تحليل: ثلاثية السلّة الواحدة… العراق يصرّ على الانقسام والتراجع 

ثلاثية السلّة الواحدة… العراق يصرّ على الانقسام والتراجع 

يتصرّف صانع القرار العراقي وكأنه خارج الزمن، بل هو كذلك، حيث يتجاهل المرحلة الحساسة التي تمرّ على البلاد والمنطقة والعالم، في وقت يتطلب الحال مراجعة كبيرة للقوانين القائمة ودفعها للأمام على سلم المعاصرة، لا التراجع بها.

في جلسة تشريعية ساخنة وفوضوية، صوّت مجلس النواب العراقي، يوم الثلاثاء 21 كانون الثاني، (بالمجمل) على ثلاثة قوانين شديدة الحساسية والخلافية، هي: تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959؛ وقانون إعادة العقارات إلى أصحابها المشمولة ببعض قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل؛ والتعديل الثاني لقانون العفو العام رقم (27) لسنة 2016.  

وجاء هذا التصويت كنتيجة لتفاهمات سياسية معقدة بين الكتل البرلمانية، حيث سعت كل جهة لتمرير قانون يخدم أجندتها، إذ حاولت قوى دينية وسياسية من “الإطار التنسيقي” الشيعي، تمرير تعديل قانون الأحوال الشخصية مقابل قوانين خلافية تدعمها قوى أخرى، منها قانون العفو العام الذي تطالب به القوى السنية، وقانون إعادة العقارات الذي تسعى لتمريره القوى الكردية. ويعكس ذلك حالة الاستقطاب الطائفي والسياسي في العراق، ويضرب ضوابط الدستور والقانون عرض الحائط.  

أولاً: قانون الأحوال الشخصية: حقوق المرأة مقابل حرية المعتقد  

صدر قانون الأحوال الشخصية رقم 188 عام 1959 في ظل حكومة عبد الكريم قاسم، كواحد من أكثر القوانين تقدمية في العالم العربي. استند القانون إلى مزيج من أفضل الأحكام في الفقهين السُني والشيعي، ما جعله موحداً للأحكام القضائية في قضايا الزواج والطلاق والميراث وحضانة الأطفال. لطالما كان هذا القانون رمزاً للدولة المدنية الساعية لتجاوز الطائفية والمذهبية. 

ومع سقوط نظام صدام حسين في نيسان 2003، واجه القانون محاولات عديدة لتعديله أو إلغائه. أبرز هذه المحاولات كانت في 29 كانون الأول 2003، حين قرر مجلس الحكم الانتقالي، برئاسة رئيس المجلس الأعلى الإسلامي عبد العزيز الحكيم لمدة شهر في حينها، إلغاء القانون عبر القرار 137 وإحالة شؤون المرأة والأسرة إلى المرجعيات الدينية والمذهبية، لكنه تراجع بعد شهرين تحت ضغط شعبي وحقوقي واسع وتخوّف من تأسيس بنية طائفية قضائية في العراق، وبالطبع كانت الكلمة الفصل للحاكم العسكري الأمريكي بول بريمر الذي أجبر المجلس على تجميد القرار. 

تكرّر الأمر بشكل أكثر تفصيلاً مع طرح مشروع القانون الجعفري في 27 تشرين الأول 2013، من قبل حزب الفضيلة الشيعي، ممثلاً بوزير العدل حسن الشمّري. وافق المجلس على المسودة، لكن المعارضة القوية من قبل النسويات وشرائح واسعة من المجتمع والمنظمات الحقوقية العراقية والدولية أوقفت تمرير القانون. ونصّت تلك المسودة على أن يكون سن الزواج للفتاة تسع سنوات وللفتى 15 عاماً أو أقل، فضلاً عن الإشارات للزواج المؤقت أو “زواج المتعة” بحضور رجل دين، يصادق على مدته التي تتراوح ما بين بضع دقائق إلى سنوات، ونصوص تقضي بحرمان المرأة من النفقة إذا لم يتمكن الرجل من “الاستمتاع” بها إذا كانت مسنة أو صغيرة جداً.  

