إيلون ماسك.. صعود سياسي ليس من أجل الترفيه
بين البيت الأبيض ومنصات التواصل، وبين عقود الفضاء وخطط تفكيك المساعدات، يبني إيلون ماسك إمبراطوريته بتسارع صاروخي.. مقال يتتبع صعود رجل خطر ومتناقض ولا حدود لطموحاته..
بين البيت الأبيض ومنصات التواصل، وبين عقود الفضاء وخطط تفكيك المساعدات، يبني إيلون ماسك إمبراطوريته بتسارع صاروخي.. مقال يتتبع صعود رجل خطر ومتناقض ولا حدود لطموحاته..
على شاشات التلفاز وصفحات المجلات، ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي المحافل السياسية والاقتصادية الدولية؛ إيلون ماسك في كل مكان، كأنه ظلُّ السلطة وأحد أركانها الخفية. والآن يطرد الموظفين الفيدراليين، ويفتح أبواب البيانات الحكومية الحسّاسة، ويتجول في أروقة البيت الأبيض ويحضر اجتماعات الإدارة الأمريكية. تراه بجوار الرئيس دونالد ترامب على فوكس نيوز أو يلتقي سفير إيران لدى الأمم المتحدة سرّاً، أو رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان في مار-أ-لاغو. لا حدود لحضوره، ولا سقف معلوماً لنفوذه.
ماسك، الأمريكي المولود في جنوب إفريقيا، عقلٌ هندسي تطلّعي خارق، وثروةٌ هائلة، ونفوذٌ غير مسبوق يمتدّ عبر مفاصل المستقبل، رجلٌ يُعيد رسم ملامح العصر، ويستثير الكثير من الأسئلة حول صعوده المكّوكي نحو توسيع سيطرته على عوالم المال والابتكار والإعلام، وأخيراً: السياسة.
مع بداية ولايته الثانية، أسس ترامب وزارة الكفاءة الحكومية (DOGE) بهدف تقليص الهدر البيروقراطي وخفض 2 تريليون دولار من الإنفاق الفيدرالي، مستلهماً الفكرة من نقاشاته مع ماسك، الذي أصبح “موظفاً حكومياً خاصاً” يشرف على الوزارة. لكنّ هذه الخطوة تثير قلقاً واسعاً، إذ يُمنح ماسك وصولاً غير مسبوق إلى بيانات حكومية حساسة، تشمل نظام الدفع الفيدرالي، بما في ذلك معلومات الحسابات المصرفية وأرقام الضمان الاجتماعي ووثائق ضريبة الدخل، ما قد يمكّنه من ربطها بالذكاء الاصطناعي لنمذجة الاقتصاد وتوقّع سلوك الناخبين. كما يُخشى أن يستخدم منصبه لتقويض الهيئات الرقابية التي طالما فرضت قيوداً على شركاته، من تسلا إلى سبيس إكس، وأن يحوّل الوزارة إلى أداة لحماية مصالحه التجارية، عبر استهداف منافسيه وتقليص ميزانيات الجهات التنظيمية وتفضيل حلفائه في العقود الحكومية.
على الصعيد الدولي، يحاكي هذا النفوذ المتعاظم سلطة شركة الهند الشرقية البريطانية، التي بدأت بتجارة حصرية في منطقة المحيط الهندي قبل أن تتحول إلى قوة شبه حكومية تحكم المستعمرات بقبضة من حديد وتسكّ العملة لصالح التاج البريطاني، حدث ذلك على مدى قرون، لكنه قد يحدث خلال سنوات في عصر السرعة هذا.
في عصرها الذهبي، سارت الاكتشافات الكبرى جنباً إلى جنب مع التوسع الاستعماري المدفوع بالأطماع الاقتصادية والمدعّم بالتطور العسكري، وماسك المبتكر الثري، تجسيد لتعقيدات تلك الطموحات العالمية. اليوم، قد يجد العالم نفسه أمام نموذج جديد من الإمبراطوريات الخاصة، حيث تذوب الحدود بين السلطة العامة والطموحات الشخصية.
