

عن المركز الكردي للابحاث
من الصعب تكذيب بنيامين نتانياهو حين يعتلي منصة الحديث ويفاخر بالقول إن إسرائيل تعيد تشكيل الشرق الأوسط على النحو الذي تريد. كذلك من غير المنصف عدم الأخذ في الحسبان أن أزمات هذه المنطقة باتت تحت الإدارة الأميركية، وبدون شركاء من القوى الدولي المنافسة، بعضها على شكل نفوذ سياسي في إدارة الأزمات مثل ترتيبات المرحلة الانتقالية في دمشق، وبعضها بشكل مباشر عسكري كما في جنوب لبنان (لجنة رقابة الهدنة). فيما تستمر الشراكة في شرق الفرات مع قوات سوريا الديمقراطية، وهو تحالف قد يتعمق في امتداداته المستقبلية داخل قوس زاغروس الجبلي الكردستاني فيما تعمل تركيا على قطع هذا المسار المحتمل عبر الدفع بآلاف المسلحين السوريين يومياً إلى سد تشرين في معركة إغلاق باب زاغروس.
إن قدرة إسرائيل في الوقت الحالي على فرض هندسة إقليمية عسكرياً ما زالت تفوق استعدادها لصياغة رؤية استراتيجية متماسكة، إذ حتى الآن ليس هناك أفكار استراتيجية واضحة تواكب نجاحاتها التنفيذية على الأرض، وفق تعبير عاموس يدلين وأفنير غولوف في مقال نشراه بمجلة «فورين أفيرز».
من هنا، فإن على إسرائيل الدفع لقيام إطار سياسي يواكب أو يماشي نجاحاتها في أرض المعركة. وهذ يستدعي قيام تحالف عربي– إسرائيلي مدعوم من الولايات المتحدة. وعلى إسرائيل، وفق الكاتبين، ألا تسعى إلى فرض رؤيتها لنظام إقليمي جديد بمفردها، إذ إنها تحتاج إلى موافقة الولايات المتحدة ودول عربية، إضافة إلى ألمانيا والمملكة المتحدة.
في كل الأحوال، هذا التشكيل الجديد، الإسرائيلي، غير منجز. والأرجح أن يستكمل دونالد ترامب إعادة ترتيب المنطقة على طريقته لا طريقة نتانياهو.
تشير درجة قلق الإسرائيليين من التغيرات في سوريا، رغم دورهم غير الهامشي في تمهيد الإطاحة ببشار الأسد، إلى أن الشرق الأوسط الجديد الذي يتباهون به قد لا يقل خطورة عن القديم في أيديولوجيا «إزالة إسرائيل من الوجود»، حتى لو أجاد أصحاب هذه الأيديولوجيا إخفاء ذلك لسنوات قادمة. فالرجل الحاكم في تل أبيب يتفاخر أنه يعرف ما يمكن تسميته «الخبث العميق» لدى خصومه. وعلى هذا الأساس، لم يقبل نتانياهو يوماً بصدق ياسر عرفات في السلام منذ أن عاد الأخير إلى غزة وحاول تهدئة منتقديه في مجلسه المغلق أن اتفاقيات أوسلو ما هي إلا مثل «صلح الحديبية»، أي مؤقتة ومرحلية وبمثابة هدنة للتمكين والاستعداد (وفق رواية نتانياهو في كتابه «مكان تحت الشمس»).
لقد هدم نتانياهو الشرق الأوسط الذي كان محل نزاع بين ثلاث قوى رئيسية: إسرائيل، إيران وتركيا. لكن الشكل الجديد للمنطقة ما زال مرناً ويحتمل حروباً جديدة طويلة حتى تستقر على صيغة تحالفات أو اشتباكات إقليمية. يدخل في مقدمات هذا الاضطراب النزق المتبادل بين أنقرة وتل أبيب الذي قد يأخذ مساراً تصادمياً داخل سوريا إذا لم يتفق الطرفان على تقسيم مناطق النفوذ بينهما تحت رعاية الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الإقليمية أيضاً في الشرق الأوسط.