وفي 31 تشرين الأول 2017، صوت البرلمان على مقترح تعديل القانون، ولم يتطلب الأمر أكثر من دقائق للحصول على الموافقة، وكان الاعتراض الوحيد متمثلاً في عدم اكتمال النصاب. في حينها، شملت التعديلات السماح للمسلمين بتقديم طلب إلى محكمة الأحوال الشخصية المختصة لتطبيق الأحكام الشرعية للأحوال الشخصية وفق المذهب الذي يتبعونه، والتزام المحكمة المختصة باتباع ما يصدر عن المجمع العلمي في ديوان الوقف الشيعي، والمجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السُني، وتبعاً لمذهب الزوج. ويعني ذلك باختصار نقل صلاحيات اتخاذ القرار بصدد الأحوال الشخصية، وهي جوهر وأساس الحرية الشخصية من المحكمة المدنية، كما هو معمول به في قانون 188، إلى رجال الدين. 

بعد كل هذه المحاولات وأخرى، جاء التصويت الأخير بدعم قوى دينية وسياسية شيعية، ترى في القانون استجابة لطلبات مواطني المكون الشيعي بتطبيق أحكام المذهب الجعفري، وتعتبر التعديل ترسيخاً لمبدأ “حرية المعتقد” المنصوص عليه في المادة (41) من الدستور، التي تمنح العائلات العراقية حق اختيار المرجعية الدينية التي تحكم شؤونها الشخصية، والمادة (2) من الدستور بعدم جواز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام بحسب بيان البرلمان.  

يضعنا هذا في جدلية الحفاظ على حقوق ومكتسبات النساء بما يتلاءم مع المعايير الدولية من جهة وما بين الحرية الشخصية في اختيار القوانين التي تحكم الفرد. تكمن المفارقة في أن الدولة الحديثة تحتكر السلطة القانونية، ويخضع المواطن لها، ولا يكون له الحق في أن يختار قوانين تلائم كل فرد، ولكن هذا المفهوم تعارضه التياراتُ الدينية والمحافظة الساعية لتبنّي نهج مختلف يتنازل عن مسألة القوانين لصالح الطوائف، مثل ما كان عليه “نظام الملل” في العهد العثماني، الذي كان يُطبق على المواطنين العثمانيين من غير المسلمين، بينما جعلت القوانين المدنية الجديدة – شبه العلمانية – المسلمين يطالبون بتطبيق “نظام ملّي إسلامي”.  

في لبنان، الذي يسير العراق على خطاه في أشياء كثيرة، بما في ذلك هذا التفتت القضائي، اعترف المفوض السامي الفرنسي رسمياً بالطائفة الشيعية باعتبارها “طائفة دينية مستقلة” في كانون الثاني 1926، وبذلك سُمح لها بالحكم في مسائل الأحوال الشخصية “وفقًا لمبادئ المذهب الجعفري”، وكان ذلك بمثابة اعتراف قانوني به كمذهب رسمي، بعد أن كان أفرادها مجبرين على التحاكم أمام محاكم سُنية المذهب. وخاض البلد صراعاً للسماح بالزواج المدني، وكانت الزيجات المختلطة تُعقد في قبرص على سبيل المثال نظراً لتعذّر الأمر وفق القوانين اللبنانية.  

ونظراً لمعارضة المكون السُني للتعديل، لن يسري هذا التعديل على العراقيين السُنة. وسيكون أمام النواب وخبراء الفقه الإسلامي والقانون، بالتعاون مع مجلس الدولة العراقي، أربعة أشهر لتقديم مدوّنة الأحكام الشرعية للمذهبين السُني والشيعي، على أن يجري التصويت عليها في ما بعد. ومن الممكن أن يشكّل هذا جدلاً جديداً مع اختلاف المرجعيات الشيعية في العراق، واختلاف المذاهب الفقهية السُنية أيضاً في حال تقديم مسودة أحوال شخصية سُنية، وهذا ما قد يخلق حالة من الفوضى القانونية.  

عارضت قوى سُنية ونسوية وعلمانية التعديلَ بشدة، معتبرين أنه يهدد الوحدة القانونية والقضائية للبلاد، ويفتح الباب أمام مزيد من التفتت الطائفي. كما حذرت منظمات حقوقية دولية مثل “هيومن رايتس ووتش” في آب الماضي، و”منظمة العفو الدولية” من تداعيات التعديل على حقوق النساء والفتيات، مشيرة إلى أنه قد يشرعن زواج القاصرات، ويحرم أو يقوّض حق المرأة في النفقة والحضانة والميراث، ويعرّض النساء لخطر العنف الجنسي والجسدي وعواقب وخيمة على الصحة البدنية والنفسية والحرمان من التعليم والعمل.  

