“إنها حقوقنا وليست مكارم”.. ذوو الاحتياجات الخاصة في العراق يطالبون برعاية يكفلها القانون
تفتقر الوزارات والمؤسسات الحكومية كما المدارس والجامعات والطرق الى المنشآت والبنية التي تراعي احتياجات ذوي الإعاقة، الى جانب افتقاد كلي لوسائل النقل العام المراعية لأوضاعهم، مع قلة رواتبهم، وغياب المؤسسات الراعية لهم والداعمة لتفوقهم.
كانت ترافق والدها الجندي في الجيش العراقي، عندما انفجرت عبوة ناسفة بسيارته الشخصية، أدت إلى بتر يدها اليمنى وقدميها، وبدلاً من إستسلامها للعجز في بلد يفتقد للدعم والمنشآت المراعية لأوضاع ذوي الإحتياجات الخاصة، حولت نجلة عماد (20 سنة) إعاقتها إلى دافع أفضى بها في النهاية للحصول على أول وسام ذهبي أولمبي للعراق!.
بعد أربع سنوات من الحادث الذي وقع في 2008 أمام منزل العائلة في بعقوبة بمحافظة ديالى التي شهدت معارك دامية وفوضى أمنية طوال 15 عاماً، بدأت نجلة خطوتها الأولى في المجال الرياضي، بانضمامها إلى بارلمبية محافظة ديالى كلاعبة كرة طاولة، واصطدمت حينها بمصاعب كثيرة تعلقت بضعف التجهيزات والمستلزمات الخاصة الضرورية لتحسين الأداء الى جانب افتقاد المنشآت الداعمة لذوي الإحتياجات الخاصة.
في بداية مشوارها كانت تلعب داخل منزل العائلة بالاستعانة بجدار متآكل كانت تتبادل معه الكرات، واستمرت لسنوات بالتدريب بوسائل بدائية، لكن إصرارها وعزمها على تحقيق شيء يعوضها عما فقدته، فضلاً عن الرعاية والدعم اللذين حظيت بهما من أسرتها، جعلها في النهاية ترفع علم بلادها في دورة الالعابة البارلمبية صيف 2024 في العاصمة الفرنسية باريس، بحصولها على ميدالية ذهبية وقبلها في 2016 عندما حصلت على الميدالية الفضية في بارالمبية طوكيو.
نجلة عماد تحمل بيدها اول وسام ذهبي اولمبي للعراق
الافتقار للبنى التحتية
“نجلة” واحدة من بين أربعة ملايين عراقي من ذوي الاحتياجات الخاصة، وفقاً لأرقام وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، في بلد يبلغ عدد سكانه نحو 45 مليون نسمة، دخل خلال العقود الخمسة الأخيرة حروبا خارجية وداخلية عديدة، وشهد تدهوراً أمنياً بعد انهيار نظام حزب البعث في 2003 حين نشطت وعلى مدى سنوات جماعات مسلحة خاضت معارك شوارع ضد الأجهزة الأمنية، أغلب ضحاياها كانوا من المدنيين.
وكان وزير العمل أحمد الأسدي، قد ذكر في فبراير شباط 2024، أن شريحة ذوي الإعاقة “تشكل نسبة 11% من السكان” وفق الأرقام المتوفرة لديهم والتي تشير الى وجود أكثر من 4 ملايين معاق (بدرجات اعاقة مختلفة)، مشددا على أهمية رعاية هذه الشريحة “لتعزيز ثقتهم بأنفسهم والمشاركة في بناء البلد من خلال دمجهم الكامل في المجتمع”.
على الرغم من هذا الكم الكبير من ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أن الاهتمام الرسمي بهم لايكاد يكون موجوداً إلا في نطاق محدود، فلا مرافق خدمية لهم في الأماكن العامة، والشوارع غير مؤثثة لتتوافق مع احتياجاتهم، سواءً في مسارات المشاة أو الطرقات أوأماكن وقوف المركبات.
بالنسبة لنجلة، الصعوبة تمثلت بعدم أهلية قاعات التدريب المتاحة وغياب التجهيزات الحديثة، الى جانب افتقار وسائل نقل عامة مؤهلة لذوي الاحتياجات الخاصة لمتابعة تدريبها، فاضطرت اسرتها الى استئجار مركبة خاصة مما اثقل على كاهلها بمصاريف إضافية. وتؤكد الرياضية التي أكملت دراستها الثانوية في العام الماضي وبدأت دراستها الجامعية بكلية التربية الرياضية، انها تشتري كل المستلزمات الرياضية الخاصة بها من السوق.
في حوار تلفزيوني أجري معها بعد نيلها ميدالية باريس الذهبية، جلست نجلة على أرضية باحة منزلها، وأخذت توجه الكرة بمضربها إلى الحائط، استمرت بفعل ذلك مرات عدة قبل أن تقول بشيء من الفخر:”هكذا في هذا المكان، تدربت قبل المشاركة في بارالمبية باريس !”.
