التحاق والده بصفوف الحشد الشعبي الذي تشكل لمواجهة تنظيم داعش بعد سيطرته على مناطق واسعة غربي العراق في حزيران 2014، أجبر عمار محسن ( 25 سنة) من مدينة السماوة مركز محافظة المثنى جنوب بغداد، إلى ترك مقاعد الدراسة والعمل في ورشة النجارة التي يمتلكها والده.
“كان ذلك في العام 2015 وكنت قد اجتزت للتو مرحلة الرابع اعدادي، وكان علي أن أحل محله في الورشة التي يمتلكها مشاركة مع عمي، والتي سبق ان عملت فيها فترات العطلة الصيفية، فمع ذهابه إلى جبهات القتال توجب علي أن أعوض غيابه المستمر، ومعها توقفت عن الذهاب إلى المدرسة”.
ومع انتهاء “حرب التحرير” ضد داعش في تموز/يوليو 2017 لم يجد عمار فرصة للعودة الى دراسته، فوالده كان قد تلقى رصاصة في ذراعه الأيسر:”أصيب قبل أسابيع من انتهاء الحرب، وبعد فترة اتضح بأنه لم يعد قادراً على تحريكها، وكان لزاماً علي مواصلة العمل في الورشة”.
لعمار ثلاثة أشقاء، اثنان منهم في المرحلة المتوسطة وواحد في الإعدادية، ويجد نفسه مسؤولاً عنهم جميعا بوصفه الشقيق الأكبر:”أريد أن يحصلوا على شهادات جامعية”، يصمت برهة ثم يتابع ويقول بأسف:”حلمي الذي لم أستطع تحقيقه لنفسي”.
عمار، واحدٌ من بين عشرات آلاف المتسربين من المدارس في محافظة المثنى. أجبرتهم الظروف الأقتصادية الصعبة وطبيعة المحافظة الاجتماعية القبلية، وضعف البنية التحتية التعليمية وأسباب أخرى، على التخلي عن مواصلة التعليم أو عدم الالتحاق به أصلاً في ظل إجراءات وحلول حكومية يصفها مختصون بالخجولة، مطالبين باتخاذ جملة إصلاحات بعضها قانونية لضمان تلقي الأطفال التعليم الأساسي في المحافظة الأكثر فقراً على مستوى العراق.
احصائيات رسمية
وفقاً لإحصائيات وزارة التخطيط للموسم الدراسية 2015-2016 كانت في محافظة المثنى (520) مدرسة ابتدائية، يدرس فيها ( 154,660) طالباً وطالبة، يقوم على تعليمهم كادر يضم (7,862 )معلماً ومعلمة. أما في العام الدراسي 2023-2024 فقد بلغت أعداد التلاميذ في المدارس الابتدائية ( 123,865) موزعين على (572) مدرسة، ويُدرس فيها (10,306) معلماً ومعلمة، وفق احصاءات وزارة التربية.
هذا يظهر ان أعداد الطلاب المتواجدين على مقاعد الدراسة الابتدائية تراجعت بأكثر من 30 الف طالب، رغم زيادة عدد المدارس والكوادر التعليمية هناك وعدد السكان، في مؤشر غريب وصادم.
وبموجب الإحصائيات، نجد أن أعداد التلاميذ المقبولين في الصف الأول للمرحلة الابتدائية في العام الدراسي 2015-2016، كانت قد بلغت ( 30,011 ) تلميذاً، أما في العام الدراسي 2023-2024 فبلغ العدد ( 31,918 ) بزيادة لم تتجاوز الالفين تلميذ، في حين ازداد عدد السكان ممن هم في سن السادسة بما يقرب من أربعة آلاف طفل، وهذا يعني وجود حالات عدم التحاق تعادل نصف الزيادة السكانية تقريباً.
