تحليل: “الإقليم الشيعي” في العراق.. نقاش التقسيم والفيدرالية واللامركزية 

“الإقليم الشيعي” في العراق.. نقاش التقسيم والفيدرالية واللامركزية 

إنشاء الإقليم العراقي الجنوبي إذا ما انضم إلى قائمة الأحداث العجيبة التي تتلاحق ولا تترك للناس فرصة استيعابها، فإن العراق سيواجه لحظة تاريخية قد تكون الأخيرة بشكله وخارطته هذه.

لطالما كان الحديث عن الفيدرالية في العراق طوراً من أطوار التجاذبات السياسية وتضارب المصالح، إذ طُرحت الأقاليم كخيار إصلاحي من جهة، وورقة ضغط سياسيّ من جهة أخرى. وبينما كانت القوى السُنية الأكثرَ مطالبة بإقليم بعد 2014، بدأ اليوم الحديث عن “فيدرالية شيعية” في ظلّ المتغيرات الإقليمية، لا سيما بعد سقوط نظام الأسد في دمشق، ومعادلة ترامب الجديدة في الشرق الأوسط والمتمثلة بتمكين إسرائيل وتقويض إيران. فلم تعد الفيدرالية الشيعية أداةً فعّالة للضغط الداخلي فحسب، بل صارت تقدم نفسها كآخر الخيارات الاستراتيجية التي قدْ تستلّها إيران إذا ما تزمّتت بنفوذها على العراق. 

أحد الأسباب التي تجعل الفيدرالية الشيعية أكثر من مجرد “أداة ضغط” هذه المرة، هو موقع الجنوب العراقي الاستراتيجي وامتلاكه الجزء الأكبر من الموارد النفطية في البلاد. فبالنسبة لإيران، وجود كيان فيدرالي شيعي قوي يعني وجود فرصة للتنفّس النقديّ في ظل العقوبات الأمريكية، دون الحاجة إلى المرور بسلطة مركزية قد تكون غير متعاونة في المستقبل، وهذا، في الوقت نفسه، يعرّض الكيان الفيدرالي المفترض، والعراق كلّه، لمخاطر العقوبات الأقسى. كما أنّ أيّ فيدرالية في الظرف الراهن، ستُضعف العراق أكثر بمواجهة أي تدخل خارجي أو أزمات داخلية، لأنه ببساطة سيصبح كيانات مفتّتة أصغر حجماً ومساحة ونفوذاً. 

موقف القوى السنية.. فرصة أم تحدٍّ؟ 

على الجانب السُني، نَمَتْ فكرة الفيدرالية بعد تجربة “داعش” المتوحشة 2014 وتضخّم نفوذ الفصائل المسلحة الموالية لإيران، حتى صارت مطلباً رئيسياً، خاصة مع تصاعد الشعور بالتهميش والهيمنة الشيعية على الحكومة المركزية. في البداية، رأت بعض القوى السنية أن الأقاليم قد تكون حلاً سياسياً يضمن لها درجة من الاستقلالية بعيداً عن بغداد. لكنْ مع تصاعد الحديث عن الفيدرالية الشيعية، وجدت هذه القوى نفسها أمام معادلة جديدة أكثر تعقيدًا. 

رغم أن فكرة الأقاليم قد تمنح السنة فرصة لإنشاء كيان خاص بهم، إلّا أن المخاوف من الفيدرالية الشيعية لا تتعلق بوحدة العراق بقدر ما تتعلق بالموارد الاقتصادية. فالسُنة يدركون أن معظم الثروات النفطية تتركز في الجنوب، وإذا ما تحقق مشروع الفيدرالية الشيعية، فإن ذلك قد يعني استحواذ الإقليم الشيعي على هذه الموارد، ما يترك أي إقليم سني محتمل في وضع اقتصادي ضعيف. وبالتالي، فإن الحديث عن الفيدرالية الشيعية يدفع بعض القوى السنية إلى إعادة التفكير في موقفها من الأقاليم، ما بين دعمها كمخرج سياسي، والخشية من أن تتركهم هذه الترتيبات الجديدة بلا موارد كافية لإدارة مناطقهم بفعالية. 

