تحقيقات استقصائية: شبكات احتيال إلكتروني تسرق رواتب الموظفين والمتقاعدين العراقيين

شبكات احتيال إلكتروني تسرق رواتب الموظفين والمتقاعدين العراقيين

يواجه آلاف المتقاعدين والموظفين العراقيين، بخاصة المسنين، عمليات احتيال إلكتروني نتيجة قلة خبرتهم في التعامل مع بطاقاتهم المصرفية، فأصبحوا هدفاً سهلاً لشبكات الاحتيال في ظل ضعف الإجراءات الوقائية في الأنظمة المصرفية العراقية، بحسب متخصصين.

في 26 تموز/ يوليو 2024، تعرّض المدرس المتقاعد فائز حسين أحمد (65 سنة) لعملية احتيال مالي إلكتروني أفقدته كل ما يملك في بطاقته المصرفية، التي كانت تحتوي على ثلاثة ملايين دينار عراقي (نحو 2000 دولار أميركي). 

حدث ذلك عندما تلقت زوجته رسالة من موقع إلكتروني، على أنها مرسلة من بنك التجارة العراقي، وضمت طلباً بتحويل مبلغ مقداره 3,960,000 دينار كشرط لإتمام معاملة سفر لإداء مناسك العمرة في المملكة العربية السعودية. 

وبسبب قلة معرفتها بخطورة التعامل مع مثل هذه الرسائل، استجابت الزوجة للطلب وأجرت التحويل المطلوب، وبعد لحظات فقط أدركت أن الحساب قد استُنزف بالكامل، وأنها وزوجها قد وقعا للتوّ ضحية لعملية احتيال إلكتروني منظّمة.

يأخذ فائز نفساً عميقاً، قبل أن يقول وهو يضرب كفّيه ببعضهما: “لم أكن أتوقع مطلقاً أن أتعرض لمثل هذا النوع من الاحتيال، ظننت أن أموالي في أمان، الكثيرون مثلي يقعون فريسة عصابات تنشط في هذا المجال”. 

تقدّم المدرّس المتقاعد، الذي يعتمد على راتبه في إعالة أسرته، بشكوى لدى جهاز الأمن الوطني، ووعدوه هناك بالتواصل معه لاحقاً، إلا أنه لم يتلقّ ردا أبداً، وهو متيقّن من أن العصابة التي سرقته ما زالت تفعل ذلك مع آخرين من دون أن يتم ردعها، وفقاً لما ذكر. 

يواجه آلاف المتقاعدين والموظفين العراقيين، بخاصة المسنين، عمليات احتيال إلكتروني نتيجة قلة خبرتهم في التعامل مع بطاقاتهم المصرفية، فأصبحوا هدفاً سهلاً لشبكات الاحتيال في ظل ضعف الإجراءات الوقائية في الأنظمة المصرفية العراقية، بحسب متخصصين.

وأعلنت الجهات الأمنية خلال العام 2024 عن تفكيك شبكات متخصصة في سرقة رواتب الموظفين والمتقاعدين من خلال اختراق بطاقات الدفع الإلكتروني الخاصة بهم، لكن عمليات الاحتيال مستمرة وبشكل يومي بحسب مصادر أمنية. 

وفي حادثة أخرى تظهر تفاقم عمليات النصب الإلكتروني التي تستهدف (موظفي الدولة والمتقاعدين)، تلقت شروق الساعدي (47 سنة) وهي موظفة في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، مكالمة هاتفية يوم 15 كانون الأول/ ديسمبر 2024، حاول فيها المتصل الاحتيال عليها، بإقناعها بوجود علاوة وترفيع مالي بقيمة 500 ألف دينار، وأنه يحتاج فقط الى بيانات بطاقتها لتفعيل ذلك.