وعلى صعيد الشرق الأوسط، أوقفت الوزارة الجديدة دعم الدول النامية وسرّحت آلاف العمّال. ففي شباط 2025، أعلن ماسك عن قُرب إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، واصفاً إياها بأنها عصيّة على الإصلاح. في وقت تخدم الوكالة، التي تأسست في عام 1961، العديد من المجتمعات حول العالم عبر آلاف البرامج وتوفر آلاف فرص العمل.
من شأن هذه الخطوة أن توقف 83 في المئة من برامج الوكالة (حوالي 5,200 من أصل 6,200 برنامج). بحسب وكالة رويترز، تخطّط الإدارة الأمريكية لإبقاء 249 موظفاً فقط من أصل 10,000 موظف حول العالم، وستشمل الوظائف المتبقية 12 منصباً في مكتب إفريقيا و8 وظائف في مكتب آسيا.
بصفتها من المستفيدين من تمويل الوكالة، وجدت دول الشرق الأوسط نفسها في دائرة المتضرّرين، لاسيما الدول التي تشهد صراعات أو أزمات مالية حادة. قد يكون الأردن من أكثر المتضرّرين، حيث استلمت المملكة 1.2 مليار دولار من الوكالة في عام 2023، وكانت الوكالة قد تعهدت بتقديم 220 مليون دولار إلى اليمن، من بينها 200 مليون من خلال الوكالة في أيار 2024.
في العراق، أنفقت الوكالة أكثر من 220 مليون دولار عام 2023، لكن التوقف الحالي يهدد العديد من المشاريع طويلة الأمد التي تدعمها الوكالة: من المتوقع أن تتضرّر مجتمعات الأقليات الدينية والعرقية في العراق بهذه القرارات. ففي سنجار، حيث تعرّض آلاف الأيزيديين للإبادة على يد تنظيم داعش، يواجه المجتمع خطر توقّف مشاريع الخدمات الأساسية لتوفير المياه والكهرباء والمراكز الصحية الأساسية وبناء المدارس ومشاريع أخدى لتشجيع المهجّرين على العودة إلى ديارهم.
كما تأثر المسيحيون بوقف البرامج التي تديرها خدمات الإغاثة الكاثوليكية CRS في بلدات سهل نينوى بعد أن قلصت الوكالة المسيحية، التي تعد من أكثر المستفيدين من الدعم المالي للوكالة الأمريكية، موظفيها إلى النصف وبدأت بإغلاق برامجها التي تتلقى نصف ميزانية المنظمة البالغة 1.5 مليار دولار من الوكالة الأمريكية للتنمية. وكانت المنظمة المسيحية في مرمى نيران الإدارة الجديدة، فقد ندد نائب الرئيس الأمريكي جيمس د. فانس بترويج الوكالة الأمريكية “للإلحاد”، بينما تتباهى بإغاثة الإيزيديين والمسيحيين وغيرهم من الطوائف الدينية التي واجهت إرهاب داعش.
وقد تتجاوز المخاطر حدود الاقتصاد وتهزّ أمن الدول، فمن بين المشاريع المهددة بقطع التمويل مشروع نقل عائلات مقاتلي داعش العراقيين من مخيم الهول في سوريا إلى مخيم الجدعة في الموصل، وهو برنامج تديره الوكالة.
كما يعيد ماسك تشكيل العالم عبر التكنولوجيا، فإنه -وترامب- يدعمان توجهاً نحو فكّ ارتباط الولايات المتحدة بالنظام الدولي، بدءاً من الدعوات للانسحاب من الناتو والأمم المتحدة وحتى انتقاد ترامب الدول الأوروبية لعدم تحملها نصيبها من نفقات الدفاع، متسائلاً عن جدوى استمرار واشنطن في تمويل الناتو.
بعقلية التجّار، وألّا شيء من دون مقابل، قد تقوّض هذه التوجهات، المتمحورة حول الربح، الحلفَ الغربيَ التقليدي وتشكّل حلفاً هو الأول من نوعه بين روسيا والولايات المتحدة على حساب العلاقة مع أوروبا.
في الأشهر الأولى من ولاية ترامب الثانية، تسارعت وتيرة تقويض المؤسسات الدولية، حيث انسحبت الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ورفضت الاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية، ما أدى إلى إضعاف شرعية الأمم المتحدة. من شأن هذا أن يلحق ضرراً واضحاً بالدول النامية على الرغم من أن واشنطن لم تكن تسدد مستحقاتها كاملة، إذ بلغت ديونها للمنظمة 2.8 مليار دولار بحلول 2025.
