تقارير سردية: التجارة المنزلية عبر الأنترنيت .. وسيلة العراقيات للتخلص من البطالة وقيود المجتمع

التجارة المنزلية عبر الأنترنيت .. وسيلة العراقيات للتخلص من البطالة وقيود المجتمع

توسعت التجارة المنزلية عبر الأنترنيت خلال السنوات الأخيرة وباتت طوق نجاة لعشرات آلاف العراقيات من البطالة وقيود المجتمع، كما فتحت أبوابا واسعة أمام تحقيق فتيات في مقتبل العمر لأحلامهن باطلاق مشاريعهن الخاصة في مجالات مختلفة

بعد فقدانها لعملها كموظفة في شركة للسفر والسياحة بمركز مدينة مدينة السماوة، جنوب العراق، جراء جائحة فايروس كورونا والإجراءات العامة التي اتخذت لمواجهتها، لم تجد حنين الرماحي (28 سنة) من محافظة المثنى، خياراً أمامها سوى العمل من المنزل وجني المال من خلال التجارة عبر الأنترنيت.

قامت حنين بشراء منتجات مختلفة تحظى باقبال الفتيات والنساء، من متاجر الجملة، وروجت لها عبر مواقع التواصل الإجتماعي مقابل هامش ربح بسيط، ويوماً بعد يوم راج عملها حتى باتت تعتمد عليه بشكل كامل في تأمين حاجاتها وبعض متطلبات عائلتها.

تقول:”في السنة الأولى، كانت إجراءات الدولة لمواجهة كورونا مرهقة للجميع وعطلت أعمال غالبية المواطنين، وتعين علي استغلال ساعات فتح الطرق للوصول الى المتاجر، والعودة منها وأخذ الطلبات الى شركات التوصيل، كان الأمر مرهقا لكنني كنت متحمسة”.

فقدانها لعملها الأول، كان قد هددها بفقدان استقلالها الاقتصادي وخشيت أن تصبح عالة على والدها الذي تعيش في كنفه، لهذا عملت بجد لإنجاح تجارتها عبر الأنترنيت كما تقول: “وهو على اية حال لايحتاج مني الخروج كثيرا من المنزل”.

وهكذا، ألغت كلياً فكرة العودة الى عملها القديم، محدود الراتب، فلم تكن تتقاضى في شركة السياحة سوى 250 الف دينار شهريا (192 دولار)، وأصبحت تفكر بتوظيف من يساعدها في عملها الجديد الذي تقول بأنه يشهد رواجاً لم تكن تتوقعه، وتتضاعف أرباحها مع تعدد المنتجات التي تسوقها.

حنين، واحدة من بين مئات العراقيات اللواتي أسسن مشاريعهم الخاصة وأدرنها من المنزل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص (فيسبوك وأنستغرام) وهذه المشاريع متعددة، تشمل بيع الملابس ومواد التجميل، واعداد الأطعمة والحلويات، وتجهيز المناسبات الخاصة، والخياطة والتطريز، وصناعة الصابون ورسم الشخصيات والرسم على الملابس والزجاج.

يفعلن ذلك في وقت تشهد فيه البطالة مستويات مرتفعة، تقدرها وزارة التخطيط العراقية بنحو 20%، ويرفعها متخصصون بالشأن الاقتصادي إلى ضعف هذه النسبة، ولاسيما في مناطق وسط وجنوب العراق، وترتفع نسب البطالة أكثر لدى النساء اللواتي يصعب عليهن الحصول على فرص عمل في بيئة محافظة تكبل حركتها وخروجها واختلاطها القيود الاجتماعية.

ويعتقد اقتصاديون، ان الجهات الرسمية تنشر أرقام متحفظة وغير دقيقة تخفف من حجم مشكلتي البطالة والفقر في ظل عدم إجراء ونشر احصاءات دورية، خاصة ان الأرقام المقدمة تقديرية أو تأتي بناءً على مسوحات محدودة.

وجاء العمل من المنزل وبالاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي، كفرصة لآلاف النساء من أجل الانخراط في أعمال جديدة ومتنوعة لا تتطلب الخروج اليومي ولا تؤثر على مهمة رعاية الأطفال والاهتمام بالمنزل، كما انها شجعت فتيات كُثر على الخروج من قوقعة انتظار الوظيفة الحكومية وفتحت أمامهن آفاق جديدة. 

