

ما زالت خديجة أحمد (71 سنة) تحافظ على طقس درجت على إتباعه منذ أن كانت فتاة صغيرة، وهو زيارة أسبوعية تقوم بها إلى جامع النبي يونس، في الجانب الأيسر لمدينة الموصل، لم تنقطع عن ذلك الا في سنوات حكم تنظيم داعش الذي منع الزيارات ثم نسف الجامع في تموز/يوليو2014.
تقول وعينها على مكان الجامع الذي أعيد بناؤه، في أعلى “تلة التوبة”:”كانت أمي تأخذني إلى هناك كل خميس، وكذلك في الأعياد، وتشتري لي “الحامض حلو” من الباعة، وكانت تقول بأنها مبروكة. فعلت أنا ذلك مع أبنائي وأحفادي. نؤمن ان الدعاء في الجامع عند قبر النبي مقبول”.
يستقطب الجامع آلاف الزوار، خاصة في أيام المناسبات الدينية، ليس من مدينة الموصل وحدها، بل من كامل المنطقة الشمالية وأحيانا من خارج البلاد، حيث يُصلون ويقرأون القرآن، ويجلسون للدعاء والتبرك بينما يحرص آخرون على تقديم النذور.
خديجة مازالت تؤمن بوجود قوة روحية منبعثة من المكان، ولا تهتم إن كان الجامع يضم بالفعل القبر الحقيقي للنبي يونس، أم أنه مجرد وهم شعبي شق طريقه لعقول ونفوس أبناء المدينة التي تضم مقابر قديمة لا يعرف بدقة ان كانت لأنبياء أم ملوك آشوريين.
تبدي السيدة الموصلية فرحها، بإعادة بناء الجامع والضريح الذي كان بداخله، وكذلك جامعي النبيين جرجيس وشيت في الجانب الأيمن للمدينة، واللذين فجرهما داعش كذلك في 2014.
تغمض عينيها وهي تتلمس جدار الجامع وتقول بصوت هادئ:”الموصل مدينة الأنبياء وهم بركتها وسبب لدوام الخير فيها، ولحفظ أهلها من السوء”.
مدينة الأربعين نبي!
عرفت محافظة نينوى، ومركزها مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد) وعلى مدى عقود بأنها مدينة الأنبياء، وتدور أحاديث بين سكانها، أن أربعين نبياً توفوا فيها ودفنوا في أرضها، غير أن الأضرحة المفترضة المعروفة هي أربعة فقط، الأبرز بينها هي للنبي يونس، وهو من الأنبياء المعروفين والمتفق عليهم بين ديانات متعددة، فهو معروف لدى المسلمين باسم يونس او صاحب الحوت، ولدى اليهود والمسيحيين باسم يونان، كان الضريح يقع على تلة في الجهة الشرقية لنهر دجلة أو ما تعرف بالجانب الأيسر لمدينة الموصل.
والضريح الثاني للنبي شيت، وهو أيضا من الأنبياء المعروفين لدى أتباع الديانات الثلاث فضلاً عن المندائيين(الصابئة)، ويعتقد بأنه الأبن الثالث لآدم وحواء، وكان موقعه في الجانب الأيمن لمدينة الموصل في منطقة تحمل ذات الأسم.
والثالث للنبي جرجيس، وعلى الرغم من وجود خلاف بين المؤرخين على نبوته، إلا أن الرواية المتداولة أنه كان قد بعث خلال الفترة ما بين النبيين عيسى ومحمد، إلى أحد ملوك الشام، وكان هنالك ضريح ينسب إليه مقام في جامع حمل أسمه في منطقة سوق الشعارين بالجانب الأيمن لمدينة الموصل.
كما أن هنالك مسجد باسم النبي دانيال، وهو أحد أنبياء اليهود، في الجهة الغربية لدجلة كذلك، كان يقع في زقاق بالقرب من منطقة حضيرة السادة في الجانب الأيمن من الموصل، يطلق على الزقاق أسم (محلة اليهود) وكان يوجد فيه سرداب وبداخله مرقد يقال أنه للنبي دانيال، الذي كان قد أسر من قبل الآشوريين واقتيد إلى نينوى مع آخرين من بني قومه، وبقي فيها حتى وفاته ودفن فيها، وفقا للرواية الشعبية.
