في 25 من شباط، رنّ هاتفٌ في المنطقة الخضراء، لم تكن أيّما مكالمة، إنه وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، كانت محادثة ثقيلة على العاصمة العراقية بغداد والتي تلقّاها رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، لدرجة اضطرّت البيان الرسمي العراقي إلى التخلّص من أحمالها الكبيرة كي ينجو من أمواج الداخل المترقّب الهش، ووصل إلى الناس بأقلّ من خمسة أسطر، خلاصتها: التعاون، والتنسيق، وتطوير العلاقات، وتكثيف التواصل.
بعدها بساعات، هبطَ بيانُ وزارة الخارجية الأمريكية محمّلاً بالأهم، مستعرِضاً ما ناقشه الوزير الأمريكي مع رئيس الحكومة العراقية وغاب عن البيان العراقي: الحدّ من النفوذ الإيراني “الخبيث”، وضرورة أن يصبح العراق مستقلاً في مجال الطاقة والإسراع في إعادة تشغيل خط أنابيب العراق- تركيا.
توّجت المكالمة، ولغة البيان الأمريكي، أسابيع من القلق والترقّب العراقي، سادت خلالها قناعةٌ أن البلاد لن تنجو من إعصار التغيّرات الذي يجول في المنطقة ويغيّر ملامحها، وصار السياسيون يتحدثون علانية عن ضغط أمريكي لفكّ الارتباط بإيران، ونزع سلاح الفصائل التي توالي نظام طهران، بالتوازي مع أصوات أمريكية، تنتمي لإدارة ترامب المصطفّة بكل قوتها مع إسرائيل، تتناول العراق باستمرار وتلوّح بتهديدات للنظام في طهران وبغداد، مثل المشرّع الجمهوري جو ويلسون الذي يخصّص للعراق مساحة كبيرة من وقته وتصريحاته وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.
بعد تلك المكالمة بنحو أسبوعين، وفي الثامن من آذار انتهت صلاحية الاستثناء الرئاسي الأمريكي الذي سمح للعراق بموجبه تسديد مستحقات الكهرباء المستوردة من إيران بالدولار، دون أن يجدّده الرئيس الجديد القديم دونالد ترامب، في إطار سياسة “الضغوط القصوى” التي يعتمدها للتضييق على طهران.
الحَيْرة
تراكمت مسبّبات الحيرة العراقية منذ هجوم حركة حماس في السابع من تشرين الأول /اكتوبر 2023 حتى وصلت حدّاً لا يمكن تجاهله، بعدما تعرّض العصب الرئيس لما يعرف بـ”محور المقاومة” الممتدّ من طهران، للانكسار، وتكبّدت إيران خسارة لم يسبقها مثيل مذ نجحت الثورة في عام 1979، فبعد اغتيال الزعيم الرمز لحزب الله اللبناني حسن نصرالله في أيلول 2024، وسقوط الأسد في سوريا مطلع كانون الأول من العام نفسه، ووصول المعارضة المنحدرة من خلفيات جهادية أو تكفيرية مناوئة لإيران وحتى للشيعة إلى السلطة، بالإضافة لعودة دونالد ترامب للبيت الأبيض، تضخّمت أسئلة العراقيين وحيرتُهم لتغدو أسئلة وجودية: هل ستغزو أمريكا العراق؟ هل ستنفّذ غارات على مقرات فصائل الحشد؟ هل ستحلّق طائراتها المُسيّرة “دروناتها” وتغتال قادة هذه الفصائل التي لم يتبقَّ من المحور القريب من إيران سواها والحوثي؟ وأخفّها، أسئلة عن الاقتصاد والبنوك والطاقة.
