تحليل: العراق وإيران.. دروب العلاقة القديمة والجديدة بين البلدين 

العراق وإيران.. دروب العلاقة القديمة والجديدة بين البلدين 

منذُ ما حدث في 2020 قرب المطار من اغتيال لرجل إيران القوي في الشرق الأوسط وطهران لم تستعد المبادرة في ترتيب أوراق علاقاتها مع بغداد.. مقالٌ مطولٌ عن دروب العلاقة بين العراق وإيران قبل سليماني بقرون وبعده بسنوات…

من بين دول كثيرة تمتلك حدوداً مشتركة، يبدو التلاصق العراقي الإيراني مفخخاً بالكثير من الألغام التاريخية والعقائدية، وزاد على هيجان العلاقة المستمر بينهما هيمنة اقتصاد النفط في البلدين خلال القرن الماضي وتلاعب القوى العظمى بمقدراتهما، غير أن نظرة لظروف مرحلة ما قبل ظهور مفهوم الدولة الوطنية في الشرق الأوسط قد تكون كافية لمعرفة السبب والعجب الذي لا يبطل. 

الاحتلالات المتبادلة 

منذ البداية، أو على الأقل البداية التي نعرفها، كانت العلاقة بين هضبة فارس وسهل العراق قائمة على التغالب والاحتلالات المتبادلة شأنهم شأن غالبية الحضارات البشرية، إذ احتل الآشوريون مناطق نفوذ الميديين، الأسلاف الأوائل للإيرانيين من غير الفرس، وبعد ذلك جاء الإخمينيون واحتلوا بلداناً عدة من بينها العراق، انطلاقاً من إيران ودخلوا بابل ليستقروا فيها قرنين من الزمن، وحينما أتى الاسكندر الأكبر المقدوني من البلقان، أصرّ بشكل كبير الدخول إلى بابل، درة العالم القديم، محرراً وطارداً للفرس كما أدعى هو وخلفاؤه ممن استمر حكمهم لقرنين أيضاً، ومع انتهاء حقبة السلوقيين جاء الفرثيون من هضبة فارس واحتلوا العراق لأكثر من ثلاثة قرون ونصف. 

غير أن أهم احتلال للعراق قدم من شرقه حتى ذلك الزمن، كان الاحتلال الساساني الذي دام أربعة قرون مميزة وغنية، حيث حاولت هذه الإمبراطورية فسح المجال أمام القبائل العربية لكي تشكل دولاً على جناحها الغربي أبرزها المناذرة في العراق، ومما يميّز هذا الاحتلال طول مدته وظهور العرب في العراق خلاله كقوة مهيمنة ونهايته الاستثنائية التي عدها الكثير من المؤرخين خاتمة العصور القديمة وبداية الوسطى. 

مع ظهور الإسلام وتوسعه في مراحل دوله الثلاث الأولى (الراشدة، الأموية، العباسية) أصبحت بلاد فارس هامشا في متن التاريخ، سقطت الإمبراطورية الساسانية أمام المسلمين في العراق وإيران وتحوّل الرعية إلى مسلمين على مراحل، في تلك المرحلة بات سكان بلاد فارس خليطاً من الفاتحين (عرب يمانيين وقيسيين مواطنين من الدرجة الأولى) والأصليين (فرس وترك آذريين وكرد مواطنين من الدرجة الثانية)، الأمر الذي سيؤدي لاحقاً، بسبب الصراعات الداخلية، إلى محاولة الفرس المشاركة في صناعة القرار إثر مساهمتهم في الدولة العباسية التي أصبحت عاصمتها في العراق وهو الأمر الذي استمر من عصر السفاح وحتى المأمون، ومن الجدير بالذكر أن هذا العصر تحديداً يعد لدى الكثير من الكتّاب العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وربما يعود ذلك إلى الفرصة المتساوية لجميع القوميات في صناعة القرار إلى حدٍّ ما، مما أكسبها الرضا والتآلف الهش. 

