قراءة أخرى لطريق التنمية: من ينقل الحاويات إلى خليج مغلق؟
عامل الجغرافيا وموقع العراق شبه المعزول بحرياً، وبُعد موانئه عن المسارات البحرية الرئيسية جنوباً وحدوده عن المسارات الصينية البرية شمالاً، إضافة لكلفة تأمين الممرات البرية.. تحديات تضع التفكير بجدوى "طريق التنمية" ومستقبله.. لكن قد يكون هناك حل..
عمل العراق للانفتاح أكثر على العالم عبر بوابة الاقتصاد، من خلال طرح مبادرات اقتصادية وتنموية مرتبطة بقطاع النقل الدولي، تهدف لتنويع اقتصاده وتقليص الاعتماد العالي على مبيعات النفط وتساعده على تنمية دوره ليكون فاعلاً إقليمياً، بعد شبه انعزال دام لسنوات طويلة.
ومن أهم تلك المبادرات مشروع “طريق التنمية” الذي أعلنت عنه الحكومة العراقية في أيار 2023، باعتباره نقلة نوعية للعراق من الناحية الاقتصادية ومشروعاً استراتيجياً، يمكن أن يربط حركة نقل البضائع بين آسيا وأوروبا من خلال الجغرافيا العراقية وعبر بوابة ميناء الفاو الكبير، فجذب المشروع الكثيرَ من الانتباه الدولي؛ لما يشكّله من أهمية اقتصادية لبلد عانى كثيراً من الصراعات الإقليمية والداخلية.
حسب المخططات التي أعلنت عنها الحكومة العراقية، فإن مشروع طريق التنمية عبارة عن ممر بري بمسارين متوازيَين، أحدهما طريق بري للنقل بالشاحنات والآخر خط سككي للنقل بالقاطرات، يبدأ من ميناء الفاو في أقصى جنوب العراق مروراً بالمحافظات العراقية وصولاً إلى الحدود التركية قاطعاً مسافة تُقدر بـ1200 كيلومتر، ومن الحدود التركية تكون نقطة الربط مع شبكة النقل التركية والتي توفر خطاً برياً مباشراً نحو أوروبا. وبحسب الإعلام الرسمي، فإن مسارات طريق التنمية يمكنها أن تختصر الرحلة بين آسيا وأوروبا إلى 15 يوماً وتقلص كلفة النقل بنسبة 30 بالمئة، ومن المتوقع أن يتم إنشاء مدن صناعية بالقرب من مسارات طريق التنمية تعمل على رفد السوق العراقية بمنتجات متنوعة تساهم في دعم الاقتصاد الوطني وتنويعه، إلى جانب تشغيل عشرات الآلاف من الأيدي العاملة.
بذلت الحكومة العراقية جهوداً كبيرة للترويج لهذا المشرع، إقليمياً ودولياً، وتشجيع الدول للدخول في شراكات استثمارية تموّل طريق التنمية، والذي تُقدر الكلفة الكلية للمرحلة الأولى منه بقرابة 17 مليار دولار، وقد أثمرت المساعي الرسمية العراقية إلى توقيع مذكرات تفاهم مع تركيا وقطر ودولة الإمارات العربية للمشاركة في تفاهمات تفضي لرفع مستوى التبادل التجاري بين تلك الدول عبر العراق، وبحث فرص المشاركة في تمويل مشروع طريق التنمية.
في نظرة على الخرائط فقط، يمكن اعتبار الجغرافيا العراقية لاعباً محورياً في عملية تقصير مسارات النقل بين آسيا وأوروبا، وهذا ما تستند عليه غالباً الآراء التي ترى أن العراق يمتلك موقعاً متميزاً سيساهم كثيراً في إنجاح مشروع الميناء والطريق، على اعتبار أن هذه الميزة تعتبر عنصر جذب لحركة التجارة الآسيوية العابرة باتجاه أوروبا أو العكس، أما ميدانياً وبالعودة إلى تفاعلات الأسواق العالمية ومؤثرات الجغرافيا السياسية وتعقيدات سلاسل الإمداد ومحددات منظومة النقل الدولية وتقييم مشروع طريق التنمية بمقتضاها، فإن الصورة تصبح أوضح وتقدم رؤية أدق بأبعاد وزوايا جديدة لم يركز عليها الجانب الرسمي والإعلامي العراقي، وقد تؤدي في نهاية المطاف إلى وضع مشروع الطريق في خانة أخرى غير تلك التي تسوّق لها الحكومة العراقية.