النساء والتجارة الالكترونية (1)

مشاريع صغيرة لكنها مجدية

مع عملها من المنزل، وتحررها من أي التزام يومي مباشر مقيد لحركتها، أقدمت “حنين” على خطوة كانت تحلم بها لسنوات، وهي إكمال دراستها العليا، وبدأت بالفعل بدراسة الماجستير عن بعد في أيلول/سبتمبر2020، وبعد سنتين نالت الشهادة، وسرعان ما استثمرتها، بحصولها على وظيفة في كلية الفراهيدي، وهي جامعة أهلية بالعاصمة بغداد.

ذلك لم يغير خططها في الاستمرار بمشروعها، تقول: “لن أترك مشروعي فأنا أحبه والعمل فيه لا يأخذ الكثير من الوقت مقارنةً بالارباح التي يحققها. حتى بعد انتقالي الى بغداد مازالت أسوق لمنتجات مختلفة”.

الخبير الاقتصادي باسم أنطوان، يشير الى أن المشاريع الألكترونية تساهم في زيادة الناتج الاجمالي المحلي من خلال زج عدد كبير من النساء في أعمال يمكن ممارستها من المنزل، ما يوفر فرص عمل تتناسب مع مسؤوليات المرأة الاجتماعية وتحقق ارباحاً تضمن الاستقلال الاقتصادي لهن، ويوضح:”لولا التجارة الالكترونية لكن جليسات منازلهن بلا عمل ولا مردود اقتصادي”.

فضلاً عن سهولتها يرى أنطوان، أن رواج التجارة الالكترونية يعود الى حاجة النساء للعمل في ظل ارتفاع معدلات البطالة والأزمات الاقتصادية المتعاقبة، ودعم أسرهن، وهذا الأخير هو الأهم”.

وعلاوة على العوامل الاقتصادية، فهنالك ثمة عوامل اجتماعية عدة أدت الى رواج التجارة الالكترونية التي تديرها النساء في السنوات الأخيرة، تحددها الباحثة الاجتماعية أنهار يوسف، بصعوبة تقبل المجتمع في بعض المناطق ولا سيما خارج المدن، لعمل النساء في الشركات والأسواق والمحال التجارية الأهلية، ومع عدم توفر فرص عمل في القطاع العام.

تضيف: “هناك جانب آخر في رواج هذه التجارة يتمثل في المستهلك، حيث تتجه الكثير من النساء الى التبضع الالكتروني بسبب القيود الاجتماعية المفروضة عليهن فليست لديهن حرية الخروج من المنازل حين يرغبن، وبالأخص ربات البيوت اللواتي، وهؤلاء وجدن في التبضع الالكتروني فرصة ليصِلهُن ما يُردن الى منازلهن دونما حاجة لخروجهن”.

يوافقها في الرأي الخبير الاقتصادي جليل اللامي، الذي يرى بأن التجارة الالكترونية هي الخيار الأمثل لعمل الكثير من النساء في المجتمعات المحافظة فمن خلالها تستطيع المرأة “تخطي العقبات التي تعيق عملها في السوق” كما انها تسهل حصول شريحة غير صغيرة من النساء على سلع محددة من خلال طلبها ألكترونيا.

وهو يرى بأن التجارة هذه باتت واحدة من أفضل طرق الربح، وهي منتشرة حول العالم، ليس فقط لأنها لا تُجبِر المتعامل بها للخروج، بل أيضاً لجملة عوامل أخرى “كالمرونة الكبيرة في ساعات الدوام، وتحديد الزبائن المستهدفين، وكثرة منافذ الترويج، وامكانية الوصول الى الشرائح المستهدفة بسهولة”.

وهناك أسباب أخرى يحددها اللامي: “عدم خضوع الأرباح للضرائب في كثير من الأحيان، وانتفاء الحاجة الى استئجار محال ومخازن، وتسديد قيم فواتير الخدمات كالكهرباء والماء والانترنيت، لأنها جميعها متوفرة في المنزل”.

وربات المنازل لسن الزبونات الوحيدات للبائعات عبر الأنترنيت، بل وحتى  السيدات العاملات اللواتي لايجدن الوقت الكافي للتبضع من الأسواق، فغفران عدنان (25سنة) من محافظة بغداد، تواظب على شراء ما تحتاج إليه من مساحيق التجميل ومستلزماتها التي لايمكن إيجادها بسهولة في السوق وبعض الحاجيات الخاصة الأخرى عبر الانترنيت منذ نحو خمس سنوات.

