تحقيقات استقصائية: بعد زوال المخاطر الأمنية في سهل نينوى: صراعات سياسية وإدارية لفرض السيطرة وبسط النفوذ

بعد زوال المخاطر الأمنية في سهل نينوى: صراعات سياسية وإدارية لفرض السيطرة وبسط النفوذ

شريف قاسم (أسم مستعار- 42 سنة) مزارعٌ من الطائفة الكاكئية، يعيش مع أسرته في قرية المجيدية التابعة لقضاء الحمدانية في سهل نينوى، شرق مدينة الموصل (405كم شمال بغداد)، لايستطيع التخلص أبداً من فكرة أن شيئاً جسيماً سيحدث في أي لحظة وأن عليه الإستعداد دوماً للرحيل.

في آب/أغسطس 2014، عندما هاجم تنظيم داعش سهل نينوى هرب هو وأفراد أسرته مع متاع قليلة، واحتاج إلى أشهر عديدة قبل الاستقرار في قرية أخرى ضمت أبناء طائفته على أطراف مدينة أربيل بإقليم كردستان، ثم غادرها في منتصف العام 2017 متوجها الى قريته.

يقول بأنه عاد مع زوجته وأبنائه الخمسة ويزاول كما في السابق عمله في زراعة البطاطا:”لكنني أحتفظ كذلك بمنزلي الآخر الذي عشنا فيه أيام النزوح، لأنني أخشى من حدوث مشاكل أمنية تجبرنا على النزوح مجدداً”.

يروي شريف، كيف أن قوى متعددة تبادلت السيطرة على سهل نينوى خلال ثلاث سنوات:”كانت قوات البيشمركة تسيطر على سهل نينوى، ومع ذلك هاجمنا ارهابيو داعش في آب 2014 وسيطروا على السهل ففقدنا بيوتنا وأملاكنا وعشنا معاناة النزوح، وقبل نهاية 2016 عادت قوات البيشمركة، ثم بعد أشهر انسحبت، لتحل محلها قوات الحشد الشعبي.. هناك تقلبات مستمرة أنا قلق مما قد يحدث لاحقاً”.

كثيرون من سهل نينوى يتفقون مع شريف، فمخاوفمهم لم تنته بتدمير تنظيم داعش بنحو نهائي منتصف 2017 وإغلاق ملف الجماعات المسلحة التكفيرية التي كانت تلاحقهم من مسيحيين وايزيديين وشبك وكاكئية، إذ يعتقدون بأن ذلك لم يحمل لهم الأمل بامكانية بناء حياة جديدة ومستقرة.

كما يجمعون على أن انهاء التهديدات الأمنية غير كافية لوحدها على تحقيق أملهم ذاك، واقناع آلاف الاسر النازحة والمهاجرة بالعودة، وذلك في ظل استمرار الصراع السياسي الاداري الأمني بين أطراف مختلفة للسيطرة على المنطقة المعروفة بخصوبة أراضيها وتنوع سكانها.

فالمنطقة التي تمتد من قضاء تلكيف شمال الموصل، وحتى قضاء الحمدانية شرقها، مازالت تواجه تحديات يفرض بعضها الصراع بين إقليم كردستان (الكرد) والحشد الشعبي (الشيعة)، والصراع الإداري بين مكونات سهل نينوى نفسها، وبينها وبين الادارة المحلية بمدينة الموصل مركز محافظة نينوى.

يقول الباحث والكاتب عادل كمال، أن الصراع قديم ويعود الى ما قبل 2003 إذ يطالب الكرد بضم سهل نينوى إلى إقليم كردستان، وكان يفترض حسم هذا الصراع من خلال الدستور العراقي الذي اقر في العام 2005.

بعد نيسان 2003 أحكمت قوات البيشمركة، سيطرتها المطلقة على منطقة سهل نينوى، بإعتبار أنها مناطق متنازع عليها بين الإقليم والحكومة المركزية، واعتمادا على ما جاء في المادة 140 من الدستور، التي وضعت في الأساس لحل مشكلة محافظة كركوك وما تعرف بالمناطق المتنازع عليها وهي فضلاً عن سهل نينوى، تشمل قضاء سنجار ومناطق في ديالى وصلاح الدين.

