تحليل: عودة مصطفى الكاظمي: “خدعة الإنقاذ” مرتين 

عودة مصطفى الكاظمي: “خدعة الإنقاذ” مرتين 

من باب “الإنقاذ” يعود مصطفى الكاظمي مرّة أخرى إلى العمل السياسي… لكن الظروف تغيّرت، وتجربته الأولى لم تورثه سوى الملامة، فماذا يريد من عودته الثانية؟

اختار مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء السابق، العودة إلى المشهد السياسي العراقي بالطريقة ذاتها، التي ظهر بها بشكل علني أول مرة ربيع عام 2020، حين قدّم أوراق اعتماده “منقذاً” للنظام السياسي العراقي المتخم بقضايا الأموال المنهوبة، والمثقل بسجل طويل من الإخفاقات والفشل ودماء مئات المحتجين. 

ومع الفارق الهائل بين مخاطر المرحلتين، تضخمت الرهانات على الكاظمي منذ هبوط طائرته في بغداد نهار 25 شباط الأخير، وسال الكثير من حبر “قدرته الخارقة” على سحب فتيل الغضب الأميركي وكسر “عزلة النظام”، أو إيجاد شكل جديد للسلطة ينسجم مع متغيرات المنطقة والعالم، قبل حتى أن تتكشف كواليس العودة وأهدافها، تماماً مثل السيناريوهات التي نسجت عن قدرته على لجم الفصائل المسلحة، وإنجاز مرحلة عدالة انتقالية تضمن “القصاص” لقتلى احتجاجات تشرين ومحاسبة كبار الفاسدين إبان تشكيل الحكومة السابقة. 

في المرة الأولى، لم يكن الكاظمي ليصل إلى القصر الحكومي لولا عوامل عدة، اجتمعت مع ظروف استثنائية، في توقيت دقيق؛ وبدت جلية لكلّ من راقب المشهد حينها عن كثب.  

من بين أبرز العوامل، يمكن الإشارة إلى علاقة الكاظمي برئيس الجمهورية السابق برهم صالح، وارتباطاته مع عشرات الدول والأجهزة الأمنية والاستخبارية نسجها مستفيداً من موقعه في رئاسة جهاز المخابرات، فضلاً عن غموض رافق أدواره قبل عام 2003 وحتى بعدها. 

وأما الظروف، فتمثّلت بمأزق القوى السياسية الشيعية الكبرى التي وجدت نفسها مضطرة لتقديم المنصب على محراب شخصية غير بارزة يمكن أن تلعب دور “سلطة غير مجربة” وبعيدة عن المحور الإيراني، على أن تبقى “تحت السيطرة” بمعنى دون أي خرق لقواعد اللعب في مضمار المنطقة الخضراء، بانتظار مرور عاصفة الاحتجاجات الشعبية. 

من هو الكاظمي؟ 

قبل الحديث عن سيناريوهات “الرجل المنقذ” المنسوجة تزامناً مع هبوط الطائرة التي جاءت به، لا بد من العودة إلى البداية. 

ولد الكاظمي في بغداد عام 1967 لأسرة تنحدر من عشيرة الغريباوي، في قضاء الشطرة بمحافظة ذي قار -وفق المعلومات المتوفرة- وهاجر والده إلى العاصمة بغداد عام 1963 ليعمل مشرفاً فنياً في مطار بغداد الدولي. 

غادر الكاظمي العراق عام 1985 عبر كردستان العراق إلى إيران، ثم إلى ألمانيا وبريطانيا، وهناك اتخذ لقب “الكاظمي” نسبة إلى منطقة الكاظمية في بغداد، ومارس العمل الإعلامي ثم برز على رأس مجلة يملكها برهم صالح، ثم مديراً لتحرير قسم العراق في موقع “مونيتور” الأميركي، كما أدار مؤسسة “الحوار الإنساني” دون أن ينضم رسمياً إلى أي من الأحزاب السياسية العراقية. 

بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، عاد الكاظمي إلى العراق ولم يُعرَف شيء واضح عن نشاطه المبكّر، باستثناء ارتباطه بمشروع “مؤسسة الذاكرة العراقية”، وهي منظمة تأسست لتوثيق جرائم النظام السابق، قبل أن تتحوّل إلى مؤسسة مشبوهة.  