اقرأ أيضاً
لا يمكن، بأيّ حال، نفي الحرج الكبير عن اللحظة العراقية الراهنة، كما لا يمكن إنكار المشكلة التي نمت في جسد الدولة على مدى سنوات ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 فصارت ما هي عليه، وليس مضموناً نجاح الخلطات السياسية العراقية العجيبة هذه المرّة، فلا مفرّ من تغيير زاوية النظر إلى تلك التي يبدو منها المشهد فرصةً كما هو تهديد. ومنها، لا بدّ من الانطلاق إلى عمل حقيقي ينجّي البلاد من مهلكة جديدة ويغيّر دفتها إلى اتجاه طال البحث عنه، فما العمل؟
ببساطة، هذه ورقة لصناديق السياسيين الشيعة البريدية، لقادتهم، لكبارهم، ليس لأنهم المسؤول الوحيد كما يصوّر خصومهم، بل على الأقل لأن خصومهم يسوّقون ذلك ولأنهم المسؤول الأكبر، إنها رسالة عاجلة تنطوي على خارطة الهروب من جحيم الشرق الأوسط، وتدلّ على ذلك الدرب الذي بحث عنه العراقيون والعراقيات عشرين سنة ومثلها.
أولاً: ابدأوا بالداخل
من أجل القوة في الخارج، لا بدّ من تقوية الداخل، إنها معادلة قديمة وبسيطة لكنها ناجعة، وفي الداخل العراقي الكثيرُ مما يتطلّب الكثيرَ من العمل:
- حلّ أو دمج الفصائل: شيئاً فشيئاً، انحصرت الذريعة الكبرى للوم ساسة الشيعة على الخراب العراقي في فصائل الحشد الشعبي، تلك الفصائل التي جاء بعضها مع الأمريكي عام 2003 وتأسّس البعض الآخر بعد ذلك في خضمّ الأحداث الدامية، وساهمت بتقويض وجود تنظيم داعش الإرهابي، لكنها ارتكبت، بشكل ممنهج أو فردي، جرائم وأخطاء لا يمكن التغاضي عنها، ثم قفز قادتها إلى كراسي السياسة وتضخّمت أرصدتهم، وتحوّلت بعد أحداث داخلية كثيرة، وأخرى خارجية خطيرة، إلى عبء على عاتق الشيعة أنفسهم، مجتمعاً وساسة.
أدمِجوا بعضها وسرّحوا الآخر، ودعوا القانون يأخذ مجراه تجاه من خالفه. لن تخسروا شيئاً؛ أنتم تسيطرون على أجهزة الأمن الرسمية، وتضعون يدكم على مواطن القوة العسكرية، وتشغلون الحيّز الأكبر من مفاصل الدولة. لن تخسروا الكثير إذا تخلّصتم من هذا العبء وحافظتم على قوتكم. وستربحون، إذا طوّرتم المؤسسات العسكرية والأمنية لتغدو أكثر مهنية ووطنية، لأنكم تحملون وزر هذا النظام شئتم أم أبيتم، وبإمكانكم أن تحملوا حسناته إن صنعتموها.
- قوّضوا الفساد: في العراق الذي تحكمون، حتى الهواء مشبوه بالفساد، لم تعد مراصد إهدار المال العام كافية لحصره، حتى صارت الفرضية أن كلّ شيء يمكن أن يكون فاسداً: الشارع الذي نمشي فيه، الرصيف الذي يحدّه، الشجرة التي تنمو وحيدة وتفصل جانبيه، العجلة ووقودها، المباني المثقلة بموظفين لا حاجة سوى لسكوتهم وأصواتهم الانتخابية، أبوابها وأجهزتها وأوراقها، الماء الذي لم يعد مضموناً وصوله إلى صنابير المنازل، الكهرباء التي باتت قصة مليئةً بالأسى، كل شيء يمكن أن يكون مصاباً بفساد ما، ولم تعد البيانات والإعلانات كافية، لم يعد الناس يصدّقون وهم يشاهدون كبار الفاسدين ينعمون بأموالهم، ويتمتعون بحصانات غريبة وينزلقون من منصات القضاء إلى الطائرات الخاصة التي تقلّهم إلى حيث يكتنزون أموال البلاد خارج الحدود.