برغم كل الانصهار الذي عاشته هضبة فارس وسهل العراق خلال حقبة الدولة الإسلامية إلا أن التمايز كان ثابتاً بين البيئتين والثقافتين، وبرغم تبعية حكام إيران لوالي العراق في العصر الأموي، لكنهم تمردوا مراراً تجسيداً لتمايزهم، وحتى في العصر العباسي فقد بقي من يحكم إيران تحت مسمى (والي خراسان) عنصراً مهماً لدى الخليفة في بغداد، وحتى مع التسمية المثيرة للمنطقتين (عراق العرب/العراق) و(عراق العجم/ إيران) فإن التمايز واضح ومحسوم، حيث تجد أن الحاكم السلجوقي مثلاً كان يسمى (سلطان العراقيين) لأنه يحكم إيران والعراق معاً. 

يمكن اعتبار الغزو المغولي والدول التي تلته في العراق وإيران الأساس الأولي الذي قامت عليه الدولة الوطنية الحالية في بغداد وطهران، حيث نقض الاجتياح المدمر كل التوازنات التي فرضتها الفتوحات الإسلامية قبل ستة قرون، وسمحت فوضى الغزو المغولي ودوله ومن تبعهم كـ(الإيلخانييين والجلائريين والخراف البيض والسود من التركمان) للسكان الصامدين في بيئتي إيران والعراق أن يكوّنوا هويات جديدة باعتبارهم ناجين من زلزال هولاكو وتيمورلنك وغيرهما. 

كان ظهور الدولة الصفوية في إيران إيذاناً بانتهاء ألف عام من سلطة غير الإيرانيين على إيران، وقاد هذا التحرر السلطنة الناشئة إلى محاولة الاستحواذ على العراق والدخول في صراع مع الدولة العثمانية على ذلك، الأمر الذي تسبب بتعطل ظهور ملامح العراق الجديد حتى قرنين لاحقاً، حيث جاءت تجربة مماليك العراق بقيادة سليمان الكبير لتؤسس شكل العراق الذي نراه اليوم بخصوصياته الجغرافية وحتى المذهبية. 

جندي أمريكي يقف بالقرب من طاق كِسْرى، أشهر المباني التي شيّدها الملوك الساسانيون، ويقع جنوب مدينة بغداد بالقرب من قضاء سلمان باك. المصدر: Advisor travel. 

الدولة الوطنية في “العراقَيْن” 

ظهر كل من العراق وإيران بشكلهما الحديث إلى الوجود في عام واحد، قفز رضا بهلوي إلى السلطة في طهران وبويع فيصل الأول ببغداد عام 1921 وبفارق أشهر، وانتهيتا في هذا العام السلطنة القاجارية المفككة وكذلك حقبة الحكم البريطاني الدموي المباشر للعراق، كان البريطانيون يرتبون المنطقة سياسياً لتواجه المدّ الشيوعي القادم من الاتحاد السوفيتي، لكن إيران لم تعترف بالعراق دولة إلا بعد 8 أعوام، ويعود ذلك إلى الخلافات الحدودية الكبيرة شمالاً حيث التمرّد الكردي بقيادة إسماعيل آغا سمكو وجنوباً حيث إمارة المحمرة غير الخاضعة بقيادة الشيخ خزعل الكعبي من جانب، والموقف الطائفي للحكومات العراقية الأولى من جانب آخر تجاه المرجعيات الشيعية (مثل أبو الحسن الاصفهاني ومحمد مهدي الخالصي ونفيهم إلى إيران بدعوى التبعية بناءً على رفضهما بيعة فيصل الأول). 

في عام 1929 اعترفت إيران بالعراق لكنّها رفضت تسوية الحدود، وبقي الأمر على هذه الحال حتى انقلاب بكر صدقي في العراق عام 1936، حينها تغيّرت الأجواء وتقارب البلدان وقرّرا (إلى جانب تركيا) توقيع أهم معاهدة سارية الآن معاهدة سعد آباد عام 1937، إذ ضمنت تلك المعاهدة السلام لفترة طويلة بين البلدين، بلغت أكثر من 3 عقود. 

في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، كان من المؤمل أن يحوّل حلف بغداد العلاقات العراقية الإيرانية إلى ما هو أفضل، لكن النتيجة كانت عكسية، فقد أدّى انضمام البلدين للحلف بعد عام 1955 إلى انقلاب رافض له في بغداد من جانب وتطوير منقطع النظير للقدرات العسكرية الإيرانية على يد الولايات المتحدة الأمريكية من جانب آخر، الأمر الذي أفرز اصطفافاً جديداً تمثّل بميل العراق إلى السوفيت وإيران نحو الغرب، وهو الأمر الذي سيستمر عقوداً. 