نصت تلك المادة على آلية بثلاثِ مراحل أولها التطبيع، بمعالجة التغييرات التي طرأت على التركيبة السكانية في كركوك والمناطق المتنازع عليها خلال فترة حكم النظم العراقي السابق 1968-2003 “الذي انتهج سياسة تعريب مناطق كردية”، والثانية بإجراء الإحصاء السكاني في تلك المناطق، والثالثة، بالاستفتاء لتحديد ما يريده سكانها.

وبرغم كل شيء، بقيت السلطة الكردية قائمة في منطقة سهل نينوى، حتى حزيران/يونيو 2014، عندما انسحبت وبنحو مفاجئ، فضلاً عن كل تشكيلات الجيش العراقي والشرطة المحلية من مدينة الموصل تاركةً ترسانة عسكرية ضخمة وما يقرب من أربعة ملايين نسمة في نينوى تحت سيطرة عناصر تنظيم داعش بمن فيهم سكان السهل.

وعادت قوات البيشمركة إلى السهل بعد تحريره من سيطرة التنظيم أواخر 2016، لكنها لم تمكث سوى سنة واحدة فقط، لتحل محلها قوات الحشد الشعبي الشبكية الشيعية ممثلة باللواء 30، وكتائب بابليون المسيحية التي تضم مقاتلين من الشيعة، يقودها ريان الكلداني، وهو واحد من بين الأربعة الذين كانت وزارة الخزانة الامريكية قد فرضت عليهم العقوبات سنة 2019.

يقول عادل كمال:”تلك الانقلابات في طبيعة القوى التي تسيطر على السهل، لم تغير واقع المكونات هناك، بل مع كل تحول في السلطة الحاكمة كانت هناك هجرات جديدة تسجل، في ظل عدم الاحتكام الى حل دستوري، ومع حقيقة ان أي القوى الحاكمة لم تكن تمثل بشكل حقيقي ارادة أبناء مكونات السهل”.

تضاف الى تلك الصراعات السياسية الأمنية، التي زرعت المخاوف وحالة عدم الاستقرار، صراع اداري بين مكونات السهل من جهة وادارة محافظة نينوى التي تمثلها أكثرية عربية سنية، يتلخص في محاولة توسيع الحدود الادارية لمدينة الموصل شمالا وشرقا بما يفرضه من تجاوز على مناطق المكونات وبالتالي تغيير ديمغرافيتها، وفقاً لمخاوف المعترضين.

بين عهدي البيشمركة والحشد الشعبي

في العشرين سنة الأخيرة، شهدت مناطق سهل نينوى تقلبات وصراعات متعددة، وتغير في الجهات السياسية والأمنية الحاكمة والمسيطرة على بلدات وقرى السهل، وفي ظل تعطل تطبيق المادة الدستورية (140 المعنية بحسم مصيرها) عانت المنطقة من عدم الاستقرار وعاش سكانها في حالة خوف دائم أنعكس ذلك على التركيبة السكانية، رغم الإجراءات التي اتخذت لمنع حصول ذلك.

عضو سابق في مجلس قضاء الموصل، طلب عدم الإشارة إلى اسمه، يقول بأن قوات البيشمركة الكردية إبان سيطرتها على سهل نينوى بين 2003 ولغاية استلام الحشد الشعبي السيطرة فيه، كانت “تفرض إجراءات مشددة تمنع بها أي شخص ولادته من خارج سهل نينوى ويمتلك عقارا هناك، من استغلال أو التصرف به بيعاً وشراءً، منعاً للتغيير الديموغرافي”.

ويشير إلى أن قوات الحشد الشعبي، سواءً اللواء 30 أو كتائب بابليون طبقت هي الأخرى اجراءات مماثلة، ويضرب مثالاً على ذلك:”مجمع زيونة السكني، وزعت أراضيه على منتسبي بلدية الموصل على الحدود الشمالية للمدينة، بواقع 850 قطعة أرض، ومنذ 2018 منحت الدوائر الرسمية موافقاتها لتزويد المجمع بالخدمات، وبلطت الطرق ومدت أسلاك الكهرباء، وبدأ البعض ببناء منازلهم، إلا أن اللواء 30 في الحشد منعهم من مواصلة البناء او استغلال العقارات بل أحيانا منعتهم حتى من الوصول إلى المنطقة”.