وجميع هذه الجوامع فجرها تنظيم داعش خلال فترة سيطرته على الموصل بين 2014 و 2017 الذي كان يعد زيارة الأضرحة بقصد التقرب الى الله شركاً.

ويوجد أيضاً ضريح في ناحية القوش 50 كم شمال الموصل، يعتقد بأنه لنبي يدعى ناحوم الألقوشي، وهو من الأنبياء اليهود الذين تواجدوا في أواخر عهد الأمبراطورية الآشورية في القرن التاسع قبل الميلاد، حسب الرواية المتداولة.

كما يتداول الناس قصصا، عن أنبياء آخرين مدفونين في الموصل، مثل النبي نوح، إذ يقول البعض أنه مدفون في ذات الموقع الذي بني فيه الجامع النوري، الذي ألقى فيه زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي خطبة إعلانه الدولة الإسلامية في الموصل سنة 2014، وتجدد الحديث بهذا الشأن، إثر اعمار الجامع الذي كان قد دمره داعش سنة 2017 فضلاً عن منارته الشهيرة (الحدباء) بعد العثور على بناء قديم تحت انقاض الجامع.
وذكر مختصون في الآثار، ان البناء القديم يعود الى جامع شيد فوقه الجامع النوري او الى كنيسة، فيما ذهب البعض ودون استناد إلى دليل علمي إلى أن البناء القديم المكتشف يضم ضريح النبي نوح.
ولا يوجد دليل يثبت وجود أي من أضرحة الآنبياء في الموصل، لا في الروايات الدينية ولا التأريخية، وتتضارب الأقاويل بشأن أسباب الإعتقاد بوجود تلك الأضرحة في المدينة، إذ أن هنالك من يرى بأنها من الأوهام الشعبية المتوارثة، وآخرون يعتقدون بأن سلاطين عثمانيين اوجدوا تلك الاضرحة المزعومة لدواع سياسية واقتصادية، والحكومات العراقية دأبت على ذات النهج.
هل هي أضرحة أنبياء حقا؟
الأستاذ الجامعي د.بشار نديم، يقول أن لا دليل شرعي أو تاريخي أو آثاري على وجود أنبياء في كل الأرض وليس الموصل فحسب، “بإستثناء النبي محمد، في المدينة المنورة بالسعودية”. وفيما يخص الأنبياء في الموصل وأكثرهم شهرة يونس، فيشير إلى أن المصادر التأريخية لم تذكر شيئاً عنه إلا في مرحلة ما بعد سقوط الموصل بيد المغول سنة 1262.
ويستدرك:”حتى تصميم البناء لم يكن يمت بصلة إلى بناء المساجد، كان أقرب إلى الأديرة”. وفيما يتعلق بجامع النبي جرجيس والضريح الذي كان فيه، يقول د.بشار:”غالب الظن أنه كان لأحد القديسين لدى المسيحيين واسمه جرجيس”. أما مسجد النبي دانيال والحديث عن إحتوائه على قبر نبي يحمل ذات الأسم، فيذكر بأن للنبي دانيال العديد من القبور في كل من ميسان وكركوك في العراق وحلب ودمشق بسوريا وفي فلسطين وتركيا.

ويضيف:”النبي شيت، عرف قبل قرنين في الموصل، وطبعا لادليل كذلك على أن القبر الذي كان في جامع النبي شيت قبل تفجيره من قبل داعش كان لنبي، لذلك أكرر، بأن لادليل مطلقا على وجود انبياء مدفونين في الموصل إن هي إلا معتقدات شعبية لاغير”.
رجل الدين، محمد جمال باسم، ينفي وبشدة أن تكون أي من قبور الأنبياء معروفة، بإستثناء قبر النبي محمد الذي عاش فترة انتشار رسالته، ومات ببيت أهله واصحابه الذين تولوا دفنه في مكان معلوم، وظل محل زيارة المسلمين قرناً بعد قرن، على حد قوله.
ويقول:”النبي محمد، أخبر بأن أجساد الأنبياء محرمة على الأرض، وبناءً على ذلك، فإن كان صحيحاً أن هنالك أنبياء في الموصل، فأين جثامينهم، الم يدمر داعش الأضرحة، أين الجثامين إذن؟”.