أيضاً، من شأن الانسحاب الكامل أن يزيد من عزلة أمريكا ويُضعف نفوذها ويمنح تحالفات بديلة، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، مزيداً من الزخم، وربما تجد واشنطن نفسها مضطرة للبحث عن مكان جديد في نظام عالمي متعدد الأقطاب، وقد يترك هذا الشرق الأوسط فريسةً للقوى الإقليمية والإمبراطوريات الناشئة لاسيما مع التشظّي الواضح لدول المنطقة وغياب تفاهمات تمنحها فرصة للنمو كقوة إقليمية في خضم تبلور عالمٍ جديد. قد تُطلق الولايات المتحدة يد إسرائيل وتركيا في المنطقة ما دامتا ضمن دائرة الحلفاء. بالنسبة للعراق، تتعامل الإدارة الجديدة معه من زاوية تقليص النفوذ الإيراني فيه والضغط لمنع تهريب العملة وإجباره على البحث عن بدائل عن الغاز الإيراني لتوفير الطاقة الكهربائية للعراقيين.
في عالمٍ يزداد يمينية، دعم ماسك حملة ترامب وحركات اليمين الشعبوي وحثّ الألمان على التصويت لحزب البديل من أجل ألمانيا AfD، فقد تبرّع بـ250 مليون دولار لحملة ترامب، وشارك في دعم لجنة عمل سياسي مؤيدة له وعدت بتقديم النقود للناخبين الداعمين لعرائض تلك اللجنة، مما أثار جدلاً واسعاً حول تأثير المال في السياسة الأمريكية. ومع أن دعم المرشحين ليس جديداً، إلا أن دور ماسك كان لافتاً بحجمه وتأثيره وعدم اكتراثه بالقاعدة الذهبية في التسويق: الابتعاد عن السياسة لتجنب خسارة العملاء، لذلك كان لتوجهاته تداعيات واسعة على أعماله وصورته العامة.
من الناحية التجارية، انعكس هذا الانخراط السياسي سلباً على شركته تسلا، إذ انخفضت مبيعاتها في أوروبا بنسبة 45 بالمئة خلال كانون الثاني، مع تراجع حادّ في ألمانيا وفرنسا بنسبة 60 بالمئة. كما تراجعت مبيعاتها في كاليفورنيا، أكبر أسواقها في الولايات المتحدة، مما يشير إلى تحول واسع في موقف المستهلكين، خاصة أن العديد منهم كانوا من الليبراليين المهتمين بالبيئة، الذين جذبهم في البداية خطاب ماسك حول إنقاذ الكوكب من أضرار الوقود الأحفوري.
لم تقتصر الاحتجاجات على مقاطعة شركة تسلا، بل امتدت إلى تخريب سيارات تسلا في الولايات المتحدة، ومحاصرة صالات العرض، وانتشار شعارات تنتقده، مثل «اشتريتها قبل أن يُجنّ إيلون». في لندن ظهر ملصق يحمل صورته مرفقة بكلمة «سواستيكار»، في إشارة إلى الصليب المعقوف النازي Swastika، ودعا وزير بولندي إلى مقاطعة تسلا، مما يعكس تصاعد الاستياء الأوروبي من مواقفه السياسية.
مع فرض الإدارة رسوماً جمركية على كندا وتوالي تصريحات ترامب بضمّها إلى الولايات المتحدة، قرر أحد أكبر معارض السيارات هناك منع تسلا من المشاركة، كما أعلن رئيس وزراء أونتاريو حرمان الشركات الأمريكية من عقود الحكومة المحلية، وألغى عقداً بقيمة 68 مليون دولار مع شركة ستارلينك التابعة لماسك. وزاد الضغط الشعبي مع توقيع أكثر من 200 ألف كندي على عريضة تطالب بسحب جنسية ماسك بسبب دعمه لترامب.