خرج مالكو الأراضي في تظاهرات عديدة مناشدين الحكومتين المحلية والمركزية للتدخل، ولا سيما أن المجمع لايدخل ضمن سهل نينوى، وأنه ملاصق لأحياء سكنية شمال الموصل، وأن التوزيع تم بموافقة الجهات الرسمية، إلا أن اللواء 30 بقي مصمماً على موقفه، وبررته قياداته بأنه متوافق مع الدستور وقرار للمحكمة الاتحادية، يمنع احداث تغيير ديموغرافي بالمنطقة.

Image
تظاهرة لمالكي الأراضي السكنية في مجمع زيونة

ولم يغير تدخل الحكومة المحلية في نينوى شيئاً، على الرغم من توجيهها كتباً عديدة إلى القيادات الأمنية بضمنها الحشد الشعبي، لإستثناء مجمع زيونة من حظر البناء، لكونه مجمعا سكنيا رسميا.

Image 1

اللواء 30 ، أنشأ ساتراً ترابياً عزل به سهل نينوى عن مدينة الموصل، وقد لاقى اعتراضات كثيرة من مالكي الأراضي الزراعية والسكنية، مؤكدين بأن الساتر قسم أراضيهم وحرمهم دون ذنب من إستغلالها، وفقاً لما ذكره العديد منهم.

في منطقة جليوخان وقزه فخرة، في سهل نينوى شرق مدينة الموصل كان الكثير من سكان مدينة الموصل قد حصلوا على قطع أراضي سكنية في عهد النظام العراقي السابق، وبعد 2003، منعتهم قوات البيشمركة من استغلالها أو التصرف بها.

ثم جاءت قوات الحشد الشعبي وفعلت الشيء عينه مبررة الأمر بمنع احداث تغيير ديموغرافي، وبنت ساتراً ترابياً عازلاً لمنع أصحاب الأراضي من الوصول إليها، ما أدى إلى خفض كبير في قيمتها.

وبعد تظاهرات ومناشدات عدة لأصحابها، خاطب رئيس حركة بابليون، الحكومة المحلية لرفع الساتر، وقد جوبه طلبه برفض شديد من قبل اللواء 30 للحشد الشعبي الشبكي، عبر عنه النائب السابق عن المكون الشبكي قصي عباس بقوله:

Image 2

أن “اتخاذ قرار برفع الساتر من عدمه منوط بتقديرات الأجهزة الأمنية المعنية من قيادة العمليات المشتركة وقيادة عمليات الحشد الشعبي وقيادة اللواء 30 الماسكة للأرض”.

ودعا الحكومة المحلية واللجان المعنية  “لانصاف مواطني سهل نينوى المظلومين أصحاب الأرض الحقيقيين لكي تتحقق العدالة” وفقاً لقوله.

ثم أكد بأن مناطق وأراضي “أبناء قومية الشبك في سهل نينوى معنية بالمادة الدستورية 23/ثالثا وتفسير المحكمة الاتحادية لها”.

يقول المحامي أحمد يونس فتحي، من محافظة نينوى، ان قرارات المحكمة الاتحادية منعت من احداث “تغيير مباشر” في تركيبة مكونات السهل كما كان يحصل في عهد النظام العراقي السابق.

وذكر بأن قراراً صدر عن المحكمة الاتحادية في 23/7/2013 حمل الرقم(65/اتحادية) وقعه رئيس المحكمة القاضي مدحت المحمود، فسر فيه نص دستوري بهدف طمأنة سكان سهل نينوى ومنع إحداث المزيد من التغيير الديموغرافي، جاء فيه:

“لدى التدقيق والمداولة من المحكمة الاتحادية العليا وجِد أن المادة (23/ثالثاً / ب) من الدستور تنص على حضر التملك لأغراض التغيير السكاني- ويعني ذلك ان الدستور حظر تمليك أو تملك الأشخاص أفرادا أو جماعات للعقارات بكل أجناسها وأنواعها وفي اي مكان من أرجاء العراق سواء كان ذلك على مستوى القرية أو الناحية أو القضاء أو المحافظة وبأي وسيلة من وسائل التمليك أو التملك إذا كان وراء ذلك التمليك أو التملك هدف أو غاية التغيير السكاني وخصوصياته القومية والاثنية أو الدينية أو المذهبية.