الموقف الكردي.. حسابات براغماتية 

بالنسبة للكرد، فإن أي طرح يعزز مفهوم الفيدرالية في العراق يعد أمراً إيجابياً من حيث المبدأ، لأنه يرسخ شرعية نموذجهم في كردستان، ويجعل من فكرة الحكم الفيدرالي واقعاً لا يمكن إنكاره. لكن رغم ذلك، فإنهم ينظرون بحذر إلى سيناريو الفيدرالية الشيعية، نظراً لما قد يترتب عليه من تحديات جديدة. 

أحد المخاوف الرئيسية لدى الكرد هو أن يؤدي إنشاء إقليم شيعي إلى تعزيز قوة الجنوب العراقي، مما قد يخلق منافساً سياسياً واقتصادياً جديداً تتركّز في مناطقه الموارد، وإذا ما تحوّل إلى كيان فيدرالي قوي، فإن ذلك قد يعزز موقفه التفاوضي مع بغداد، ما قد يُضعف قدرة أربيل على المطالبة بحصة ترضيها من الموازنة العامة الاتحادية أو التحكم بصادراتها النفطية. كما أن نشوء كيان شيعي فيدرالي قد يُعيد ترتيب التحالفات السياسية داخل العراق، ما قد يضع أربيل أمام واقع جديد، خاصة في ظل النفوذ الإيراني المتزايد داخل الجنوب، والذي قد يؤثر على مستقبل العلاقة بين بغداد وكردستان. 

الجذور التاريخية لدعوات الفيدرالية الشيعية.. كيف بدأ كل شيء؟ 

لم يكن الحديث عن الفيدرالية في الجنوب العراقي أو إقامة كيان إداري مستقل مجرد طرح جديد، بل تعود جذوره إلى محطات سياسية مختلفة، حيث ظلت العلاقة بين بغداد والمحافظات الجنوبية محكومة بالتوتر وعدم التوازن. فبينما كان الجنوب مركزاً اقتصادياً رئيسياً بفضل موارده النفطية، ظلّ بعيداً عن مركز القرار السياسي، وهو ما ولّد شعوراً متزايداً داخل الأوساط السياسية الشيعية بأن تأثيرهم الفعلي في الحكم لا يعكس حجمهم الديمغرافي والاقتصادي. هذا الشعور دفع البعض إلى البحث عن صيغ بديلة تضمن استقلالية القرار الإداري والاقتصادي، بعيداً عن هيمنة العاصمة. 

في العهد العثماني، تمتعت البصرة بقدر من الاستقلال الإداري عن بغداد نظراً لموقعها الاستراتيجي وأهميتها التجارية، كما أن البريطانيين خلال فترة الانتداب فكروا جدياً في فصل البصرة وتحويلها إلى كيان مستقل، سواء بضمها إلى الكويت أو وضعها تحت الحماية البريطانية، لكنّ المشروع واجه رفضاً عشائرياً ودينياً واسعاً. ومع تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، استمر الجنوب في لعب دور رئيسي في الاقتصاد الوطني، لكنه بقي في موقع التابع سياسياً، حيث احتكرت النخب في بغداد السلطة، ما جعل مسألة التمثيل السياسي للجنوب محدودة وغير متناسبة مع ثرواته، ووضعت سُكانه موضع تهميش وفقر. 

استمر هذا التهميش حتى بعد سقوط النظام الملكي عام 1958، حيث زادت مركزية الحكم مع تصاعد الأنظمة العسكرية التي فرضت سيطرة صارمة على البلاد، وأبقت الجنوب مجرد خزان نفطي دون نفوذ حقيقي في صناعة القرار. ومع صعود حزب البعث، تفاقم الوضع أكثر، إذ تعرض الجنوب لموجات من القمع السياسي والاقتصادي، حيث تم توجيه موارد النفط لدعم السلطة المركزية، بينما بقيت المحافظات الجنوبية تعاني من نقص الخدمات والبنية التحتية، مما عزّز الشعور بعدم التوازن بين بغداد والجنوب. 