يواجه النموذج الذي قدمته الحكومة العراقية لمسارات مشروع طريق التنمية -ولاسيما المسار السككي- والذي تستهدف به ربط حركة تجارة الشرق مع الغرب من خلال البرّ العراقي، تحديات حقيقية تتعلق بجدواه الاقتصادية وقدرته على المنافسة.
الموقع الجغرافي للعراق
يقع العراق جغرافياً في شمال خليج مغلق وبإطلاله بحرية ضيقة على المياه الدولية، مما يضع الموانئ العراقية في صنف الموانئ الثانوية الداخلية، لصعوبة وصول السفن الأم العملاقة التي تسير في مسارات رئيسية مباشرة بين آسيا وأوروبا عبر قناة السويس، على عكس الموانئ الرئيسية الخليجية الأخرى والتي تتمتع بموقع جغرافي قريب من المسارات البحرية الدولية، كموانئ جبل علي وخورفكان في دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تعتبر من الموانئ الرئيسية والمحورية في المنطقة، والتي ترتبط بها الموانئ العراقية باستخدام سفن شحن صغيرة تعمل على توزيع الحاويات القادمة من آسيا أو أوروبا للموانئ الفرعية داخل الخليج العربي. أما برياً، فيقع العراق أيضاً بعيداً في جنوب المسارات البرية السككية المنطلقة من المدن الصناعية الصينية عبر دول آسيا الوسطى باتجاه مراكز الاستهلاك في أوروبا والمسماة بالجسر الأوروآسيوي، وقد قامت الصين خلال أكثر من عقد بإنشاء هذه المسارات البرية التي تُعتَبر جزءاً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، وتستخدمها الصين اليوم لنقل بعض المنتجات الصينية ذات القيمة العالية والتي تتطلب وصولاً سريعاً نحو أوروبا، كالأجهزة الإلكترونية وقطع الغيار.
ضوابط ومحددات نظام النقل الدولي
يعد النقل البحري العمود الفقري للتجارة وسلاسل الإمداد العالمية، حيث تشير بعض التقارير الدولية إلى أن 90 بالمئة من حجم التجارة العالمية يتم نقله بحراً، ويشكل النقل بالحاويات واحداً من أهم قطاعات النقل البحري التجاري الأكثر نمواً وانتشاراً عالمياً.
لم يأتِ هذا الاعتماد العالي على النقل البحري بالحاويات من فراغ، بل لما يتميز به هذا النوع من الوسائط في توفير طاقات هائلة لنقل البضائع بحراً بين القارات والتي تقدر بقرابة 2 ترليون طن من البضائع سنوياً، مما يسهّل كثيراً من حركة التبادل التجاري بين الدول ورفع مستوى الصادرات وتغذية الأسواق بمنتجات متنوعة، إضافة إلى انخفاض الكلفة (مقارنة مع النقل البري الذي تزيد كلفته على النقل البحري بين 30-60 بالمئة) وانسيابية حركة السفن في مياه ومحيطات دولية مفتوحة وزمن وصول ذي موثوقية عالية. هذه الامتيازات ساعدت سلاسل الإمداد على تخطيط وتصميم عملياتها بدقة بما يتعلق بالتصنيع وإضافة القيمة والنقل والتجهيز وتحقيق مستوى عال من الكفاءة والجودة، من خلال الاعتماد على النقل البحري للنقل الطويل العابر للقارات لربط الموانئ ومن ثم الاعتماد على الشاحنات والربط السككي للنقل القريب والمتوسط لمراكز التسليم النهائية، وبما يخص التجارة بين آسيا وأوروبا، ففي عام 2022 على سبيل المثال، تم نقل وتبادل أكثر من 25 مليون حاوية بين القارتين، 95 بالمئة منها تم نقله بحراً والنسبة الباقية تم نقله سككياً من خلال الجسر الأوروآسيوي الصيني.
أعمال البناء في ميناء الفاو الكبير / الأرصفة الخمسة، المصدر: وزارة النقل.