رغم ذلك يقول المحامي أحمد، ان سكان السهل يَشكون من حصول “التغيير الديموغرافي” لكن بصورة أخرى، مشيرا الى ان “النص الدستوري وتفسيره بدد جزءاً من المخاوف وليس جميعها”.

ويوضح:”التغيير الديموغرافي الحاصل الآن،  يرتبط بغلبة أقلية تسكن السهل على حساب أخرى”، مشيراً بذلك إلى سطوة الشبك وشرائهم للكثير من العقارات في ناحية برطلة وقضاء الشيخان والحمدانية، قسم منها كانت مملوكة للإيزيديين والمسيحيين.

أثر الصراعات الداخلية

يشير باحثون ونشطاء مدنيون، الى ان التغيير الديمغرافي الحاصل على الأرض جاء مدفوعا بمخاوف السكان الأمنية، ومع تمدد قوى مسلحة لا تمثل بشكل حقيقي أبناء المنطقة، فضلاً عن ما تفرضه غياب الخدمات وفرص العمل، وأيضا وعلى نحو أكبر استمرار الصراعات الداخلية بما فيها داخل المكون المسيحي.

فالمسيحيون الذين تعتمرهم مخاوف من أن تفرغ بلداتهم تماما ويحل محلهم أبناء أقليات أخرى نتيجة تناقص أعدادهم بسبب الهجرة، يعانون من انقسامات داخلية (سياسية ودينية) تؤثر بالنتيجة على استقرارهم في مناطقهم التأريخية وعلى تطلعاتهم في منع احداث تغيير ديمغرافي فيها.

Image 6
كتاب من مطارنة إلى رئيس الوزراء

ويرى مسؤولون سياسيون واداريون، ان جهات مسيحية نافذة باتت تمثل مصدر عدم استقرار، ما يحمل تداعيات سلبية.

يقول مسؤول محلي مسيحي طلب عدم الإشارة إلى أسمه، أن سياسات حركة بابليون المسيحية التي لديها فصيل مسلح يحمل ذات الأسم يفرض سيطرته على مناطق المسيحيين في سهل نينوى، انعكست سلبا على الوجود المسيحي وباتت سبباً اضافياً “لتردد بعض المسيحيين في العودة الى مناطقهم بل وتوجه بعض الموجودين فيه الى الهجرة” على حد زعمه.

ويتهم البعض من مسيحيي السهل “الكلداني” بالدخول في صراعات مع وجهاء مسيحيين لفرض سلطته على سهل نينوى، ومنها تقديمه طلباً إلى الحكومة العراقية لإلغاء لقب البطريرك من الكاردينال لويس روفائيل ساكو رئيس طائفة الكاثوليك الكلدان المسيحية في العراق.

وكان رئيس الجمهورية عبد اللطيف جمال رشيد،  قد أصدر مرسوما جمهورياً في 20 حزيران/يونيو2023، بسحب المرسوم الجمهوري رقم(147)لسنة 2013 والذي عين بموجبه البطريرك لويس روفائيل ساكو بطريرك بابل على الكلدان في العراق والعالم، ومتولياً على اوقافها.

وبرر رئيس الجمهورية خطوة عزل ساكو بأنها جاءت:”لتصحيح وضع دستوري إذ صدر المرسوم رقم (147) لسنة 2013 دون سند دستوري أو قانوني، فضلاً عن مطالبة رؤساء كنائس وطوائف أخرى بإصدار مراسيم جمهورية مماثلة ودون سند دستوري”.

ساكو رفض القرار، متهماً في تصريح متلفز، ريان الكلداني بالوقوف خلفه، في محاولة منه للإستيلاء على الأوقاف والممتلكات المسيحية في سهل نينوى، وقال بأنه لايمثل المسيحيين “ولايعبر هو وأعضاء حركته بسلوكهم وتصرفاتهم” عن المسيحيين.