يُثير التعديل مخاوف من تعزيز الطائفية في القضاء العراقي، إذ سيفرض على المواطنين الالتزام بأحكام دينية تختلف من طائفة إلى أخرى، ما قد يؤدي إلى تضارب الأحكام وتراجع حقوق المرأة وتراجع نسبة الزواج المختلط بين المذاهب. ورغم تأكيد القوى الداعمة أن التعديل نابع من احترام حرية المعتقد وأنه لن يُفرض على من يرفض التحاكم له، لاسيما وأن القانون القديم سيبقى سارياً للراغبين في التحاكم له، يرى المعارضون أنه يهدد مكتسبات المرأة العراقية التي تحققت منذ عام 1959. 

وفي محاولة لنفي إمكانية تشريع زواج القاصرات، أكّد النائب المستقل محمد عبد الأمير عنوز من محافظة النجف لوكالة “فرانس برس”، أن النص الذي أُقرّ الثلاثاء يحتفظ بأحكام القانون السابق بتحديد سنّ الزواج القانونية عند 18 عاماً أو 15 عاماً بموافقة الولي الشرعي والقاضي. 

ثانياً: قانون العفو العام: ترحيب سُني، رفض أيزيدي، إحراج شيعي  

أثار القانون المُعدل للعفو العام لسنة 2016 في العراق، والمقدم من اللجان القانونية ولجان الأمن والدفاع وحقوق الإنسان، والمدعوم من القوى السُنية، جدلاً آخر لعدة أسباب؛ أبرزها التوازن بين تحقيق العدالة وضمان عدم الإفراج عن مرتكبي الجرائم الخطيرة والإرهابية، وبين الإنصاف لمن تعرضوا لأحكام ظالمة أو كيدية. فيما ترى بعض القوى السُنية الداعمة له بأنه لا يحقّق مساعيها في شمول كافة السجناء.  

استُثني من العفو المدانون بجرائم إرهابية أفضت إلى القتل، أو العاهات المستديمة، أو تدمير مؤسسات الدولة، أو محاربة القوات المسلحة. كما استُثني أيضاً مرتكبو جرائم الاغتصاب، وسفاح القربى، والاتجار بالبشر، والخطف، والتطبيع مع إسرائيل. 

يرى البعض أن القانون يمثل إعادة للنظر في الأحكام، إذ يتيح إعادة محاكمة المدانين الذين صدرت أحكامهم بناءً على اعترافات انتُزعت تحت التعذيب أو وشاية من “مخبر سري”، بما في ذلك المئات ممّن حُكم عليهم بالإعدام. لكن المعارضين له يذكرون بأن العفو سوف يشمل المدانين باختلاس الأموال العامة بشرط تسديد المبالغ المختلسة. ومع ذلك، فرض التعديل قيوداً على من هم بدرجة مدير عام فما فوق، بمنعهم من ممارسة العمل السياسي أو الترشح للانتخابات. وبحسب النائب رعد الدهلكي، يُتوقع أن يشمل العفو نحو 60 في المئة من مجموع 67 ألف سجين. 

رحبت الأطراف السُنية بالقانون كونه جزءاً من الاتفاق السياسي الذي شُكلت بموجبه الحكومة في آب 2014 وكلّ الحكومات التي أعقبتها وصولاً لحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، معتبرةً إياه خطوة لإنصاف المظلومين. في المقابل، أثار القانون حفيظة الإيزيديين، الذين رأوا فيه ظلماً لضحايا الإرهاب والانتهاكات التي تعرضوا لها، وطالبوا بتدخل أممي لحمايتهم، كما تواجه بعض القوى الشيعية إحراجاً أمام ناخبيها واتهامات “بالتساهل مع الإرهابيين الملطخة أياديهم بدماء الشيعة”، فيما صرّح النائب حبيب الحلاّوي، رئيس كتلة الصادقون (الجناح السياسي لفصيل عصائب أهل الحق)، في لقاء متلفز بأن العفو العام سيفضي لإطلاق سراح الشيعة، ولن يُفضي لإطلاق سراح أي سجين سُني، بل سيعيدهم للقضاء.   

