تحليل: زيارة مظلوم كوباني إلى أربيل: قراءة تحليلية في الأهداف والتداعيات

زيارة مظلوم كوباني إلى أربيل: قراءة تحليلية في الأهداف والتداعيات

عن موقع “جريدة”

تأتي زيارة السيد مظلوم عبدي (المعروف إعلاميًا باسم مظلوم كوباني) إلى أربيل في إطار مساعٍ تهدف إلى رأب الصدع الكردي، تحديدًا عبر وساطة مباشرة من الرئيس مسعود بارزاني و التي يبدو انها جاءت بطلب تركي و بمباركة امريكية. ويُرجَّح أن الغاية الرئيسة من هذه الوساطة هي إقناع عبدي، بوصفه قائدًا لقوّات سوريا الديمقراطية (قسد)، باتخاذ خطواتٍ عمليةٍ لتهدئة مخاوف أنقرة، وخصوصًا فيما يتعلق بفصل ارتباط قسد عن حزب العمّال الكردستاني. ويحظى هذا التوجه بقبول الحزب الديمقراطي الكردستاني والقيادة البارزانية، بالنظر إلى وجود ملفاتٍ تاريخيةٍ عالقة وصراعات ممتدة منذ ثمانينيات القرن الماضي بين الديمقراطي وحزب العمّال. إلى جانب ذلك، تمارس الولايات المتحدة ضغوطًا واضحةً لدفع قسد إلى الابتعاد عن حزب العمّال الكردستاني، في محاولةٍ لطمأنة تركيا ومنعها من إيجاد ذرائعٍ جديدةٍ للتدخل بصورةٍ أوسع في الشأن السوري. وفي الوقت نفسه، تبقى الأهداف الأمريكية غير واضحة بشكلٍ كامل، لا سيّما وأنّ قدوم إدارة الرئيس دونالد ترامب—المعروفة بتشدّدها ضد الإسلام السياسي—ربما انعكس على مواقف واشنطن تجاه حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بزعامة رجب طيب أردوغان، ما يزيد المشهد تعقيدًا في ظل استمرار التوتّرات المتقاطعة في المنطقة.العوامل الإقليمية والدولية المؤثرة

الدور التركي:

لا يخفى على أيّ متابعٍ أنّ مخاوف أنقرة من أيّ كيانٍ كرديٍّ مستقل أو شبه مستقل عند حدودها هي هاجسٌ قديم. ومع ذلك، تبدو تركيا اليوم أكثر واقعية في قراءتها للمشهد؛ إذ أدركت أنّ انتظار مجيء الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مجددًا لن يصبّ بالضرورة في صالحها، وربّما يزيد الوضع تعقيدًا. لذلك، تسارع أنقرة إلى محاولة تأمين ما يمكن تأمينه قبل أي تغيير محتمل في الإدارة الأمريكية، خاصةً وأنّها باتت على قناعة باستمرار وجود قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بشكلٍ أو بآخر، بعيدًا عن سيطرة دمشق وحلفائها من الفصائل السورية.

وعليه، تسعى أنقرة، تحت مبدأ تقليل الخسائر، إلى دفع قسد نحو مشروعٍ كردي–سوري داخلي، لا يستند بصورةٍ أساسيةٍ إلى الأجندة الكردية–التركية. بكلماتٍ أخرى، ترغب تركيا في التأثير على هيكلية قسد وتوجهاتها المستقبلية، وجعلها أكثر قبولًا من منظورها، سواء عبر الانفصال الواضح عن حزب العمّال الكردستاني أو تقديم ضماناتٍ أمنيةٍ طويلة الأمد. كما تأمل في إقامة علاقاتٍ اقتصاديةٍ مع مناطق الشمال السوري، مستلهمةً نموذج إقليم كردستان العراق، بحيث تستفيد الشركات والاستثمارات التركية من تلك المناطق، وفي الوقت نفسه تحافظ على مستوى من الاستقرار الحدودي. ومن هذا المنطلق، يبدو أنّ أنقرة قد فضّلت أسلوب الاحتواء والتكيّف على خيار التصعيد العسكري المفتوح، الذي قد يفقدها أوراق ضغطٍ مهمة ويزيد من حالة عدم الاستقرار الإقليمي.