ومع تزايد احتمالية خسارة العملاء وارتفاع المشاعر المعادية له في عدة دول، قد تكون هذه السياسات مغامرة مكلفة تهدد مكانته الاقتصادية وشركاته، وهذا ما دفعه للبحث عن أسواق جديدة في السعودية.
عند استعراض تداخل عالمَيْ السياسة والمال، لا يبدو ماسك ظاهرة جديدة، فهو امتداد للعديد من الشخصيات التاريخية البارزة في عالمي المال والصناعة. كما تلعب أصول ماسك، بصفته جنوب إفريقي أبيض، دوراً بارزاً في بلورة أفكاره، إذ ينتمي الملياردير إلى فئة ديموغرافية هيمنت على قمة الهرم العِرقي في جنوب أفريقيا لقرون من خلال حكم استعماري قاسٍ.
بالطبع، يمكننا مقارنة مواقف ماسك بمواقف رائد صناعة السيارات هنري فورد (1863-1947)، الذي كان يروج لزيادة أجور العمال ليتمكنوا من شراء سيارات مصانعه، مع تبنّي مواقف معادية للسامية، حيث استخدم صحيفته (ديربورن إندبندنت التي اشتراها في عام 1918) لنشر نظريات المؤامرة، ولم يتوقف إلا بعد تهديدات بمقاطعة شركاته.
على خطى فورد، اشترى ماسك منصة تويتر ليتبنّى مواقف سياسية يمينية ويدعم أحزاباً متطرفة في عدة دول. كجزء من لجنة (أمريكا أولاً)، شنّ فورد حملةً ضد دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، واستمر في التعامل مع ألمانيا النازية حتى أعلنت الولايات المتحدة الحرب عام 1941، وهذه نقطة تشابه أخرى مع ماسك، بعلاقاته المريبة مع الأحزاب الألمانية اليمينية وحملة «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» MAGA و«أمريكا أولاً». ففي مقال رأي لصحيفة دي فيلت الألمانية المحافظة، وصف ماسك حزب البديل من أجل ألمانيا بأنه “آخر بصيص أمل” للبلاد. وفي مقابلته مع أليس فايدل، الزعيمة المشاركة للحزب الألماني، أنكر تصنيف الحزب كحزب يميني متطرف، لكن فايدل وصفت أدولف هتلر بأنه “شيوعي” وهي أسطورة تتردّد كثيراً في الدوائر اليمينية المتطرفة.
في المجمل، يتبنى ماسك النهج العنصري ذاته الذي تبنّاه العديد من رجال الأعمال في الماضي، حيث يسعى للتأثير في السياسة العالمية من خلال أمواله وعلاقاته، كما يتبنى، رغم زعمه الخوف على مستقبل الجنس البشري، سياسة معادية للتعاطف الذي يراه نقطة ضعف في الحضارة الغربية، قائلاً إن هذا التعاطف يُستغلّ كسلاح ضد الغرب.
بعد شرائه منصة تويتر في 2022 مقابل 44 مليار دولار، أعاد تسميتها إلى إكس X، وحوّلها إلى ساحة رئيسية للنقاش العام والتصريحات الرسمية.
غيّر ماسك سياسات التحقّق والمحتوى بدعوى ما يسميه مكافحة “التحيز اليساري” معيداً حسابات كانت محظورة مثل حساب دونالد ترامب. رحّب بعض مستخدمي الموقع من العرب بالأمر، وتوقعوا سياسات أكثر حرية وتسامحاً مع قضاياهم، لاسيما مع نقمة البعض من قيود النشر في منافسه فيسبوك، ولكن الأمر لم يكن كذلك.
استغل ماسك المنصة لترويج دعمه المفتوح لشخصيات اليمين المتطرف في أوروبا والمملكة المتحدة، وخطابه المعادي للمهاجرين والمسلمين. رأى بعض المسؤولين الأوروبيين في تحركاته تهديداً، بينما وصفه السياسي الأسكتلندي حمزة يوسف بأنه “أخطر رجل على الأرض“، مشبهاً خطابه بصعود الشعبوية في ثلاثينيات القرن الماضي.