تروي تفاصيل المكالمة، بقولها: “وردني الاتصال عبر رقم من شركة آسيا سيل وادعى المتحدث بأنه يمثل (مصرف الرافدين)، وطلب مني رقم بطاقة الماستر كارد الخاصة بي بحجة إضافة ترفيع على راتبي، لكن عندما بدأت بالتحقق من هويته والجهة التي يعمل لصالحها، تهرب من الإجابة، وأصرّ على أنه من مصرف الرافدين، فعلمت حينها أنه محتال”.

نجت شروق من محاولة الاحتيال تلك،كونها استمعت إلى قصص عدة قبلها لموظفين ومتقاعدين وقعوا ضحايا لمحتالين، ومساهمة منها في توعية الآخرين، نشرت عبر حسابها في فيسبوك، رقم هاتف “المحتال” الذي اتصل بها عبر حسابها الشخصي، وروت بإيجاز ما حدث.

التحوّل إلى نظام الدفع الإلكتروني

أصدر مجلس الوزراء العراقي بتاريخ 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، قراراً بتحويل نظام دفع الرواتب للموظفين المدنيين، بما في ذلك المخصصات والمنافع الاجتماعية، إلى النظام الإلكتروني. 

وكان من المقرر تطبيق القرار في المرحلة الأولى على وزارتين فقط، على أن يتم إتمام تطبيقه بنحو كامل مع حلول نهاية عام 2017.

ولاستكمال تلك الخطوة، وجهت الأمانة العامة لمجلس الوزراء في 16 تموز/ يوليو 2017، الوزارات والمحافظات كافة بمفاتحة البنك المركزي العراقي قبل التعاقد مع المصارف، وذلك لغرض الموافقة على اختيار كل مصرف وفق معايير محددة تؤكد أهليته وقدرته على تقديم الخدمة بطريقة آمنة وسريعة.

وفي 22 آب/ أغسطس 2017، أصدر المجلس قراراً بمنح الموظف صلاحية اختيار المصرف من بين المصارف المعتمدة لدى البنك المركزي العراقي لتوطين الرواتب، ووفقاً لهذا القرار، يحق للموظف فتح حساب مصرفي تمهيداً لاستلام راتبه عبر حساب إلكتروني باستخدام بطاقة مصرفية مدنية.

وقد حدّد البنك المركزي العراقي 43 مصرفاً حكومياً وأهلياً للمساهمة في عملية توطين رواتب الموظفين، مع ترك حرية الاختيار للموظف بشأن المصرف الذي يرغب في التعامل معه. 

وكان البنك المركزي قد حدد في آذار/ مارس 2017 الأجور التي ستُعتمد في عمليات السحب المالي عبر أجهزة الصراف الآلي. 

إذ أكد البنك أن البطاقات الصادرة من المصرف نفسه الذي يتم السحب منه ستكون بدون أي عمولة، بينما البطاقات المصرفية الصادرة من مصرف آخر وتسحب من مكائن مصرف آخر ستكون العمولة عنها ألف دينار عراقي أو  دولاراً أميركياً واحداً، وتُحسم هذه العمولة من حساب الزبون. 

وفي الأول من كانون الثاني/ يناير 2023 وبعد تكرر الشكاوى من حصول استقطاعات أكبر لدى سحب موظفين رواتبهم، قرر البنك إلزام المصارف المشاركة في مشروع توطين الرواتب ومزودي خدمات الدفع الإلكتروني بأن تكون عمولة السحب النقدي من خلال أجهزة السحب النقدي (POC) ثابتة بمقدار ستة بالألف وبحد أدنى (2,000) دينار تستقطع من حامل البطاقة في لحظة إجراء عملية السحب النقدي وتكون ظاهرة في شريط الزبون. 

وحصل معد التحقيق على نسخة من العقد الموقع بين الوزارة أو المؤسسة الحكومية والمصرف المختار لتوطين الرواتب. وهو يتضمن في البند الخامس/8 التزام المصرف بالحفاظ على سرية المعلومات والبيانات التي يحصل عليها بموجب الاتفاق، والتعهد بعدم استخدام تلك البيانات لأغراض غير مخصّصة لها. 