- أصلحوا المؤسسات: قبل مجيئكم، بدأت المؤسسة العراقية بالانحدار؛ نتيجة سوء إدارة صدام حسين، وتراكم التحديات الكبرى كالحروب والعقوبات الاقتصادية الشديدة إبان تسعينيات القرن الأخير، لكنها، وعلى الرغم من مؤاتاة الظروف، لم تتحرك بعهدكم إلّا إلى الوراء، فصار التعليم السيء أشدّ سوءاً، وتسلّلت إليه خطابات الكراهية ولم تنمُ عناصره بما يتناسب مع نموّ مدخلاته، فبات يُخرِّج آلافاً من منقوصي المعرفة والفائضين عن حاجة السوق. وتحوّلت المستشفيات إلى أماكن مرعبة يتعرّض فيها المريض للإذلال وترتفع احتمالات موته. وليس إصلاح هاتين المؤسستين، وأخريات، ترفاً، بل ضرورة ملحّة على أمل اللحاق بذيل التقدم العلمي المبرق في العالم.
- خفّفوا قبضتكم وتراجعوا: في ميدان السياسة، وحتى حلبات الرياضات المختلفة، هناك تكتيك ضروري: التراجع، يعرف المحترف -مرّة أخرى بالسياسة والرياضة- أن هنالك وقتاً يجب فيه التراجع من أجل الحفاظ على المكاسب، ويدرك متى يحين. وما هذا الوقت إلّا وقت التراجع، لحظة انحناء للعاصفة، تلك العاصفة العالمية والإقليمية، ابدأوا بالتراجع لمصلحة الداخل، وتخلّصوا من المواقف المتشدّدة لصالح شركائكم -السُنة مثلاً- واستغنوا عن التشريعات التي تضع العراق في موضع نقد وتعيده إلى الوراء-مثل تعديل قانون الأحوال الشخصية- وأسكِتوا الأصوات التي تجترّ خطاب الكراهية والفرقة، وكفّوا عن تشييع الفضاء العام بصورة شعائرية من التشيُّع؛ فليس العراق شيعياً فقط وليس التشيُّع شعائر مبتكرة أو سُباباً فحسب. وافتحوا الباب لصنّاع الرأي كي يعودوا من منافيهم، وسّعوا دائرة الحريات لصالح مؤسسات المجتمع المدني والصحافة وضيّقوا على المحرّضين؛ فلن يخلق التحريض والتشدّد سوى تشدّد مضاد.
ثانياً: اقفزوا من مركب المرشد
- في اليوم الرابع عشر له بالبيت الأبيض، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً يقضي بفرض “أقصى الضغوط” على إيران، لم يكن الأمر مفاجئاً، ترامب الذي جرّب الرئاسة أربع سنوات، كان واضحاً في موقفه تجاه إيران: انسحب من الاتفاق النووي التاريخي، وصبّ العقوبات على طهران واغتال جنرالها الأقوى في الشرق الأوسط، قاسم سليماني، بغارة في بغداد العاصمة العراقية. ولكن ترامب هذه المرة يعود إلى مقعده وإيران في وضع مختلف، أكثر وهناً وانكساراً، فقدت حليفها التاريخي في سوريا، بشار الأسد، ففقدت سوريا، وقبلها فقدت زعيماً تاريخياً في محورها: أمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله مع طبقات من قادة الحزب وقوته، وتستنزف إسرائيل ما تبقّى من حركة حماس في قطاع غزة. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، حيث أطلق ترامب أواسط شهر آذار عملية جوية كبيرة على أنصار الله الحوثيين في اليمن.
- هذا التراجع الإيرانيّ يصبّ كله في صالح منافسين إقليميين-إسرائيل بالدرجة الأساسية- يتزامن مع تصدّع داخلي، حيث يعيش 30 بالمئة من الإيرانيين تحت خطّ الفقر، وتسابق عملتهم نفسها بالانحدار، ويلاحق ترامب آخر برميل نفط إيراني لإيقاف تصديره.
- إنها لحظة حاسمة، لحظة قرارات كبرى: تسلّلوا من سفينة إيران واسبحوا بأنفسكم إلى الشاطئ بهدوء. اذهبوا إلى خامنئي وأخبروه أنه سيخسر إذا لم يخفّف قبضته عن العراق، وأن الخروج من تحت عباءته لا يعني، بالضرورة، الارتماءَ بحضن إسرائيل؛ يمكن التخلي عن هذه والابتعاد عن تلك عبر الحفاظ على مواقف العراق التاريخية من قضايا كبرى كالقضية الفلسطينية، لكنْ لن تكون النجاة مضمونةً بسفينة يتدفّق الماء إليها.