على المستوى الأكاديمي، لم يكمل الكاظمي تحصيله الجامعي إلاّ عام 2012، إذ يحمل درجة البكالوريوس في القانون من كلية التراث الجامعة. 

وظل الكاظمي مغموراً إلى حين تكليفه برئاسة جهاز المخابرات العراقي في حزيران 2016، خلال فترة حكومة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، وهي خطوة أثارت الكثير من الأسئلة عن المؤهلات التي مكّنت إعلامياً بتاريخ متواضع، من الوصول إلى قيادة أرفع مؤسسة أمنيّة وطنية، وكان من بين التفسيرات حينها حديث عن صلة عائلية تجمع الكاظمي بالعبادي. 

خلال هذه الفترة كان الكاظمي يعزز علاقته بإعلاميين وناشطين بارزين، يمثل بعضهم رؤوس مؤسسات كبيرة، ساهموا لاحقاً في ترويج الكثير عن إنجازات لا دليل على حقيقتها، وتقديمه بصفة رجل دولة قادر على إصلاح النظام السياسي، ثم ضَمِنَ من خلالهم كبحَ الكثير من الانتقادات أثناء فترة ولايته، وترويجَ خططه عبر مراكز دراسات وكتّاب أميركيين وأوروبيين. 

حيلة برهم صالح 

ظلّ الكاظمي يشغل رئاسة جهاز المخابرات حتى نيسان 2020، حين كلّفه رئيس الجمهورية برهم صالح بتشكيل حكومة طوارئ، بعد أكثر من خمسة أشهر على استقالة حكومة رئيس الوزراء الذي سبقه، عادل عبد المهدي، إثر احتجاجات تشرين. 

جاء تكليف الكاظمي بتشكيل الحكومة بعد اعتذار عدنان الزُرفي، ومن قبله محمد توفيق علّاوي، إثر فشلهما في الحصول على تأييد الكتل الأساسية في البرلمان في ظل أجواء متوترة 

 حينذاك. لم يكن خفياً، دورُ برهم صالح في تمهيد الطريق لصديقه، على حدّ تعبير أحد السياسيين المقربين من الرجلَين، إذ احتفظ بورقته حتى اللحظة الأخيرة وقطع الطريق على محاولات ترشيح أسعد العيداني بوصفه مرشحاً لكتلة البناء، “الكتلة الأكبر” حينها، وضغط على الكتل السياسية ملوّحاً بالاستقالة. 

تفكيك الاحتجاجات.. ربيع الاغتيالات 

“الأخ الكاظمي شخصية مناضلة ومثقفة، معروف عنه النزاهة ومعروف عنه الاعتدال، ومعروف عنه الحرص على الحقوق العامة للعراقيين”، قال برهم صالح في خطاب التكليف، أما الكاظمي فقد رفع في خطابه الأول عناوين كبيرة عن حصر السلاح بيد الدولة، وكشف قتلة المتظاهرين، وإيقاف الإفلات من العقاب، ومحاربة الفساد، وتحقيق إصلاحات اقتصادية سريعة. 

وباستثناء النجاحات الإدارية والمالية التي تحسب لحكومته في الأيام الأولى من ولايته، والتي تزامنت مع انهيار أسعار النفط إثر جائحة كورونا، تحوّلت الوعود الأخرى إلى شعارات فارغة، واستغلّ الكاظمي علاقاته بشخصيات مرتبطة بالحراك الاحتجاجي لتفكيك التظاهرات، وفشلت حكومته في حماية الناشطين البارزين بما فيهم مستشاره هشام الهاشمي، وتحوّلت لجنته لمكافحة الفساد إلى طرف متّهم بارتكاب أعمال تعذيب وابتزاز بحق مسؤولين، ورجال أعمال، وتجار. 