في عام 1969 بادر شاه إيران إلى التصعيد مع العراق، وألغى معاهدة سعد آباد الموقعة عام 1937 بحجة أن العراق كان خاضعاً للانتداب البريطاني وبدأت بواخره تقتحم شط العرب، كما أن رضا بهلوي الابن دعم الحركات الانفصالية الكردية بقيادة مصطفى البارزاني ضد بغداد ليتسبب باستنزاف الجيش العراقي في حرب أهلية مؤلمة، كل هذا الضغط أجبر حكومة البعث في العراق على توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975 كي تتفرغ لتصفية خصومها الداخليين. 

الرئيس الجزائري هواري بومدين يتوسط كل من نائب الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين وشاه إيران محمد رضا بهلوي في الجزائر عام 1975. المصدر: ويكبيديا. 

كانت لدى حزب البعث عقدتان في الحقيقة، الأولى هي اعترافه بالكويت دولة عام 1963 مقابل مبلغ من المال، وهو الأمر الذي حاول تصحيحه (من وجهة نظره) عام 1990، والثانية هي رضوخه للضغط الإيراني وتوقيع اتفاقية الجزائر عام 1975، وهو الأمر الذي حاول صدام حسين إلغاءه عام 1980، لتبدأ الحرب الأطول في القرن الماضي والتي لم تغيّر شيئاً على أرض الواقع في نهايتها بالضبط كما حصل مع غزو الكويت لاحقاً، ليشهد العالم بأكمله أن ما تتم خسارته عبر الدبلوماسية لا يمكن تعويضه بالحرب في هذه المنطقة من الكوكب. 

لقد كانت سنوات ما بعد انهيار الحكم الملكي في العراق عام 1958 وحتى سقوط نظام صدام حسين عام 2003 صعبة على العراقيين والإيرانيين نتيجة لتلاعب الدولتين بكل شيء في ما بينهما، لم تقتصر أدوات الصراع على إلغاء المعاهدات أو إبرامها تحت الضغط، بل تصاعد الحماس من الطرفين لدعم خصومهم المشتركين ضد بعضهما البعض، إذ دعمت طهران محاولة عبد الغني الراوي الانقلابية وسلّحت القوى الكردية والشيعية لعقود، موفرة لها الملجأ بل قاتلت معهم أحياناً، وفي المقابل استقبل العراق كل أشكال المعارضين للحكم في إيران، من تيمور بختيار رئيس السافاك الأسبق، ومحمود بناهيان الزعيم الأذري الانفصالي، مروراً باستقبال روح الله الخميني في العراق لأكثر من عقد قبل ثورته الإسلامية على الشاه، وصولا إلى استقبال واحتضان منظمة مجاهدي خلق اليسارية المعارضة لطهران. 

المنزل الذي سكنه الخميني في النجف، وقد تحوّل إلى مزار ومتحف بعد عام 2003 – المصدر: قناة العالم. 

لكن بعد خروج العراق من غزو الكويت مثخناً بالجراح، وارتهان إيران لعقوبات أمريكية وغربية شديدة، جاء عقد التسعينيات ليقرب بين البلدين على وجل وخشية، وبرغم أن إيران الدولة تواصلت مع العراق دبلوماسياً واقتصادياً في فترة الحصار، بل أنها أغلقت ملف الأسرى بين البلدين بحسب الإعلان العراقي الإيراني قبيل حرب عام 2003، حيث استمع العراقيون والإيرانيون إلى الرئيس الأمريكي بوش الابن وهو يضع العراق وإيران في قائمة أعدائه معاً، إلا أن حرس الثورة الحاضن لمجاميع المعارضة الشيعية الإسلامية العراقية، عمل بشكل شبه منفرد بالضد من بقاء النظام العراقي على حاله، وابتداء من دعم انتفاضة الشيعة والكرد عام 1991 لم يتوقف “الحرسيون” عن إقلاق بغداد، حتى أن محاولة اغتيال عدي صدام حسين عام 1995 عزاها جهاز أمن بغداد إلى دعم من حميد تقوي القائد في الحرس، وجاء رد العراق قوياً بدعم منظمة خلق في اغتيالها لعلي صياد شيرازي نائب رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية. 