واستغرب من تدخل ريان الكلداني بالشؤون المسيحية:”هو بالحشد، ليبقى في الحشد”. ثم أوضح:”هو يتدخل ويريد أن يستحوذ على كل ماهو مسيحي، ومقدرات المسيحيين”. وتساءل مستغرباً:”ما دخله بالكنيسة؟ هنالك قانون عراقي يجب أن يفصل في الأمور، فهل هو فوق الدولة؟ إنه يتصرف وكأنه هو الحاكم …”.

هذه الاتهامات رفضها، الكلداني في تصريحات صحافية عديدة، مؤكداً بأن فصيله المسلح وحركته السياسية تعمل من أجل المسيحيين في سهل نينوى.

يعكس الخلاف بين الكلداني وساكو، وجود تحديات داخلية في البيت المسيحي، وصراعاً بين ممثلي الاحزاب المسيحية وبين قادة الكنائس المختلفة. ويثير عدم وجود موقف مسيحي موحد، سياسي أو ديني أو مجتمعي حيال أوضاع المنطقة، تساؤلات عديدة بشأن مصيرها، خاصة مع عدم حسم عائديتها، فهل هي خاضعة للحكومة الاتحادية وتدار من قبل المسيحيين؟ أم هي تابعة لإقليم كردستان ويحدد واقعها المسيحيون الذي يعيشون في الاقليم كونهم يشكلون أغلبية المكون؟.

Image 5
Image 4

الشبك وتوسيع حدود الموصل

على الرغم من التقدم الذي حققه الشبك في فرض أنفسهم كلاعبين اساسيين في ادارة سهل نينوى، بعد 2017، نتيجة امتلاكهم القوة المسلحة الأكثر نفوذاً، خاصة مع هجرة المسيحيين والايزيديين أو نزوحهم نحو اقليم كردستان، الا ان للشبك أيضا مشاكلهم الخاصة.

يقول الكاتب مروان عبد الناصر، ان الشبك السنة، كانت لهم الكلمة الفصل، إبان وجود قوات البيشمركة في سهل نينوى، إذ يرى غالبيتهم أن أصولهم كردية، لذلك كان الكثير منهم منخرطين في الحزبين الكرديين الرئيسيين، الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني.

ويضيف:”بعد انسحاب البيشمركة، فقد الشبك السنة نفوذهم، وبرز نفوذ الشبك الشيعة الذين أحكموا قبضتهم على كامل مفاصل القرار في سهل نينوى، واستأثروا بالمناصب الحكومية والإدارية في حكومة نينوى المحلية ومؤسسات الدولة بالمحافظة بتسهيل من قبل الحشد الشعبي والأحزاب الشيعية التي تسيطر على حكومة المركز”.

وهناك مسألة أخرى تثير مخاوف الشبك، تتمثل بتوسيع الحدود الادارية للموصل باتجاه قراهم، فقد أعلنت محافظة نينوى في مارس/آذار2024 إحالة مشروع تحديث وتوسيع التصميم الأساسي لمدينة الموصل إلى شركة SGI الإيطالية.

المشروع أيقظ مخاوف سكان سهل نينوى عموما والشبك بنحو خاص من امكانية حصول تغيير ديموغرافي في منطقتهم، يهدد وجودهم في مناطقهم التأريخية، وفقاً لقناعة الكثيرين، كون التوسع سينهي خصوصية مناطق الاقليات، خاصة الشبك، مع اقامة عشرات آلاف العوائل العربية فيها.

التوسعة المفترضة كانت ستدخل بنحو 7 كيلو متر في عمق مناطق سهل نينوى وفقاً للمخطط المعلن،  مما يعني ضم مساحة واسعة من السهل بما فيها قرى غالبيتها شبكية إلى مدينة الموصل، فعبر الشبك وحتى المسيحيون عن رفضهم للقرار مستندين على الدستور وقرار المحكمة الاتحادية في 23/7/2013.

لكن لإدارة محافظة نينوى رأي آخر، محافظ نينوى عبد القادر الدخيل، ذكر في مؤتمر صحافي، بأن المشروع استراتيجي وعلى تماس مباشر بحياة مئات الآلاف من المواطنين في الموصل ومحيطها، وقال بأنه سيوفر 160 ألف دونماً ستخصص في مجالات عديدة، أهمها سكنية، إذ أن”هنالك عجزاً في القطاع السكني بالموصل مقداره 350 ألف وحدة سكنية”.