كما تضمن البند الثامن الذي حمل عنوان “السرية”، التزام الطرفين (الوزارة والمصرف) باحترام السرية المصرفية والفردية المنصوص عليها في المواد 49 و50 من قانون المصارف رقم 94 لسنة 2004.

وفي 17 تموز/ يوليو 2018 أرسل البنك المركزي العراقي نسخة من استمارة “فتح الحساب المصرفي” الخاصة بمشروع توطين رواتب الموظفين عبر المصارف المعتمدة، إلى تلك المصارف وطالبها باعتمادها والعمل بها. 

نسخة الاستمارة تلك تحتوي على بيانات تفصيلية عن الزبون، مثل رقم هاتفه ومكان عمله، وراتبه الشهري، ورقم حسابه المصرفي، وتاريخ فتح الحساب، وهي المعلومات ذاتها التي تستخدمها شبكات الاحتيال المالي للتواصل مع الموظفين والمتقاعدين، بهدف سرقة رواتبهم أو الأموال المودعة في حساباتهم وبطاقاتهم المصرفية.

سرقات متكرّرة

إحصاء لجهاز الأمن الوطني حصل عليه معد التحقيق، أفاد بأن فروعه تلقت خلال عام 2024 وحده، ما مجموع  700 شكوى، تقدم بها موظفون ومتقاعدون متضررون من عمليات الاحتيال الإلكتروني.

والأمن الوطني هو جهاز أمني استخباري عملياتي يعنى بمحاربة الظواهر التي تهدد الأمن الوطني والمجتمعي، وبحسب المتحدث باسم الجهاز أرشد الحاكم، فإن الإحتيال الألكتروني يشكل واحداً من تلك الظواهر التي يتصدى لها الأمن الوطني. 

ويكشف عن تفكيك أربع شبكات متخصصة في سرقة رواتب الموظفين والمتقاعدين بعد اختراق بطاقات الدفع الإلكتروني خلال 2024، وأن الجهاز قام في السنة ذاتها بـ29 عملية نوعية منها اعتقال أعضاء شبكة دولية مكونة من 12 متهماً كانوا يمارسون الاحتيال الإلكتروني على شرائح مختلفة من العراقيين. 

وكان الجهاز استحدث مطلع 2024 مديرية جديدة تحت مسمى(مديرية الاستخبارات المالية) تتركز مهامها على “مكافحة الاحتيال الإلكتروني المالي وتتبع مصادر تمويل الإرهاب، وكذلك عمليات تتبع التهرب الضريبي فضلاً عن ملاحقة أموال العصابات المنظمة والأموال غير المشروعة”، يقول الحاكم.

وعن طبيعة عمل شبكات الاحتيال الإلكتروني تلك، يشير إلى أنها تتبع أساليب عدة في التحايل على الموظفين والمتقاعدين، منها نشر الإعلانات الوهمية على منصات التواصل الاجتماعي، والتي قد تتضمن فرصاً للحصول على قروض وأرباح مالية. 

ويبين “أنها فخاخ تنصبها تلك الشبكات للإيقاع بالموظفين والمتقاعدين عبر إغرائهم بشتى الطرق”، ودعا المواطنين إلى الإبلاغ عن أي محاولة سرقة يتعرضون لها، حتى وإن كانت فاشلة “لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق مرتكبيها”.

من أين تبدأ السرقات

يرجع علي مصطفى، وهو موظف سابق في واحدة من شركات الدفع الإلكتروني، ما يحصل من “سرقات إلكترونية ممنهجة” حسب توصيفه، إلى “موظفين فاسدين في بعض شركات الدفع الإلكتروني الكبرى التي تعمل في بغداد”، يتهمهم بالتواطئ وتسريب معلومات العملاء، ويوضح: “تبدأ من عندهم محاولات السرقة باختيار زبائن محددين للإيقاع بهم”.  

ويرى مصطفى أن هناك “غياباً للضوابط الأمنية، ما يسمح بوصول بعض الموظفين الفاسدين إلى معلومات البطاقات الائتمانية وعناوين الاتصال بأصحابها”.