تغول الفصائل 

يقول الكاظمي بملء فمه: إنّ المتظاهرين قُتلوا على يد جهات عراقية، لكنّه لم يسمها، لأنه يعرف “قواعد النظام” فلم يخرقها، تماماً مثلما أخفت حكومته تفاصيل ارتباط المتهم في حادثة اغتيال الهاشمي، واكتفت ببث اعترافات مبتورة، تملّص منها المتهمُ لاحقاً وأفلت من حكم الإعدام، ألقيَت القضية إلى جانب قضايا عشرات الناشطين، ومئات المتظاهرين في بئر الإفلات من العقاب. 

وشهدت فترة الحكومة الماضية -حكومة الكاظمي- مقتل نشطاء بارزين إلى جانب الهاشمي، منهم رهام يعقوب، وتحسين الخفاجي، وإيهاب الوزني. وتغوّلت الفصائل المسلحة عبر تحركات واعتداءات تحت عناوين مختلفة وأذرع ظل، مقابل بعض التحركات الخجولة من الكاظمي، كما في حادثة اعتقال متهمين بإطلاق صواريخ في منطقة الدورة جنوبي العاصمة بغداد، والتي انتهت بالإفراج عنهم تحت ضغط الفصائل الموالية للمرشد الإيراني علي خامنئي، وقضية اعتقال قاسم مصلح المتهم في حادثة اغتيال الوزني، والتي وجد بعدها رئيس الوزراء السابق نفسه محاصراً داخل قصره في المنطقة الخضراء، ما أجبر السلطات لاحقاً على إطلاق سراحه وإغلاق القضية. 

وفي أيام حكومته الأخيرة، تعرّض الكاظمي نفسه إلى محاولة اغتيال باستخدام طائرات مسيّرة مفخخة استهدفت منزله في المنطقة الخضراء ببغداد، ما أدى إلى إصابة عدد من أفراد حرسه الشخصي، وإلحاق بعض الأضرار المادية بالمنزل، بحسب البيان الحكومي الرسمي حينها. يقول الكاظمي إنّ الإيرانيين أخبروه أنّ “إسرائيل” كانت وراء محاولة اغتياله، وأنّه اكتفى بالضحك رداً عليهم. 

لا يعكس هذا المستوى من الخروقات وهناً في القوات العراقية فقط، بل في جدية الكاظمي بخصوص مواجهة الجماعات الخارجة عن القانون، لدرجة تدفع سياسياً يعرف الكاظمي وعمل معه للاعتقاد بأنّ الكاظمي كان “يفكر في استعراضات شكلية فقط يحافظ من خلالها على صورته باعتباره طرفاً مناهضاً للمحور الإيراني، وتسمح له في الوقت ذاته بمناورة أخرى لولاية ثانية أو منصب وزاري على الأقل”. 

يريد حقيبة فقط 

تتفق هذه الرؤية مع ما تكشّف مؤخراً عن كواليس عودة الكاظمي، إذ تشير أحاديث عدة سياسيين، إلى أنّ الكاظمي عاد يجرّ خلفه حقيبة معبّأة بأمنيات الحصول على موقع تنفيذي في الحكومة القادمة، وليس أكثر.  

يقول السياسي عزت الشابندر، إنّ الكاظمي عرض على رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني الدخول في قائمة انتخابية واحدة، على أنّ يتولى منصب وزير الخارجية، لكن السوداني لم يوافق. 

على هذا الأساس، يمكن تفسير اللهجة التي تحدّث بها الكاظمي ضد السوداني في ظهوره الإعلامي الأول بعد العودة، بحسب نائب عن كتلة شيعية يعتقد أنّ ملف عودة الكاظمي برمّته مرتبط بـ “مشاكسة داخلية تستهدف رئيس الحكومة الحالية”، وأنّ من بين من يقف وراءها رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، على خلفية “أزمة شبكة التنصّت التي ما تزال مشتعلة خلافاً لما يطفو على السطح”.  

إضافة إلى أن قراءة مشهد العودة بشكل أكثر واقعية يتناسب مع حجمه الذي لا يرقى إلى مستوى وسيط مع الإدارة الأميركية المتوثّبة، أو على الأقل إعادة دمج العراق في الشبكات السياسية الإقليمية. 

