تحليل: لقاء السوداني والشرع… مصافحة تحت ظلال الحسابات الثقيلة 

لقاء السوداني والشرع… مصافحة تحت ظلال الحسابات الثقيلة 

يغوص هذا المقال في كواليس المصافحة الرمزية بين السوداني والشرع، ويستعرض الخيوط المتشابكة التي تبدأ من الدوحة وتمر بمسقط وطهران وأنقرة، ولا تنتهي في واشنطن وتل أبيب... فهل بدأ العراق بالفعل يتعلم لغة المصالح؟ وهل تحرّكه نحو دمشق هو اختبار لحدود المناورة، أم انزلاق محسوب في ساحة تتغير سريعاً؟

في سياق إقليمي معقد ومتداخل، وفي ظل تحولات متسارعة ومفاوضات معقدة تجري بين طهران وواشنطن، التقى رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني مع رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، في العاصمة القطرية الدوحة دون الإعلان عن ذلك.  

لم يكن اللقاء مجرد بروتوكول رسمي يُضاف إلى أرشيف العلاقات الثنائية بين بغداد ودمشق، بل كان، بالأساس، فعلاً سياسياً محسوباً بعناية، يرمي إلى إرسال رسائل متعددة الاتجاهات، داخلية وإقليمية ودولية. 

من الناحية الشكلية، بدا اللقاء طبيعياً في ظل محاولات العراق ترميم شبكة علاقاته الإقليمية بعد سنوات من الاصطفاف الحادّ والانكفاء الداخلي. لكنّ القراءة الأعمق لطبيعة الحضور السياسي، ولغة التصريحات المقتضبة، وخلفيات التوقيت، تكشف أن اللقاء كان أداة رمزية لتثبيت ملامح إعادة التموضع العراقي ضمن بيئة إقليمية باتت تبحث عن معادلات أكثر مرونة بعيداً عن الثنائيات التقليدية. 

ورغم العناوين التقليدية التي تصدّرت المشهد مثل “التعاون الأمني”، و”دعم وحدة سوريا”، و”تعزيز العلاقات الاقتصادي” كان المضمون الحقيقي يتمحور حول اختبار حدود الانفتاح الممكن، واستكشاف مدى القبول الإقليمي والدولي لإعادة التواصل بين بغداد ودمشق، في وقت تتداخل فيه ملفات الأمن، والنفوذ، والطاقة، والتجارة عبر مسارات متقاطعة. 

لم يكن المطلوب من هذا اللقاء إبرام اتفاقيات كبرى أو إطلاق مبادرات صاخبة، بل كانت وظيفته الأساسية تكمن في تثبيت معادلة جديدة قيد التشكّل: العراق لم يعد يتحرّك بوصفه تابعاً تلقائياً لإملاءات المحاور التقليدية، ولا بوصفه لاعباً متمرداً يغامر بالاصطدام مع مراكز القوى الكبرى، بل يحاول توسيع هامش حركته ضمن قيود النظام الإقليمي القائم. 

من زاوية سورية، كان اللقاء محطة في رحلة تثبيت الشرعية. فالشرع، الذي يشيّد شرعية حكمه في دمشق بهدوء ضمن معادلة سياسية جديدة، توحي تحركاته ومواقفه بالحرص الشديد على الاعتراف الإقليمي الجزئي، والعمل الدؤوب على توسيعه والارتقاء به إلى مراحل متقدّمة من العلاقات الثنائية بين سوريا وكل دولة في المنطقة، وإدماج بلاده بالنظام الدولي الذي يمر بمراحل حساسة. 

أصدرت الرئاسة السورية بياناً عن اللقاء، يتضح منه الحرص على علاقة الشعبين، وورد فيه أن الطرفيّن اللذين التقيا برعاية أمير دولة قطر تناقشا بملفات مهمة مثل أمن الحدود والتجارة والنقل والطاقة، كما وصف البيانُ اللقاءَ بأنه “خطوة مهمة على طريق بناء علاقات متوازنة قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة”. 

في خلفية اللقاء، كان واضحاً أن هذه الابتسامات التي حملتها اللقطة الفوتوغرافية الوحيدة، ليست موجّهة فقط إلى الشعبين العراقي والسوري، بل إلى أطراف إقليمية ودولية تراقب المشهد عن كثب.  