وتشير احصائيات وزارة التخطيط، إلى أن المقبولين في المدارس المتوسطة والاعدادية في محافظة المثنى للموسم الدراسي 2015-2016، بلغوا (24086)، بينما بلغ عدد السكان ممن هم في عمر الـ 13 والـ 16 عاماً وهي سنين القبول في المراحل المتوسطة والاعدادية، ما مجموعهم (38678) طالب. وهذا التباين الكبير بين الرقمين يعكس الى حد بعيد حجم التسرب وعدم الإلتحاق بالدارسة.
أما في 2019 فقد بلغ عدد المقبولين في الثانوية (24613 )، بينما بلغ عدد السكان ممن هم في عمر الـ 13 والـ 16 عاماً وهي سنين القبول في المراحل المتوسطة والاعدادية ( 42947).
أي أنه خلال أربع سنوات، لم تتجاوز الزيادة في عدد المقبولين في المراحل الثانوية سوى بـ( 527 ) طالباً بينما ازدادت النسبة السكانية في فئتي 13 و16 عاماً، ما يقارب الـ4300 نسمة، ما يظهر عدم التحاق نحو 57% من الطلبة بمراحل ما بعد الابتدائية.
وبالعودة إلى احصائيات وزارة التخطيط، فأن أعداد المدارس المتوسطة والاعدادية والثانوية خلال موسم 2015 و2016، كانت ( 156 )مدرسة، ودرس فيها ( 71,922 ) طالباً وطالبة، وحاضر فيها ( 2,773) مدرساً ومدرّسة.
في حين ارتفعت اعداد الطلاب في الموسم الدراسي 2023 -2024، لتبلغ (109629 ) موزعين على ( 255 ) مدرسة وبكادر تعليمي يبلغ (5629 ) مدرس ومدرّسة.
الأرقام تظهر وجود ارتفاع كبير في أعداد الطلاب في تلك المراحل الدراسية، لكن ذلك يرتبط وفقاً لمتخصصين بارتفاع أعداد السكان، وعودة جزء من المنقطعين عن الدراسة خلال فترة الحرب مع تنظيم داعش، دون ان تكون دليلا على معالجة مشكلة التسرب من المدارس. مع ملاحظة وجود فارق غير صغير بين أعداد الطلاب في مراحل الدراسة الابتدائية (ست سنوات) وأعداد الطلاب في مراحل الدراسة المتوسطة والاعدادية (ست سنوات).
وحصل ارتفاع في اعداد الأبنية المدرسية بعد اعادة تنفيذ مشاريع حكومية كانت متعطلة منذ سنوات منها ما ارتبط بالعقد الصيني المتمثل بانشاء مئات المدارس الجديدة في عموم البلاد. كما ان الرقم يضم المدارس الأهلية التي انشأت في السنوات الأخيرة والبالغة أعدادها (78) مدرسة في المراحل المختلفة للإبتدائية والمتوسطة والثانوية والاعدادية.
ورغم ارتفاع عدد المدارس، يؤكد مشرف تروبوي فضل عدم ايراد اسمه، ان البنية التحتية المدرسية في المثنى مازالت تشكو من عجز، كون المحافظة مترامية الأطراف والغالبية الساحقة من السكان يعيشون خارج مدينة السماوة، في بلدات وقرى متناثرة محدودة السكان، ما يعني الحاجة الى مدرسة في كل قرية.
ويشير المشرف التربوي، ان المثنى محافظة ذات طابع قبلي وفي الغالب تُمنع الفتيات من التعليم في المراحل المتقدمة، وهذا يحد من مشوار الذكور أيضاً.
الفقر والواقع الاقتصادي
تؤكد احصائيات وزارة التخطيط، وتصريحات مسؤولين في الحكومتين المركزية والمحلية بأن محافظة المثنى تعد الأفقر على مستوى العراق، إذ يقع ما يقارب الـ50% من سكانها تحت مستوى خط الفقر في ظل غياب الأنشطة الاقتصادية والمشاريع التنموية، وهو ما ينعكس سلباً على الواقع التعليمي.