ولمواكبة نمو الطلب المضطرد على خدمات النقل البحري، استثمرت شركات الشحن البحري عشرات المليارات لتحديث أساطيلها بشكل مستمر وبناء سفن أكبر حجماً وتوسيع وزيادة أسطول الحاويات، والتكامل عمودياً، والاستثمار أيضاً بالشراكة مع مراكز التصنيع والخدمات اللوجستية والموانئ وصولاً إلى مخازن المستلم النهائي. تكامل منظومة سلاسل الإمداد مع منظومة النقل الدولي والاعتمادية العالية للتجارة الدولية على هذا النموذج المتكامل، جعل من منظومة النقل الدولي شديدة الحساسية للمؤثرات الخارجية، فشركات النقل البحري تعتمد نظاماً دقيقاً ومنضبطاً، وتسلك مسارات دولية محددة مثل قناة السويس التي تسير عبرها السفن الأم العملاقة التي يصل حجم طاقة بعضها الى 24 ألف حاوية، وذات كلف تشغيل عالية وتبحر ضمن جدول زمني دقيق يحدد تواجدها في موانئ إقليمية في كل قارة، وأي تغير أو مؤثر سيتسبب في إحداث تأخير في جدول الرحلات وبالتالي تعثر في كلّ المراحل والعمليات اللاحقة في سلسلة الإمداد، فترتفع الكلف بشكل كبير.
ويمكن أخذ هجمات جماعة أنصار الله “الحوثيين” في اليمن على السفن التجارية في مدخل البحر الأحمر كمثال واضح وجليّ لفهم تأثير العوامل الخارجية على منظومة النقل الدولي المرتبط مع سلاسل الإمداد، حيث تسببت هذه الهجمات بتحويل المسارات التقليدية البحرية للسفن من البحر الأحمر عبر قناة السويس إلى المسار القديم الأطول عبر رأس الرجاء الصالح، لحمايتها والبضائع التي تحملها. وأحدث هذا التغيير الكبير تعثراً واضحاً في سلاسل الإمداد الأوربية بسبب تعطل وصول البضائع نتيجة تأخر السفن لفترة تتراوح بين عشرة أيام وأسبوعين، مما دفع شركات النقل البحري لتشغيل المزيد من السفن على المسارات الجديدة لغرض إعادة الانسيابية لجدول الرحلات، إضافة إلى ذلك فقد ارتفع الطلب بشكل كبير على خدمات النقل البحري مما أدى الى ارتفاع أسعار الشحن البحري أكثر من 300 بالمئة خلال أشهر قليلة فقط، وهذا انعكس بشكل مباشر على أسعار السلع داخل الأسواق في أوروبا وأمريكا.
وعلى الرغم من الضرر الذي ألحقته هجمات الحوثيين بعمل السفن البحرية، إلّا أن منظومة النقل استبدلت مساراً بحرياً بمسار بحري آخر أكثر طولاً، ولم تتجه لأي مسار بري، حتى وإن كان أقصر من ناحية المسافة، والأسباب وراء ذلك عديدة ووجيهة: فعملية تحويل الحاويات من البحر إلى البرّ تتطلب وقتا طويلاً سيتسبب بالتأخير والانتظار الذي يحدث خلال عمليات تفريغ ومناولة الحاوية داخل الميناء ومن ثم إعادة تحميلها على ظهر الشاحنات أو القاطرات وعبورها مدناً ومناطق، قد تتطلب توقفات وإجراءات تدقيقية حدودية، مما يُطيل كثيراً من زمن الوصول ويرفع الكلف، فينعكس سلبياً وبشدة على انسيابية وموثوقية سلاسل النقل.
من الجدير بالذكر أن اختيار شركة النقل لمسارات ووسائط النقل ليس اجتهاداً وإنما جاء اعتماداً على تفضيلات الزبائن والشركات في مراكز الاستهلاك في أوروبا، والتي أظهرت بعض المسوحات الميدانية أن الزبون الأوروبي يفضّل المسار ووسيلة النقل ذات الموثوقية العالية بعدها عامل سعر النقل وتوفّر المساحات، ويأتي زمن الوصول متأخراً في المركز الخامس في سلم أولويات الزبائن الأوروبيين. هذا هو بشكل عام نموذج النقل الذي يعتمد عليه الاقتصاد الدولي وسلاسل الإمداد العالمية، والذي تكون فيه الموثوقية والانسيابية والكلفة ووفرة الطاقات الاستيعابية هي العوامل الرئيسة التي جعلت من النقل البحري الوسيلة الأكثر قدرة على ربط حركة التجارة والبضائع بين الدول والقارات بكفاءة وجودة عالية.