كان عام 1998 مهماً في التقويم العراقي بشكل كبير، حيث شهد إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي لقانون تحرير العراق والذي من الممكن اعتباره بداية الطريق لتغيير نظام صدام حسين، كما أنه شهد اختيار قاسم سليماني قائداً لفيلق القدس في حرس الثورة خلفا لأحمد وحيدي وهو الإجراء الذي سيساهم في قلب جزء كبير من الموازين في الشرق الاوسط لاحقاً. 

جندي إيراني يرتدي قناع غاز أثناء الحرب بين العراق وإيران في الثمانينات. المصدر: ويكبيديا. 

إيران أم القرى ونظرتها لما “يجاورها” 

تبدو استعادة مركزية الإسلام عبر مشروع “أم القرى” الذي طرحه محمد جواد لاريجاني، أحد المفكرين الإيرانيين الأكثر أهمية في الحياة السياسية هناك، متغلغلة في  طبقات المسؤولين الإيرانيين، وبرغم أنها لا تختلف كثيراً عن نظرية استعادة الخلافة التي تحدث عنها عشرات المفكرين المسلمين (بالإضافة الى الجماعات السياسية والمسلحة مثل حزب التحرير وجماعة البغدادي) خلال قرن من الزمن فإن الجديد فيها ظهورها بعد استقرار النظام السياسي في ايران وليس قبل ذلك، وهذا يشير، في جانب منه، إلى أن مفهوم ولاية الفقيه لم يعد كافياً لريادة الإحياء في العالم الإسلامي وحفظ الأمن القومي لإيران، خصوصاً وأنه قائم على مقولات شيعية بحتة، في حين يتطرق مشروع أم القرى إلى مساحة أوسع من النفوذ يتمثل بقيادة طهران للعالم الإسلامي الممتد من شرق آسيا إلى غرب إفريقيا، ولأن ذلك صعب ويتطلب زمناً طويلاً جداً فإن الضغط على الغرب للتعامل مع طهران وفق هذه الرؤية هو أقصر الطرق لنيل المكانة المرجوة، بالإضافة طبعاً إلى إخضاع المنافسين من الدول المسلمة الكبرى مثل السعودية وتركيا ومصر وباكستان عبر دعم الحركات المناوئة لهذه الأنظمة، لذلك فإن أهداف الأمن القومي الإيراني واضحة عبر استراتيجيات عمل الجمهورية الإسلامية التي تتجسد بالوقوف في المنطقة الرمادية بين الدولة الملتزمة بالنظام العالمي الجديد والمتمردة عليه والدولة النووية وغير النووية في آن واحد، يضاف إلى ذلك أن طبيعة العلاقة مع الصين وروسيا في مواجهة واشنطن والغرب تضع إيران على جبهة المواجهة من أجل تعديل النظام العالمي وتغيير توازناته. 

ولطالما مثّل العراق جزءاً أساسياً من هذه الخارطة النظرية لمشروع أم القرى نظراً لما يمثله من عمق شيعي متجسد في أضرحة الأئمة والمرجعية الدينية الشيعية المؤثرة في النجف، ولأن شيعة العراق، وهم أغلبية السكان فيه، يجدون في هويتهم الصفة الدينية التي يصعب إضعافها، فإن التماهي مع فكرة إحياء أمة اسلامية بقيادة شيعية أمر مستساغ نسبياً، ولا يتم النظر له عند القاعدة الشيعية المتدينة في العراق على أنه استلاب أو تابعية. 

حيث “لا يمكن الفراق” أو  يمكنهإيران وعراق ما بعد 2003 

من البديهي القول: إن إيران لم ترغب ببقاء نظام صدام حسين ولا بقاء القوات الأمريكية التي أسقطته، فكلاهما خصمان لطهران عملا بلا هوادة لتغيير النظام في الجمهورية الإسلامية، لم تكن في يدها غير ورقة المعارضة العراقية الشيعية والعلاقات العميقة مع جزء كبير من القوى الكردية، ولذلك كانت إيران على دراية بما يتم الإعداد له في مؤتمرات المعارضة العراقية تحت الرعاية الأمريكية (نيويورك 1999، لندن 2002) وقد عملت على ضبط إيقاع ترجيح كفة الإسلاميين الشيعة على الليبراليين بقيادة أحمد الجلبي وإياد علاوي بالإضافة إلى التضييق على طموحات الكرد المبالغ بها. 