الفيدرالية بقلم الاحتلال 

بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، أصبحت القوى الشيعية صاحبة النفوذ الأكبر في العملية السياسية، ووجدت نفسها أمام سؤال جوهري حول مستقبل الحكم في العراق. كان هناك خياران: إما الحفاظ على المركزية القوية لبغداد، وإما توزيع السلطة بما يضمن للجنوب استقلالية أكبر. دفعت هذه النقاشات إلى تضمين الفيدرالية في الدستور العراقي لعام 2005، حيث نصت المادة 119 على حق المحافظات في تشكيل أقاليم عبر استفتاء شعبي، الأمر الذي فتح الباب أمام إنشاء إقليم جنوبي شبيه بتجربة إقليم كردستان. 

أحد أبرز اللحظات التي ظهر فيها هذا الطرح كان عام 2005، حينما دعا عبد العزيز الحكيم، زعيم المجلس الأعلى الإسلامي حينذاك، إلى إنشاء “إقليم الوسط والجنوب” الذي يضم تسع محافظات شيعية تمتد من البصرة حتى بابل. الحكيم برّر دعوته بأن الفيدرالية هي الضمانة الوحيدة لعدم عودة التهميش، إضافةً إلى أنها ستتيح للمحافظات النفطية الاستفادة من ثرواتها مباشرة بدلاً من إرسال عائداتها إلى بغداد. لكنها قوبلت بمعارضة داخلية وإقليمية، حيث رأت بعض الأطراف أن هذا الطرح قد يؤدي إلى إضعاف بغداد وتحويل العراق إلى كيانات متنافسة بدلاً من دولة موحدة. 

لماذا لم يتحقق مشروع الفيدرالية الجنوبية حتى الآن؟ 

رغم مرور عقدين على دعوة الحكيم، إلّا أن المشروع لم يتحقق فعلياً، ليس فقط بسبب التعقيدات القانونية، ولكن أيضاً نتيجة الخلافات داخل البيت الشيعي نفسه. حيث ترى بعض التيارات أن بقاء الحكم مركزياً في بغداد يمنح الشيعة سيطرة أكبر على القرار الوطني، بينما يعتقد آخرون أن اللامركزية ستوفر للجنوب استقلالاً إدارياً يجعله في مأمن من أزمات بغداد السياسية والأمنية. 

لم تؤيد المرجعية الدينية في النجف، بقيادة علي السيستاني، الفيدرالية، بلْ كررت الدعوة للحفاظ على وحدة العراق، لكنها لم تعارض “الفيدرالية” علناً بالحرف، حيث كان موقفها يقوم على أن أيّ تغيير في بنية الدولة يجب أن يتم وفق آليات قانونية ودستورية، ودون أن يؤدي إلى تقسيم البلاد أو إثارة أزمات جديدة بين مكوناته. هذا الموقف جعل بعض الأحزاب الشيعية تتردد في تبني الفيدرالية بشكل كامل، خوفاً من الدخول في صدام مع المرجعية أو إثارة حساسيات مع المكون السني، الذي كان يعارض الفيدرالية بشدة في تلك الفترة. 

إلى جانب العوامل الداخلية، لعبت الاعتبارات الإقليمية والدولية دوراً في تعطيل مشروع الفيدرالية الجنوبية: لم تكن الولايات المتحدة -رغم دعمها المبدئي للفيدرالية كنظام حكم- مرتاحةً لإنشاء إقليم شيعي قد يصبح تابعاً بالكامل لإيران. في المقابل، لم تكن إيران متحمسة لهذا المشروع، إذْ فضّلت أن تبقى السلطة الشيعية مركّزة في بغداد لضمان تأثيرها على القرار العراقي ككل، بدلاً من أن يكون نفوذها محصوراً في الجنوب فقط. أما دول الخليج وتركيا، فقد نظرت إلى أيّ محاولة لإنشاء كيان شيعي مستقل باعتبارها تهديداً للتوازنات الإقليمية، ما جعل الفكرة دائماً محلّ رفض خارجي. 