الموقف الأمريكي:

تسعى واشنطن للإبقاء على حليف محلي فعّال في سوريا، يُمثّله حاليًا قسد، وفي الوقت عينه لا تريد خسارة تركيا بوصفها حليفًا إقليميًا مهمًا وعضوًا في الناتو. هذا التوازن الدقيق بين الطرفين يدفع الولايات المتحدة إلى حثّ قسد على اتّخاذ خطوات تُطمئن أنقرة، مع الحفاظ على قدر من الاستقلالية الكردية في الشمال السوري. كما تبدو واشنطن حريصة على منع أي قوّة إقليمية—وفي مقدّمتها تركيا وإيران—من الهيمنة الكاملة على الملف السوري.

الأطراف الغربية والإسرائيلية:

تتقاطع مواقف فرنسا وإسرائيل إلى حدّ كبير مع التوجّهات الأمريكية في ما يخص مستقبل سوريا؛ إذ يرى الجميع أنّ النموذج اللاّمركزي يضمن الحدّ من عودة سلطة مركزية قوية قد تتحالف مع جهات لا تتوافق مع مصالحهم الاستراتيجية. وفي هذا السياق، تُعَدّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شريكًا فعّالًا يمكن الاعتماد عليه لضمان توازن عسكري وسياسي في المنطقة؛ فهو يقطع الطريق على تكرار سيناريو التحالف الإيراني–السوري، ويتيح في الوقت ذاته إمكانية بناء نفوذ متعدّد الأطراف، بدل حصر السيطرة بجهة واحدة.

من منظور هذه الأطراف، تشكّل قسد عاملًا مهمًا في الحدّ من نفوذ خصومها الإقليميين، كما تفتح الباب أمام إنشاء شراكاتٍ أمنيةٍ واقتصاديةٍ واستخباراتيةٍ تلبي مصالح عدّة أطراف دولية. وعلى الرغم من تعقيد المشهد السوري، يظلّ الرهان على اللاّمركزية وعلاقات التحالف مع قسد خيارًا من شأنه إبقاء الأوراق الإقليمية متوزّعة، بدل تكريس نظامٍ مركزيٍ جديد قد يعرقل خطط الدول الغربية وإسرائيل على المدى الطويل.

دوافع الزيارة وانعكاساتها

تقريب وجهات النظر الكردية:

تهدف الزيارة إلى تخفيف التوتر القديم بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من جهة، والمجلس الوطني الكوردي (ENKS) والحزب الديمقراطي الكردستاني من جهةٍ أخرى. ويبرز اندفاع قسد حديثًا لقبول وساطة الرئيس مسعود بارزاني، بعد رفضها السابق، نتيجةً لجملة من العوامل، أبرزها التهديد التركي الذي بدأ يأخذ طابعًا وجوديًا، إضافة إلى التحالف السوري مع أنقرة في بعض الملفات.

علاوةً على ذلك، ثمة ضغوط أمريكية وفرنسية تدفع نحو شرعنة القضية الكردية عبر توحيد الموقف الكردي وإشراك مختلف الأحزاب والتيارات في أي مفاوضاتٍ مستقبلية. ويرى هؤلاء أنّ توجّه الأطراف الكردية بوفدٍ موحّد إلى دمشق، عوضًا عن تفرّقهم في وفود متعدّدة، سيعزّز فرص التأثير على ما يسعى إليه الأمريكيون والفرنسيون، ويصبّ في الوقت ذاته في مصلحة الكرد في إرساء تسوية سياسية أشمل.