ويرى بأن الحديث بهذا الشأن يدخل ضمن المعتقدات المتداولة، تماماً مثل “مقامات ومزارات وأضرحة، بعض رجال الدين الصالحين، تم تشيدها بناء على العاطفة ولا ادلة مادية معروفة على أنها حقيقية”.
وعن سبب وجود مفهوم شعبي متعلق بها، يعتقد محمد جمال، أن ذلك مرده لسياسات القوى التي تعاقبت على حكم الموصل منذ مئات السنين، كالدولتين الصفوية والعثمانية، وقبلهما المجوس والترك. ويوضح:”في كل مرحلة كانت هنالك توجهات وصراعات تفرز أنماطاً فكرية وعقائدية متعددة، وهكذا نجد بأن في عهد كل واحدة من تلك القوى يظهر ضريح نبي للوجود، فيتحول إلى كنيسة أو مزار أو جامع ويدخل ضمن نطاق التقديس”.
وهو يتفق مع الآراء التي تقول بأن أحد أهداف ظهور بعض الأضرحة، إقتصادي ويبين وجهة نظره:”إذا اخذنا جامع النبي يونس كمثال، سنجد أن قوافل الحج التي كانت تأتي من الشمال، خاصة تركيا، كانت تمر بالجامع بنحو حتمي، وصار مزاراً بل جزءاً من متطلبات اكمال فرائض الحج بالنسبة للزائرين، حتى أن بعض الأتراك أقاموا في محيط مكان الجامع، وكانت هنالك سوق مجاورة لتبادل البضائع، فصار المكان وجهة اقتصادية دينية سياحية، ومازالت الكثير من قوافل الحج البرية تتوقف عند الجامع”.
سمير عبد الله شامل، مكتبي ومهتم بالتراث والتأريخ المحليين، لديه رأي مغاير لما ذكره د. بشار نديم، ورجل الدين محمد جمال، فيقول بأن نينوى التي كانت محكومة من قبل الدولة الآشورية لمئات السنين كانت تحكم الجهات الأربع في العالم القديم “وإليها كان يفد الناس من كل صوب ومكان، ومن بين الناس أنبياء ورسل ورجال دين صالحون من مختلف الأديان والمعتقدات، وبعضهم أقتيد أسيرا إليها”.
ويضيف:”وفي القرون اللاحقة كانت مدينة الموصل مكانا يربط الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب، ومركزاً تجارياً واقتصاديا مكتظاً، فلا غرابة إطلاقا أن يكون انبياء قد عاشوا وماتوا ودفنوا فيها”.
وعن الدليل الذي يستند إليه يقول:”لو كان الحديث عن نبي واحد او اثنين، لسلمنا بنظرية الاعتقاد الشعبي، لكن هنالك العديد من الأنبياء، وهذا يعني أنهم بالفعل كانوا في نينوى، لكن لا احد يعرف أين دفنوا، وهذا ما أتفق عليه، فلا خلاف في ذلك”.
لماذا استهدفها داعش؟
في الرابع والعشرين من تموز/يوليو2014، قام عناصر تنظيم داعش، بتفجير جامع النبي يونس، بعد أيام من غلق الطرقات المؤدية اليه، ومنع الناس من الإقتراب منه. وكان ذلك جزءاً من حملة قام بها التنظيم، لإزالة الجوامع والمساجد والكنائس التي فيها قبور وفقاً لما كان ينشره التنظيم من بيانات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وعن سبب بدء تنظيم داعش بتدمير جامع النبي يونس؟ سؤال يجيب عنه الباحث في مجال التاريخ، عمر ناثر غازي، إذ يقول بان التنظيم قدم نفسه كواحد من الفرق السلفية المتشددة التي تحرم وجود المقابر في الجوامع والمساجد “وبتلك الذريعة قام بتفجير جامع النبي يونس، في حين كان بوسعه إزالة المرقد المزعوم للنبي، دون المساس بالجامع، فلماذا لم يفعل ذلك؟”.