مدير التخطيط في محافظة المثنى، قابل حمود، يقول بأن سكان المحافظة لايتجاوزون المليون نسمة، لكن على مستوى المساحة هي ثاني أكبر محافظة بعد الأنبار:”لوجود بادية السماوة التي تشكل 85% من المساحة الكلية التي تصل إلى 250 ألف كيلومتر مربع”، لكن ذلك لم يصبح ميزة يمكن ان يتم استثمارها بل جعلتها تعاني اقتصاديا.
ويرجع حمود ارتفاع نسبة الفقر، الى عدم وجود منشآت صناعية او تجارية مثل البصرة وسواها، ولأن الجهات المعنية لم تعالج “الفجوة في الخدمات المتوفرة، بل هي تقوم بتوزيع الأموال وفق النسب السكانية وليس حاجات السكان”، كما ان المثنى بسبب مساحتها الكبيرة فهي تحتاج الى إمكانيات كبيرة “وكان الأجدر إنصافها وأخذ معايير المحرومية والفقر والاحتياج والنقص في الخدمات بنظر الاعتبار”، يقول محتجاً.
حسين علي (36سنة)عامل نظافة بأجر يومي في بلدية السماوة، والدٌ لأربعة أطفال ثلاثُة منهم (ولدان وبنت) بعمر المدرسة، لكنه وبسبب ضعف الحالة الاقتصادية اضطر الى تشغيل الولدين (9 و 10 سنوات) في بيع المناديل الورقية وعبوات المياه المعدنية واكياس النايلون في سوق السماوة وذلك بعد أن أتما عامهما الدراسي الأول.
يقول وهو يشير الى ثوب العمل الأزرق الذي يرتديه:”بهذه لن أجلب أكثر من 10 آلاف دينار يومياً الى عائلتي، أمي تسكن معي وهي مسنة وتحتاج الى العديد من زيارات الطبيب والأدوية، كما اننا نسكن بمنزل مستأجر فكيف يمكن لـ 300 الف دينار أن تغطي كل ذلك!”. ثم يضيف مستدركاً:”هذا إذا واصلت العمل ثلاثين يوماً في الشهر”.
يأخذ نفساً عميقاً ثم يتابع وهو ينظر الى أطفال يحملون حقائبهم المدرسية في الجهة المقابلة للشارع:”لم اقدر على توفير مستلزمات ولدي المدرسية لذا ارسلتهما الى العمل وهما بذلك يوفران لي بعض المال الذي يعيننا في تكاليف المعيشة، أما البنت فلم أرسلها الى المدرسة بالأساس واعتقد أن هذا سيكون مصير الولد الصغير أيضاً”.
يعد الباحث الاقتصادي جليل اللامي، التسرب المدرسي من “أعقد المشاكل التي تعاني منها محافظات العراق بنحو عام والمثنى بنحو خاص، بسبب ما تعانيه من وضع اقتصادي مترد”.
ويتابع:”هناك علاقة جدلية تبادلية بين التعليم والتنمية الاقتصادية، إذ تتطلب التنمية الاقتصادية توفير العمالة الماهرة وهذا لا يتحقق إلا من خلال التربية والتعليم، وفي المقابل فإن التعليم يحتاج الى رأس المال اللازم للإنفاق عليه والذي توفره التنمية الاقتصادية“.
ويربط اللامي بين الواقع الاقتصادي في المثنى ومستويات الأمية والتسرب من المدارس مؤكداً على أن أحد أهم مؤشرات مستوى المعيشة والحالة الاجتماعية والثقافية عند الافراد هو التعليم، وما نسب الأمية والتسرب المدرسي في محافظة المثنى الا انعكاسٌ لتردي الواقع الاقتصادي فيها، على حد قوله.
خلال جولات ميدانية أجرتها معدة التحقيق، وجدت بأن الأطفال المتسربين من المدارس، يعملون في العادة إما في البساتين أو الورش الصناعية أو يتحولون إلى باعة جوالين أو متسولين. في حين أن الفتيات يلازمن المنازل أو يتم تزويجهن وهن قاصرات، كما يقول المدرس الثانوي (ع.ح) ويضيف: “سريعا تتشكل عائلات جديدة، ومع التقاليد المتوارثة والجهل وغياب التوعية لا تجد الأمهات الصغار ضراً من تكرار ذات الأمر مع بناتهن وحتى أبنائهن”.