الفيدرالية اليوم.. هل اقتربت؟ 

بعد أكثر من عشرين عاماً من النقاش، لم تعد الفيدرالية مجرد فكرة هامشية، بل أصبحت جزءاً من الجدل السياسي الشيعي الداخلي، حيث بدأت شخصيات بارزة في المشهد السياسي العراقي بطرحها كخيار جدي يهدف إلى إعادة رسم شكل الحكم في البلاد. فصرّح رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، بلقاء تلفزيوني قائلاً إن “الشيعة سينفردون بالنفط إذا أُجبروا على التقسيم”، في إشارة واضحة إلى أن استمرار الخلافات السياسية قد يدفع باتجاه فيدرالية شيعية مستقلة تستحوذ على الموارد النفطية في الجنوب. وألحقه النائب في البرلمان العراقي، حسين مؤنس بالتشديد على أن الخيار المطروح أمام الشيعة ليس الأقاليم الفيدرالية فقط، بل قد يمتد إلى ”الاستقلال بتسع محافظات ذات غالبية شيعية، إذا لم تُقبل الحاكمية الشيعية”، وهو تصريح يعكس تصاعد الخطاب المؤيد لإنشاء كيان سياسي منفصل يضمن للشيعة سيطرة مباشرة على إدارة الجنوب دون تدخل بغداد. 

لم يكن العراق يوماً دولة مستقلة بقراراته الداخلية بعيداً عن التدخلات الخارجية، بل ظل ساحةً مفتوحة للمشاريع الإقليمية والدولية المتشابكة، حيث تسعى القوى الكبرى إلى تشكيل مستقبله وفقاً لحساباتها الاستراتيجية. فليست الفيدرالية، التي طُرحت كخيار سياسي داخلي، وليدةَ رؤية عراقية خالصة، بل ارتبطت بمشاريع دولية وإقليمية تحاول إعادة هندسة النظام السياسي في بغداد بما يتناسب مع مصالحها. الولايات المتحدة، وإيران، وإسرائيل، جميعها تعاملت مع الفيدرالية العراقية كأداة يمكن توظيفها لخدمة أجنداتها. ولم يكن السؤال في مراكز القرار الكبرى يدور حول ما إذا كانت الفيدرالية ستحدث أم لا، بل متى وكيف، ومن سيكون المستفيد الأكبر من إعادة تشكيل الخارطة السياسية في العراق. 

الولايات المتحدة.. الفيدرالية كأداة لإعادة هندسة العراق 

عندما غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، لم تكن الفوضى التي أعقبت الغزو مجرد نتيجة لغياب التخطيط، بل جاءت ضمن استراتيجية أمريكية تهدف إلى إضعاف الدول القوية وتحويلها إلى كيانات أصغر يسهل التحكم بها. 

تجسّدت هذه الرؤية في “مشروع بايدن-غيلب”، الذي طرحه جو بايدن وليزلي غيلب عام 2006، والذي اقترح تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم شبه مستقلة: كردي في الشمال، وشيعي في الجنوب، وسني في الوسط، مع إبقاء بغداد منطقة مشتركة. المشروع، الذي نُشر في مجلة  Foreign Affairs، لم يكن مجرد تحليل أكاديمي، بل تبنّته شخصيات نافذة في الإدارة الأمريكية حينذاك باعتباره الحل الأمثل لضمان التوازن الإقليمي ومنع العراق من استعادة قوته المركزية. ورغم عدم تطبيقه رسمياً، إلّا أن تأثيراته بقيت واضحة، حيث أضعفت السياسة الأمريكية سلطة الحكومة المركزية في بغداد، ومنحت الأقاليم والمناطق شبه المستقلة صلاحيات واسعة مهدت الطريق لفيدرالية سياسية دون إعلان رسمي. 