الكلفة الجيوسياسية لمسارات النقل
من خلال مبادرة الحزام والطريق، قامت الصين، بإنشاء ثمانية مسارات برية سككية تنطلق من المدن الصناعية في الصين مروراً بدول آسيا الصغرى وتنتهي بما يقارب 185 مدينة في 23 دولة أوروبية. هذا المسار السككي الذي يطلق عليه “قطار الصين السريع” أو الجسر الأوروآسيوي، يوفر العديد من المزايا الجيوسياسية والجيواقتصادية للصين، حيث تهدف لإيجاد بديل برّي جاهز يضمن ديمومة انسيابية صادرات الصين باتجاه الأسواق الأوروبية، في حالة حدوث مشاكل تعرقل المسارات البحرية أو تصعيد عسكري في منطقة مضيق ملقا (المضيق الأشد ازدحاماً عالمياً) والذي تمر من خلاله قرابة 80 بالمئة من تجارة الصين المنقولة بحاراً. إضافة لذلك، فإن المسار البرّي الصيني نحو أوروبا، يوفر اختصاراً كبيراً للمسافة والوقت، حيث يقدم رحلة نقل تقطع مسافة 9 آلاف كيلومتر خلال 15 يوماً، مقارنة مع المسار البحري التقليدي الذي يقطع مسافة 20 ألف كيلومتر خلال فترة 30-35 يوماً، ما ساعد في توفير بديل سريع لنقل البضائع ذات القيمة العالية والتي تتطلب وصولاً سريعاً، مثل قطع الغيار والأجهزة الالكترونية والطبية.
شكّل هذا المسار الاقتصادي الاستراتيجي تحدياً كبيراً للصين خلال سنوات إنشائه وتشغيله، حيث تطلّب استثمارات ضخمة موّلتها الصين لتطوير البنى التحتية في المناطق والدول التي يمرّ من خلالها الخط. ليس هذا فحسب، بل هناك كلفة جيوسياسية إضافية لهذا الطريق يتوجب على الصين تحملها، وتتعلق بحاجة بكين لإبقاء علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية في أحسن حالاتها مع الدول التي تمر من خلالها مسارات الجسر الأوروآسيوي، كدول آسيا الوسطى ودول القوقاز وإيران وتركيا وروسيا، بمعنى أن على الصين المحافظة على علاقاتها ومنع أيّ توتر دبلوماسي او سياسي مع تلك الدول، لضمان استمرار عمل هذه المسارات دون تقطع. أما الكلف المالية لتشغيل المسار الصيني فهي غير معلومة بدقة، وهناك عدم شفافية عالية في هذه المسألة، لكن هناك بعض التقارير التي تعتقد أن هذا الجسر البري يكبّد الصين كلفاً تشغيلية وخسارات عالية، لكنْ، رغم ذلك، فإن الصين مستمرة في تحمل أعباء هذا المسار طالما يحقق هدفاً استراتيجياً يتعلق بسياق تنافسي اقتصادي عالمي بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك أمثلة عديدة عن مسارات برية أخرى عبر إيران أو دول القوقاز وتركيا وحتى داخل أوروبا نفسها تشترك كلها بارتباط مسألة نجاحها وديمومتها على طبيعة متانة العلاقات بين الدول المعنية والكلفة الجيوسياسية لكل مسار من تلك المسارات، والتي يمكن اعتبارها كلفة مركبة تشمل المال والدبلوماسية والأمن.