نجلة عماد أثناء التمرين
تهميش وعوائق في كل مكان
“ذوو الاعاقة فئة مهمشة في المجتمع ولم يحصلوا على ابسط حقوقهم” هذا ما تقوله ورود طالب (28 سنة) من بغداد، وقعت ضحية لتفجير مقذوف حربي من مخلفات حرب 2003 بأطراف العاصمة بغداد عندما كانت في السادسة من عمرها، لتبدأ كفاحاً طويلا من أجل تطوير ذاتها ومساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، ولتحصل في مطلع العام الجاري 2025 نظير نشاطها المدني على لقب سفير ذوي الإعاقة في العراق.
تقول ان معاناتها تبدأ من لحظة خروجها من المنزل:”لا طرق، لا سيارات نقل ميسرة لذوي الإعاقة”، فتجبر كما هو الحال مع نجلة، وكثيرين غيرهما من ذوي الاحتياجات الخاصة لتكبد نفقات النقل الخاص الباهظة. وتكبر معاناتها عند مراجعتها للدوائر الحكومية التي تقول بأن غالبية أبنيتها ومنشآتها:”غير مهيئة لاستقبال مراجعين من ذوي الإعاقة، وتلك التي تضم عدة طوابق تفتقر للمصاعد”، فتضطر إلى الاستعانة بمعقبين ليروجوا لها معاملاتها الرسمية مقابل أجور “لأنني لاأستطيع تولي ذلك بنفسي فالدوائر الحكومية للأصحاء فقط!” تقول ذلك وهي تبتسم وتهز برأسها.
ورود طالب سفيرة ذوي الاعاقة لعام 2025
تكاليف اجبارية
عباس احمد) 40 سنة من بغداد) فقد ساقه اليسرى اثر انفجار سيارة مفخخة على مسافة قريبة منه في شارع تجاري مزدحم في بغداد صيف سنة 2008، يرى بأن المؤسسات الحكومية بحاجة إلى تثقيف كوادرها للتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى تأهيل منشآتها بما يتوافق مع احتياجاتهم:”نحن أيضاً بشر ويجدر بهم الاهتمام بنا”.
يجهد عباس نفسه في العمل بائعاً للثياب في منطقة الشعب بأجر يومي، ويقارن بين وضع أقرانه قبل 2003 ووضعهم في الوقت الراهن:”الدوائر الحكومية كانت توظف ذوي الاحتياجات الخاصة، ليقوموا باعمال بسيطة تتوافق وامكانياتهم الجسدية، بغية ضمان عيش كريم لهم، لكن الأمر مختلف في الوقت الراهن والرواتب التي تمنح لهم عن طريق الرعاية الاجتماعية لاتكاد تكفي”.
تم رفع الراتب الممنوح للمعاق ضمن برنامج الرعاية الاجتماعية خلال 2024، ليبلغ 250 ألف دينار (نحو 170 دولار)، بعد أن كان 170 الفاً، وهذا ينطبق على المدنيين، أما المعاقين من العسكريين وضحايا الإرهاب، فتبدأ رواتبهم من 500 الف الى أكثر من مليون دينار (نحو 660 دولارا). وحتى المبلغ الأخير لا يكاد يسد الحد الأدنى من حاجات ذوي الإعاقة خاصة انهم يضطرون للتنقل بوسائل نقل خاصة.
ريهام كاظم (45 سنة) من العاصمة بغداد، مصابة بشلل الأطفال، وحاصلة على شهادة جامعية بتخصص الصيدلة، تقول بأنها وعلى مدى سنوات دراستها الطويلة، الأولية والجامعية، لم تجد في المدارس التي تنقلت بينها وكذلك في الجامعة، ما يؤهلها لإستقبال ذوي الاحتياجات الخاصة، فلا ممرات خاصة ولا مصاعد أحياناً ولا حتى حمامات مهيئة لهم.
وذكرت بأنها اضطرت خلال دراستها الجامعية، إلى دفع مبالغ مالية من أجل اصلاح المصعد في كلية الصيدلة، لكي تتمكن من الصعود إلى الطوابق العليا حيث تقع المختبرات العلمية الخاصة بدراستها.
وبعد سنوات طويلة من تلك المشكلة فوجئت ريام مطلع عام 2024، بمنعها في مطار بغداد الدولي من ركوب الطائرة إلا بعد قيامها بتسديد مبلغ 80 ألف دينار.
تتذكر هذا بشيء من الاستياء، وتقول:”المبلغ هذا يدفع كأجور عن نقلي بالكرسي المتحرك من صالة الانتظار إلى مدخل الطائرة، مع ان زوجي كان بصحبتي، وهو اكد لهم بأنني لست بحاجة إلى كرسي متحرك، لأنه سيساعدني، إلا انهم اصروا أن ندفع لهم”.
يعلق رئيس تجمع المعاقين في العراق موفق الخفاجي، على تجربة ريهام بقوله:”ماحدث لها يشكل موقفاً من بين مئات المواقف الأخرى المتعلقة باستحصال مبالغ مالية نظير تقديم خدمات لذوي الإعاقة، مع انها تقدم في غالبية الدول مجانا، وهو امر يتسبب بالإحراج للكثيرين لكونهم من ذوي الدخل المحدود”.