يذكرنا هذا أيضاً بالإعلامي الأمريكي ويليام راندولف هيرست (1863-1951)، الذي امتلك صحفاً كبيرة ونشر تقارير تسببت في تعبئة الرأي العام الأمريكي لصالح التدخل في الحرب الإسبانية في كوبا، ثم تحوّل إلى الانعزالية اليمينية بعد الحرب العالمية الأولى. أُعجب هيرست بهتلر ونشر مقالاتٍ له، لكنه دعم دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية عقب الهجوم الياباني على بيرل هاربور، محولاً تركيزه إلى تعزيز المشاعر المعادية للآسيويين.
توّج ماسك نفسه ملكاً للمعلومات المضللة، إذ نشر 28 خبراً كاذباً في ثلاثة أسابيع فقط، حصدت 540 مليون مشاهدة. إجمالاً، حققت منشوراته المضللة حول الانتخابات الأمريكية 1.2 مليار مشاهدة، وفقاً لتحليل نشره مركز مكافحة الكراهية الرقمية غير الربحي CCDH. وتزايدت مخاوف الأوروبيين من دوره في تأجيج التوترات، خصوصاً بعد نشره أخباراً زائفة مثل زعمه إرسال بريطانيا معتقلين إلى جزر فوكلاند وادعائه أن “الحرب الأهلية في أوروبا أمر لا مفر منها”.
وصف ماسك الجمعيات الإسلامية والعربية التي تتلقى مساعدات من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID بالإرهابية في إطار مسعاه لإغلاق الوكالة، كما هاجم مسقط رأسه، متهماً حكومة جنوب إفريقيا بتطبيق “قوانين ملكية عنصرية” وارتكاب “إبادة جماعية” بحق المزارعين البيض، رغم الأبحاث التي تشير إلى الدوافع الجنائية لتلك الجرائم. زعم ماسك أن قوانين الإصلاح الزراعي عنصرية في بلد تمتلك فيه الأقلية البيضاء (سبعة بالمئة من السكان) أكثر من 70 بالمئة من الأراضي.
ردّ ترامب بخفض المساعدات الأمريكية لجنوب إفريقيا (البالغ قيمتها أكثر من 450 مليون دولار سنوياً يذهب معظمها لجهود مكافحة الإيدز)، في خطوة فسّرها البعض كردّ فعل على قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل التي رفعتها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، لاسيما وسط افتتان الإدارة الحالية بإحياء الطراز الاستعماري القديم من خلال دعوات صريحة لإفراغ غزة من سكّانها واستبدالهم بـ “سكان العالم”، فضلاً عن الرغبة في السيطرة على غرينلاند وضم قناة بنما، بل وكندا أيضاً.
مع استمرار الجدل، غادر 2.7 مليون مستخدم منصة X، بمن فيهم صحفيون ومحللون بارزون (يساريون في الغالب) توجهوا إلى منصات بديلة مثل Bluesky. كما أدى سلوكه إلى مقاطعة كبرى المعلنين، مثل آبل ووول مارت، مما يهدد مستقبل المنصة. قد يعرّض هذا السلوك إمبراطورية ماسك الإعلامية بأكملها للخطر، لكن الارتباطات السياسية تزيد من تعقيد المشهد، حيث هدّد نائب الرئيس جَي. دي. فانس بوقف الدعم الأمريكي لحلف الناتو إذا ما شدّد الاتحاد الأوروبي قيوده التنظيمية على منصة إكس، لكأن مصالح ماسك هي مصالح الولايات المتحدة ذاتها، ورؤاه تمهّد لسياسات البيت الأبيض.
بعد هجمات السابع من تشرين الأول 2023، واجه ماسك انتقادات من البيت الأبيض بتهمة “الترويج للكراهية المعادية للسامية”. لكنه حاول تصويب الوضع بلقاء عائلات الرهائن الإسرائيليين رفقة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، الذي وصفه بأنه “شريك في الحرب العالمية ضد معاداة السامية”.
زار ماسك أحد الكيبوتسات التي استهدفتها حماس، لكن الحركة الفلسطينية دعته لزيارة غزة لرؤية الدمار الناجم عن الهجمات الإسرائيلية. في أواخر 2024، طلب هرتسوغ من ماسك التدخل لإقناع ترامب بالسعي لاتفاق إعادة الرهائن، وفقاً لـ CNN. ورغم انتقاده بسبب “تحية نازية”، دافع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن ماسك، مؤكداً أنه “صديق عزيز لإسرائيل”، ممّا يزيد من تعقيدات هذه الشخصية.