التقييم الاقتصادي لنموذج مشروع طريق التنمية
عامل الجغرافيا وموقع العراق شبه المعزول بحرياً وبُعد موانئه عن المسارات البحرية الرئيسية جنوباً وحدوده عن المسارات الصينية البرية شمالاً، والاعتمادية العالية لحركة التجارة الدولية على النقل البحري الأرخص والأكثر موثوقية، إضافة للكلفة الجيوسياسية العالية للممرات البرية، تضع من نموذج مشروع طريق التنمية السككي الحالي أمام تحديات حقيقة تتعلق بجدواه وتنافسيته واستدامته، فمن ناحية الجغرافيا، نجد أن المسارات الدولية البحرية بين آسيا وأوروبا، تتطلب انحرافاً شديداً وتحويلاً طويلاً لتلك المسارات حتى يتم الربط مع ميناء الفاو في جنوب العراق ومن ثم مسارات طريق التنمية، وبطبيعة الحال فإن هذا الإجراء سيرفع كلف التشغيل ويؤخّر جدول الرحلات بسبب انحراف السفن ودخولها ومن ثم خروجها من داخل الخليج العربي المغلق، مما سيؤثر على انسيابية كامل سلسلة النقل، كما أن الانتقال من النقل البحري إلى النقل البرّي يتسبب عادة بتشكل ما يسمى بتأثير عنق الزجاجة، حيث يتعطل مسار حركة الحاويات نتيجة إنزالها من السفينة لرصيف الميناء ومن ثم تحويلها للقاطرات أو الشاحنات، وعبورها في نقاط حدودية، في رحلة برّية طويلة نحو أوروبا تتطلب قطع 5 آلاف كيلومتر أو أكثر ترتفع فيها كُلف النقل الكُلية على الزبائن، وتكبّد العراق كلفة جيوسياسية عالية، تشتمل على تأمين وحماية حركة بضائع دولية وتبني علاقات دبلوماسية مرنة للغاية مع دول الممر، فيها قدر كبير من التنازلات عن المصالح لأجل ضمان علاقات بينية مستقرة بعيدة عن التوترات التي قد تنعكس سلباً على استمرارية مسارات النقل، هذا غير ضرورة إصلاح الإجراءات الداخلية ذات الصلة.
أعمال البناء في ميناء الفاو الكبير / الأرصفة الخمسة، المصدر: وزارة النقل.
وعلى هذا الأساس، لو أخذنا متطلبات الأسواق والتجارة الدولية بعين الاعتبار، فيمكن القول إن النموذج الحاليّ لطريق التنمية لا يملك الكثير من أدوات الجذب التي يمكنها أن تشجّع أو تقنع شركات النقل البحري القادمة من آسيا، لتحويل مسارات سفنها العملاقة إلى داخل خليج مغلق وتفريغ الحاويات في ميناء الفاو وتحمل كلف وتأخير إضافي، ليس هذا فحسب، وإنما إعطاء العراق أيضاً ميزة نقل تلك الحاويات براً نحو أوروبا والتخلي عن عوائد هائلة من المفترض أن تكون من حصة تلك الشركات، وكذلك الأمر مع الزبائن الآسيويين والأوربيين الذين لن يجدوا في مسار طريق التنمية الكثير من عناصر الجذب التي يمكن أن تضيف قيمة وتصنع فارقاً في مسألة كفاءة وجودة النقل، بل وربما يمكن أن يفقد الزبون العديد من الامتيازات التي يحصل عليها عادة من خلال استخدام النقل البحري بين آسيا وأوروبا.
النموذج الأمثل لطريق التنمية
التعارض الواضح بين الترويج والتركيز على تقديم مشروع طريق التنمية على أنه ممر نقل لربط حركة التجارة بين الشرق والغرب، وبين متطلبات التجارة العالمية وضوابط النقل الدولي وسلاسل الإمداد، انعكس سلبياً على تنافسية هذا المشروع وملاءمته للمستثمرين، وصعّب كثيراً من جهود الحكومة العراقية لجذب المستثمرين من أجل تمويل هذا المشروع، فبعد عدة لقاءات رسمية واجتماعات مكثفة مع الجهات الرسمية المعنية في عدة دول، أهمها الإمارات العربية وقطر وتركيا، ومحاولات حثيثة لجذب رؤوس أموال من تلك الدول لتمويل إنشاء مسارات طريق التنمية -والتي تقدر المرحلة الأولى منه بـ 17 مليار دولار حسب التقديرات العراقية-، لم يتمكن العراق إلّا من توقيع مذكرات تفاهم غير ملزِمة للتعاون بما يخص إنشاء مسارات طريق التنمية، يؤشر هذا البرود والتردد من قبل هذه الدول وغيرها للدخول في شراكات لتمويل هذا المشروع، بوضوح، إلى شيء خاطئ في نموذج هذا المشروع أثّر كثيراً على جاذبيته وتنافسيته، ودفع المستثمرين بعيداً على عكس ما كانت تظن الجهات الرسمية العراقية.