إيران.. بين دعم المركزية والخيار الأخير 

على الجانب الآخر، تعاملت إيران مع العراق، ومنذ سقوط نظام صدام حسين، على أنه الامتداد الاستراتيجي الأهم لنفوذها الإقليمي، وعملت على ضمان أن يكون النظام السياسي في بغداد موالياً لها، مستخدمةً في ذلك نفوذها داخل الأحزاب الشيعية والفصائل المسلحة التي بنتها على مدى عقود، وبقاء السلطة المركزية في بغداد تحت هيمنة الشيعة الموالين لطهران هو الخيار المثالي، لكنّها في الوقت ذاته قدّ تدّخر الفيدرالية كخطة احتياطية في حال تراجع نفوذها في العاصمة. 

برز هذا التوجه من خلال دعمها للمجلس الأعلى الإسلامي، الذي كان من أوائل الداعين إلى إقامة “إقليم الوسط والجنوب” عام 2005، وهو المشروع الذي كان سيمنح المحافظات الشيعية استقلالاً مشابهاً لنموذج كردستان. ولم ترفض المواقف الإيرانية الرسمية الفيدرالية بشكل قاطع، بل ألمح بعض المسؤولين، مثل وزير الخارجية الأسبق منوشهر متقي، إلى أن إيران لا تعارض فكرة إنشاء دولة فيدرالية في العراق إذا كان ذلك يخدم مصالحها الاستراتيجية. 

لكن أدوات إيران لم تقتصر على الجانب السياسي، بل امتدت إلى النفوذ العسكري والاقتصادي، إذ لعبت دوراً رئيسياً في دعم الميليشيات الشيعية لمواجهة الاحتلال الأمريكي، ثم وسّعت دعمها للحشد الشعبي بعد 2014. كما عززت وجودها الاقتصادي عبر مشاريع مختلفة، مما وفّر لها بوابة نفوذ دينية واقتصادية، لا تقل أهمية عن نفوذها الأمني. في ظل هذه المعادلة، باتت الفيدرالية ورقة يمكن أن تستخدمها إيران متى ما شعرت بأن نفوذها في بغداد مهدد بفعل قوى خارجية أخرى كالولايات المتحدة أو الخليج وتركيا أو حتى إسرائيل. 

إسرائيل.. تفتيت وموطن تهجير 

منذ حرب الخليج الأولى عام 1991، تابعت إسرائيل المشهد العراقي بعين استراتيجية، لم ترَ فيه دولة يجب الحفاظ على وحدتها، بل كياناً ينبغي أن يبقى ضعيفاً وغير قادر على تهديد التوازن الإقليمي. وفقاً لتقرير صادر عن معهد بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية، فإن إسرائيل نظرت إلى العراق الموحّد على أنه خطر استراتيجي طويل الأمد، ودعمت مشاريع تفكيكه إلى كيانات أصغر لضمان عدم تعافيه كقوة إقليمية. 

مع توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية عام 2020، اتسع نطاق النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، وبدأت تحركات لإيجاد موطئ قدم في العراق، خاصة في المناطق الكردية والسنية. فظهرت دعوات داخلية من شخصيات عراقية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل خلال مؤتمر أربيل 2021، مما أثار جدلاً واسعاً ورفضاً رسمياً من بغداد. لكن الأخطر من ذلك كان ظهور تقارير عن خطط إسرائيلية لإحياء مشروع تهجير الفلسطينيين إلى العراق، وتحديداً إلى محافظة الأنبار. 

تنظر بعض الدوائر الإسرائيلية إلى الأنبار كخيار محتمل لتوطين أعداد كبيرة من الفلسطينيين، كجزء من تسوية نهائية للقضية الفلسطينية. تتميز المحافظة بمساحتها الشاسعة وقلة كثافتها السكانية، مما يجعلها بيئة مناسبة لمثل هذه المشاريع، وفقاً لرؤية إسرائيلية يجري تداولها في العراق. لكن هذا الطرح يواجه معارضة حادة من العراقيين وإيران، التي تتنافس مع إسرائيل على النفوذ في العراق. 