في المقابل، دعا ماسك في لقاء مع زعيمة الحزب اليميني الألماني AfD إلى التعامل مع غزة بعد القضاء على حماس كما تعاملت الولايات المتحدة مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. لكن هذه الدعوات تأتي بالتزامن مع قرار أمريكي بوقف 400 مليون دولار من المساعدات الإنسانية لغزة ودارفور، ما أدى إلى تعليق دعم مستشفيين ميدانيين في القطاع.
ومع نبذه للتعاطف، يعتقد ماسك أن مستقبل الجنس البشري مرهون بغزو الفضاء والتواجد على عدة كواكب، وأسس لذلك شركة سبيس إكس عام 2002 بهدف تقليل تكاليف الصواريخ الفضائية، مما جعل حلم غزو الفضاء أكثر واقعية. في الشرق الأوسط، قد لا يشارك حلم المريخ معه سوى مشروع “مسبار الأمل” الإماراتي.
في 2018، أطلقت سبيس إكس Falcon Heavy، القادر على حمل 53 ألف كغم، بثلث تكلفة الصواريخ المنافسة من شركة بوينغ. وبحلول 2024، أصبحت أكثر من نصف الإطلاقات المدارية في العالم تعتمد على صواريخ سبيس إكس.
عززت الشركة مكانتها عبر عقود مع وكالة ناسا والجيش الأمريكي، مما جعل ماسك شخصية مركزية في الطموحات الفضائية الأمريكية. واليوم، تنقل سبيس إكس رواد الفضاء إلى محطة الفضاء الدولية بانتظام، إلى جانب دورها المحوري في إطلاق الأقمار الصناعية، بما في ذلك تلك الخاصة بالبنتاغون.
لكن ابتكارات ماسك الفضائية قادته إلى معمعة النزاعات الجيوسياسية، خاصة في الحرب الروسية-الأوكرانية. فقد لعبت شركته سبيس إكس دوراً محورياً في دعم الدفاع الأوكراني عبر توفير خدمة الإنترنت الفضائي ستارلينك، مما منح القوات الأوكرانية قدرة اتصالية حاسمة. إلا أن تدخله أثار قلقاً واسعاً، إذ وردت تقارير تفيد بأنه كان يتخذ قرارات بشأن استخدام الخدمة في الميدان، بل وكان على اتصال مباشر بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومسؤولين روس كبار.
تمثلت أبرز تدخلات في تقييد الوصول إلى الإنترنت بمحيط شبه جزيرة القرم، مما حرم القوات الأوكرانية من تغطية حيوية في وقت حرج، بحجة تجنب التصعيد مع روسيا. لاحقاً، أرسلت سبيس إكس إنذاراً للبنتاغون، مطالبة بتحمل تكلفة تقديم الخدمة لأوكرانيا، والتي قدّرتها بحوالي 400 مليون دولار سنوياً، وإلا سيتم قطع الإنترنت. وأفادت تقارير أن انقطاعاً آخر لخدمة ستارلينك في جنوب أوكرانيا أجبر الجنود الأوكرانيين على الانسحاب، ما أثار تساؤلات حول مدى تأثير ماسك في مسار الحرب.
على الرغم من دعم ماسك الظاهري لأوكرانيا، إلا أنه بدا متعاطفاً مع الجانب الروسي في بعض المواقف، فقد اقترح خطة سلام تتضمن إعادة رسم حدود أوكرانيا عبر استفتاءات جديدة ومنح روسيا السيطرة على شبه جزيرة القرم، وهو ما يتماشى مع المطالب الروسية ولاقى ترحيبا من المسؤولين الروس. كما أشاد بوتين بماسك ووصفه بأنه “شخصية استثنائية“.