في الأيام الأولى من هجوم 7 أكتوبر، عاشت إسرائيل ذعراً لأسابيع وشهور من أن يشن حزب الله وإيران هجوماً صاعقاً بالتزامن مع صواريخ حركة حماس التي كانت تدك المدن الإسرائيلية. لقد عاش نتانياهو كابوس زوال إسرائيل الممكن. وهو شخصية له فهمه الخاص للأعداء وقادتهم المحاربين. تستند مقاربته إلى الحكم على الباطن وليس الظاهر، ولذلك لم يثق يوماً بعرفات. وللسبب ذاته، اتهم إدوارد سعيد بأنه يريد قتله وإبادة شعب إسرائيل حين تقابلا في مناظرة تلفزيونية عام 1985.
ليست الشروط العامة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه إسرائيل وحركة حماس أخيراً بعد عام من المفاوضات مختلفة بشكل جوهري عن الشروط التي كانت متاحة للطرفين قبل ثمانية أشهر. ولكن ما تغيّر هو أن أياً من الطرفين لم يكن يخشى جو بايدن. الأمر مختلف مع ترامب الذي لديه مخططات أخرى ولا يريد الغرق في الشرق الأوسط بالشكل الحالي. لقد أصيب نتانياهو أيضاً بالرعب حين لم يخصص ترامب تعبيره «أبواب الجحيم» لحركة حماس فقط. وعليه، يمكن القول إن «عصر نتانياهو» القصير ربما أوشك على الغروب إذا وجد ترامب أمامه خطة قابلة للتنفيذ.
يقول مايكل أورين، سفير إسرائيل السابق لدى الولايات المتحدة في تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال»:
«إن ستيف ويتكوف، رجل الأعمال العقاري الذي عينه ترامب مبعوثاً للشرق الأوسط، حقق في اجتماع واحد مع نتنياهو ما لم يستطع عشرات المسؤولين في إدارة بايدن تحقيقه».
عيّن ترامب عدداً من أصدقاء إسرائيل منذ فترة طويلة لفريقه الخاص بالشرق الأوسط، وسيحتاج نتانياهو إلى مساعدة ترامب أثناء مواجهته لإيران ومحاولته تعزيز السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية وسعيه لإبرام اتفاق تطبيع مع السعودية.
في النهاية، ستكون معركة 2025 في الشرق الأوسط الملف النووي الإيراني الذي إما أن يدخل في اتفاق أو تسقط القنابل الأميركية– الإسرائيلية على منشآتها وتبعها سهولة سقوط ثقافة أصفهان السياسية في الهضبة الإيرانية. وعليه، سيكون من الاستعجال تصنيف إيران في معسكر المهزومين بناء على سقوط نظام الأسد وهزيمة حلفائه في لبنان وفلسطين. وإذا كان لنتانياهو أن يصف الموقف فربما الأقرب له القول «الأمر لم ينجز بعد».
قضى رئيس الوزراء الإسرائيلي النصف الأول من العام الماضي في صراعات مع خصوم سياسيين ومحاولة الحفاظ على ائتلافه الحاكم، وكان عالقاً في حرب استنزاف مع حركة حماس في غزة ومواجهة تهديدات خطيرة من إيران وحزب الله. ثم انقلبت الموازين، حيث نفذت إسرائيل عملية تفجير أجهزة البيجر ثم اغتيال حسن نصر الله وقادة الحزب. ثم قتلت زعيم «حماس» يحيى السنوار في غزة ووجه ضربة استهدفت إيران دمرت معظم دفاعاتها الجوية. كما انهار نظام الأسد بعد هجوم خاطف وغامض من هيئة تحرير الشام مهدت له، بلا شك، الضربات الإسرائيلية المتلاحقة على القوات الإيرانية في سوريا.
يقول أفنير جولوف، المدير السابق في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي: «للمرة الأولى في تاريخ الصهيونية، هناك فرصة لإسرائيل لتصبح قوة إقليمية». ويدفع المسؤولون الإسرائيليون الحاليون والسابقون باتجاه اتخاذ خطوات عنيفة لبناء تحالف إسرائيلي وأميركي وعربي معتدل.