ويضيف مجيباً على السؤال:”الحقيقة أن داعش كان يفتش عن الآثار ذات القيمة المالية العالية في التل المعروف بأنه يضم آثاراً مهمة، إلى جانب أن ذلك شكل دعاية لإبراز سطوته، كون النبي يونس يحظى بقدسية لدى الديانات الرئيسية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، والدعاية التي أعنيها هي الإرهاب وإثارة الرعب”.

ويشير إلى أن داعش ومنذ 10 حزيران/يونيو 2014، بدأ بحملة للبحث عن الآثار واستظهارها لبيعها، وأن خيار عناصره الأول كان “تل التوبة” حيث جامع النبي يونس، إذ يوجد مدفوناً فيه قصر أسرحدون، وهو ملك آشوري (680 – 669 قبل الميلاد)، تم اكتشافه في تسعينيات القرن المنصرم بالصدفة، لكن المسؤولين وقتها، قرروا عدم المضي في استظهاره، لوقوعه اسفل جامع النبي يونس، فقاموا بردم المكان بالتراب.
ويوضح:”التنظيم كان يعرف بأمر القصر الأثري، وأن فيه آثاراً لاتقدر بثمن، لذلك قام بتفجير الجامع كله، وليس المرقد فقط، ليتسنى له نبش الموقع كما يريد، وهو ما فعله على مدى أيام بعد التفجير إذ منعت عناصره السكان من الوصول الى المكان، وشاهد أهالي المنطقة شاحنات نقل صغيرة، تدخل وتخرج من هنالك خلال تلك الفترة”.
بعد اكمال تحرير مدينة الموصل في صيف 2017، تمت الاستعانة بفريق تنقيب ألماني، أكتشف بالفعل، وجود انفاق في تل التوبة، كان عناصر تنظيم داعش قد أحدثها بحثاً عن الآثار، ونقلت تقارير صحفية عن مسؤولين عراقيين قولهم، أن التنظيم كان قد سرق آثاراً من هناك، لكنه لم ينجح في سرقة كل شيء، بسبب عدم امتلاك عناصره الأدوات والخبرة الفنية الكافية لإستظهار الآثار.
وكانت الهيئة العامة للآثار والتراث قد أعلنت في تشرين الأول/أكتوبر2022، عن اكتشاف البعثة الألمانية التي تعمل في تل النبي يونس، قاعة كبيرة يزين مداخلها زوج من الثيران المجنحة، مجاورة لقاعة عرش الملك سنحاريب. وقد عثر في واجهة قاعة العرش على لقى من الآجر المزجج والآجر المكتوب بالمسمارية فضلا عن قطع من الصفائح المعدنية التي كانت على الاغلب تزين بوابات القاعة.
وهنالك في الموصل، من يعتقد بأن تدمير داعش للمناطق الأثرية والتراثية، كان جزءاً من مخطط لتغيير معالم المدينة بانهاء الرموز التأريخية والدينية التي تفتخر بها، ولاسيما جامع النبي يونس الذي يعده الموصليون رمزا حضاريا إلى جانب أهميته الدينية.
ومن القائلين بذلك، الكاتب د. وليد خزعل ممدوح، الذي يؤكد بأن التنظيم دمر 360 معلما في نينوى خلال نحو ثلاث سنوات من سيطرته عليها، منها “النبي يونس، الجامع النوري حيث منارة الحدباء، قصر النمرود، البوابات الأثرية، متحف الموصل الحضاري، قبر البنت، والشيخ فتحي”.
يحدد الباحث نوار مجيد، موقع جامع النبي يونس، في السفح الغربي لتل التوبة، ويقول:”في البداية أي قبل أكثر من 2800 سنة، كان مشيد عليه قصر الملك الآشوري أسرحدون، وفي 612 قبل الميلاد، سقطت المملكة، وبنى أهالي نينوى ما عرف بالحصن الشرقي على التل، ثم أصبح معبداً مجوسياً في 628 ميلادية، وبعد ذلك أصبح ديراً مسيحياً، أطلق عليه أسم دير ماريونان، يونس ابن متى. وبعد فتح الموصل في 16 هجرية، تم بناء جامع صغير على التل، ولأن أعتقادا كان سائداً بان النبي يونس مدفون في تل التوبة، سمي الجامع باسم النبي يونس، وفي عهد الدولة العثمانية تم توسيع الجامع وانشأ ضريح بداخله على أنه للنبي يونس”.