فضلاً عن أن المشروع سيوفر أراضٍ تجارية وصناعية وسياحية وفرص إستثمارية “وبذلك ستتمكن مدينة الموصلً ومحافظة نينوى من الوصول إلى تنمية حقيقية على مدى خمس وعشرين سنة مقبلة وهو عمر تنفيذ المشروع الذي سيتطلب تشغيل عدد كبير جداً من الأيدي العاملة”. نافياً بذلك أن يكون الهدف من المشروع إحداث تغيير ديموغرافي في سهل نينوى، لكن هذا لم يطمئن المعترضين.

معد التحقيق، أجرى مسحاً للمناطق من سهل نينوى التي يفترض دخولها ضمن التصميم الأساسي للموصل في حال طبق المشروع كما هو مخطط له.

أظهر المسح وقوع قرى شبكية في شمالي وشرقي الموصل ضمن التوسيع، وهي قريتا السادة وبعويزة، وكوكجلي وطهراوة وأراض تابعة لبازوايا وعلي رش وقرى أخرى، غير أن مراكز بلدات مسيحية مثل قره قوش وبرطلة وكرمليس أبعد من أن يصلها مشروع التوسعة ومع ذلك عبر سكانها عن قلقهم من توسيع الحدود.

عضو مجلس النواب وقائد اللواء 30 الشبكي في الحشد الشعبي وعد القدو، قال في تصريح صحافي أن المشروع لن ينفذ دون موافقة أبناء سهل نينوى “ذات التركيبة المعقدة التي تضم الشبك والمسيحيين والتركمان والإيزيدية”.

في حين عبر النائب السابق عن الشبك قصي عباس، عن رفضه المطلق للمشروع، وعده مخالفاً للدستور العراقي، وقال “هو سيحدث تغييراً ديموغرافيا، والمحكمة الإتحادية فسرت المادة 23/ثالثاً/ب، بمنع توسيع حدود البلديات نحو المناطق التي فيها أقليات”.

وذكر بأن نحو 15 قرية شبكية محاددة أو ملاصقة لحدود الموصل من الشمال والشرق سيطالها التوسع، في حين أن هنالك مساحات من الأراضي غير مشغولة باتجاه غرب وجنوب الموصل يمكن توجيه التوسيع نحوها، وإنشاء مدن عصرية فيها، على حد تعبيره.

واتهم عضو مجلس محافظة نينوى عن كوتا الشبك، محمد عارف الشبكي، القائمين على المشروع بأنهم يستهدفون مناطق سهل نينوى، وأنه سيشمل مناطق الشبك والمسيحيين والكاكئية والتركمان “قرى ناحية برطلة، والسلامية وتلكيف وبعشيقة” وكلها أراض زراعية خصبة.

مشاريع خطرة

الناشط المسيحي لويس مرقس أيوب،  يقول بأن مشروع توسيع التصميم الأساسي لمدينة الموصل بإتجاه سهل نينوى، ليس أول مشروع يستهدف المنطقة التي كانت ذات يوم تسكنها أغلبية مسيحية. بل انهم تعرضوا إلى ما يصفه بالصهر التدريجي عبر مراحل متعددة خلال العقدين الأخيرين، مشيرا الى تغييرات كبيرة حصلت نتيجة الضغوطات الأمنية والسياسية الى جانب النزوح والهجرة.

بينما يرى الباحث زهير دريد، أن المشروع الأخير هو استكمال لمشاريع أخرى هي في النهاية تؤدي الى احداث تغيير ديموغرافي في مناطق المسيحيين، وذلك من خلال الحاق وحدات إدارية تضم أقليات أخرى بمركز قضاء الحمدانية وناحية برطلة، على حد زعمه.

ويُذكر الباحث، إصدار مجلس قيادة الثورة في النظام العراقي السابق قرارات تم بموجبها الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي العائد ملكيتها للمسيحيين. وأشار إلى أحدها ”قرار1235 في 21/10/1985 والذي قضى بنزع ملكية الاراضي من أصحاب حقوق التصرف بها، إن لم يقوموا بزراعتها لسنتين متواصلتين”.

