والأم في حال وجود موانع للولادة الطبيعية”.

وتستدرك:”لا يمكننا القول إن إنجاب طفل عن طريق الجراحة هو أمر محفوف بالخطر وغير جيد على الدوام، فالمرأة غير المستعدة نفسيا للولادة بشكل طبيعي، تكون الجراحة القيصرية أفضل لها، ولكن مع ذلك من الأفضل أن يولد الطفل بشكل طبيعي، ويجب توعية الأمهات على الخضوع لعملية جراحية في حالات قليلة فقط”.

بحسب احصاءات منظمة الصحة العالمية (WHO) تتصاعد معدلات الولادة الجراحية (القيصرية) في مختلف مناطق العالم بشكل سريع، وتذكر المنظمة، ان معدل تلك الولادات في جميع أنحاء العالم كانت تشكل ما نسبته (7٪) في العام 1997، مقارنة بـ(21٪) في عام 2021، وهو ما دفعها الى دعوة الأطباء لتشجيع الأمهات على الولادة الطبيعية.

ووفقا لدراسة أجرتها جامعة إدنبرة في اسكتلندا فأنه في عام 2016 خضعت ( 24.5%) من النساء في أوروبا الغربية لعملية جراحة  قيصرية، بينما ارتفع المعدل في أمريكا الشمالية والجنوبية إلى (41%).

وتأتي تلك الأرقام المرتفعة، مدفوعة برغبة أعداد متزايدة من النساء في تجنب آلام الولادة، الى جانب الخوف من مشاكل تصيب الطفل عند الولادة الطبيعية.

آية حكمت (28 سنة) من دهوك، تقول بانها انجبت طفلها الأول بولادة طبيعية، لكن وبسبب مشكلة في رئتيه، اعطي الأوكسجين لمدة شهر، وتضيف:”بسبب كل الشد والضغط على رأسه أصيب بالصرع”.

تفكر آية قليلا قبل ان تتابع بصوت حاد وبنبرة غاضبة:” كانت حالتي خطيرة واحتجت إلى إجراء عملية قيصرية، لكن الطبيبة رفضت، بالنتيجة حدث ذلك لطفلي”. هي الان حامل في شهرها الثالث بطفلها الثاني، وتخطط لإنجابه بعملية قيصرية تجريها في مشفى خاص “حتى اجنب ماحدث لطفلي الأول، وأتخلص أنا من الألم ومخاطر الانجاب الطبيعي”.

يرى (ح.أ) وهو اداري في مستشفى خاص ببغداد، ان التزايد الكبير لنسب الولادات من خلال العمليات القيصرية في العقدين الأخيرين يرجع في جانب منه الى تحسن مستوى الدخل بالتزامن مع ازدياد المستشفيات الخاصة التي تقدم هذه الخدمات، لكن في جانب آخر يرتبط بعملية تسويق تجارية تقوم بها الكثير من المستشفيات والكوادر العاملة فيها والتي تركز على سهولة وافضلية اجراء الولادة قيصريا، فذلك يحقق لها فوائد مالية.

ويضيف:”في الغالب الأمر لا يرتبط بضرورات طبية، بل بالتقليد، وبتسويق قناعات يتم ترسيخها بدوافع تجارية”.

المزيد عن تقارير سردية

تقارير سردية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28934}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">