علاوة على ذلك، انضم ماسك إلى مكالمة هاتفية جمعت ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي، حيث أبدى تشكّكه في تقديم المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، فيما اقترح ترامب تنازل كييف عن أراضٍ لروسيا، وهو شرط رفضته أوكرانيا بشكل قاطع. تزامن ذلك مع ضغوط أمريكية على كييف لمنح واشنطن امتيازات في استخراج المعادن الحيوية في أوكرانيا، والتي تشمل الليثيوم والتيتانيوم واليورانيوم، وهي مواد أساسية لصناعات التكنولوجيا والطاقة، بما في ذلك بطاريات السيارات الكهربائية التي تنتجها شركات ماسك.
في ظل هذه التطورات، بات ماسك شخصية مركزية في معادلة معقدة تجمع بين مصالحه التكنولوجية ومشاريع الفضاء والطموحات الجيوسياسية، حيث يلعب دوراً مزدوجاً بين الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، مما يجعله أحد أكثر الفاعلين تأثيراً في تداخل التكنولوجيا بالحروب والسياسة.
كما في الفضاء كذلك على الأرض، أحدثت شركة تسلا ثورة تقنية في قطاع صناعة السيارات بتطوير عملية “التشكيل بالضخ الضخم” (gigacasting)، والتي تقلدها الآن شركات منافسة، مثل تويوتا. تعتمد هذه التقنية على استخدام آلات ضخمة لتشكيل أجزاء السيارة الأساسية كقطع متكاملة، بدلاً من لحام مئات الأجزاء الصغيرة، ما خفّض تكلفة الإنتاج وزاد الربحية. تواصل تسلا ابتكاراتٍ من شأنها إنتاج سيارة كهربائية بسعر 25 ألف دولار، مما يجعلها في متناول الجميع، ويدفع عجلة التحول عن السيارات التقليدية العاملة بالبنزين، في خطوة قد تساعد بتخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
بالنسبة للشرق الأوسط، قد لا يكون مثل هذا التحوّل خبراً ساراً للدول المصدّرة للبترول، رغم أنها من بين الأكثر تضرراً من تداعيات الاحتباس الحراري. ولذات الأسباب لا تزال تسلا جديدة في الشرق الأوسط، حيث خططت للبدء ببيع سياراتها في السعودية في نيسان 2025 الجاري لتصبح البلد الخامس في المنطقة إلى جوار إسرائيل والأردن والإمارات وقطر. أمّا العراق، فلا يساعده اعتماده على النفط وضعف البنية التحتية لإنتاج الكهرباء في استقبال سيارات تسلا، ولا تزال المنطقة أقل حضوراً في القيمة السوقية للشركة. ففي عام 2023، جاءت 47 بالمئة من عائدات تسلا من الولايات المتحدة وأكثر من 22 بالمئة من الصين.
دفعت الطموحات الاقتصادية ماسك لتوطيد علاقته مع الصين، حيث تُعد تسلا من بين الشركات الأجنبية القليلة التي حظيت بامتيازات استثنائية في البلاد، بفضل مصنعها الضخم في شنغهاي، الذي يُنتج نصف سيارات تسلا عالمياً، أصبحت مهددة بحرب الرسوم الجمركية. منح الحزب الشيوعي الصيني تسلا مزايا لم تُمنح لمنافسيها الأجانب، ما يجعل استمرار عملياتها هناك مرهوناً برضا بكين، وما يجعل شركته موضع شكوك في حال نشوب حرب في تايوان وطلب الصين عدم نشر خدمات ستارلنك.
في الشرق الأوسط “المحافظ”، وجد خطاب ماسك شعبية واسعة، لكن “يمينية” ماسك غير تقليدية سواء على الصعيد الشخصي أو العملي، بدءاً من تسمية ابنه X Æ A-Xii، ويُنطق إكس آش أيه تويلف، إلى تكوينه عائلة مثيرة للجدل تضم 13 طفلاً من ثلاث نساء. بعد وفاة طفله الأول بسبب متلازمة موت الرضّع المفاجئ، وُلد له خمسة أطفال من زوجته الأولى، الكاتبة الكندية جاستين ويلسون، من بينهم ثلاث توائم عبر التلقيح الاصطناعي. من بين هؤلاء، غيرت فيفيان (اسمها الأصلي خافيير) اسمها وهويتها الجنسية قانونياً، متبرئة من والدها، وهو ما عبّر ماسك عن ندمه حياله، معتبراً أنها “خُدعت” من قبل المتخصصين الطبيين.