كما يتهم بعض مكاتب السحب المالي كذلك بالوقوف وراء عمليات احتيال تطاول موظفين ومتقاعدين، ويرى أن ذلك يحدث عندما “يسلم المتقاعد أو الموظف، بطاقته ورقمها السري لصاحب المنفذ من دون أن يعي خطورة الأمر، وما قد يترتب عليه من سرقة أمواله بكل سهولة”.

وعن تجربته الخاصة يقول: “والدتي تعرضت لعملية احتيال إلكتروني، سرقوا راتبها واشتروا به بضائع من تركيا، وعندما واجهت شركة “كي كارد” حاول الموظفون إلقاء اللوم على والدتي، لكن بعدما عرفوا أنني أملك خبرة مالية، تغيرت لهجتهم معي، وبعد أيام من المتابعة استعدنا ما سرق منها”.

تمنح الحكومة العراقية امتيازات فتح مكاتب لصرف رواتب المتقاعدين بالاتفاق مع مصارف أهلية وحكومية، من بينها مصرفا الرافدين والرشيد الحكوميان، وذلك لتسهيل عملية استلام الموظفين والمتقاعدين رواتبهم في كل المناطق داخل البلاد كونهما الأكثر انتشاراً.

ويحصل مكتب الصرف الذي يديره القطاع الخاص على عمولة من الراتب الذي يسلِّمه، بينما تحصل شركات مثل Qcard التي تصدر بطاقات الصرف، على عمولة أخرى مقابل إيصال الرواتب إلى  أماكن قريبة من المستفيدين.

مصرف الرافدين

مع شيوع جرائم الاحتيال الإلكتروني، أطلق مصرف الرافدين في 28 آب/ أغسطس 2024 تحذيراً من إمكانية سرقة أموال البطاقات الائتمانية إلكترونياً، ودعا المواطنين إلى توخي الحيطة لتفادي الوقوع ضحايا للأساليب التي وصفها بـ “الجرمية الهادفة للاحتيال عليهم وسرقة أموالهم”، وذلك من خلال انتحال أشخاص صفة موظفين عاملين في مؤسسات مالية أو مؤسسات دولية أو شركات خاصة.

كما حذر من “الضغط على روابط تصل إلى  المستفيدين عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو تلك التي تُنشر في التعليقات على منشورات فيها، لأنها تهدف إلى سرقة بيانات عملاء المصرف ومعلومات بطاقاتهم الإلكترونية.

موظف مصرفي تواصل معه معد التحقيق وطلب عدم الإشارة الى اسمه، ألقى باللائمة على مصرف الرافدين وشركة كي كارد Qcard المتعاقدة معه. يقول إن “التعاملات المصرفية في مصرف الرافدين تفتقر إلى وجود عملية متكاملة للحماية، ولذلك صارت عرضة للاحتيال الإلكتروني”. 

ويذكر أن حالات السرقة الإلكترونية في غالبيتها يقع موظفون ومتقاعدون ضحايا لها، والسبب أن مصرف الرافدين متعاقد مع شركة (Qcard) وأن موظفي الأخيرة مطلعون على معلومات نحو ستة ملايين موظف حكومي ومتقاعد، موطّنة رواتبهم في المصرف.

ويقول إن ما يحصل هو تسريب معلوماتي من داخل الشركة لعصابات متخصصة، والمواطن هو المتضرر عادة، ويوضح بأن المصرف ما زال يعمل بنظام POC (جهاز سحب نقدي)، وبموجبه يضطر العميل للكشف عن الرقم السري لبطاقته الائتمانية.

إلا أن ذلك لا يحدث في المصارف الخاصة، لكونها تعمل بنظام ATM (ماكينة صراف آلية) حسبما يؤكد المصرفي، ويتابع: “هو نظام أكثر أمناً، وبإمكان الزبون سحب راتبه مع حماية متكاملة، من دون أن يعطي الرقم السري للبطاقة إلى صاحب المنفذ”. 