الأعراف القبلية
لم تستطع منى (اسم مستعار) ذات الـ17 ربيعاً من العبور بحقيبتها المدرسية الى مرحلة المتوسطة اذ اكتفى والدها بالسماح لها بالدراسة في المرحلة الابتدائية فقط، تقول بأن في عائلتها والكثير من العائلات في منطقتها (الربايع) التابعة لقضاء المجد في محافظة المثنى:”لا تدخل الفتيات الى المدرسة بالأساس”.
وتضيف:”هذا ما حدث مع أخواتي اللواتي يكبرنني، لكنني كنت الصغرى الأكثر دلالاً ومن المتميزات في الصف، والمدرسة كانت داخل قريتنا لذا لم تكن هنالك حجة لإخراجي من المدرسة، حتى بلغتُ الثانية عشر، ودق ناقوس الزواج !”.
زوجها والدها بقريب له سنة 2019، ولم تكن قد أكملت الثانية عشر من عمرها، متجاهلاً رغبتها بإكمال الدراسة:”ما عدنا بنات يدرسن، هكذا قال لي والدي حين توسلت إليه بأن يتخلى عن فكرة تزويجي، وها أنا ذا أم لطفلين بدل من أن أكون طالبة تتهيأ لدخول الجامعة!”.
يبدو على ملامحها الوجوم وهي تواصل:”لدي ولدان، ربما يكملان دراستهما، لكن لو أرزق ببنت، فلن أستطيع ابداً منع تكرار ماحدث لي معها!”.
منى مثل كثيرات غيرها تعيش في بيئة ريفية يغلب عليها الطابع العشائري المحافظ، وهي السمة الغالبة على محافظة المثنى، وهو يشكل سبباً رئيسياً آخر لعدم إتمام الفتيات دراستهن، إذ أن التقاليد تقضي بتزويجهن وهن بأعمار صغيرة ونادراً ما يسمح للفتاة بمواصلة دراستها.
ترى الباحثة الاجتماعية أماني الحسن، أن:”الطابع العشائري إلى جانب عدم توفر نوعية التعليم الملائم فضلاً عن الفقر المتفشي في المحافظة، أسباب تجعل من المثنى تعاني بشدة في قطاع التعليم”.
كما تعتقد أن ضعف الخدمات التعليمية في المثنى وبالأخص في أقضيتها ونواحيها وأريافها عوامل تسهم في تسرب الأطفال من المدارس:”هنالك قلة في الكوادر التعليمية، وما زالت هنالك مدارس طينية وكرفانية، وهو ما يعكس اهمالاً واضحاً لقطاع التعليم في المحافظة، كما أن الفقر المنتشر يُجبر الأهالي الى دفع أطفالهم للعمل بدلا من الدراسة”.
معدة التحقيق تواصلت مع موظفين في مديرية تربية المثنى، لمعرفة واقع البنية التحتية المدرسية، وعلمت أن هنالك 13 مدرسة كرفانية مازالت مشغولة في عدد من انحاء المحافظة، في حين لم تعد هنالك مدارس مبنية من الطين وفقاً لتأكيداتهم، إذ تم تعويضها بابنية مدرسية خلال السنوات الخمس الأخيرة ضمن الحملة الوطنية لانشاء المدارس.
لذا يعزو المرشد التربوي المنتسب الى مديرية تربية السماوة أحمد الياسمين، السبب الرئيسي للتسرب أو عدم الالتحاق بالمدارس إلى طابع المثنى العشائري، ويقول:”نصف أهالي المثنى تقريبا يعيشون في الأرياف، وهنالك لايعيرون أهمية للتعليم”.