- ولن يكون سلاح الفصائل الموالية للمرشد والمرتبطة به عقائدياً، عقبةً كبرى، فمهما تضخّم حجمهم يمكن للدولة احتواؤهم وتقويضهم، أما ارتباطهم هذا فليس أبدياً، لأن فكرة الوليّ الفقيه التي كانت رومانسية مطلع ثمانينات القرن الماضي، لم تعد كذلك، ستهتزّ مع تغيّر النظام في إيران-إذا تغيّر- فهي في مأزق بين الدولة القومية والحدود وبين الأُمّة، إنها تنكمش أمام سؤال: أيّةُ أُمّة؟ الإسلامية؟ أغلبها تعتبرك أقليّة شاذة. الشيعية؟ أغلبها يقلّد المدرسة القديمة في النجف.
بالمحصّلة، إنها لحظة فارقة، بالغة الدقة والحساسية، إنها مأزق وفرصة في الوقت ذاته: مأزق يمكن أن يغرق العراق أكثر، وفرصة يمكن استغلالها للتخلّص من عبء النفوذ الإيراني، وليست السياسة اختياراً بين حقٍ وباطل، إنها لعبة تُخاض في ميدان -وخاصّة الآن- لا أخلاقي.
ثالثاً: العالم يتغيّر.. استثمروا بالفرص
قبل الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 كان صدام حسين يناطح الجميع دون النظر لتغيّرات الكرة الأرضية، فاجتاح الكويت في لحظة كان الاتحاد السوفيتي ينهار فيها، والولايات المتحدة تهيمن على الكوكب وحيدة؛ فأصاب العراق ما أصابه. أمّا بعد الغزو الأمريكي، فتحوّل النظام إلى محاصصة طائفية ولم ينجح حتى بعد 22 سنة بتكوين سردية وطنية متفق عليها، ما انعكس سلباً على سياسته الخارجية.
في واشنطن، يتخبّط العراقيون بسياسات متناقضة وينفقون على مجموعات الضغط ليس من أجل مصلحة عراقية وطنية، بل لأهداف فئوية ولإقصاء بعضهم.
عليكم أن تبدأوا من بغداد، وحّدوا رؤيتكم لفكرة الوطن، واجمعوا الشركاء حولها، ثم اذهبوا إلى العالم بورقة واحدة يعتليها “العراق” لا الشيعة، ولا الكرد، ولا السُنّة. ومرّة أخرى: لن تكون الطريق هنالك سالكة، فواشنطن والعالم كله يمرّ بتحوّلات سيكتب عنها التاريخ باستفاضة، ولن يكون في صفحاته مكان لنظام منقسم على نفسه، يعاند الواقع ويبحث عن المدافع ليرمي نفسه وأبناءه أمام فوّهاتها.
عليكم أن تستوعبوا ما يحدث حولكم: إسرائيل تفعل بالمنطقة ما تشاء، تركيا باتت أقوى بعد سقوط الأسد ووصول فصائل مقرّبة منها لحكم دمشق وتخلّي حزب العمال الكردستاني عن سلاحه، الخليج يعرف كيف يستثمر في دونالد ترامب ويدير علاقة ذكية مع طهران وينمو اقتصادياً وسياسياً، والولايات المتحدة تفسح مجالاً لروسيا بجانبها من أجل عزل الصين. هذا كلّه ليس بمصلحة قوى تلوّح بأسلحة بدائية نُصرةً لإيران، يمكنكم ببساطة تجنّب الصدام مع إسرائيل، فليس من الذكاء المساس بوحش جائع، ويمكن تقوية العلاقة بالخليج وتركيا وإدارتها بشكل يصبّ بمصلحة العراق أولاً، وهنالك فرص صغيرة في مختلف أنحاء الكوكب يخلقها ترامب بسياساته غير المتوقعة كتلك التي يعتمدها في العلاقة مع الاتحاد الأوربي، يمكنكم استغلالها بهدوء.
يقف النظام السياسي في العراق أمام تحدٍ وجودي، قد يكون الإعلام مضخماً لحقيقته، لكنّه وإن لم يكن بالحجم الذي يُشاع، فهو موجود، والفرص مؤاتية، وبانتظار من يقطفها.