يعتقد إيتامار رابينوفيتش، السفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة ومستشار العديد من رؤساء الوزراء، أن الصراع الحالي في الشرق الأوسط له أهمية أوسع مع تطوير إيران لعلاقات أوثق مع روسيا، التي بدورها قريبة من الدول التي تتنافس مع الولايات المتحدة وحلفائها. ويقول: «هذا ليس مجرد صراع إقليمي، بل صراع عالمي ضد تحالف روسيا والصين وكوريا الشمالية». لقد «انهار البرج الروسي في البحر المتوسط بسقوط الأسد» بعد استثمار استراتيجي بدا ناجحاً وغير مكلف لروسيا وبمثابة «نسخة مضادة» للنهج الأميركي الخارجي الذي تعوزه المصداقية بعد مشاهد الانسحاب الكارثي في أفغانستان ومحاولة الانسحاب من سوريا في عهد ترامب الأول.
في عام 2015، عندما أرسل بوتين قواته إلى سوريا، كان لديه عدة أهداف في الاعتبار نوجز منها ما فصله المحلل ألكسندر باونوف في «فورين أفيرز»:
1- أراد مساعدة روسيا على الهروب من العزلة الدولية التي تحملتها بعد ضمها لشبه جزيرة القرم في عام 2014 فسعى إلى إعادة روسيا إلى موقف النفوذ في الشرق الأوسط، حيث تضاءل وجودها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
2- أراد ترسيخ روسيا كقوة عالمية قادرة على دعم حلفائها ووقف الجهود الرامية إلى الإطاحة بالحكومات الصديقة.
3- سمح التدخل في سوريا لروسيا بتولي دور حامي المسيحيين في الشرق الأوسط، وهو الدور الذي تخلت عنه القوى الغربية المنحطة في نظر بوتين، وهي مهمة تتناسب تماماً مع رغبة بوتن في تقديم روسيا باعتبارها المعقل الأخير للقيم المسيحية في أوروبا.
في أعقاب الانهيار السريع لنظام الأسد، لم يكن لدى بوتين الكثير ليظهره فيما يتعلق بهذه الأجندة الثلاثية. تواجه روسيا خسارة قواعدها العسكرية في الشرق الأوسط وأظهرت القليل من الاهتمام بالمسيحيين السوريين الذين ادعت حمايتهم بعد إسقاط حكومة الأسد العلمانية من قبل هيئة تحرير الشام. واشتدت عزلة روسيا عن المجتمع الدولي منذ غزو أوكرانيا في عام 2022. كان جوهر تدخل روسيا رسالة إلى البلدان الأصغر حجماً غير المتحالفة بشكل وثيق مع القوى الغربية: تحالفوا معنا، وسنحميكم من المؤامرات المدعومة من الغرب. وامتد تأثير حمايتها للأسد إلى ما هو أبعد من الشرق الأوسط. فقد وجدت بلدان في أفريقيا وآسيا الوسطى أن قدرة موسكو على الدفاع عن نظام حليف من الاضطرابات الداخلية والسقوط أمر مطمئن. كل هذا انهار، ولم يعد سوى التشاؤل هل بقي لبوتين من أجل حماية تعهداته سوى السلاح النووي!
بدءاً من العام 2025، إذا لم يحدث تفاهم أميركي روسي (أو شكل من أشكال الهدنة والتغاضي المؤقت) ستكون المعركة الثانية، بموازاة النووي الإيراني، تصفية النفوذ الروسي خارج البحر المتوسط (أفريقيا بشكل رئيسي) فضلاً عن أوكرانيا، وهي الساحة الكبرى للمواجهة. لذلك، يعكس الاتفاق الاستراتيجي بين روسيا وإيران قبل أيام هذه الاحتمالات الهرمجدونية تجاه البلدين. وبالنسبة لطهران، لا حاجة إلى تحليل واستشراف للمستقبل في ظل ما تعتبره مرويات شيعية اثني عشرية منتشرة هذه الأيام على منصات الدعوة والإعلام «انتصار السفياني» في أرض الشام بمساعدة من إسرائيل وفق خطابها الإعلامي!
يعلق ناداف شتراوكلر، الاستراتيجي السياسي الذي عمل عن كثب مع نتانياهو حول تقلبات الشرق الأوسط: «إذا اعتبرنا الأمر فيلماً سينمائياً، فإننا لم نصل إلى المشهد الأخير بعد!».
المزيد عن تحليل
تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28332}" data-page="1" data-max-pages="1">