النقطة الأكثر أهمية في العلاقات الإيرانية العراقية بعد 2003 تتعلق بمستويَيها الأساسيَين، فمن جانب كانت هناك علاقات الدولة بالدولة عبر تبادل البعثات الدبلوماسية والزيارات والانفتاح الاقتصادي والسياحي والذي كان في مجمله طبيعياً (ما عدا ملف العملة الصعبة بعد التشديد في العقوبات الأمريكية على طهران بالإضافة الى خطوط دعم النظام السوري بعد 2011)، ومن جانب آخر كان هناك المستوى الثاني المتمثل بالعلاقات الأبوية بين حرس الثورة الإسلامية ويمثله هنا فيلق القدس بقيادة الجنرال سليماني والأحزاب العراقية كافة من كل الطوائف، إذ أن حصر هذا الملف المهم الذي كان يطفو على السطح في كل الأزمات السياسية والعسكرية والأمنية بيد الجنرال كان عملاً عبقرياً من قبل طهران لتحقيق مصلحتها، حيث اختصر ذلك على الفرقاء العراقيين بل وحتى الخصوم من القوات الأمريكية وغيرها طبيعة التعامل وتبادل الرسائل والدعم والتهادن أو تطوير الصراع، وتبدو ثنائية ايران الدولة وايران الثورة هنا ناجحة لطهران، لكنّ سر النجاح عاد دائماً إلى شخصية قاسم سليماني الاستثنائية والصبورة والقادرة على إنشاء علاقات مع الجميع، ويبدو أن بقية أذرع إيران الفاعلة مثل وزارة الاستخبارات والأمن (الاطلاعات) كانت تتلصص على الملف العراقي بحذر خشية من القرار الإيراني الحاسم بعائدية الملف العراقي إلى الجنرال، وهو الأمر الذي أثبتته وثائق المخابرات الإيرانية التي تسربت عام 2019 عبر صحيفة الانترسبت

ومن الجدير بالذكر أن نجاح تجربة سليماني في العراق بوصفه مبعوثاً فوق العادة، قادت إلى محاولات استنساخ فاشلة من قبل خصومه، حيث بعثت واشنطن بريت ماكغورك وعيّنت الرياض ثامر السبهان وكلاهما اصطدما بعدم القدرة على اختراق التوليفة التي أسسها سليماني لتداول السلطة بين الفرقاء العراقيين برغم ما مارساه. 

في ما يخص الطبقة السياسية العراقية الناشئة بعد 2003 من معارضين سابقين لصدام وآخرين فإن موقفهم من العلاقة مع إيران كان دائماً متعلقاً بحجم التدخل السياسي لطهران في القضايا الداخلية الآنية، حيث أثبتت الوقائع، وما خرج الى العلن، أن الشيعة والكرد وغالبية السنة لم يرفضوا التدخل التكتيكي الإيراني في العراق لحماية أمنها، وجلُّ ما كانوا يأملونه أن تسمح طهران بتحولات داخلية نابعة من تغيّر توازنات القوى المرحلي. 

 لكنّ طهران كانت تؤكد دائماً على أن اختيار المناصب الثلاثة (رئيس الوزراء، رئيس الجمهورية، رئيس مجلس النواب) بالإضافة الى طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة والسعودية في المقام الأول هي أمور لا يسعها التحفظ عن ابداء الرأي فيها، وبرغم تدخل مرجعية السيد علي السيستاني في هذه المقاربة مراراً لموازنة الثقل الايراني إلّا أن استراتيجيات وثقل الجنرال سليماني كانا دائماً حاسمين في هذه المواقف لمصلحة الأمن الاستراتيجي الايراني حتى مع صعود نجم مقتدى الصدر سياسياً على حساب خصومه، ويمكن القول إن نوري المالكي في ولايته الأولى كان خياراً أمريكيا مقبولاً من إيران، لتنعكس الصورة في ولايته الثانية ويصبح خياراً إيرانياً مقبولاً من واشنطن، التبادل في الأدوار الذي سيتكرر في تنصيب العبادي المدعوم أمريكيا ومقبول إيرانياً وعبد المهدي المدعوم إيرانياً ومقبول أمريكيا، لكنّ اغتيال الجنرال سليماني أعاد هذه المعادلة الى الوراء كثيراً، ولم يستطع خليفته إسماعيل قاآني أو تمدّد الأذرع الإيرانية الأخرى كـوزارة المخابرات (الاطلاعات) من استعادة الثقل حتى هذه اللحظة. 