يُفهم مما سبق، أن الفيدرالية لم تكن يوماً خياراً سياسياً داخلياً بحتاً، بل ظلت جزءاً من معركة إقليمية ودولية أوسع، وبهذا المعنى، لم يكن النقاش حول الفيدرالية يدور حول ما إذا كانت ستتحقق أم لا، بل حول الشكل الذي ستأخذه، والجهة التي ستتحكم بها.  

شكل الإقليم الشيعي المقترح وأبعاده 

يشمل الإقليم الجنوبي المقترح محافظات بغداد، وبابل، وكربلاء، والنجف، والقادسية، والمثنى، وواسط، وميسان، وذي قار، والبصرة، أي إنه يغطي الشريط الممتد من العاصمة بغداد حتى الخليج العربي. هذا الامتداد يجمع بين المركز السياسي والاقتصادي والديني للشيعة في العراق، حيث يضم المراقد الدينية الكبرى، والمؤسسات السيادية في بغداد، والموانئ النفطية الرئيسية في البصرة، مما يجعله أحد أغنى المناطق في البلاد والمنطقة. يشكّل الإقليم المقترح ثقلاً ديموغرافياً، حيث يتجاوز عدد سكانه 20 مليون نسمة، يشكل الشيعة الأغلبية الساحقة فيه، مع وجود أقليات سنية ومسيحية وصابئية، لا سيما في بغداد. في حال تطبيق الفيدرالية، والتي قد تواجه مخاوف تتعلق بالتمثيل السياسي وحقوق المواطنة، خصوصاً إذا اتخذ الإقليم طابعاً مذهبياً واضحاً في هويته الإدارية والقانونية. 

على المستوى الاقتصادي، يمثل الإقليم الجنوبي العصب الأساسي للاقتصاد العراقي، حيث يحتوي على أكثر من 80 بالمئة من احتياطي النفط العراقي، ويمتلك حقولاً استراتيجية مثل الرميلة في البصرة، ومجنون في ميسان، والغراف والناصرية في ذي قار. إذا تحقق المشروع، فإن الإقليم سيستحوذ على الجزء الأكبر من العائدات النفطية، وقد يصبح مستقلاً مالياً عن الحكومة المركزية، وهو ما يطرح تحديات كبيرة على مستوى التمويل الوطني. استقلال الإقليم مالياً قد يؤدي إلى أزمة تمويل حادة في بغداد، حيث تعتمد ميزانيتها الاتحادية بشكل رئيسي على النفط المستخرج من الجنوب، مما قد يؤثر على قدرة الحكومة على تمويل المحافظات المنتظمة وغير المنتظمة بإقليم، ويهدد استقرار الدولة. كما أن تحكم الإقليم بالموانئ البحرية، خاصة في البصرة، سيجعل منه مركزاً رئيسياً للواردات والصادرات، مما قد ينعكس على الأسواق التجارية في بغداد والمحافظات الأخرى، ويجعل أي خلاف بين المركز والإقليم مؤثراً على التجارة والاقتصاد الوطني. في المقابل، فإن الاستقلال المالي للإقليم قد يكون سلاحاً ذو حدين، إذ إنه رغم وفرة الموارد، سيواجه تحديات تتعلق بتنويع الاقتصاد، حيث يعتمد بشكل شبه كلي على النفط. كما أن ارتباطه بأسواق بغداد في الاستهلاك والتبادل التجاري قد يجعله تحت ضغط اقتصادي في حال فرض المركز إجراءات تقييدية على التعاملات الاقتصادية. 