في المحصلة، لم يكن اللقاء بين السوداني والشرع مجرد خطوة ثنائية عادية، بل كان فعلاً محمّلاً بدلالات مركّبة: إعادة تعريف العلاقات البينية ضمن بيئة إقليمية متغيرة، واحتمالية حضور العراق كفاعل نسبي في معادلة إعادة الإعمار السوري المقبلة، واختبار حدود التحرّك الحرّ ضمن شبكة توازنات شديدة التعقيد. 

لقد كانت الصورة التي التقطتها الكاميرات في ذلك اليوم، في ظاهرها، إعلاناً عن رغبة في الانفتاح، لكنها في باطنها كانت رسالة محسوبة إلى الإقليم والعالم: العراق بدأ يختبر أدواته الجديدة، ويحاول تعلّم لغة المصالح الهادئة، وأن يدشّن، ولو بخطوات بطيئة، خروجه النسبيّ من أسر المحاور الجامدة إلى فضاء أكثر تعقيداً وديناميكية. 

بغداد ودمشق تحت عين الرعاة  

على مسافة جغرافية محايدة، وتحت رعاية قطرية حذرة، انعقد لقاء السوداني والشرع، بعيداً عن الضجيج الإعلامي، وفي ظلّ ترتيبات لوجستية حملت أكثر من دلالة على طبيعة اللحظة السياسية الهشّة التي تمرّ بها المنطقة. 

لم يكن اختيار الدوحة مكاناً للقاء تفصيلاً بروتوكولياً. بل كان جزءاً من الهندسة الدقيقة للمشهد، وهو أن يجري اللقاء في عاصمة عربية تحافظ على خيوط تواصل مع جميع الأطراف دون أن تُحسب بالكامل على أيّ محور، بحيث تضمن الغطاء السياسي للقاء، وتخفف من حساسيات الاصطفافات التي ما تزال تلقي بثقلها على المنطقة. 

على الطاولة، بدا النقاش هادئاً، لكنه مشحون بما هو أكبر من الكلمات المعلنة، فبغداد، وهي تفتح ذراعيها لدمشق الجديدة، كانت تبعث برسائل مركبة: 

-تأكيد دعم وحدة سوريا وسيادتها. 

-إبداء استعداد مدروس لفتح قنوات تنسيق أمني واقتصادي. 

-اختبار حدود الانفتاح الممكن دون الاصطدام مع خطوط النفوذ الإقليمي والدولي. 

في المقابل، يبدي النظام السوري الجديد بقيادة الشرع مرونة محسوبة تتمثل برغبة في طيّ صفحة الصراع التقليدي، ومحاولة للانخراط مع العراق باعتباره بوابة عبور نحو بيئة عربية أوسع، بعيداً عن عبء التحالفات القديمة التي أثقلت كاهل البلاد. كما حمل اللقاء وبيان الرئاسة السورية الذي قابلته السلطات العراقية بالصمت بين طياته رسائل أبعد من حدود القصر الأميري في الدوحة: 

-إلى طهران، بأن دمشق الجديدة منفتحة على علاقة جديدة تختلف عن تلك التي كان يعيشها الأسد، علاقة أكثر حذراً واحتراماً. 

-إلى الخليج والعرب والغرب، بأن سوريا مستعدة لطيّ صفحات دموية من أجل أخرى جديدة تجلب الإعمار والاستقرار. 

-وإلى أنقرة، التي تراقب المشهد بعناية، بأن هنالك مَن سيزاحمها في سوريا -الخليج خصوصاً والقوى التي كانت تصطفّ مع إيران-. 

هكذا، كانت قاعة اللقاء في الدوحة أكثر من مجرد مكان للقاء مسؤولين رسميين؛ كانت مسرحاً هادئاً لصياغة مشهد جديد، تُكتب معالمه بحذر، وتُدار مجرياته بإيقاع بطيء ومدروس، في انتظار أن تنضج موازين القوى قبل إعلان التحولات الكبرى. 

لقاء السوداني والشرع في الدوحة برعاية أمير قطر – المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي. 

الضوء الأخضر الإيراني… إعادة ترتيب الساحة 

في قلب المشهد الإقليمي الذي يعاد تشكيله بهدوء مدروس، تبرز إيران كلاعب محوري يُعيد حساباته دون التخلي عن طموحاته الأساسية، ففي ظلّ انخراطها في واحدة من أكثر جولات التفاوض تعقيداً مع الولايات المتحدة، أدركت طهران أن التلويح بالمرونة التكتيكية بات ضرورة استراتيجية، لا خياراً ترفاً. 