وقال بأن الأراضي التي انتزعت بموجب تلك القرارات، تم تقطيعها وتوزيعها على العسكريين وأبناء ”العرب والتركمان والشبك والكاكائية” وأن هذا الأمر حدث في قضائي الحمدانية وتلكيف.

السياسي يعقوب ياقو، من الحركة الديمقراطية الآشورية، وصف مشروع توسيع تصميم الموصل بأنه “خنجرٌ مسموم آخر في خاصرة المسيحيين والمكونات الأخرى”. ويعتقد بأنه:”سيأتي على آخر ما تبقى من وجود للمسيحيين وباقي الأقليات في أرض سهل نينوى. “

وقال بأن حركته، ستتصدى مع بقية الأحزاب المسيحية  لما وصفها بالأجندات التي تهدف إلى قلع المسيحيين من جذورهم.

في خطوة عملية لوقف المشروع، أقام الأمين العام لحزب تيار احرار الشبك، احسان علي سليمان، في أيار/ مايو2024 دعوى قضائية أمام المحكمة الاتحادية ضد محافظ نينوى عبد القادر الدخيل، متهما إياه بمحاولة احداث تغيير ديموغرافي في سهل نينوى عبر مشروع توسيع التصميم.

Image 3

ثم عاد  ليعلن سحب دعواه، وقال في مؤتمر صحافي ظهر فيه مع محافظ نينوى أنه أقام الدعوى بضغط من مواطني الشبك وتحت تأثير تقارير إعلامية غير دقيقة بشأن التوسعة باتجاه مناطق الشبك، وانه سحب الدعوى بناءً على وعد من محافظ نينوى بعدم امتداد توسيع حدود الموصل بإتجاه مناطقهم.

وهذا يعني، تراجع محافظة نينوى عن تنفيذ توسيع التصميم الأساسي باتجاه شمال وشرق الموصل حيث سهل نينوى، والاكتفاء بشمول التوسعة لمناطق غربي وجنوبي المدينة فقط.

حلول ومعالجات

الناشط المسيحي لويس مرقوس أيوب، يحدد جملة من الشروط الواجب تنفيذها من أجل وقف هجرة الأقليات من سهل نينوى، منها:” تولي أبناء الأقليات من المنتسبين في صفوف الجيش والشرطة العراقيين الملف الأمني في سهل نينوى وليس قوات الحشد الشعبي أو قوات تتبع أي جهة سياسية”، وفقاً لتعبيره.

ويضيف عليها، منحهم شكلاً إدارياً يتيح لهم أن يكونوا مسؤولين عن إدارة مناطقهم:”بعيداً عن تأثيرات الأحزاب السياسية الحاكمة، ويكون هذا الشكل الإداري مرتبطاً بالحكومة الإتحادية وبتوصية وحماية أممية”.

كما يطالب بتحقيق العدالة الانتقالية عن ما أصابهم خلال عهد(النظام العراقي السابق) وبعد سقوطه في 2003 من خلال إعادة أملاك المسيحيين وسواهم من الأراضي المطفأة لأغراض سكنية التي لم تستخدم لحد اليوم لتلك الأغراض، وتعويضهم تعويضاً عادلاً في الأراضي التي تم إطفاؤها وتوزيعها لمكونات عراقية أخرى.

وتفعيل قانون تعويض النقص في الملاكات الوظيفية للمسيحيين ليكون من أبنائهم حصراً “كما نص القانون لكي تكون هناك فرص عمل لهم في وطنهم”.

وتشريع قانون المكونات وفق المادة الدستورية (125) والتي تنص على “يضمن هذا الدستور الحقوق الادارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان، والكلدان والآشوريين، وسائر المكونات الاخرى، وينظم ذلك بقانون”.

بينما يرى الأستاذ الجامعي المتقاعد وحيد عبد المجيد، ان المعالجات تكمن أولا في تفعيل الاتفاقيات الأمنية بين حكومتي بغداد وأقليم كردستان، وعدم تغليب مصلحة أقلية على حساب أخرى في سهل نينوى.

ويقول:”من الواضح أن الشبك الشيعة بأغلبيتهم، يحظون بدعم كبير من قبل الحكومة العراقية، وذلك من خلال السماح لهم بامتلاك ميليشيا مؤلفة من أبنائها، وتفرض سلطتها المطلقة على سهل نينوى على حساب الأقليات الأخرى الساكنة فيه كالمسيحيين والايزيدية والكاكئية”.