لكن الياسمين يلقي باللائمة أيضا على “الفساد” ويعده مساهما في التسبب بتردي الواقع التعليمي، مشيراً بذلك وبنحو ضمني إلى اسناد المهام الإدارية التربوية إلى كوادر غير كفوءة لإدارة الملف التعليمي.
ويقارن بين الوقت الراهن وعقدي السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم “كان التعليم الزامياً وقتها وكان مديرو المدارس يبلغون الشرطة عن حالات التسرب ويجبرون الأهالي على أرجاع ابنائهم الى المدارس لكن التعليم الآن بلا قانون يُلزمه”.
الناشط في مجال التعليم علي حاكم، ينتقد النظام التعليمي السائد، ويرى أن له دور رئيسي في تسرب الأطفال من المدارس.
ويوضح:”يكمن الخلل في تحول مفهوم المدرسة من حاضنة تستقطب الأطفال بهدف تنميتهم وتطوير قدراتهم الى مكان ينفرهم ويدفعهم للهروب الى سوق العمل، فالطفل بحاجة الى اكتشاف ذاته ومهاراته في مكان يجمعه بأقرانه”.
ويشدد على أهمية تطوير النظام التعليمي وان ذلك لا يرتبط فقط بتوفر الإمكانات المالية، مبينا أن “نظم تعليمية في دول مواردها أقل من موارد العراق نراها أكثر تطوراً من نظامنا”.
الزامية التعليم المعطلة
عند الرجوع الى مجموعة القوانين العراقية، نجد أن هنالك بالفعل قانون للتعليم الالزامي كان قد شرع في عام 1976 بالرقم 118، ونص على الزامية التعليم في المرحلة الابتدائية وعاقب بالحبس أو الغرامة المالية من يتخلف عن تسجيل ابنائه ممن هم في السادسة من العمر.
الحقوقي المتقاعد باسل عبد الغني، يقول بأن قانون التعليم الإلزامي نافذ لغاية الآن ولم يتم الغاؤه، مبينا أن “القوانين لا تلغى او تعدل إلا بنص، لكن ما يحدث هو عدم تطبيق القانون”.
ويذكر بأن القانون هذا يعاقب بالغرامة المالية التي لاتزيد عن 100 دينار، والحبس البسيط بما لايزيد عن شهر واحد “ولي أمر الطفل المتكفل بتربيته إذا خالف أياً من أحكام هذا القانون”.
والقانون ألزم كذلك التربية والمدارس بتقديم موقف عن اعداد المتخلفين عن التسجيل واتخاذ الإجراءات منها:”ابلاغ اولياء الأطفال لحثهم على تسجيلهم وعلى انتظام دوامهم والحيلولة دون تسربهم من المدارس، وإبلاغ الجهات المسؤولة عن مراقبة الدوام، ومديرية التربية المختصة”.
ويلفت الحقوقي المتقاعد إلى أن بداية التسرب من المدارس بوصفها ظاهرة في العراق، كانت بعد غزو الكويت في 1990، وفرض الحصار الأقتصادي على البلاد من 1990 لغاية 2003:”غالبية الشعب العراقي عانى الحرمان من أبسط اساسيات الحياة، وبدأت العائلات باستثمار كل طاقات أفرادها لتأمين المعيشة، كما أن رواتب الموظفين لم تكن تساوي شيئاً كانت تعادل بضعة دولارات، وبذلك فقد التعليم مكانته القديمة وجدواه لدى الناس”.
كما أن الأوضاع السياسية غير المستقرة التي شهدتها البلاد بعد 2003 فضلاً عن التدهور الأمني وتفشي الفساد والضعف الإداري وغياب المسؤولية، كلها عوامل أدت إلى تراجع كبير في القطاع التربوي.
مصدر في مجلس النواب العراقي أكد لمعدة التحقيق، بأنهم يعملون على تقديم مقترح لتعديل قانون التعليم الالزامي:”لتحديثه بما يواكب العصر الحالي، بعد نحو نصف قرن على اقراره، وكانت الظروف العامة في العراق وقتها مختلفة وبنحو كلي عن الزمن الذي نعيشه الآن”.