كما أن هناك اعتراضات أوسع من تسهيل إطلاق سراح المتهمين المدانين بجرائم الشرف وسرقة المال العام، ولاسيما المتورطين في “سرقة القرن“، بعد نصوص فضفاضة بخصوص تسوية المتعلقات المالية في قضاياهم. ويُنتقد القانون أيضاً باعتباره استجابة لضغوط سياسية أكثر منه إصلاحاً قانونياً شاملاً. 

ثالثاً: قانون إعادة العقارات: سجال بين أكراد وعرب كركوك  

يهدف هذا القانون إلى إعادة الأراضي والعقارات التي استُملكت بقرارات صادرة عن مجلس قيادة الثورة المنحل إلى أصحابها الأصليين، ما يُرضي القوى الكردية الساعية لتعويض المتضررين في مناطقها، خاصة المتضررين من قوانين الإصلاح الزراعي والتوسع الحضري والعمراني قبل عام 1979. 

أثار القانون غضب المجلس العربي في كركوك، الذي اعتبر القانون تهديداً لاستقرار المحافظة والتعايش المجتمعي، وأشار إلى أن القانون يسلب حوالي 116,856 دونماً في كركوك من آلاف العوائل العربية ويمنحها لفئة معينة تدّعي التضرر-المقصود الكُرد-، رغم أن البعض تم تعويضهم سابقاً أو رفضت دعاواهم قانونياً، وأنه قد يتسبب في تهجير نصف مليون مواطن. واعتبر المجلس أن هذه الأراضي ملك للدولة العراقية وفق دستور البلاد، وأن قرارات الاستملاك السابقة كانت لتنفيذ قوانين الإصلاح الزراعي رقم 117 لسنة 1970، والذي وصفه المجلس بأنه “قانون مهم ومؤثر في حياة طبقة الفلاحين”. 

ووسط تحذيرات من تداعيات هذا القرار على حقوق العرب في كركوك، أكد نائب رئيس البرلمان، شاخوان عبد الله، أن القانون يسهم في تعزيز السلم الأهلي وعودة الحقوق لأصحابها، فيما أشار رئيس البرلمان، محمود المشهداني، إلى أن القانون تم بالتعاون مع مختلف الكتل والمكونات. 

تمرير القوانين وفق توازنات سياسية وتحركات للرفض 

لم يكن تمرير تعديل قانون الأحوال الشخصية بمعزل عن القانونين الآخرين المثيرين للجدل، فقد اتفقت القوى السياسية على تمرير قانون العفو العام، الذي دعمته القوى السنية، وقانون إعادة العقارات، الذي سَعَت القوى الكردية لإقراره. يشير هذا التفاهم إلى وجود صفقات سياسية تحت شعار “صوّت لي، أصوتُ لك”، تضمن لكل طرف تحقيق مكاسب، ولو على حساب استقرار المجتمع العراقي، بل إن التصويت في “سلّة واحدة” تحايل لمنع غدر أحد الأطراف بالآخر، ممّا يعكس حالة من غياب الثقة بين المتوافقين حتى.  

مع ذلك، أعلن النواب المعترضون التوجه إلى المحكمة الاتحادية للطعن في شرعية الجلسة وما صدر عنها، فيما بدأ نواب غاضبون حملة لجمع التواقيع لإقالة رئيس البرلمان محمود المشهداني، وجمعوا أكثر من 50 توقيعاً احتجاجاً على إدارة الجلسة وآلية تمرير القوانين. كما عقد تحالف الدفاع عن قانون الأحوال الشخصية النافذ 188 مؤتمراً صحفياًً في بغداد للتعبير عن رفضه لتعديل قانون الأحوال، مؤكدين اتصالهم بجهات دولية معنية بحقوق الإنسان للضغط على صناع القرار في العراق. 

وصف بعض النواب الجلسة بـ”الفوضوية” وأنها شهدت تمرير ثلاثة قوانين جدلية بطريقة “السلة الواحدة”، مما يعتبر مخالفة صريحة للدستور والقانون، فضلاً عن إضافة مواد جديدة للقوانين دون عرضها للقراءة الأولى أو الثانية، وأكدت النائب عالية نصيف أن التصويت بهذه الطريقة يعد “باطلاً”، وأنه تم “بيع قانون على حساب قانون آخر”، مما يهدد الأمن القومي. فيما وصفت النائب نور نافع الجلسة بـ”المهزلة”، وأشارت إلى أن قوانين مثل الأحوال الشخصية والعفو العام مُرّرت دون رفع النواب أيديهم للتصويت. 