ويشير الباحث نزار الى أن نينوى تعيش فترة أمن بعد تدهور كبير امتد من 2003 لغاية 2017، وبالوسع “الاستفادة من المواقع الدينية كما الأثرية، وفتح الأبواب أما السياحة الداخلية والخارجية”.
في اليوم التالي من تفجير جامع النبي يونس، أي يوم الجمعة 25 تموز/يوليو2014 منع عناصر تنظيم داعش المواطنين من الإقتراب من جامع النبي جرجيس في منطقة سوق الشعارين بالجانب الأيمن للموصل، وهي الخطوة التي سبقت تفجيره وتحويله الى ركام. وكان يعد من المساجد الأثرية في الموصل، وكان بالأصل مسجداً صغيرا قبل أن يتم توسيعه خلال حقب مختلفة، إذ كان قد بني في عهد الدولة العثمانية، وكان فيه قبر يتم الدخول إليه عبر الحرم.
بلغت مساحته نحو 2000 متر مربع، ولا توجد كما هو الحال بالنسبة للجوامع الأخرى التي يعتقد أن فيها أضرحة انبياء، أي إشارة من مصدر تأريخي بوجود قبر للنبي جرجيس، ولا تأريخ اكتشافه، بل لا توجد نصوص دينية تؤكد أن جرجيس كان نبياً في الأصل.
إذ يرد في كتاب “مروج الذهب ومعادن الجوهر” للمسعودي، ان جرجيس كان عبداً صالحاً، ولم يكن نبياً. وكان واحدا من حواريي النبي عيسى، وياتي في الكتاب أيضاً: “كما قال ابن حميد: حدثنا سلمة، عن ابن اسحاق، عن وهب بن منبه، وغيره من أهل العلم، أنه كان بالموصل ملك أسمه دازانه، وقد بسط ملكه على جميع بلاد الشام، وكان جباراً عاتياً، وكان جرجيس رجلا صالحاً من أهل فلسطين، وكان رجلاً مؤمناً يكتم إيمانه في عصبة معه صالحين، وكانوا قد ادركوا بقايا من الحواريين فسمعوا منهم، وأخذوا عنهم، وقد جاء جرجيس إلى نينوى لملاقاة ملكها ودعوته إلى عبادة الله الواحد، فما كان من الملك إلا أن عذبه وقتله”.
أما جامع النبي شيت، فقد فجره عناصر داعش، في يوم الجمعة 25 تموز/يوليو 2023، وموقعه في محلة النبي شيت بالجانب الأيسر لمدينة الموصل، وتشير المراجع التأريخية الى ان الوالي العثماني مصطفى باشا النيشانجي، رأى قبر النبي شيت في حلمه سنة 1647. فأمر أحد تجار الموصل وأسمه (علي بن النومة) بأن يحفر في الموضع الذي رآه في حلمه، ففعل ذلك، ليجد قبراً فاعتقد انه للنبي شيت وبنى فوقه قبة، وصار المبنى يعرف بقبر النبي شيت.
وفي سنة 1791 بني بجوار القبة، مسجد عرف لاحقاً بمسجد النبي شيت. قبل أن يقوم الوالي أحمد باشا بن سليمان باشا الجليليي، بإلحاق أرض واسعة بالمسجد، وبناه من جديد جامعاً كبيراً وبنى فوق القبر قبة كبيرة. وكل هذا استنادا الى حلم ودون دليل على أن القبر كان فعلاً للنبي شيت.

معتقدات متوارثة
حيكت حول النبي يونس، العديد من القصص التي تداولها سكان الموصل جيلاً بعد جيل، ووفقاً لذاكر نبيل الجماس(69 سنة)، وهو مهتم بتراث الموصل، فأن الكثير من الناس سواءً في نينوى وخارجها، كانوا يزورون الجامع، والدعاء هناك معتقدين بأنه مكان مبارك يضم جثمان النبي يونس، وبعضهم كان يلقي بالمال على الضريح بغية التصدق، بل كان رجال الدين يقيمون فيه صلاة الاستسقاء في المواسم التي تقل فيها الأمطار.