ويرى المصدر البرلماني، الذي طلب عدم الإشارة إلى أسمه، أن التعديلات يجب أن تشمل قوانين أخرى مرتبطة بحقوق الاطفال، منها ما يتعلق بالعمل، لاسيما الخاصة بعمالة الأطفال”إذ لابد من تشديد العقوبات على المخالفين، وعدم الاكتفاء بفرق تفتيش غير فاعلة تجوب الأسواق بنحو غير منتظم بحثاً عن أطفال يعملون”. ويتساءل:”وجدوا أطفالا يعملون ثم ماذا؟ لا شيء طبعا”.
تداعيات الأزمات
الجهاز المركزي للإحصاء، حدد العام الدراسي 2017 – 2018، كأكثر موسم دراسي حدث فيه تسرب للتلاميذ من الدراسة الابتدائية في المحافظات العراقية، وذلك ربما كان انعكاسا لسنوات من الحرب في البلاد ومع تراجع أسعار النفط، المورد الأساسي للبلاد، الى ما دون الـ50 دولارا.
الجهاز المركزي سجل في إحصائية أصدرها العام 2019، إلى أن أكثر من 131 ألف تلميذاً ممن هم دون سن الـ 15 تسربوا من المدارس الابتدائية حينها، وأن 53%منهم كانوا ذكوراً. وطبعا كانت تلك سنة تسرب كبيرة من المدارس في محافظة المثنى كذلك.
الباحثة الاجتماعية انهار اليوسف، تعتقد أنه من غير الممكن تطبيق إلزامية التعليم في الوقت الراهن، فنحن بحاجة الى تطوير البنى التحتية وبناء آلاف المدارس الجديدة لسد العجز ولمجاراة زيادة معدلات النمو السكاني “إضافة الى تخصيص الأموال الكافية لدعم هذه المدارس”.
وتؤكد أن محافظة المثنى بحاجة إلى بناء ما لايقل “عن 200 مدرسة، لتضم الواحدة منها 300 طالباً، وما لا يقل عن ثلاثة آلاف من الكوادر التعليمية والتدريسية، مع الاستمرار في تدريبهم على طرق التدريس الحديثة ومواصلة تأهيلهم”.
وتؤشر كذلك، الى اعطاء أهمية قصوى لجانب التوعية الاجتماعية وخلق ثقافة موجهة نحو التعليم، لكن ذلك يجب ان يتزامن مع توفير فرص عمل في مختلف القطاعات الانتاجية التي تتطلب كفاءات متعلمة “ليتشجع الطالب على اكمال دراسته، فلماذا يحصل الطالب على شهادة جامعية اذا كان يعلم أنها لن تنفعه في شيء وأنه في النهاية سيذهب الى مساطر العمال للعمل في البناء؟”.
وهذا تحديدا ما يركز عليه، شيخ عشيرة الوهامين في محافظة المثنى، عبد الحسين الوهامي، فهو يرى أن المشكلة تكمن في عدم وجود فرص عمل “تحتاج الى مؤهلات” تشجع الطلبة على اكمال دراستهم، مبينا أن الزامية التعليم تحتاج الى جهود حكومية واجتماعية في ذات الوقت.
ويقول: “الكثير من الناس يتبرعون بقطع أراض لوزارة التربية بغية بناء مدارس تحتوي أطفال قراهم لكنهم لا يحصلون سوى على الوعود”.
ويضيف: “بدأ الناس بالتوجه نحو تفضيل عمل أطفالهم على الدراسة للمساهمة في تحسين مستواهم الاقتصادي فهم يرون خريج الجامعة مثله مثل الأمي بلا فرص عمل حقيقية”.
ويرجع الشيخ الوهامي، فقر المحافظة الى نقص البنى التحتية والخدمات الأساسية إضافة الى التحديات البيئية متمثلة بالتصحر وتراجع الزراعة في مناطق كانت زراعية سابقا، الى جانب غياب خطط التنمية الاقتصادية الحكومية، ما انعكس سلباً على اقتصاد الأسر، والذي أثر بنحو واضح على التعليم.