إعادة تموضع العراق نحو دمشق الجديدة لم يكن ليحدث دون مرور ضمنيّ عبر بوابة القرار الإيراني، ليس لأن طهران تمتلك قدرة مطلقة على ضبط حركة بغداد، بل لأنها نجحت منذ عام 2003 في صياغة شبكة نفوذ كثيفة تجعل من تحركات العراق الإقليمية، طوعاً أو كرهاً، مرتبطة بمنظومة مصالحها الأوسع. 

ضمن هذا السياق، تبدو موافقة إيران الضمنية على انفتاح العراق على سوريا الجديدة جزءاً من مقاربة أوسع تعيد تعريف مفهوم النفوذ نفسه، فبدل التشبث الأعمى بكل الساحات والملفات، باتت طهران تتحرك بمنطق إدارة الأولويات، فتفتح بعض الهوامش الثانوية، مقابل الحفاظ على المكاسب الجوهرية. 

ففي حسابات التفاوض الجارية بين مسقط وروما، يُفهم أن ورقة العراق لم تعد مجرّد أداة للضغط المباشر، بل تحولت إلى ورقة تلوّح بها إيران لتأكيد قدرتها على إعادة ضبط ساحاتها دون الحاجة إلى استخدام الأدوات الخشنة التي باتت تكلفتها الإقليمية والدولية عالية جداً. 

وبهذا الفهم، جاء السماح للعراق بالتحرّك نحو دمشق بمثابة رسالة مزدوجة: رسالة إلى واشنطن مفادها أن إيران قادرة، عبر أدواتها الناعمة، على إعادة صياغة التوازنات المحلية بطريقة لا تثير الانفجارات لكنها تحقق المكاسب، ورسالة إلى حلفائها الإقليميين بأن الانفتاح المحسوب لا يعني بالضرورة التخلي عن مركزية الدور الإيراني في إدارة الملفات الحيوية. 

في المقابل، حرصت طهران على إبقاء هذا الهامش العراقي تحت سقف مضبوط؛ فلا هو استقلال كامل قد يغري بغداد للخروج عن المدار، ولا هو تبعية خانقة قد تدفعها للبحث عن مظلة بديلة، بل هو هامش محكوم بإشارات دقيقة، يفهمها الفاعلون السياسيون في بغداد جيداً، إشارات تُقرأ في توقيت التصريحات، ونبرة البيانات، وحجم الحضور الدبلوماسي، أكثر مما تُقال صراحة. 

وعلى المستوى الداخلي العراقي، أسهم الضوء الأخضر الإيراني المُفتَرَض -حتى وإن بقي ضمنياً- في تهدئة القوى السياسية المرتبطة بطهران والتي كان يمكن أن تعرقل هذا الانفتاح لولا الرسائل الصامتة التي وصلت باكراً بأن المرحلة تتطلب صمتاً استراتيجياً لا تصعيداً ارتجالياً. 

في النهاية، لم يكن الضوء الأخضر الممنوح للعراق مجرد تنازل عابر، بل كان جزءاً من معادلة أكبر تحكمها ثلاث قواعد أساسية: 

-الحفاظ على الهيمنة الناعمة لا السيطرة الخشنة. 

-إدارة الهوامش دون تفريط بالمراكز. 

-استخدام الساحات الطرفية لتحسين شروط التفاوض على الساحات الكبرى. 

وبهذه الطريقة، تكون طهران قد قدمت في لحظة مصافحة بغداد–دمشق درساً دقيقاً في إدارة النفوذ تحت ضغط الأزمات، درساً مفاده أن النفوذ الحقيقي لا يُقاس بكم المساحات المحتلة، بل بمدى القدرة على التحكم بإيقاع الحركات داخل المساحات المتحركة. 

أنقرة تتحرك في قلب المشهد 

فيما كانت أنظار الإقليم مشدودة إلى مفاوضات طهران وواشنطن، كانت تركيا تتحرك في قلب الساحة السورية بهدوء محسوب، مستثمرة موقعها بوصفها اللاعب الرئيسي في إعادة تشكيل المشهد السوري، فمنذ الإطاحة بالنظام السابق في دمشق، والتي جاءت نتيجة تراكم سنوات من الدعم التركي الواسع لفصائل المعارضة، فرضت أنقرة نفسها كصاحبة اليد الطولى في الترتيب السياسي والعسكري الجديد داخل سوريا.  