يُذكر أن بعض النواب وأعضاء هيئة الرئاسة غادروا الجلسة بسبب هذه المخالفات، فيما أظهرت مقاطع فيديو متداولة على منصات التواصل الاجتماعي طريقة تمرير القوانين وعدم تصويت النواب عليها بشكل صحيح، مما عزز الشكوك بنزاهة الجلسة. 

تغييب الرأي العام الضاغط وتراجع الأصوات المدنية 

بعد إحباط قرار مجلس الحكم لإلغاء قانون الأحوال الشخصية من قبل الحاكم الأميركي “بريمر” في عام 2004، وضغوطات شعبية ودولية لوقف إقرار القانون الجعفري في عامي 2013 و2017، يساهم غياب القوانين التي تحمي الحريات المدنية وتراجع حماسة المواطنين في المشاركة السياسية، بتلاشي الرأي العام الضاغط وتراجع الأصوات المدنية في العراق اليوم. 

ففي أعقاب قمع تظاهرات عام 2019، ساهم غياب آليات قانونية واضحة لتنظيم الاحتجاجات وحمايتها من القمع إلى إحباط النشاط المدني والسياسي، مما أضعف قدرة المجتمع على الضغط لتحقيق الإصلاحات. وتضاعف ذلك مع غياب قوانين تدعم حرية الإعلام المستقل، الأمر الذي جعل الأصوات المناهضة للفساد والهيمنة السياسية تتراجع لتصبح أقل تأثيراً على الساحة. 

وفي ظل التوافقات السياسية، يبدو أن هناك تهميشاً وتتفيهاً لدور البرلمان وتقييداً لسلطة القانون، إذ لا تعزز القوانين والتفاهمات الحالية استقلالية البرلمان، بل تشي بتفريغه من دوره الحقيقي كممثل للشعب، مما أدى إلى تحوله إلى مؤسسة صورية تخضع لنفوذ شخصيات سياسية محددة. وتبقى القرارات المصيرية، مثل السياسة الخارجية والتشريعات المفصلية، بيد قلة من القادة بعيداً عن الرقابة الشعبية أو البرلمانية، ويجري كل شيء وفق توافقات وراء الكواليس. في المقابل، أضحى رئيس الوزراء مقيداً بتفاهمات تركز على إدارة الأمور الخدمية فقط، مما يعمّق الفجوة بين السلطات التشريعية والتنفيذية ويكرّس هيمنة نخبة سياسية محدّدة. 

الحريات والمرأة في العراق  

وفقًا لتقرير Freedom in the World 2024، صُنّف العراق كبلد “غير حر”، حيث حصل على درجة إجمالية 30/100، مع 16/40 في الحقوق السياسية و14/60 في الحريات المدنية. وفي مجال حرية التعبير، صُنّف العراق ضمن الفئة الثامنة (من أصل عشر فئات) في حرية التعبير، بحسب “مؤشر” طوّره خبراء في Index on Censorship وخبراء في التعلم الآلي والصحافة في جامعة ليفربول جون موريس (LJMU)، مما يعني أنه “مقيّد بشكل كبير”، في فئة تضم ليبيا وأفغانستان وزيمبابوي. 

ويُعزى ذلك إلى استمرار السلطات في قمع الاحتجاجات وتجاهل الانتهاكات الجسيمة من قِبل قوات الأمن أو القوى المسلحة الموازية، وفرض قوانين جديدة أُعِدَت لتقييد حرية التعبير بشكل أكبر، بما في ذلك قوانين تجرّم أفراد مجتمع الميم في أيار 2024، فضلاً عن استمرار غياب المحاسبة لأفراد الأجهزة الأمنية الذين ارتكبوا انتهاكات أثناء قمع احتجاجات 2019، وبلوغ نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية في 2023 بحدود 41 بالمئة فقط من الناخبين المسجّلين، مما يعكس غياب الثقة في العملية السياسية. 