“أفضل شراء ما احتاجه من منصات تديرها سيدات، لأن ما أريده يصلني بترتيب وتنسيق فيه لمسة انثوية، بعض طلباتي تصلني مغلفة وكأنها هدايا.. النساء مبدعات في هذا المجال” تقول بشيء من الزهو.

تضيف غفران:”في المناسبات يمكن الحصول على الحلويات الشرقية بالشكل والتشكيلة التي تريدها، وكذلك الحال مع بعض الأطعمة الجاهزة”.

المتخصص بالتسويق الألكتروني إبراهيم شيرخان، يؤكد على أن التجارة الألكترونية حققت أحلام الكثيرين ممن تمنوا تأسيس متاجرهم الخاصة وكانت لديهم قدرات في مجالات محددة، لا سيما الذين لم يكونوا قادرين على توفير رأس مال تشغيلي:”فبسبب الانتشار الواسع لمنصات التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية أصبحت التجارة بمتناول الجميع”.

ويشير الى ان التجارة الالكترونية وفرت مساحة عمل آمنة للنساء “لأن المشاكل في هذا القطاع قليلة والمخاطر محدودة للغاية، قد لاتتعدى بعض حالات القرصنة، وحلول مواجهتها متوافرة”.

هنالك تطبيقات الكترونية قليلة يستخدمها العراقيون للتسوق، حيث تفضل نسبة كبيرة منهم السلع المعروضة على حسابات التواصل الاجتماعي والتي تسمح لهم بالتواصل المباشر مع الباعة عبر الرسائل النصية، والتفاوض معهم على النوعية والسعر، مع ضمان استلام المادة المشتراة خلال أقل من 48 ساعة.

صناعات منزلية

أفنان السلطاني(25 سنة) من مدينة الحلة مركز محافظة بابل، تخرجت قبل نحو أربع سنوات من كلية التربية قسم اللغة الأنكليزية، ولم تحصل على عمل ثابت يناسبها، قبل ان تقتحم عالم التجارة الألكترونية، تقول:”الحالة الاقتصادية لشخص أكمل دراسته للتو لا تسمح باستئجار محل في منطقة تجارية، كما أني أسكن في ضواحي مدينة الحلة والمجتمع هنا لا يتقبل ادارة النساء للمحال التجارية”.

تخصصها الأكاديمي كان يتيح لها فرص عمل متعددة لكنها فضلت العمل من المنزل، وبعد أشهر من التفكير وجدت ضالتها في مجال تصنيع الصابون واستغلت فترة حظر التجوال اثناء تفشي فايروس كورونا عام 2020 في تعلم اساليب صنعه من مواد طبيعية.

“بدأتُ من الصفر، مواقع عالمية كانت تقدم الدورات التعليمية مجاناً للتشجيع على البقاء في المنزل، صنعت الصابون وروجت له على مواقع التواصل الاجتماعي”.

منتج أفنان الأول، لاقى إقبالاً تصفه بالمقبول، واستثمرت عائداته المالية في توسيع عملها وتعلم صنع المزيد من المنتجات: “بدأتُ بأقل من 300 دولار ومنتج واحد قبل ثلاث سنوات والآن لدي أكثر من 50 منتجاً وأسست قسماً خاصاً بانتاج العطور وبيعها، يتابعني الآن على مواقع التواصل الاجتماعي ما يقرب من 50 الف شخص”.

نجاح أفنان التسويقي، مكنها من إستئجار منزل قريب من منزلها، وحولته إلى مشغل لتصنيع منتجاتها، ووظفت ثلاث نساء من جيرانها لمساعدتها:”فرص العمل قليلة، خصوصا بالنسبة للنساء غير الحاصلات على شهادات جامعية، وكل ما يتوجب علينا القيام به، تصنيع المادة، وتصويرها بشكل جيد، ونشر اعلان بشأنها في فيسبوك او انستكرام، والاتفاق مع شركة لتوصيل الطلبات الى الزبائن، هذا كل شيء”.

وتدعو أفنان الجهات الحكومية المعنية الى دعم النساء الراغبات بالعمل المستقل، لأنه جزء من القطاع الخاص “فبدلاً من توظيفهن في مؤسسات الدولة وصرف رواتب لهن بلا انتاج حقيقي، ومن بعد ذلك تحمل الخزينة العامة رواتب تقاعدية وغير ذلك، يمكن مساعدتهن في تعلم حرف معينة لصنع منتجات يكون بوسعهن بيعها عبر الانترنيت ومنحهن قروضاً”.