لم تكن هذه السيطرة التركية مجرد واقع ميداني، بل تحولت إلى اعتراف سياسي غير مباشر، حين عبّر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن الموقف الأمريكي بقوله للرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “لقد حصلت على سوريا، أهنئك”، في إشارة إلى أن أنقرة باتت الفاعل المركزي في هذا الملف. 

انطلاقاً من هذه المكانة الجديدة، تعاملت تركيا مع لقاء السوداني والشرع- برعاية قطرية في الدوحة- لا كتهديد، بل كفرصة لتعزيز موقعها الإقليمي، إذ لم تكتفِ أنقرة بمراقبة الحدث، بل حرصت على تسهيل الانفتاح العراقي على الحكومة السورية الانتقالية، باعتباره تحركاً يمر ضمن خطوط نفوذها، ولا يتعارض مع هندستها الجديدة للمنطقة، بل إن بعض القراءات تشير إلى أن تركيا، في إطار مقايضات غير معلنة مع إيران، قد تكون سهلت تمرير هذا الانفتاح العراقي نحو دمشق، مقابل أن تُيسر بعض زوايا تفاوضها مع واشنطن في مسقط، وذلك عبر القنوات التركية غير الرسمية التي ظلت تلعب دوراً نشطًا في تقريب المسافات التفاوضية. 

وفي ضوء هذه القراءة، عملت تركيا على تحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية: 

-تكريس شرعية الحكومة السورية الانتقالية التي تدعمها، عبر فتح قنوات عربية معها، وفي مقدمتها العراق. 

-تحجيم أي دور إيراني مستقبلي في المشهد السوري الجديد، من خلال إظهار أن التواصل مع دمشق الجديدة لا يمر عبر طهران بل عبر قنوات تركية–عربية. 

-تعزيز التفاهمات مع واشنطن عبر تقديم نفسها كقوة قادرة على ضبط الإيقاع في سوريا والعراق معاً، بما يخدم الاستراتيجية الأميركية في احتواء النفوذ الإيراني دون الحاجة إلى تدخلات مباشرة مكلفة. 

وبحسابات دقيقة، بدا أن تركيا اختارت إدارة الموقف بسياسة “الخطوة الآمنة القصيرة” بحيث أنها: 

-تدعم خطوات الانفتاح بشرط أن تبقى في إطار لا يتعارض مع مصالحها الميدانية. 

-تراقب من الخلف دون انخراط معلن، مما يتيح لها مساحة لتغيير المواقف إذا تغيّرت موازين القوى. 

-تحتفظ بدور الموزّع الأساسي للأوراق بين بغداد ودمشق والعواصم الأخرى. 

وبذلك، أصبحت تركيا طرفاً مركزياً في صياغة مستقبل سوريا، ويمكن أن تلعب دوراً في إعادة صياغة موقع العراق داخل الخريطة الإقليمية الجديدة، فبينما تحاول طهران الدفاع عن هوامش نفوذها، وتراقب واشنطن المشهد بحذر، تتحرك أنقرة بخطى ثابتة لتعزيز تموضعها كأحد المصممين الرئيسيين للمرحلة المقبلة. 

وفي ضوء هذه الحقائق، لم يعد بإمكان أي طرف إقليمي أو دولي التعامل مع الملفين السوري والعراقي بمعزل عن الدور التركي الحاسم، الذي تحول إلى حجر زاوية في معادلة الشرق الأوسط المتغيرة. 

وفد برئاسة وزير النقل والاتصالات العماني في ميناء الفاو الكبير بالبصرة- المصدر: وكالة الأنباء العمانية. 

اختبار الفاو… عُمان تدخل على خط التحولات ومسارات التفاوض الصامتة 

في خضمّ التبدلات الإقليمية الدقيقة التي تلت جلسة بغداد ودمشق، لم تكن زيارة الوفد العُماني إلى ميناء الفاو الكبير مجرد حدث اقتصادي عابر، بل جاءت كمؤشر إضافي على التشابك الخفي بين مسارات إعادة التموضع الإقليمي وبين ديناميكيات التفاوض الكبرى التي تُدار خلف الكواليس، لا سيما في قاعات مسقط المغلقة حيث تتواجه الولايات المتحدة وإيران في أكثر مفاوضاتهما حساسية. 