ويقول نبيل أن الكثير من أهل الموصل كانوا يعتقدون بأن مدينتهم محفوظة من الشرور والكوارث بسبب النبي يونس، وبقية الأنبياء المعتقد بوجود أضرحتهم في المدينة لكن بنحو أقل، ويضرب على ذلك أمثلة، منها أن النساء كبيرات السن كن يستغثن حين يعصف الرعد، بنبي الله يونس.
ويروي كيف أنه في بداية الحرب مع إيران (1980-1988) كانت الطائرات الإيرانية نوع سيخوي تغير على المدينة، وشاع حديث وقتها بين الناس، أن طيارين ايرانيين أرادوا قصف جامع النبي يونس، ولكنهم كانوا يفاجئون بمكان الجامع وقد تحول الى بحيرة ماء كبيرة، فتعود الطائرات ادراجها. أو أن يد الطيار شلت في اللحظة التي أراد فيها الضغط على زر اطلاق الصاروخ لتسقط طائرته، ويستدرك:”لكن لا أحد سأل نفسه، من نقل وضعية أولئك الطيارين، مادامت طائراتهم سقطت وقتها وماتوا؟”.
وقبل العام 2003 كانت تروى الكثير من الحكايات التي يتناقلها العامة عن الجامع وعدم قدرة أحد المساس به، والتي هي في غالبها اختلقت من قبل أشخاص وجهات، أرادوا اعطاء قداسة للمكان لمقاصد مختلفة. قبل أن يلحق الدمار بالمكان في 2014. لكن ذلك لم يمنع أن يصبح المكان مقصدا للتبرك والدعاء، لكثير من النساء ممن يبحثن عن الزواج او انجاب الذكور من الأطفال.
أما عن قبر النبي دانيال، فيقول المؤرخ والأستاذ الجامعي المتقاعد د.أبراهيم العلاف، في مقال له نشر بجريدة الزمان سنة 2021، أنه كان فيه سرداب يهبط إليه بدرج، ضمن جامع يحمل أسم النبي دانيال في محلة اليهود بالجانب الأيمن للموصل، وأن النبي دانيال دفن فيه خلال فترة بقاء بني إسرائيل في نينوى، وهم الذين جلبهم الأشوريون بعد حروب خاضوها ضدهم، وأنه كان من بين عدة انبياء ولدوا وعاشوا في نينوى.
ويشير العلاف، أنه بعد إنشاء سد الموصل (35 كم شمال الموصل) قبل نحو أربعة عقود، ظهرت مشكلة المياه الجوفية في الموصل أو ما يعرف هناك بـ(النزيز) إذ تنضح المياه في السراديب ولا سيما في موسم الربيع، وهكذا بدأ السرداب الذي فيه قبر النبي دانيال يمتلئ بالمياه.
وينقل العلاف عن شخص يصفه أنه من بين الثقات، رافضا إيراد أسمه بطلب منه، أن فريقاً ذهب لمعاينة السرداب، ومحاولة وقف النضح المائي “وبعد اجراء الكشف وكتابة التقرير تجرأ أحد رجال الفريق وطلب من جماعته كشف غطاء القبر الحجري، وبعد تردد وعدم موافقة اقتنعوا وكشفوا الغطاء، فظهر جسد رجل طوله تقريبا ثلاثة امتار ونصف ذو بشرة بيضاء وخصلات شعر طويلة مائلة للشقرة ويرتدي ملابس منسوجة من الليف والعجيب انه كان كهيئة النائم بلا تجاعيد ولا تفسخ حتى ان الجميع اصابهم الرعب خوفا من انتقام الهي يصيبهم لتدنيس حرمة الجثمان لأنهم علموا ان اجساد الانبياء محفوظة لا تأكلها الارض ولا تبلى فأعادوا الغطاء وخرجوا واغلق السرداب نهائيا”.
الرواية التي ينقلها الأستاذ الجامعي المتقاعد، والتي يبدو أنه يميل لتصديقها من خلال وصفه لناقلها بالموثوق به، حدثت على حد زعمه قبل سيطرة داعش على الموصل بسنوات قليلة، ويعتقد بأن داعش سرق جثمان النبي دانيال بعد سيطرته على الموصل “في عملية ليلية لأن المنطقة شعبية والحركة مستمرة فيها”، ثم يختم العلاف قوله:”هذه القصة (يقصد سرقة الجثمان) متداولة بين الناس والله أعلم”.