محمد باقر الحكيم الزعيم السابق للمجلس الاعلى الإسلامي وهادي العامري زعيم منظمة بدر، عندما كانا في المعارضة العراقية وتستضيفهما إيران. المصدر: وكالة تسنيم. 

وعلى الرغم مما أحيط به من كلام، فإن التدخل الإيراني لم يكن سلبياً في لحظة 2014 المفصلية وما أعقبها إثر استفتاء إقليم كردستان 2017، حيث استطاع العراق، بدعم إيراني مسكوت عنه من قبل واشنطن-بالإضافة لدعم الولايات المتحدة والتحالف- الانتصار على الجماعات الإرهابية التي هددت بغداد على مدى 15 عاماً، كما أن هذا التدخل كان حاسماً في محاصرة طموحات مسعود بارزاني للانفصال وتجزئة العراق، والتسبب بما تراه أربع دول مهمة في المنطقة على أنه كارثة. 

النسغ الإيراني في جذوع الطبقة السياسية العراقية 

باعتبارهم معارضة لصدام ومن سبقه ممن حكموا العراق، تعود العلاقة الإيرانية بالأحزاب السياسية العراقية التي قبضت على السلطة بعد 2003 إلى عقود سابقة، خلال ذلك الزمن استطاعت طهران أن توفر لهذه المعارضة الملاذ والدعم، وحينما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط احتواء هذه المعارضة بعد عام 1992 لم تنجح جهودها بشكل كبير، الأمر الذي دفعها لإنتاج أحزاب جديدة وقوات قتالية جديدة يمكنها أن تثق بها بشكل أكيد بعيداً عن الاختراق الإيراني، لكنْ مثّل الحزب الديمقراطي الكردستاني حالة خاصة في هذا السياق، إذ أن مسعود بارزاني خرج عن التفاهمات مع إيران كثيراً برغم العلاقة القديمة المتجددة، على العكس من الاتحاد الوطني الكردستاني في مرحلة جلال طالباني وما بعده، حيث حافظت أسرة طالباني ممثلة بابنه بافل على هذه التفاهمات رغم ضغوط واشنطن وأنقرة، وتمثّلت حالات التمرد البارزانية في عصيان بغداد التي يحكمها الشيعة ومحاولة الانفصال أو تحجيم الاتحاد الوطني خصمه التاريخي، يضاف الى ذلك العلاقات المتنامية مع واشنطن وأنقرة وحتى إسرائيل

أما في ما يتعلق بالأحزاب السنية فإن التفاهمات كانت حاضرة في الصفقات السياسية الكبرى، وغابت هذه التفاهمات مع طهران في أوقات كثيرة كان العنف سيد المشهد فيها، والسبب وراء ذلك ارتكان هذه الأحزاب الى رعاة مثل الولايات المتحدة ودول خليجية يضاف لهم تركيا، الذين لم يسمحوا لطهران بالاستحواذ على القرار السني في العراق، لكن التغييرات العنيفة استطاعت انتاج أحزاب سنية تملك تفاهمات مع إيران وحلفائها الشيعة في العراق تجسدوا بالقوى ذات الامتداد المحلي دوماً والتي يغلب عليها الطابع الزبائني العشائري والذين تبلورت تكويناتهم مع الوجود الأمريكي وعند ابتعاد واشنطن شعروا بالضعف وقرروا عدم تضييع مكتسباتهم باللجوء إلى الجنرال سليماني، وكان لبعض هذه القوى نصيب كبير في الاستحقاقات الكبرى عند كل انتخابات، مما جعل الرعاة الأتراك والقطريين والسعوديين والإماراتيين يتدخلون في كل مرة لحماية حلفائهم وحقوقهم الانتخابية. 