المشاكل التي تكتنف عمل السحب النقدي (POC)، أكدها البنك المركزي العراقي الذي منع المصارف في 10 كانون الثاني/ يناير 2023 من إبرام أية تعاقدات جديدة لتوزيع أجهزة خاصة بهذا النظام، الى حين إيجاد حلول مناسبة.

متخصصون كثيرون في مجال القطاع المصرفي، الذين تم التواصل معهم، أفادوا بأن مصرف الرافدين وبعد توطين رواتب الموظفين والمتقاعدين فيه، أبرم اتفاقاً مع شركة Qcard للإشراف بنحو مباشر على جميع العمليات التقنية والإدارية مقابل حصول المصرف على ما نسبته 30 في المئة  من عمولة  سحب الرواتب، فيما تحصل شركة كي كارد على نسبة 70 في المئة”. 

وجود تفاصيل معلومات الزبائن بحوزة الشركات التقنية في القطاع الخاص وليس في عهدة الحكومة، يجعل الكثير من المتخصصين يشككون في نجاح محاولات الدوائر الرقابية للحد من الاحتيال الإلكتروني الذي يستهدف رواتب الموظفين والمتقاعدين. 

وللتأكد من ذلك كله، تواصل معد التحقيق مع المتحدث باسم مصرف الرافدين، وسام محمد، إلا أنه امتنع عن الإجابة، متذرعاً بأن تصريحه للصحافة مقيد بموافقات رسمية من جهات حكومية، منها وزارة المالية. 

في محافظة ميسان جنوب العراق، وجه مدير عام التربية جواد كاظم سلطان، يوم الخامس من تموز/ يوليو2024، إنذاراً إلى مصرف الرافدين، هدد بموجبه بإلغاء العقد المبرم بين مديريته وبين المصرف ورفع دعوى قضائية ضده، بسبب حالات “سحب سلفة” من دون علم الموظفين والمعلمين والمدرسين “عبر قرصنة البيانات والمعلومات إلكترونياً”، يقول المدير.

في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أصدر البنك المركزي تعميماً تحذيرياً إلى المصارف المشاركة في مشروع توطين رواتب الموظفين، جاء فيه: “لوحظ في الآونة الأخيرة وجود صفحات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) تدعي إعطاء قروض وسلف لحاملي بطاقات الدفع الإلكتروني من نوع (رواتب). وبعد مشاركة معلومات البطاقة من أصحابها، يتم تحويل الأموال إلى المحافظ الإلكترونية المشتبه بها، وعند التواصل مع أصحاب البطاقات، يتضح أنهم لم يقوموا بأي عمليات تحويل، وأنهم تعرضوا لعمليات نصب واحتيال”.

موظفون محتالون

ضابط برتبة مقدم في استخبارات وزارة الداخلية، طلب عدم ذكر اسمه، يصف موظفين في مصارف أهلية وحكومية، ومنها مصرفا الرافدين والرشيد الحكوميان، بأنهم “محتالون”، وأنهم “يستغلون ضعف المعرفة التقنية لدى الكثير من موظفي الدولة، فيحصلون منهم على معلومات وبيانات يستخدمونها لسرقة رواتبهم”. 

ويؤكد أن وزارة الداخلية أجرت تحقيقات معمّقة، وتوصلت إلى أن “بعض الموظفين الفاسدين في تلك المصارف يرتبطون بشبكات فاعلة تنشط في محافظات إقليم كردستان وخارج العراق”. 

وكان المدير العام الأسبق لمصرف الرشيد باسم عبد علي، أقر في تصريح صحافي نشر في 30 حزيران/ يونيو2021، وجود تلاعب وتزوير بالبطاقات الإلكترونية، ودعا الموظفين والمتقاعدين والمستفيدين من خدمات مصرف الرشيد الحذر من المواقع الإلكترونية الوهمية. وأكد أن رواتب موظفين ومتقاعدين سرقت بهذه الطريقة، وأن المصرف اضطر إلى توقيف خدمة التسوق الإلكتروني لحماية البطاقة من السرقة.