كما أنجب ماسك ثلاثة أطفال من شريكته السابقة، الموسيقية غرايمز، من بينهم حمل عبر أمٍ بديلة، واثنين من المسؤولة التنفيذية في شركته نيورالينك، شيفون زيليس. وفي أيلول 2024، رُزق بطفل من المؤثرة المحافظة آشلي سانت كلير، التي أبقت الأمر سرياً حفاظاً على خصوصية الطفل. وعلى الرغم من تأكيده على أهمية الإنجاب لمستقبل الحضارة، فإن حياته العاطفية المتقلبة، وزيجاته وانفصالاته المتكررة، تتناقض مع القيم العائلية التقليدية التي يروج لها المحافظون.
أثار هذا التناقض جدلاً داخل اليمين، حيث رحّب البعض، مثل مات غيتز، بولادة الطفل الأخير من المؤثرة المحافظة بسبب “جيناته المذهلة” الناتجة عن هذه العلاقة، بينما انتقد آخرون، مثل جون روت، الموظف السابق لدى Turning Point USA، ازدواجية المعايير داخل التيار المحافظ، قائلاً إن “التيار المحافظ مليء بالمنافقين الملحدين الذين لا يكترثون بالحفاظ على القيم العائلية التقليدية”. أثارت هذه الظاهرة نقاشاً أوسع حول تبني بعض اليمينيين لخطاب وراثي بحت حول الإنجاب، متجاهلين السياق العائلي، مما يذكّر بخطابات تحسين النسل ذات النزعات الداروينية الجديدة و”سوبرمان” الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، ويذكرنا بتشجيع النازيين الألمان إنجاب أكبر عدد من الأولاد من النساء الإسكندنافيات، ولو من دون زواج، وبالطبع لا يلقى هذا النمط “اليميني” قبول التيارات المحافظة في الشرق الأوسط.
وفي تناقض صارخ مع قيم العائلة والزواج، أظهر ماسك اهتماماً غير مألوف بشخصيات “كات غيرلز” في الأنمي، وطرح فكرة تطوير تقنيات تقرب من تجسيدها. ومع تقدم الذكاء الاصطناعي، أصبحت الروبوتات الجنسية قيد التطوير، مما يفتح الباب أمام نقاشات مستقبلية حول علاقتها بالمجتمع، خاصة مع دخول ماسك، المعروف بأفكاره الجريئة، إلى هذا المجال من خلال عمل تسلا على صنع روبوت بشري يُدعى أوبتيموس.
مع تصاعد نفوذه، يتزايد خصومه في الوقت نفسه. جعل هذا ماسك في مرمى نيران خصوم ترامب أيضاً، وبدأت الخسائر تطال شركاته، وهذا هو ما يهمّ أي رجل أعمال، كما يُتوقع حدوث تصادم بين شخصيتي ترامب وماسك المحبَيْن للظهور والأضواء، وقد يحدث ذلك بأسرع ممّا نتصوّر مع نشر مجلة بوليتيكو تسريبات حول إبلاغ ترامب دائرته المقربة عن قُرب خروج ماسك من وظيفته.
واجه ماسك إخفاقات كبيرة في حياته المهنية، مثل إطلاقات سبيس إكس الفاشلة، لكنه أثبت بشخصيته المثيرة للجدل، والتي تبدو نموذجاً غير تقليدي ليمين غير تقليدي، قدرة على التكيف مع الأزمات.
محمّلاً بكلّ هذا التعقيد -غير التقليدي- يرتقي إيلون ماسك إلى مكانة بالغة الأهمية، بجوار أكثر الرجال جدلاً في الكوكب، وليس صعوده السياسي هذا من أجل ترفيه، بل سيفتح لنفسه ومشاريعه وأفكاره أبواباً ليس معلوماً بعد مدى سعتها، وقياساً بكل هذه المشاريع والأفكار الثورية للمستقبل البشري، تقف مجتمعات الشرق الأوسط، والعراق خصوصاً، في مؤخرة المشهد عاجزةً عن مواكبة أو مناغمة أو مصارعة هذا البرق العلمي والأفكار التي قد تلحق بها وباقتصادها وأمنها ضرراً عصيّاً على مستوى استيعابها.