سلطنة عمان، المعروفة بقدرتها على التحرك بهدوء بين الخطوط المتوازية والمتقاطعة، لم يكن دافعها استثمارياً فحسب، بل كانت زيارتها للفاو تُقرأ في سياق أوسع. سياق إقليمي يتطلب اختباراً عملياً لمدى قدرة العراق على تقديم نفسه كجسر اقتصادي آمن، وكمساحة مرنة قابلة للتفاوض السياسي غير المباشر، في وقت تتطلّب فيه محادثات مسقط مؤشرات ميدانية تثبت نضوج بعض المسارات السياسية. 

ويُمكنُ قراءة الزيارة العُمانية للفاو العراقية بطريقتين متداخلتين: 

القراءة الاقتصادية الظاهرة من خلال دعم مشاريع البنية التحتية والربط الطاقي بين الخليج والعراق، عبر بوابة الفاو، في محاولة لتحويل العراق إلى محور تواصل إقليمي عابر للاستقطابات. 

القراءة السياسية الخفية، عبر اختبار مرونة بغداد في استقبال المبادرات الخليجية ضمن سياق تفاوضي حساس مع إيران، وإرسال رسالة إلى طهران -عبر قناة عمان الهادئة- بأن تسهيل تحركات اقتصادية خليجية في العراق يمكن أن يُحسب كورقة إضافية في ميزان مسقط، سواء لدعم مرونة المفاوض الإيراني أو لإعادة صياغة معادلة التنازلات المتبادلة. 

بهذا المعنى، لم تكن الفاو مجرد ممر تجاري مستقبلي؛ كانت اختباراً صامتاً للرسائل المتبادلة بين العواصم المعنية بالتفاوض: 

للعراق، هل يمكنه أن يتعامل بمرونة دون إثارة حساسية المحاور؟ 

لإيران، هل تقبل بتوسيع هوامش التفاوض مقابل تثبيت مكاسب اقتصادية غير مباشرة عبر بغداد؟ 

لواشنطن، هل يمكن للعراق أن يلعب دور المعبر الاقتصادي الذي يساهم في تخفيف الاحتقان السياسي دون أن يهدد بنية تحالفاتها الإقليمية؟ 

وفي تفاصيل اللقاءات، بدا واضحاً أن زيارة الوفد العُماني تزامنت -بالتوقيت والرسائل- مع زخم جديد في محادثات مسقط، حيث تسعى الأطراف إلى ملامسة تفاهمات تدريجية تتيح تسجيل نقاط مرنة دون الإعلان عن تنازلات باهظة. وبمقاييس إدارة التفاوض الإقليمي، تحولت زيارة الفاو إلى حلقة ضمن سلسلة إشارات مبطنة؛ العراق، إذا أُحسن توجيه حركته، قد يلعب دور الوسيط الصامت بين الرهانات الاقتصادية الجديدة ومجريات التفاوض السياسي المعقد. وفي خلفية هذه التحركات، كانت عمان -بحنكتها التقليدية- تبني بهدوء شبكة مصالح عابرة للاصطفافات، وتراهن على أن الممرات الاقتصادية قد تصبح، في لحظة ما، بوّابات سياسية. 

وهكذا، لم تكن زيارة الفاو مجرد تفقد لمشروع لوجستي ناشئ، بل كانت جزءاً من أوركسترا إقليمية دقيقة تُعزَفُ نغماتها في الظل، حيث تتداخل المصالح الاقتصادية مع رسائل التفاوض النووي، وحيث يُختبر صبر العواصم على حافة الخريطة السياسية الجديدة للمنطقة. 

وزيرا خارجية إيران وعُمان قبيل المحادثات غير المباشرة مع الولايات المتحدة في مسقط- المصدر: وكالة أنباء فارس. 

بين ارتياب واشنطن وقلق تل أبيب… حسابات دقيقة في زمن التحولات 

لم يكن التقارب العراقي-السوري الناشئ بعيداً عن أنظار القوى الدولية والإقليمية المؤثرة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل.  

ففي واشنطن يُقرأ المشهد الجديد عبر عدسة مزدوجة، من جهة، هناك فرصة لاستغلال الانفتاح العراقي لتقليص حيز النفوذ الإيراني التقليدي، ومن جهة أخرى، تبرز المخاوف من أن يؤدي هذا الانفتاح -إذا أُدير بقدر عالٍ من الاستقلالية – إلى تكوين بيئة عربية وسطية يصعب ضبطها ضمن التحالفات الأمريكية التقليدية. 