إجراءات حكومية غير ملبية
وفقا للعديد من المتخصصين الذين تواصلت معدة التحقيق معهم، فأن معالجة تسرب الأطفال من المدارس وعدم توجههم للحصول على شهادات أكاديمية تؤهلهم للحصول على وظائف مناسبة، تتطلب منظومة من المعالجات تشمل جوانب اقتصادية وتعليمية وقانونية.
لكن إجراءات الحكومات المتعاقبة لم ترق إلى ايجاد حلول شاملة للمشكلة وفقاً للإقتصادي آلان ممتاز، إذ يقول بأن “ما تم تخصيصه في الموازنة الثلاثية، لقطاع التربية والتعليم، إن نُفِذت بالكامل، هو 7.71% من مجموع الموازنة، ويتخلف كثيرا عن متوسط التخصيصات في العالم التي تتجاوز 12% حتى في بلدان الشرق الاوسط”.
والموازنة الثلاثية التي تحدث عنها آلان، يقصد بها، قانون الموازنة العراقية للسنوات الثلاث 2023 و 2024 و2025.
ويضيف: “في جداول التعديلات الاخيرة على موازنة 2024 الجزئية، تمت زيادة الانفاق الحكومي عما هو مقر قانونا بنسبة 7%، إلا أن حظ قطاع التربية والتعليم من الزيادة لم تصل حتى الى النصف بالمئة، علما أن النمو السنوي للسكان في العراق يقترب من 2.5%.
بالتالي يحتاج البلد الى زيادة سنوية في الانفاق على التربية والتعليم تناسب هذا النمو، فقط ليتم الحفاظ على المستوى الحالي الذي لا يسر أحداً”، على حد قوله.
الحلول المطلوبة
مدير تربية السماوة رياض الجياشي، يرى أن لمحافظة المثنى خصائص تتطلب إجراءات أكثر فعالية لحل مشاكل التعليم فيها، ويوضح:”صحيح أن المثنى الأقل سكاناً، إلا أنها ذات مساحة كبيرة وهناك اقضية ونواح تبعد عن مركز المحافظة بأكثر من 300 كيلو متر”.
وهذا يفرض مثلا أن يؤدي طلاب البكالوريا امتحاناتهم في مركز المحافظة “بسبب قلة عددهم واستحالة افتتاح مراكز امتحانية لهم في مناطقهم، إضافة الى تباعد القرى والاقضية والنواحي ولا مجال للمدارس المشتركة بينها”.
ويشير إلى أن المنحة الطلابية التي تبلغ بين 40 ألى 60 ألف دينار، ساهمت بحل جزء من المشكلة:”بتوفير المستلزمات الدراسية للطلاب، ولاسيما لمن لايستطيع اهاليهم توفيرها لهم، وبالتالي بقوا على مقاعد الدراسة، كما تم افتتاح مراكز لمحو الأمية لليافعين”.
ومع ذلك، فهو يعتقد بان مشكلة تسرب التلاميذ والطلاب من المدارس تحتاج إلى حلول جذرية اكثر فاعلية، على حد تعبيره، في اشارة ربما الى ما يتطلبه الأمر من تطور بنيوي واجتماعي شامل.
من جانبه يقول رئيس لجنة التربية في مجلس محافظة المثنى حسين عجة، انه وبسبب تفاقم ظاهرة التسرب المدرسي قاموا بمناشدات عديدة، أسهمت في “إطلاق رئيس الوزراء حملة عنوانها-العودة الى التعليم- نقوم فيها بإرسال فرق جوالة الى بيوت المتسربين لإقناعهم بالعودة الى الدراسة”.
وكانت مديرية التربية في محافظة المثنى قد أعلنت في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر2024 عن عودة 8000 طالب الى مقاعد الدراسة نتيجة لحملة العودة الى التعليم.