طمأنة تركيا:

تسعى قوات سوريا الديمقراطية، وبشتى السبل وبدعمٍ وتنسيقٍ مع واشنطن وباريس، إلى البقاء، وأيضًا إلى إيضاح أنَّ تحرّكاتها العسكرية لا تستهدف أمن تركيا بشكلٍ مباشر، بل تتماشى مع رؤيةٍ إقليميةٍ تهدف إلى إيجاد حلٍّ للأزمة السورية على أسسٍ لا مركزية. ويعكس هذا التوجّه محاولات قسد لتبديد مخاوف أنقرة، وإظهار استعدادها للانخراط في حوارٍ يضمن حفظ المصالح التركية من جهة، وعدم التراجع عن مكاسب قسد السياسية والميدانية من جهة أخرى. فإذا نجحت هذه الخطوات الدبلوماسية، فمن المحتمل أن تُخفَّض حدّة التوتّر على الحدود، وأن تُفتح قنوات حوارٍ أوسع تساهم في استقرار أوسع على المستوى الإقليمي.

تعزيز الدور الكردي الإقليمي:

تمثِّل هذه الزيارة منعطفًا محوريًا في تعزيز الحضور الكردي ضمن مسار الحل السياسي السوري، لا سيّما وأنّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تُعدّ اليوم القوة العسكرية الأبرز على الساحة. ويكمن الجانب الأهم في إمكانية استفادة قسد من الخبرات التفاوضية والدبلوماسية التي اكتسبها الكرد في العراق، وخصوصًا الحزب الديمقراطي الكردستاني، باعتباره تيارًا يملك رصيدًا واسعًا في إدارة العلاقات الإقليمية والدولية.

من جانب آخر، تُعزِّز هذه المبادرة ثقة واشنطن والدول الغربية بقدرة الكرد على توحيد رؤاهم والعمل بمرونة براغماتية تتلاءم مع مصالح القوى الإقليمية والدولية. ومن خلال التنسيق الفعّال بين مختلف التيارات الكردية، يصبح بإمكان الكرد ترسيخ مكانتهم كطرفٍ أساسيٍّ في تشكيل مستقبل سوريا، وتحصيل مكاسب استراتيجية على المستوى المحلي والإقليمي.

في النهاية، يبدو أنّ جميع الأطراف قد اقتنعت بأنّ سوريا لن تعود إلى نموذج الدولة المركزية بشكله القديم، وذلك انسجامًا مع رغبات أطراف دولية مثل إسرائيل، وامتثالًا لالتزامٍ أمريكي وفرنسي أخلاقي تجاه الكرد في سوريا. وفي هذا السياق، يسعى الكرد، وخاصةً قسد، إلى تفادي تكرار السيناريو التاريخي القائل “إنّهم يخسرون في قاعات التفاوض ما حقّقوه ميدانيًّا على أرض المعركة”. من جهتها، تدرك أنقرة أنّها لن تستطيع إلغاء الوجود السياسي الكردي في سوريا، فتتبنّى مقاربةً براغماتية تهدف إلى احتواء الوضع وتقليل خسائرها قدر الإمكان.

وفي خضمّ هذه التفاعلات، تأتي زيارة السيد مظلوم عبدي إلى أربيل لتشكِّل محطّةً مهمّة على طريق ترتيب البيت الكردي ومعالجة الهواجس التركية. إلا أنّ نجاح هذه الوساطة يتوقّف على مدى استعداد قسد لتقديم تنازلاتٍ تتوافق مع المطالب التركية، فضلًا عن حجم الدعم الذي قد توفّره الأطراف الفاعلة وعلى رأسها القيادة البارزانية والولايات المتّحدة لدفع نحو حلٍّ سياسي شامل يأخذ بالاعتبار التنوع العرقي والجغرافي في سوريا.

علي إبراهيم باخ/ باحث أكاديمي من دهوك

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28312}" data-page="1" data-max-pages="1">