الولايات المتحدة، المنغمسة بمحادثات حساسة مع إيران، أدركت أن أيّ هامش جديد لتحرّك بغداد يمكن أن يُستخدم كجزء من أوراق التفاوض المتبادلة. ولذلك، بدت الإدارة الأمريكية حريصة على المراقبة بلا مواقف صريحة تشجع أو تعارض التحرك العراقي، فالتعامل الأمريكي مع ملف العراق بات يُدار بموجب معادلة دقيقة: السماح بمساحات حركة مرنة للعراق، شرط أن تبقى ضمن سقف يمكن التحكم به لاحقاً، سواء عبر الضغوط الاقتصادية أو الأدوات الدبلوماسية

وفي هذا السياق، بدا أن أي انفتاح عراقي على دمشق الجديدة، إذا حافظ على توازنه بين الابتعاد عن إيران دون الغرق في مشاريع استقلالية مفرطة، قد يُحسب كورقة إضافية في ميزان تفاوض مسقط، دون أن يُعتبر خروجاً صريحاً عن الخطوط الحمراء الأمريكية. 

أما في إسرائيل، فكان المشهد أكثر توجساً. تل أبيب، التي طالما اعتبرت تفكيك الجبهات العربية المحيطة بها جزءاً أساسياً من عقيدتها الأمنية، ستنظر إلى تقارب بغداد ودمشق بقلق؛ ففي الحسابات الإسرائيلية، يُعدُّ تقارب العراق مع سوريا الجديدة، حتى وإن لم يُترجم فوراً إلى تحالف عسكري أو محور معادٍ، مُحمّلاً باحتمالات استراتيجية خطرة. 

أولها، أن يؤدّي إلى تماسك جغرافي سياسي بين بعض المراكز العربية خارج الفلك الإيراني المباشر، وخارج المظلة الأمريكية الكاملة. 

وثانيها، أن يعزز بيئات حاضنة لمشاريع اقتصادية وطاقة بديلة يمكن أن تهمّش خطوط المصالح الإسرائيلية التقليدية الممتدة عبر المتوسط والخليج. 

بناءً على ذلك، يسير الموقف الإسرائيلي باتجاه مزدوج: دعم صامت لاستمرار هشاشة الوضع الداخلي العراقي وعدم السماح لبغداد ببناء هامش مناورات مستقلة كامل، ومراقبة حثيثة لأي مؤشرات على أن التقارب العراقي السوري قد يتحول من مجرد لحظة رمزية إلى مشروع جيوسياسي فعلي يعيد رسم بعض معالم المشرق بطريقة تضرّ بالهندسة الأمنية الإسرائيلية الجديدة. 

وهكذا، ومن مسقط إلى تل أبيب، ومن واشنطن إلى الخليج، كانت المصافحة الصامتة بين بغداد ودمشق تُقرأ لا كحدث منفصل، بل كجزء من معادلة إقليمية معقدة. معادلة تحاول الأطراف الفاعلة فهمها قبل أن تفرض واقعاً جديداً يصعب تعديله لاحقاً، إذا ما نجحت الأطراف المحلية في العراق وسوريا في إدارة خطواتهما القادمة بذكاء ودقة. 

ارتدادات الداخل… كيف قرأت القوى السياسية المشهد الجديد؟ 

داخل العراق، لم يمرّ اللقاء بين السوداني والشرع مرور الكرام على القوى السياسية، فالمشهد الإقليمي المتغيّر أعاد خلط الأوراق المحلية، وفرض على الفاعلين السياسيين ضرورة إعادة تقييم مواقفهم إزاء التحولات الجارية، لا بمنطق الشعارات الآنية، بل بمنطق الحسابات الدقيقة للمصالح والتوازنات. 

في معسكر الإطار التنسيقي، حيث يتداخل الولاء لإيران مع براغماتية الاحتفاظ بالسلطة، كانت القراءة أكثر تعقيداً مما يظهر على السطح. فبعض فصائل الإطار، وعلى رأسها تحالف الفتح والجماعات المسلحة المرتبطة بطهران، تعاملت مع الانفتاح على دمشق الجديدة بتحفظ، فبينما رحب زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي بالانفتاح بين الشعبين، لوّح بمذكرة القبض القديمة في العراق بحق أحمد الشرع حين كان معرفاً بـ”أبو محمد الجولاني”، في موقف يحمل مخاوف من أن يتحول هامش الحركة الممنوح لبغداد إلى مسار استقلالي تدريجي.  