وخلال الأيام القليلة الماضية، عقد الكاظمي سلسلة لقاءات بعدد من الشخصيات السياسية والأطراف السياسية، ثم انتقل إلى أربيل، والتقى رئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني في جلسة تصدرها الحديث عن الانتخابات، دون أنّ تظهر بعد ملامح خطته للمشاركة في الانتخابات المقبلة.  

وهنا، لا بدّ من الإشارة لافتقاد الكاظمي للخبرة الكافية فيما يتعلّق بسباق الانتخابات، فليس في سجله سوى محاولة واحدة تمثّلت بدعم “قائمة ظل” خلال انتخابات تشرين 2021 ومنيت بفشل ذريع، كما لا يمكن الرهان على شعبيته حتى في الأوساط المرتبطة بالتيار المدني، وما يعرف بتيار تشرين نظراً إلى ما خلّفه من خيبات بعد تجربته الحكومية. وبالتالي، فإنّ القوى السياسية، بما فيها تلك التي تبدو قريبة من مزاج الكاظمي، ستفكّر طويلاً قبل قبوله في تحالف يخوض الانتخابات. 

النظام عالق 

هذه المتغيرات على المستوى العراقي الداخلي، كلّها، لا تقارن مع حجم التعقيدات التي تصيب الوضع الإقليميّ والدولي، والتي يبدو أمامها الحديث عن إعادة إنتاج النظام القائم ليتناسب مع واقع ما بعد السابع من أكتوبر، والذي تحاول إدارة ترامب تثبيته، غير موضوعيّ لأن الحال يفوق قدرة أيّ شخصية سياسية عراقية، مهما كان حجمها ونفوذها وتأثيرها، فضلاً عن الكاظمي، الذي تخلو حقائبه من أدوات حقيقية مناسبة. 

تعبّر السجالات في الأروقة السياسية عن قصور في الرؤية، أو عدم وضوح على الأقل، بما يتعلق بالمرحلة التي يديرها ترامب في العالم الآن، أو التي يتولّى نتنياهو دفّتها في الشرق الأوسط، والتي لم تعد تستند إلى قواعد اللعبة القديمة، بمعنى أنّ الحديث عن تحوّل تدريجي نحو علاقات متوازنة وتحجيم متأنٍ للجهات الموالية للمرشد الإيراني الأعلى، لا توجد ضمانة لمقبوليته في واشنطن، كما أنّ إدارة البيت الأبيض تبدو غير مهتمة بأي مكاسب سياسية في العراق، على العكس من الملف الاقتصادي. 

ضغطت الإدارة الأميركية بشكل كبير خلال الأسابيع القليلة الماضية من أجل تمرير تعديل في الموازنة يضمن أموالاً إضافية للشركات النفطية الأميركية في كردستان، وبما يمهّد لإعادة تصدير نفط الإقليم، بغية تحقيق هدف ترامب في تخفيض أسعار النفط، ثم ألغت بعدها الإعفاء الذي يسمح للعراق بشراء الكهرباء من إيران، دون أن تلقي بالاً إلى مناشدات رئيس الوزراء السوداني حول أهمية استمرار الطاقة الإيرانية لاستقرار البلاد. 

يبدو أن العراق استنفد رصيد الثقة في واشنطن مع اقتراب صيف ساخن، ولا تمانع الكثير من الأطراف المؤثرة في القرار الأميركي رؤية تغيير جذري قد يبدأ من احتجاجات داخلية، وحينها لن يكون إنقاذ النظام ممكناً بسيناريوهات وشخصيات عام 2020، ولابدّ من التفكير في إصلاحات داخلية حقيقية سريعة، بالتوازي مع إيجاد صيغة تفاهم اقتصادي مع الولايات المتحدة، ومحاولة تنشيط العلاقات مع أعضاء الكونغرس المعتدلين من الحزبين لخلق توازن أمام قرارات البيت الأبيض الانفرادية، أو اللجوء إلى شراكات دولية بديلة بالاستفادة من التوتر الأوروبي – الأميركي، وهذا كلّه يبدو غير قابل للتحقق قريباً، ولن يكون تنفيذه يسيراً بيد شخص واحد، سبق وأن لعب دوراً في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي. 

  • ينشر بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائيةنيريج    

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28731}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">