بالنسبة للقوى السياسية الشيعية فإن مستويات تمثيلهم السياسي وسعة جمهورهم ألقت بظلالها على العلاقة مع طهران، حيث كان سليماني يتعامل مع كل هذه الأطراف بحسب قدراتها وثقلها، وحتى لو كان بعضها نافراً ويحاول الاستحواذ على قمة السياسة الشيعية في العراق مثل التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر، فإن إيران وجنرالها، الذي لا يمكن التحدّث مع إيران إلا من خلاله، وجدوا دائماً طرقاً لتثبيته ووضعه داخل البيت الشيعي، وجرى دائماً الاستعانة بحزب الله اللبناني وزعيمه السابق حسن نصرالله للتدخل في أشد الحالات صعوبة وسخونة من طرف الصدر أو خصومه. 

على جانب منفرد كانت المرجعية الدينية الشيعية بزعامة السيستاني تمتلك قراراً خاصاً وغير مرتبط بتفاهمات قاسم سليماني الداخلية، لكنّهما لم يتصادما يوما لأسباب اعتبرها الكثيرون حكمة من الطرفين اللذين يعرفان قوة بعضهما البعض وخطورة اختلافهما أو خروج تلك الخلافات إلى العلن، يضاف إلى ذلك إيمان مرجعية السيستاني بأهمية اطمئنان طهران وقائدها خامنئي إلى أمن إيران القومي وعدم تهديد النظام الإسلامي على الجانب الآخر من الحدود. 

سليماني وعدد من زعماء الفصائل العراقية في الفلوجة في أيلول عام 2016، تحضيراً لاستعادة المدينة من تنظيم “داعش”،  المصدر: حركة النجباء. 

عبر الحدود العراقية الإيرانية.. اقتصادان واتجاه واحد 

حافظت إيران طيلة ما يقارب العقدين من عمر الدولة العراقية الجديدة بعد 2003 على موقعها المتقدم في الصادرات إلى بلاد الرافدين، صحيح أنها لم تتجاوز المركز الثالث إلى الثاني (الأول الصين والثاني تركيا) لكنّ ذلك لا يقلل من تأثيرها الكبير نظراً لطبيعة ما تصدره وأهميته، وبالمقابل لا يمكن اعتبار صادرات العراق إلى إيران شيئاً مهماً من الناحية الاقتصادية، فهو قليل جداً ولا يتجاوز الـ200 مليون دولار سنوياً في حين تتراوح قيمة صادرات إيران الى العراق بين 8 إلى 10 مليارات دولار. 

يستورد العراق في عزّ فصل الصيف 70 مليون متر مكعب من الغاز الإيراني في اليوم لتغذية محطات توليد الكهرباء في البلاد، ويولّد نحو 5000 ميغاواط من الكهرباء بهذه الإمدادات، ويعني هذا التدفق، إلى جانب عمليات الشراء المباشرة للكهرباء من إيران التي تتجاوز الـ 1000 ميغاواط، أن طهران تلبي حوالي 40 في المائة من احتياجات العراق من الكهرباء بتكلفة 4 مليارات دولار سنوياً، لكنّ هذه الإمدادات متعسرة في أوقات كثيرة خلال العام الواحد لأسباب تتعلق بالطلب المتزايد على الغاز والكهرباء داخل إيران، يضاف إلى ذلك أن طهران لم تتسلم الكثير من أموالها مقابل هذه الصادرات بسبب العقوبات الأمريكية عليها، وما يزال هناك نحو 12 مليار دولار مستحقة لطهران متراكمة في حساب أحد المصارف الحكومية العراقية وتمنعها العقوبات الأمريكية الصارمة من التحرر. 