المتحدث بأسم وزارة التربية كريم السيد، يذكر بأن المثنى، هي من أقل المحافظات في مجال امتلاك الأبنية المدرسية، وأقلها من حيث أعداد الطلاب، ومعالجات وزارته تمثلت بـ”إنهاء ملف المدارس الطينية والدوام الثلاثي العام الماضي”.
واضاف أن الوزارة “اقتربت من انهاء ملف المدارس الكرفانية، والخطوة القادمة تتمثل بانهاء الدوام المزدوج عن طريق الاستفادة من مشاريع تعليمية عدة بضمنها العقد الصيني الذي يتضمن إنجاز 1000 مدرسة في العام 2024 في مختلف انحاء البلاد”.
الإجراءات هذه والوعود الكثيرة التي يقطعها المسؤولون المحليون في المثنى وفي الحكومة المركزية، لم تقنع حسن الزيدي (56 سنة) الذي يملك عربة يبيع عليها الفواكه والخضر في السماوة، عن ابعاد ابنه علي (10 سنوات) عن المدرسة والزج به في العمل اليومي.
يقول:”كنت انتظره ليكبر يوماً بعد يوم ليعينني على دنياي فهو الولد الوحيد بعد اربع بنات ونعيش جميعنا في كرفان على أرض مملوكة للدولة قمت بالتجاوز عليها، فأنا بالكاد احصل على قوت يومي”.
وعن ما اذا كان قراره قد يلحق الضرر بمستقبل أبنه يقول:”يكفي أنه درس عدة سنوات ويعرف الأرقام والأحرف!”، مضيفاً :”ماذا جنى الخريجون .. هم كذلك عاطلون عن العمل”.
أما أمير حيدر (15 سنة) الذي يبيع أكياس النايلون واحيانا علب السكائر جائلا في أسواق السماوة، يقول وهو يضم رزمة من أكياس النايلون زرقاء اللون على خصره:”نحن فقراء، ولا نملك رواتب من الدولة، فكيف ادخل الى المدرسة؟”.
تدور عيناه في محجريهما وهو يفكر، قبل أن يضيف:”أتمنى لو أني اعرف في الأقل القراءة والكتابة، لكنني لم اتعلم سوى حساب النقود لكي لا أتعرض للخداع في السوق”.
ويستدرك:”لستُ وحدي ممن لم يدخلوا المدارس فجميع شقيقاتي الخمس لم يفعلن، ولا أحد فينا يقرأ ويكتب ولولا العادات والتقاليد لنزلن هنّ ايضاً الى العمل.. هن مع أمي في المنزل، وأنا اعمل لأعيلهن”.
يرافق امير في تجواله اليومي عدة أطفال ومراهقين بضمنهم موسى (16 سنة) الذي يبيع عبوات المياه الصغيرة، يقول بأنه لم يجد جدوى في إتمام الدراسة: “كان مستواي الدراسي متدن واكملت الابتدائية بشق الأنفس بعد رسوبي عامين في الصفين الخامس والسادس”. لكنه سعيد بأنه قادر على استخدام الموبايل ويعتبر ذلك أمراً كافياً.
يناول مستطرقاً عبوة ماء فئة نصف لتر ويقبض ثمنها قبل أن يواصل:” لم تعجبني المدرسة يوماً، كانت بعيدة عن بيتنا، والصف كان بلا نوافذ، والكتب عتيقة”، يحك فروة رأسه بأصابعه ويقول مبتسماً:”ماذا لو كنت أكملت المدرسة، هل كنت ساصبح طبيباً؟”، ويشير إلى صديقه أمير:”وهل كان سيصبح مهندساً؟”.
يتوقف عن الابتسام، ويصمت برهة قبل أن يذكر:”العمل افضل لي ولعائلتي التي تحتاج مني توفير المال لشراء الطعام، لا أن أكون في المدرسة!”.
- أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الأستقصائية ضمن منحة “زمالة ميدان”.
المزيد عن تحقيقات استقصائية
تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":27709}" data-page="1" data-max-pages="1">