وتشير إلى أن بحث بسيط في مواقع التواصل يظهر كم الصناعات المنزلية لمختلف المنتجات وحجم تلك التجارة، قبل ان تستدرك: “لكننا نعتمد على التسويق بأنفسنا وبامكانات محدودة لذا ننافس بنحو غير متكافيء، بينما شركات كبرى عالمية تُغرق السوق المحلية بمنتجاتها المستوردة وهذا يمثل تحدي كبير، لذا المنتج المحلي يباع بشق الأنفس، ولولا مواقع التواصل الاجتماعي لماتت صناعتنا”.

تشبك أصابع يديها ببعضها، وتأخذ نفساً عميقاً قبل ان تواصل:”أنا الآن مؤهلة لتوسيع عملي وادارة مصنع وانتاج كميات أكبر بكثير، لكن من أين سآتي بالمال وبالأرض وكيف سأبني المصنع واشتري معداته وأدفع أجور الخدمات المختلفة والضرائب؟” تتساءل بحيرة.

في كانون الأول/ديسمبر 2023 ذكر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، في تصريح صحفي، أن الدولة لا يمكن لها أن توظف جميع الخريجين، في اشارة الى ضرورة تغيير سياسة التوظيف والاعتماد بشكل أكبر على القطاع الخاص، مبيناً أن العراق يمتلك الموارد الطبيعية الكافية لتأسيس صناعة مستدامة ومتطورة.

وحدد قانون الموازنة العامة الاتحادية العراقية للسنوات 2023 و2024 و2025 المنشور في جريدة الوقائع العراقية، وجود 4074697 موظفاً وموظفة في العراق، 658189 منهم في أقليم كردستان.

تعقب أفنان على ذلك:”لا نريد وظائف حكومية، لكننا نحتاج إلى من ينعش الصناعة المحلية ويدعمها، أستطيع توفير فرص عمل لـ 100 شابة من خلال العمل في مجال واحد صغير، لكن من سيدعمني في بناء المصنع وتجهيزه، والأهم من ذلك من سيوقف استيراد المنتجات الأجنبية أو سيفرض عليها رسوم كبيرة لتستمر صناعتنا، أو في الأقل حمايتها نسبياً؟”.

مساحة لممارسة الهوايات

لم تتخلَ فاطمة عامر (27 سنة)من بغداد، عن شغفها بالأزياء، على الرغم  من حصولها على وظيفة حكومية وإكمالها لدراسة لماجستير في الكيمياء، لكن ذلك الشغف لم يتحول الى عمل إلا بعد دخولها عالم التجارة عبر الانترنيت، حيث وجدت هناك الفرصة في ممارسة هوايتها والتي تتركز على اقتناء قطع مميزة من الملابس المستعملة أوربية المنشأ، والتي تدخل الى العراق عن طريق اقليم كردستان.

هذه الملابس التي تعرف في العراق بـ(البالات) تكون فيها التصاميم والألوان والاحجام مختلفة من قطعة لأخرى، وتكون اما مستعملة أو تصفية متاجر خاصة بعلامات تجارية معروفة، تقول فاطمة هذا، وهي  تلبس دمية العرض معطفاً، أكملت كيه قبل ذلك.

وتضيف:”تصلني الملابس من أربيل، فأقوم بفرز القطع المميزة، ثم أغسلها وأكويها وأعرضها على مواقع التواصل الاجتماعي بغرض بيعها”.

وتصف تجربتها مع التجارة الاكترونية بـالممتعة، كونها تتيح لها فرصة ممارسة هوايتها وتحصل من خلالها على وارد مالي، دون أن تكون مطالبة بمؤهلات وخبرات كبيرة، رغم انها كما تقول: “تتعلم كل يوم شيئاً جديداً، وتتعرف على ناس جدد”.

فاطمة التي تعرض من خلال صفحتها على الانستغرام بعض القطع الجديدة التي وصلتها، تضيف وهي تبتسم: “أحب ما أقوم به، فأنا حرة وسيدة نفسي، وباتت لدي أحلام كثيرة صار بالمتناول تحقيقها”.

بالنسبة للموظفة الحكومية فاطمة، ما تقوم به هو شغف وهواية، تمكنت من ممارستها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وبالنسبة لآخريات كثر هو عمل يؤمن استقلالية اقتصادية أو مصدراً لإعالة عوائل كاملة.

أنجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الإستقصائية.

المزيد عن تقارير سردية

تقارير سردية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":28177}" data-page="1" data-max-pages="1">