حاول العراق إيجاد حلّ لهذه المعضلة المستمرة منذ أكثر من عقد، وأبرز تلك الحلول كانت المقايضة بالنفط الخام، الأمر الذي رفضته واشنطن، كما أن محاولة العراق تنويع مصادر طاقته على مستوى الكهرباء أو الغاز تصطدم بالإشكاليات نفسها، فاتفاق استيراد الغاز من تركمانستان عبر إيران تمت عرقلته أمريكياً بحجة أن جزءاً من الأموال ستذهب الى طهران. أما الربط الشبكي مع دول مجلس التعاون أو تركيا فهو قائم ويجري العمل عليه لكن مستوى التجهيز عبره منخفض عن مستوى الطموح ولا يتجاوز الـ 1000 ميغاواط في حال اكتماله، يضاف إلى ذلك أن فرص انتاج الغاز المصاحب للنفط من جنوبي العراق عبر اتفاق “انيرجي توتال” وغيره بالإضافة إلى استخراج الغاز الحرّ من حقلي المنصورية في ديالى وعكاس في الأنبار يحتاج بالمجمل الى 5 أعوام في حال استمرار الاستقرار السياسي والأمني. 

ليس خفياً أن العراق بحاجة إلى تنمية صادراته لإيران من أجل ضمان طريقة ناجحة وفعّالة وطويلة الأمد وتطوّر التبادل بين البلدين، حيث أن ميل الميزان التجاري لصالح إيران يجعلها متورطة بمأزق العقوبات الذي يكبح التسديد، في حين كان يمكن تقليل هذه الأزمة عبر مقايضة الصادرات ضمن مقاصة بين البلدين يمكن أن تنعش الاقتصادين سوية دون مآخذ غربية. 

حاويات في إيران يتم إرسالها إلى العراق. المصدر: وكالة “إرنا”. 

علاقات بغداد طهران ما بعد سليماني.. (القديم هو الجديد) 

تبدو الحرب الناعمة والخشنة ضد المحافظين في إيران وصقور الشيعة في العراق متدحرجة نحو الأسوأ، وقبل أكثر من عقد استطاعت طهران تثبيت نجاد بولايته الثانية 2009 والمالكي بولايته الثانية 2010 والأسد في سوريا 2011 برغم الاحتجاجات ضدهم جميعاً، لكنها ومنذ اغتيال الجنرال سليماني وصولاً الى هذه اللحظة وما أفرزته من تداعيات الحرب بين اسرائيل وحماس وسقوط الأسد تفقد شيئاً فشيئاً القوة التي كانت تمتلكها في عواصم الشرق الأوسط ومن بينها بغداد. 

 لم يعد حصر الملف العراقي في يد خليفة سليماني الجنرال قاآني واضحاً، وبدأنا نشهد تدخلات من الحكومات الاصلاحية في طهران وأذرعها المتجسدة في وزارة الأمن والاستخبارات (الاطلاعات)، كما أن الضغط الأمريكي في ذروته بالتزامن مع تبادل إيران اللكمات مع إسرائيل على خلفية ما حدث في 7 أكتوبر 2023، غير أن نفوذ طهران في العراق كان يمارس دوراً إيجابياً في ضبط شبكة واسعة من القوى السياسية على ما يبدو، إذ افرز ضعف هذا النفوذ بعد اغتيال الجنرال لجوء القوى السياسية الشيعية العراقية إلى السلاح لحلّ المشكلات فيما بينها كما حدث في أزمة الخضراء عام 2022، الأمر الذي لم نشهده في وقت سابق نظراً لإصرار إيران الدائم على تكتل الشيعة سياسياً بكل قواهم في انتخابات وحيازتهم على استحقاقاتهم في ضوء حجم تكتلهم الذي يعكس اغلبيتهم الاجتماعية، ومن الوارد أن يتكرر مشهد العنف بين الفرقاء العراقيين في كردستان أيضاً وربما في المناطق السنية تبعاً لعدم وجود ضامن إقليمي لاستحقاقات كل مكون سياسياً واجتماعياً. 

خروج 

منذ ما حدث في 2020 قرب مطار بغداد من اغتيال لرجل إيران القوي في الشرق الأوسط وطهران لم تستعد المبادرة في ترتيب أوراق علاقاتها مع العراق، ويبدو أن البلدين ذهبا باتجاه تأجيل كل استحقاقات تسوية الملفات العالقة في الحدود ومتعلقات حرب الخليج الأولى بالإضافة إلى حقول النفط المشتركة في خطوة غير آمنة، إذ كانت العلاقات بين العراق وإيران طيلة 20 عاماً كافية لإنجاز هذه التسوية التي ستقطع الطريق على الصراع بين البلدين. 

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28283}" data-page="1" data-max-pages="1">