ولفت إلى ان الناشطة من ذوي الإعاقة لمياء القيسي، تعرضت قبل أشهر هي الأخرى لنفس الموقف في مطار بغداد، فرفضت دفع المبلغ، وكانت النتيجة أن منعت من الصعود للطائرة، على الرغم من انها كانت قد تلقت دعوة رسمية للمشاركة باجتماع مع شبكة “الوطنية” للمرأة بدعوة من بعثة الأمم المتحدة في العراق “فمزقت تذكرة سفرها كنوع من الاحتجاج على الطريقة التي يتم التعامل بها مع المعاقين في العراق”.
غياب الدعم الحكومي
نقلت لمياء، احتجاجها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال نشرها لمقطع فيديو في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وضحت فيه بالتفصيل مجريات حادثة المطار، وتردد صوتها بتفاعل كبير في وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي اثر الردود المساندة لها، تلقت اتصالا من مكتب وزير النقل، مؤكداً لها أن الأجور المالية المفروضة على استخدام الكراسي المتحركة في مطار بغداد الدولي سوف تلغى خلال 72 ساعة. غير ان ذلك الوعد لم يتحقق، فقد تكررت حالات منع معاقين من ركوب الطائرات في المطار، الا بعد دفع مبالغ مالية لقاء استخدامهم كراسي المطار المتحركة.
أما الخطوط الجوية العراقية، فقد أصدرت بيانا في 25 كانون الأول/ديسمبر2024 ذكرت فيه أن “خدمة الكرسي المتحرك معمول بها في كافة الشركات العالمية والمحلية والدولية، والشركات المزودة للخدمة هي من تستحصل تلك المبالغ وليس الخطوط الجوية العراقية”.
ويروي رئيس تجمع المعاقين حادثة منفصلة، اضطرت فيها احدى النساء من ذوي الإعاقة إلى دفع المبلغ لتوفير الكرسي المتحرك للصعود للطائرة، وعند عودتها من رحلتها في 30 من كانون الأول/ديسمبر 2024 :”فوجئت بالموظفين يطالبونها بسداد 80 الف دينار أخرى من اجل انزالها من الطائرة بواسطة الكرسي المتحرك”.
وبسبب رفضها دفع المبلغ، أبقيت في الطائرة لأكثر من ساعة، إذ لم تستطع النزول لأن العاملين هناك لم يوفروا لها الكرسي المتحرك، وانتشر ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي لتظهر وزارة النقل مجدداً وتلغي فعلياً رسوم الكرسي المتحرك وجعلها مجانية تنفيذا لأوامر صدرت من رئاسة الوزراء.
الاحتجاج الذي نجح في تغيير طريقة التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة في مطار بغداد الدولي، لا يمكن أن يتكرر بشكل يومي في الوزارات والمؤسسات والمدارس والجامعات أو على الطرق وفي الأسواق، حيث تفتقر جميعها الى الخدمات الضرورة لذوي الإعاقة، وهو ما يفرض تغيير جوهري في تعاطي الحكومات مع متطلبات ذوي الإعاقة، بدءاً من التخطيط للمشاريع وانتهاءً بتنفيذها بشكل يؤمن تلك الاحتياجات ويضمن لذوي الاعاقة أداء وظائفهم الايجابية في كل مفاصل الدولة، وهذا ما شدد عليه، جميع من تحدثنا اليهم.
“انها حقوق وليست مكارم”
ويرى رئيس تجمع المعاقين في العراق موفق الخفاجي، أن حقوق ذوي الإعاقة لا تمنح بالمناشدات والتظاهرات أو المطالبات: “بل يجب أن يضمنها القانون”، ويضيف:”يجب الابتعاد عن تحويل نيل حقوق هذه الفئة إلى فرصة ليتفاخر بها المسؤولون ويظهروا أنفسهم بمظهر أنهم يستجيبون لطلبات المواطنين”.
ويؤكد على أن العراق ملزم برعاية المعاقين، ولاسيما بعد مصادقته في 2021 على اتفاقية “حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة” برعاية الأمم المتحدة.
ونصت المادة التاسعة من هذه الإتفاقية على “:تتخذ الدول الأطراف، التدابير المناسبة التي تكفل إمكانية وصول الأشخاص ذوي الإعاقة، على قدم المساواة مع غيرهم، إلى البيئة المادية المحيطة ووسائل النقل والمعلومات والاتصالات”.
وعبر الخفاجي عن أمله في ان يحصل ذوو الإحتياجات الخاصة في العراق على :”حياة كريمة متساوية ومتكافأة الفرص مع الأفراد الآخرين، للوصول إلى تمكينهم في المجتمع”. ويستدرك:”لكن ذلك يتطلب عملاً دؤوباً وتخطيطاً واستراتيجيات تضمن توفير الوسائل والمستلزمات”.