وزارة الداخلية تعلن بين الحين والآخر اعتقالها متهمين متورطين باختراق حسابات مصرفية عبر الحصول على معلومات رسمية تفضي إلى اختراق تلك البطاقات وسرقة الأموال، وفي 13 أيار/ مايو 2023 مثلاً أعلنت القبض على متهم ببيع معلومات رسمية مقابل مبالغ مادية في محافظة بابل.  

جاء ذلك في بيان صدر عنها، أكدت عبره أن الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية في وزارة الداخلية توصلت إلى معلومات دقيقة عن وجود شخص يبيع معلومات شخصية تعود الى المواطنين عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي .

وأشارت التحقيقات، وفقاً للبيان، إلى أن المعلومات التي كان المتهم يبيعها، عبارة عن قواعد بيانات دوائر رسمية تتضمن معلومات شخصية للمواطنين حصل عليها عن طريق عمليات الاختراق غير القانوني، بهدف الحصول على أموال.

ضعف ثقافة الدفع الإلكتروني

مدير دائرة الرقابة على المؤسسات المالية غير المصرفية في البنك المركزي، ضرغام موسى جواد، يقول إن ما يحصل من اختراق لحسابات المواطنين مرده “ضعف ثقافة الدفع الإلكتروني وآليات التعامل معه”.

ويضيف: “نحن كمؤسسة رقابية لم نعثر على ثغرة في أنظمة الشركات المعنية، لكننا لا ننفي تسريب معلومات الزبائن إلى  عصابات الاحتيال بالتعاون مع بعض الموظفين الفاسدين”.

ويشير الى المتورطين بتسريب معلومات الزبائن بقوله: “ربما هم بعض الأشخاص الذين يوجدون في العادة بالقرب من المصارف، ويدعون امتلاكهم علاقات داخل هذا المصرف أو ذاك، ويعرضون خدمات المساعدة على الموظف أو المتقاعد من أصحاب الرواتب المودعة، لتسهيل عملية سحب الأموال أو غير ذلك”. 

الخبير الإعلامي في المصرف العراقي للتجارة  TBI، عقيل الشويلي، ذكر أن مصرفه لا يتعامل مع أية جهة أو مؤسسة تتبنى ترويج السلف والقروض، وإنما يتم الترويج لمعاملات القروض عبر فروعه حصراً.

وحذر من تعبئة “الاستمارات التي تتطلب ملء معلومات سرية للبطاقات الإلكترونية”، والتي تظهر في مواقع إلكترونية أو صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك “تجنباً لمحاولات الاحتيال الإلكتروني”.

في 4 كانون الثاني/ يناير 2024، كشف المتحدث باسم وزارة الداخلية العميد مقداد الموسوي، عن رصد مركز الأمن السيبراني التابع للوزارة، “أساليب وطرقاً عدة لسرقة بيانات البطاقات الائتمانية”، منها “التصيد الاحتيالي الذي يعد من أكثر الطرق استخداماً لسرقة البيانات المالية، ويدعي فيه مجرمو الأمن السيبراني بأنهم الكيان الرسمي للبنك الذي يتم التعامل معه”. وأيضاً “توظيف البرامج الضارة، إذ بإمكان مجرمي الأمن السيبراني سرقة بياناتك المالية من خلال برامج التجسس الضارة وتعقب أنشطة الزبون على الجهاز المستخدم، ما يسمح للمخترقين بالاطلاع على كل ما يضمه جهاز الكمبيوتر من معلومات، بما فيها معلوماتك المالية”.    

سرقات مستمرة وتشريعات فقيرة

تقدم الموظف في وزارة التربية ضياء ناجي، بشكوى رسمية إلى مكتب رئيس الوزراء لشؤون المواطنين، تعلقت بتعرضه لعملية نصب واحتيال، متهماً فيها موظفاً في الشركة العالمية للبطاقة الذكية ماستر كارد – فرع الرصافة، أثناء تجديد بطاقته المصرفية.