وفي مؤشرات المساواة الصادرة عن التقرير السنوي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق 2020، يحتل العراق المرتبة 146 من أصل 162 في مؤشر عدم المساواة بين الجنسين لعام 2019. وبينما بلغت نسبة النساء في البرلمان 29.2 بالمئة، لكنها لا تزال أقل من الطموح لتحقيق تمثيل أكبر، كما أتمّت 39.5 بالمئة من النساء البالغات تعليمهن الثانوي، مقارنة بـ56.5 بالمئة من الرجال. وبلغت مشاركة النساء في سوق العمل 11.6 بالمئة فقط مقارنة بـ74.2 بالمئة للرجال. 

وذكر التقرير استمرار ضعف حماية النساء والفتيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك في إقليم كردستان. وأفاد التقرير بأن 27.9 في المئة من النساء تزوجن قبل سن 18، وبلغ معدل الولادات بين المراهقات 71.7 لكل 1,000 امرأة، مما يعكس استمرار مشكلة الزواج المبكر، وقد يزداد الوضع سوءاً في حال سريان القوانين المذهبية الجديدة.  

يُظهر واقع الحريات والمساواة في العراق تحديات كبيرة مع تدهور الحقوق السياسية والمدنية واستمرار الفجوات الكبيرة بين الجنسين. رغم وجود تقدّم في مشاركة النساء السياسية، إلا أن العراق يحتاج إلى إصلاحات جذرية لضمان حماية الحقوق الأساسية وتحقيق تقدم في المساواة بين الجنسين، وهذا ما تنفيه التوجهات التشريعية الأخيرة. وساهم غياب قوانين قوية تدعم حرية التعبير، ودعم الصحافة المستقلة في تراجع مكانة العراق في التصنيفات العالمية، وفي ظل هذه المكانة المتدنية التي يحتلها العراق في تصنيفات الحريات، ومرور العراق والمنطقة والعالم بتغيّرات بالغة الحساسية، يذهب صانع القرار العراقي لتشريع قوانين جدلية ترسخ في جوهرها وطريقة إقرارها الانقسام وتساهم بالتراجع. 

الأبعاد الإقليمية والدولية وانعكاساتها القانونية 

تأتي هذه القوانين في ظل وضع إقليمي ودولي حرج، ووسط ضغوط متزايدة على العراق بشأن العلاقة مع إيران ومطالب أمريكية بحلّ الفصائل المسلحة الشيعية، لاسيما بعد مهاجمتها قواعد تتواجد فيها قوات التحالف في العراق واشتراكهم في مهاجمة إسرائيل في أعقاب هجمات 7 تشرين الأول 2023.  

بينما تشهد المنطقة تغييرات هائلة تتمثّل في توسّع نفوذ إسرائيل، وتعاظم الدور التركي في شمال العراق وسوريا، وانحسار دور إيران بعد السقوط الدرامي لنظام بشار الأسد في كانون الأول 2024، وخسارة جزء كبير من قوة حزب الله وحركة حماس، قد تكون هذه القوانين المذهبية سبيلاً جديداً لمهاجمة العراق وشيطنته ووصمه بـ”الرجعية”. 

مع ذلك، تشهد فكرة الدولة الحديثة والنظام العالمي الراهن تحديات واضحة، وهناك مؤشرات كثيرة لقبول التغيرات، لاسيما مع انكفاء الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب على نفسها وعدم رغبتها في التدخل كثيرا في العالم. ومن أمثلة ذلك سماحها لطالبان في فرض حكم ديني متشدد في أفغانستان، ومؤشرات قبول سلطة الأمر الواقع في سوريا، بل وتصريح إلدار عليوتدينوف، نائب رئيس مجلس العلماء في الإدارة الروحية للمسلمين في روسيا، أعلى سلطة إسلامية في روسيا، بإصدار فتوى تجيز للرجل الزواج بأكثر من امرأة في حالات معينة، ممّا يعني تراجعاً عن فكرة الوحدة القانونية للبلاد وفق مفهوم الدولة الحديثة.  

يتصرف صانع القرار العراقي وكأنه خارج الزمن، بل هو كذلك، حيث يتجاهل المرحلة الحساسة التي تمرّ على البلاد والمنطقة والعالم، في وقت يتطلب الحال مراجعة كبيرة للقوانين القائمة ودفعها للأمام على سلم المعاصرة، لا التراجع بها، وتستوجب اللحظة العالمية والإقليمية تحسّسَ الخيارات وفحص ما يمكن التنازل عنه لصالح الدولة والمؤسسات والمصلحة الوطنية.

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28430}" data-page="1" data-max-pages="1">