سياسياً، سيؤدي تحويل الجنوب إلى إقليم فيدرالي إلى تراجع نفوذ الحكومة الاتحادية، بتحوّله إلى كيان إداري شبه مستقل، وتتوسّع دائرة قدرته على اتخاذ قرارات منفردة دون الرجوع إلى بغداد، مما سيؤدي إلى تحولات جوهرية في موازين القوى داخل العراق. من جانب آخر فإن فقدان بغداد سيطرتها على الجنوب سيضعف موقعها كمركز يدير الدولة العراقية، ويفتح باب التنافس بين القوى الشيعية داخل الإقليم حول من يتولى إدارة هذا الكيان الجديد. في ظل هذا المشهد، قد تتحرك القوى السنية في الأنبار ونينوى وصلاح الدين للمطالبة بكيان فيدرالي خاص بها، وهو ما قد يضع العراق على طريق التقسيم الفعلي إلى ثلاثة أقاليم رئيسية: كردي وشيعي وسني.  

بالإضافة لمعضلات الترتيب الأمني بين بغداد بوصفها عاصمة الدولة والإقليم الجديد، قد يفتح انشغال بغداد بإعادة ترتيب أوضاعها بعد خسارة الجنوب، قد يفتح البابَ أمام عودة التنظيمات الإرهابية إلى المناطق السنية، حيث يمكن أن تستغل الجماعات المتطرفة الخلافات السياسية والأمنية لإعادة تمركزها في العراق.  

على المستوى القانوني، يمكن لبغداد اعتراض ولادة هذا الإقليم عبر إجراءات قانونية معقدة، مثل رفض الموافقة على الاستفتاء الشعبي بحجة عدم استيفاء الشروط الدستورية، ويمكن لها مشاغبته وتحجيمه بإجراءات أخرى مثل طعن المحكمة الاتحادية في أي قرارات صادرة عن الإقليم، كما فعلت في مناسبات عدّة مع إقليم كردستان، ويمكن للحكومة العراقية المركزية تعديل قوانين توزيع الموارد المالية بحيث لا تحصل الأقاليم الجديدة على حصص مستقلة من النفط. إضافة إلى ذلك، قد يؤدي نشوء الإقليم إلى أزمات تشريعية معقدة، حيث ستحتاج قوانين الإدارة المالية والاستثمار والبنك المركزي إلى تعديلات لضبط العلاقة بين المركز والأقاليم، مما قد يؤدي إلى نزاعات قضائية طويلة الأمد يمكن أن تعطل عمل الدولة العراقية بشكل عام. 

إذا تحقق هذا المشروع، فسيكون العراق أمام مرحلة جديدة من إعادة التشكيل الفيدرالي، حيث قد يفتح الباب أمام استقلال نهائي لإقليم كردستان، ومطالبات قوية بإقليم مماثل سني، فتتحوّل بغداد-إذا لم تكن جزء من الإقليم الجديد- مجرد نقطة التقاء شكلي لكيانات منفصلة، ما يفتح الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية أوسع. 

الخلاصة 

تبقى ورقة الإقليم الجنوبي ورقة ضغط ناجعة في العملية السياسية الداخلية أو حتى الإقليمية، لكن احتمالات تحولها إلى حقيقة تأتي من غرائبية التغيرات الكبرى التي تعيشها المنطقة والعالم، وتحرّكات الخرائط في “الشرق الأوسط الجديد” وإذا ما انضم إنشاء الإقليم العراقي الجنوبي إلى قائمة الأحداث العجيبة التي تتلاحق ولا تترك للناس فرصة استيعابها، سيواجه العراق لحظة تاريخية قد تكون الأخيرة بشكله وخارطته هذه. 

تستوجب اللحظة بالغة الخطورة إعادة التفاوض حول النظام السياسي وشكل الفيدرالية داخل العراق، بحيث يتم منح المحافظات مزيداً من الحكم الذاتي مع مزيد من المأسسة ومحاربة الفساد دون الحاجة إلى إعلان إقليم منفصل. في هذا النموذج، قد يتم نقل بعض صلاحيات الحكومة المركزية إلى المحافظات لتعزيز النظام اللامركزي دون تفكيك الدولة، وهو ما قد يكون حلاً مقبولاً للعديد من الأطراف التي تخشى من تفكَُّك العراق بالكامل، حيث ينقسم الشارع العراقي، والشيعي على فكرة الإقليم أو التقسيم، ولا يبدو أنه يحظى بتأييد الأغلبية.  

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28788}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">