وذكر ضياء الذي يسكن في منطقة الأعظمية ببغداد، في شكواه: “عند تجديد بطاقتي، أخبرني الموظف بأنه سيتم التواصل معي خلال 72 ساعة، وبتاريخ 13 أيار/ مايو 2024، تلقيت بالفعل مكالمة هاتفية استُدرجت خلالها لتقديم بعض المعلومات الشخصية المرتبطة ببطاقتي، وبعد انتهاء المكالمة، راجعت رصيدي لأكتشف أن ثلاثة ملايين و852 ألف دينار قد سرقت مني، ولم يتبق لدي سوى 227 ديناراً فقط!”. 

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي 2 حزيران/ يونيو 2024، سُرق مليون و250 ألف دينار من حسابه. وأكد أن عمليتَي الاحتيال اللتين تعرض لهما كانتا بعد اتصالين تلقاهما عبر تطبيق واتسآب، وأن الرقم الأول كان يحمل شعار الشركة الرسمية (كي آي)، بينما الرقم الثاني كان يحمل شعاراً مزوراً.

وذكر أن “محكمة تحقيق الأعظمية وجهت كتاباً رسمياً في 4 حزيران 2024 للشركة لمعرفة الجهة التي استحوذت على راتبي، وكيف تمت عملية السرقة، من دون أن يتم تنفيذ طلب المحكمة أو اتخاذ أي خطوة جادة لمعالجة الأمر”.

ويرجّح الخبير الاقتصادي عبد الرحمن المشهداني، أن يكون الموظفون والمتقاعدون قد وقعوا ضحية نصب واحتيال من أصحاب مكاتب، إلا أن هذا قد لا يعفي المصرف أو شركات الدفع الإلكتروني من المسؤولية نتيجة “ضعف الإجراءات والمعايير لحماية بيانات المواطنين وعدم فرض إجراءات معينة مثل عدم صرف السلف إلا بحضور الشخص المعني حصراً”. 

عضو اللجنة المالية البرلمانية محمد نوري، يقول إن البلاد تفتقر إلى الكثير من القوانين والتشريعات التي تضمن فعالية مكافحة الجرائم المالية الإلكترونية، ما يتيح الفرصة للمحتالين لسرقة الأبرياء من دون “خشية من المساءلة القانونية”.

ويضيف: “التلاعب وسرقة الأموال ورموز البطاقات الإلكترونية والتحويلات المالية تحصل من خلال الموظفين في الشركات والأنظمة، وليس المصارف على اعتبار أنها جهات تمويل فقط وليست لها علاقة بالأمر”.

ويشير نوري، الى تشكيل لجنة تحقيقية مشتركة ما بين اللجنة المالية النيابية ووزارة المالية والمصارف، للتحقيق في سرقة رواتب الموظفين والمتقاعدين والأموال المودعة في البطاقة الإلكترونية، نتيجة تزايد هذه الجرائم المالية، لأن أضرارها لا تقتصر على الأفراد فقط، بل تمتد لتشمل الاقتصاد الوطني بنحو عام، وتساهم في إضعاف الثقة بين المواطنين والجهات المالية، ما يستدعي اتخاذ إجراءات سريعة وفعالة لحماية أموال الأفراد والمؤسسات.

من جانبه، يقول عضو اللجنة القانونية في مجلس النواب محمد عنوز، إن المجلس يتابع بقلق كبير تزايد هذه الجرائم التي تستهدف المتقاعدين والموظفين. 

ويذكر أن اللجنة القانونية تأمل بالإسراع في سن تشريعات أكثر صرامة لمكافحة الجرائم الإلكترونية والتصدي لهذه الأنشطة الإجرامية التي “تهدد الحياة الاقتصادية للعراقيين”. 