الباحث المتخصص في التراث الأسلامي، جابر عبد القادر، يقول بأن الأجيال السابقة ما قبل التطور التكنلوجي والانفتاح على العالم، كانت تصدق كل شيء يتم تناقله، وأن الحكام كانوا يبثون الأفكار التي تخدم مصالحهم وتوجهاتهم “ومسألة قبور الأنبياء تقع من ضمنها، فكان يمكن وبكل بساطة أن يشيد ضريح، ويقال أنه للنبي فلان، فيصدق الناس الغارقون في الأمية والجهل على الفور، ويبدأون يالزيارات وتقديم النذور”.
ويلفت إلى أن الحكومات في مختلف الأنظمة، لم تجد ضيراً من بقاء الإعتقاد بوجود أنبياء في الموصل، خصوصا ان ذلك لايؤثر عليها بل يخدمها من ناحية الصبر في انتظار استجابة الدعاء، كما أنها لم تكن ترغب في إثارة المجتمع “أو لنقل أرادت الإبقاء عليه نائماً وغارقاً في أوهامه” يقول بنبرة ساخرة.
ولا يستبعد جابر مطلقاً، أن تكون قبور الأنبياء المزعومة حسب رأيه في الموصل، هي “لإيجاد نوع من الموازنة بين مدينة ذات غالبية سنية كالموصل، مع النجف الشيعية مثلاً التي تضم ضريح الإمام علي بن أبي طالب” وهو أبن عم النبي محمد وزوج ابنته، ويحظى بقدسية لدى المسلمين بنحو عام بمختلف طوائفهم.
ويعود للقول متحدثاً عن قبور الأنبياء في الموصل “قديما كانت المدينة تحتمي بأنبيائها، أو لنقل كان هنالك من يصدق أن وجود الأنبياء بينهم حصانة من الكوارث، كالحروب والمجاعات وغيرها، لكن الآن، وبعد الدمار الكبير الذي حل بالموصل خلال حقبة داعش وأثناء معارك طرده منها، لم يعد هنالك من يؤمن بذلك، ومن يطالب بإعادة إنشاء الجوامع التي تحمل أسماء الأنبياء، يفعل ذلك فقط من اجل قيمة تلك الجوامع الرمزية لا أكثر”.
شامل طه (19 سنة) طالب من جامعة الموصل، من سكان محلة النبي شيت، حيث يقع الجامع الذي يحمل الأسم ذاته، يقول بأن حفلاً أقيم بمناسبة افتتاح الجامع في الخامس من تشرين الأول/اكتوبر2023، والذي كان قد بني بالكامل بعد تفجيره من قبل داعش، على نفقة المحسنين.
“جمعوا مئات الملايين من أجل إعمار الجامع، واعادوه مثلما كان تماماً، جدتي، تشعر بسعادة غامرة، ومازالت تعتقد بان جسد النبي مدفون في مكان سري بالموقع ذاته، وأن الله قد حماه من داعش” يقول ذلك وهو يشبك يديه ببعضهما.
ويضيف:”بالنسبة لي، هو مكان للصلاة، لا غير، لايوجد نبي شيت في الموصل، ولا أي نبي آخر، وكان من الأولى ان تنفق كل تلك المليارات التي صرفت على بناء الجوامع والمساجد، على إعادة بناء المستشفيات التي ماتزال مدمرة، لأنها أمكنة لإنقاذ حياة الناس، هذا ما يجب أن نفكر فيه، الناس هنا، يضطرون للسفر الى مدن أخرى أو خارج البلاد للعلاج”.
يقاطع ذراعيه على صدره بوضعية الصلاة، ويضيف مستدركاً:”لست ضد اعادة بناء تلك المساجد القديمة، في النهاية للناس حق في أن تعتقد بما تشاء، ثم ماذا لو صدقت جدتي، وكان النبي شيت مدفوناً هنا!”.
أنجزت المادة تحت إشراف شبكة نيريج للتحقيقات الإستقصائية.
المزيد عن تقارير سردية
تقارير سردية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28706}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">