في هذا الظرف المركّب، يُعتبر رفع مستوى الاعتراض العلني مكلفاً؛ إذ قد يُفسّر كتمرد داخلي على الموقف الرسمي للبلاد، أو يشي بتصدّع داخلي فيما تبقى من الجبهة الإيرانية في المنطقة -المعروفة بمحور المقاومة والتي يُعتبر فصيل الخزعلي جزءً منها-، حيثُ يُمكن اعتبار موقف كهذا كاعتراض على الأضواء الخضر التي تمنحها إيران لأصدقائها، وتحفّظ إزاء فكّ الأطواق الإيرانية عن بغداد. 

أما القوى السنية، فقد رأت في الانفتاح فرصة طال انتظارها لتوسيع الهوامش العربية في العراق، وتخفيف وطأة الانغلاق الإقليمي الذي حكم بغداد لسنوات ما بعد 2003. في القراءة السنية، كان التقدم نحو دمشق الجديدة لا يمثل مجرد انفتاح دبلوماسي، بل تصحيحاً ضرورياً لمعادلة الهوية الإقليمية للعراق التي اختلّت لصالح محور طهران في العقدين الماضيين. وبذلك، جاء ترحيب القوى السنية صريحاً ومنسجماً مع استراتيجية أوسع تتطلع إلى إعادة تموضع العراق كجسر تواصل عربي-عربي، لا كجزء متمم لمحور إقليمي مغلق. 

على الضفة الكردية، هيمنت الواقعية السياسية على الموقف.  

في أربيل والسليمانية، كانت القراءة مركّبة فالانفتاح العراقي على سوريا يحمل في طياته فرصاً وتحديات معاً، يمكن من خلالها تعزيز موقع بغداد في الإقليم بما يفتح أمام الأكراد مجالاً أوسع للمناورة داخلياً وخارجياً، ولكن أيضاً تحديات ترتبط ربما بإمكانية استخدام بغداد لمكانتها الإقليمية الجديدة كورقة ضغط في الملفات العالقة مع الإقليم. لذلك، اختارت القيادة الكردية تبني سياسة الحذر الإيجابي، عدم الاعتراض، مع إبقاء القنوات مفتوحة لرصد أي تحول قد يتطلب تعديل الاستراتيجية الكردية تجاه المركز. 

أما التيار الصدري، فكان الأكثر تحفظاً وصمتاً مع إعلانه مقاطعة الانتخابات التي يقترب موعدها، فإما أن التيار شديد الانشغال بإعلان زعيمه هذه المقاطعة أو أنه فهم أن أي تحرك مبكر للاستثمار السياسي في لحظة إقليمية غير مكتملة قد يكون مكلفاً، وفضّل الصدر مراقبة المشهد بصبر، بانتظار أن تتضح مآلات الترتيبات الإقليمية، ليقرر لاحقاً كيف وأين وأيّةُ أدوات يمكن استخدامها لتعزيز موقع تياره داخل معادلة السلطة؟ 

في المحصلة، أعادت الجلسة البغدادية الدمشقية في ظلال الدوحة، رسم ملامح الحراك السياسي الداخلي، ليس عبر تغييرات دراماتيكية فورية، ولكن عبر فتح باب إعادة التموقعات البطيئة: 

-القوى التقليدية الحليفة لإيران تعترض وتعلم أنها قد تُضطرّ لإعادة ضبط خطابها كيلا تظهر بمظهر المعرقلة لمسار تفاوض إقليمي أوسع. 

-القوى السنية وجدت نفسها أمام نافذة جديدة للتموضع الإقليمي، بينما الكرد يراقبون بحذر استعداداً للتكيف مع أي ميزان قوى جديد. 

-التيار الصدري، كالعادة، يتريث ليصطاد الفرص عندما تنضج الظروف، لا قبل ذلك. 

وبين كل هذه التفاعلات، كانت بغداد تتحرك على حبل مشدود، بين الحاجة إلى الحفاظ على شبكة علاقاتها التقليدية، والرغبة في بناء هامش استقلالية أوسع، يسمح لها بإعادة تعريف موقعها في مشهد إقليمي سريع التحول. 