في رده على على سؤال من وكالة “فيدس” في 16 آب/أغسطس2024، لمناسبة الذكرى العاشرة على هجوم تنظيم داعش على سهل نينوى، قال الكاردينال لويس رافائيل ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية، أن عدداً قليلاً من العائلات المسيحية عادت الى مناطقها بعد تحرير سهل نينوى والموصل، وأن كثيرا منها “لم تكن مكتملة إذ ضمنت فقط أفرادها من كبار السن”.

وقدرت الوكالة في نهاية 2020 أعداد المسيحيين الذين هاجروا العراق خلال الفترة ما قبل وبعد سيطرة داعش على سهل نينوى بنحو 55 ألفاً، معظمهم رحلوا إلى أمريكا الشمالية وأستراليا وأوروبا وإلى دول أخرى في الشرق الأوسط.

ادارة مستقلة

بناء على كل ذلك، أرتفعت أصوات تطالب بتحويل سهل نينوى إلى منطقة إدارية خاصة، كأن تكون محافظة، تحت اشراف أممي، لوقف هجرة المسيحيين وإقناع المهاجرين والنازحين بالعودة اليها، ومنع مواصلة التغيير الديمغرافي في بلداتهم وفي سهل نينوى بنحو عام.

“هذه خطوة مهمة جدا لكنها صعبة التحقيق وفق الوقائع الحالية، في حال تحققها ستشكل مدخلا لضمان استقرار المكونات، بشرط أن تتبعها خطوات أخرى تركز على إحياء اقتصاد المنطقة وفتح باب التنمية أمامها، فهي ستحمل ليس تطلعات البقاء فقط بل أيضا عودة جزء من النازحين”، كما يقول باسم نبيل، وهو تاجر مسيحي.

لكن ثمة شخصيات مسيحية ترفض الفكرة، منهم مسؤول محلي في قرقوش (حجبنا أسمه بطلب منه) ذكر سبب الرفض: “لم نعد نشكل الأغلبية في سهل نينوى، هذا واقع الأمر، الشبك تزيد اعدادهم عن 450 ألفاً، والمسيحيون في أفضل حال لايزيد عددهم عن 40 أو 50 ألفا، لهذا فأن أي انتخابات ستجرى إذا ما تم تحويل سهل نينوى إلى كيان إداري، ستكون نتيجته حكومة ذات أغلبية شبكية، ولن يكون لدينا تمثيل يناسب وجودنا نحن سكان سهل نينوى الأصليين. كل ذلك بسبب الهجرة والنزوح”.

الإيزيديون في بعشيقة وبحزاني، لديهم أيضا مخاوف فيما يتعلق بالتغيير الديموغرافي، فواقع التغيير في قضاء الشيخان ماثل أمامهم، إذ يؤكد باحثون أن نسبتهم التي كانت تترواح بين 85% و90% قبل عقود من الآن، تراجعت إلى نحو 30% حتى أصبحوا أقلية، بسبب هجرتهم من جهة ونزوح مكونات أخرى الى القضاء من جهة ثانية.

المسؤول الايزيدي السابق هادي دوباني، يقول بأن هجرة الإيزيديين من الشيخان تمت على مرحلتين،  أولها بعد سقوط النظام العراقي السابق في العام 2003، والثانية بعد العام 2014 أي بعد هجوم داعش على مناطق الايزيديين في قضاء سنجار:”لاتوجد عائلة إلا وهاجر منها فرد إلى خارج العراق بحثاً عن فرص عمل وحياة أفضل”.

وفق تلك الوقائع، يلوح في الأفق، لدى الكثير من مكونات سهل نينوى، صورة سهل “بلا مكوناته الأصلية”. يقول المسيحي باسم نبيل: “ذلك سيحصل خلال عقود قليلة، لن يوقفه إلا اعادة بناء الدولة بنحو كامل على أساس حقوق الأفراد وليس الجماعات، مع اطلاق تنمية اقتصادية شاملة”.

  • أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الأستقصائية ضمن منحة CFI.

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":27562}" data-page="1" data-max-pages="1">