عقوبات قضائيّة

تعاقب المادة 456 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، بالحبس الشديد لخمس سنوات، كل من تسلم أو نقل أو حاز مالاً منقولاً أو مملوكاً للغير، من خلال استخدام طرق احتيالية، أو اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة، أو تقرير أمر كاذب عن واقعة معينة. 

الخبير القانوني علي التميمي، يقول إن الشبكات التي تقف وراء جريمة سرقة رواتب الموظفين أو المواطنين من خلال البطاقات المصرفية، يمكن أن يتعرض أفرادها إلى عقوبتين قضائيتين، الأولى تتعلق بـ”انتحال الصفة” على اعتبار أن المتصل ينتحل صفة موظف في مصرف حكومي أو خاص، وعقوبتها تصل إلى “السجن لمدة عشر سنوات وفقاً للمادة أولاً من قانون 160 لسنة 1983″، والثانية تتعلق بـ”جريمة النصب والاحتيال عملاً بأحكام المادة 456 من قانون العقوبات وعقوبتها حبس شديد يصل إلى  5 سنوات”.

ويوضح التميمي، أن الموظف أو المتقاعد الذي يتعرض لسرقة راتبه يمكنه تقديم شكوى إلى الجهات الأمنية المتخصصة، مثل جهاز الأمن الوطني أو وكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية، كما يمكن رفع الشكوى مباشرة إلى محكمة التحقيق: “إذ تُعد مثل هذه الجرائم جنايات”.

ويذكر أنه بعد إلقاء القبض على المتهمين واستكمال التحقيقات، تُحال القضية إلى محكمة الجنايات للنظر فيها، مشيراً الى أنه في ظل غياب القوانين الخاصة بالاحتيال الإلكتروني، مثل مشروع قانون الجرائم المعلوماتية الذي لم يقرّه حتى الآن مجلس النواب العراقي على الرغم من تقديم مقترحه منذ سنوات، فإن ما يطبق في مثل هذه الحالات هو قانون العقوبات العراقي.

سارة عامر، موظفة في دائرة صحة النجف، تعرضت لاحتيال إلكتروني  في 30 أيلول/ سبتمبر 2024، عندما تلقت اتصالاً هاتفياً من شخص ادعى أنه موظف في شركة كي كارد، أخبرها بوجود مستحقات تقاعدية لوالدها المتقاعد.

تقول: “كان هذا خبراً ننتظره منذ ستة أشهر. وعندما طلب مني رقم بطاقة والدي لإكمال الإجراءات اعتذرت لعدم وجوده في المنزل ساعتها، وعرضت عليه بطاقتي، فوافق فوراً، وأرسل لي رمزاً عبر الواتسآب وطلب مني قراءته له، ولم تمر سوى دقائق حتى وصلتني رسالة تخبرني بأنه سُحب كامل راتبي من الحساب!”.

سارعت سارة إلى التواصل مع شركة كي كارد للإبلاغ عن الحادثة، لكنها تقول إن الرد كان “مخيباً”، وتتابع موضحة: “طلبوا مني الانتظار، ثم بعد ساعة، أخبروني أنني وقعت ضحية احتيال مالي، وطالبوني بتقديم شكوى رسمية”.

فعلت سارة ذلك، وتقدمت بشكوى لمديرية الأمن الوطني، إلا أن أربعة أشهر مضت من دون أن تتلقى أي شيء يخص شكواها، وهي تعتقد أن ذلك يعني أن عصابات الاحتيال في أمان، وتواصل ممارسة أنشطتها من دون أن يطاولها الحساب، وتضيف بحسرة :”ماذا يمكننا أن نفعل، رواتبنا سرقت، وأجهزة الدولة عاجزة عن ملاحقة المحتالين، بينما القوانين التي يفترض أن تحمينا تظل لسنوات معلّقة في البرلمان!”.

 ملاحظة: سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار في مكاتب الصرف في العاصمة بغداد يبلغ 151 ألف دينار مقابل 100 دولار. 

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28668}" data-page="1" data-max-pages="1" data-start="1" data-end="1">