الفرصة والمخاطر… العراق يتعلم لغة المصالح 

في عالم المشرق العربي، حيث تتحرك خرائط النفوذ، لم تعد الفرص تُمنح للدول، بل تُنتزع عبر إدارة ذكية للمصالح والهامش المتاح… العراق، الذي ظل لعقود يدور في فلك محاور صلبة، يجد نفسه اليوم أمام مفترق استثنائي، فرصة للخروج التدريجي من معادلات التبعية السياسية، وبناء موقع تفاوضي مستقل ولو جزئياً، مستفيداً من التحولات الإقليمية الجارية.  

يكشف الانفتاح الحذر على دمشق الجديدة، والاشتباك الذكي مع ديناميات الإقليم، عن بدايات تشكل عقل سياسي عراقي جديد، عقل لا يندفع إلى أحضان المحاور التقليدية بلا حساب، بل يحاول أن يشتبك مع التوازنات المتغيرة بحسابات دقيقة للمصالح. 

في هذا السياق، بدأت تتبلور معادلة جديدة لصياغة الدور العراقي: 

-ليس العراق مضطراً للانكفاء خلف خطاب عاطفي، بل عليه أن يوظف موقعه الجغرافي ومكانته الإقليمية كأوراق قوة تفاوضية. 

-لم يعد الانتماء لمحور إقليمي مسألة وجودية، بل صار خياراً تكتيكياً قد يتغير حسب طبيعة الفرص والمخاطر. 

ولا يمكن غض الطرف عن المخاطر التي تُبطنها الفرص الكبرى، ففي اللحظة التي يبدأ فيها العراق بالتحرر الجزئي من دوائر النفوذ التقليدية، يبرز خطر الانزلاق غير المقصود إلى صراعات موازية بين المشاريع الإقليمية الجديدة: 

-الإفراط في الانفتاح دون حساب دقيق قد يعرض العراق لضغوط متزايدة من القوى الإقليمية المتنافسة، ما قد يضعف هامشه بدل أن يوسعه. 

-الانجراف خلف وهم الاستقلالية الكاملة، في لحظة ما تزال ترتبط فيها المصالح الاقتصادية والأمنية للعراق بقوى إقليمية كبرى، قد يؤدي إلى عزلة سياسية مؤلمة. 

-الفشل في إدارة التوازنات بدقة قد يعيد إنتاج أزمات الاصطفاف، وإنْ كانت بأشكال وصيَغ محدثة. 

وعليه، يصبح التحدي الحقيقي للعراق اليوم ليس في كسر القيود الرمزية فقط، بل في بناء علاقات إقليمية ودولية دقيقة، وفق منهجية تضمن له الحضور على طاولة التفاهمات الكبرى، لا مجرد انتظار النتائج، وتقوم على قراءة ذكية لمراكز القوة المتغيّرة، وإعادة تموضع مرن مع كل تحول دون الوقوع في الاستقطابات الحادة. في هذا المسار، تلعب ملفات مثل مشروع ميناء الفاو، والانفتاح على الأسواق العربية، وتوسيع الشراكات الإقليمية غير التقليدية دوراً محورياً. فالاقتصاد أصبح، في المعادلة الإقليمية الجديدة، الوجه الآخر للسياسة، بل وأحد أهم أدوات تثبيت المواقع، أو خسارتها. 

العراق، إذاً، يواجه لحظة اختبار تاريخية. فإما أن يتحول إلى عقدة استراتيجية في شبكة المصالح الإقليمية والدولية، أو يعود إلى أن يكون ساحة لتقاطع النفوذ والضغوط المتضادة، دون قدرة حقيقية على صياغة مصيره. بالمحصلة، لا يتعلق مستقبل العراق اليوم برفع شعارات جديدة أو تبني خطابات مستقلة إعلاميًا فقط، بل يتعلق قبل كل شيء بقدرته على إدارة هذا الهامش الجديد بذكاء ومرونة، وفهم أن العالم لا يمنح فرصاً مجانية، بل يفتح مساحات ضيقة تحتاج إلى شجاعة الاقتحام ودقة الحساب في آن معاً. وفي هذا الاختبار، لن يكون المعيار من يتحرك أولاً أو من يصرخ أعلى، بل من يحسن بناء توازنات معقدة تحمي استقلالية القرار الوطني دون أن تغامر بخسارة الموقع أو تفريط بالمكاسب. 

العراق، بهذه الخطوات الأولى، بدأ يتلمس طريقه نحو معادلة جديدة، يكون فيها فاعلاً فيها، لا مجرد تابع يستثمر فيه الآخرون. 

  • تم الاستعانة (في جانب من هذا العمل) بأدوات ذكاء اصطناعي

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28920}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">