ولكي يوضع هذا المشروع على السكة الصحيحة، فإنه من الضروري البدء بإعادة النظر في نموذج المشروع وإعادة ترتيب الأولويات، بل وحتى إعادة دراسة جدواه اقتصادياً وتجارياً وأن يكون التركيز على إنشاء نموذج متكامل ذي كفاءة يرتكز على (محور التنمية) و(محور النقل) بشكل متوازٍ. ففي الجانب التنموي، يستطيع العراق أن يستغل عملية إنشاء ميناء عصري وكبير كميناء الفاو وطريق نقل بمواصفات عالية يمتد جنوباً وشمالاً كطريق التنمية، لتحريك قطاعات تنموية وطنية جديدة، سواء صناعية أو لوجستية أو خدمات قيمة مضافة، واستقطاب شراكات مع سلاسل إمداد دولية بهدف المشاركة في التصنيع وإعادة التصدير نحو أسواق أخرى، كذلك يمكن الاستفادة من مشروع طريق التنمية وتفرعاته لتحفيز إعادة إحياء القطاعات الصناعية شبه الميتة، لتساهم في رفد الأسواق بمنتجات مطلوبة محلياً ودولياً وخلق عائدات مالية تدعم الاقتصاد الوطني، وفي هذا السياق، فإنه من المؤمل أن يتم افتتاح مدينة صناعية ولوجستية في مدينة البصرة خلال السنوات القادمة، حسب إعلان رئيس الحكومة العراقية، لتكون اللبنة الأولى ومفتاح نجاح مشاريع النقل العراقية وانطلاقة حقيقية للصناعة العراقية نحو الأسواق الخارجية، حيث ستكون مشاريع الميناء والطريق جاهزة لحركة التوزيع المحلي إضافة الى تحريك الصادرات الوطنية شمالاً باتجاه تركيا و أوروبا وجنوباً باتجاه الخليج وآسيا وافريقيا.
أما محور النقل، فيتعلق أولاً بالنقل البرّي والمتمثل بإكمال الربط السككي شمالا مع تركيا وجنوباً مع المنظومة السككية الخليجية للوصول لنموذج التكامل السككي الاقليمي والذي يتيح للعراق أن يلعب دوراً محورياً من خلال طريق التنمية لتسهيل حركة التجارة من تركيا وجيرانها جنوباً نحو الخليج، والاستفادة كذلك من هذا الطريق لتوجيه جزء من الشحنات الخليجية المنتجة في المراكز الصناعية واللوجستية الخليجية والمتوجهة الى أسواق في تركيا ودول أخرى مجاورة في شرق أوروبا. هذا التكامل الاستراتيجي في النقل سيرفع، بكل تأكيد، من قيمة العراق وتأثيره الجيواقتصادي في المنطقة، وسيعمل كذلك على خلق عائدات مالية تتحقق من خلال رسوم العبور التجاري للدول الإقليمية، لكن في المقابل فإن هذا الربط قد يؤثر سلباً على الطلب الإقليمي والدولي على خدمات ميناء الفاو، بسبب اعتماد جزء من حركة التجارة على التفريغ في الموانئ المحورية جنوب الخليج العربي، وتوزيع البضائع ونقلها سككياً داخل الجغرافيا الخليجية شمالا باتجاه المدن والدول الإقليمية ومنها ما يمر بالعراق سككياً نحو الشمال متجاوزاً ميناء الفاو.
ولمعالجة هذا الإشكال المتوقع، فإنه من الممكن لإدارة محطات ميناء الفاو العمل على الوصول إلى اتفاقات مع شركات الملاحة البحرية التي تسيّر الرحلات البحرية المباشرة بين الهند ودول الخليج وكذلك بين موانئ جنوب شرق آسيا ودول الخليج لإضافة ميناء الفاو كخدمة مباشرة ضمن جدول الرحلات الاسبوعية وبالتالي يستطيع أن يتمتع ميناء الفاو بتدفقات تجارية مباشرة تستهدف سوق العراق المحلي إضافة إلى الأسواق الشمالية، كتركيا وجورجيا وبلغاريا، والشرقية كسوريا ولبنان، وحين يتحقق هذين المحورين وبشكل كفوء ومتزامن، يستطيع العراق أن يحقق، ليس فقط مستوى عالياً من الحماية لمشاريع النقل الوطنية، بل ويحدث نقلةً نوعية في قطاعاته الصناعية والتنموية، تجعل من العراق لاعباً مؤثراً في سوق النقل وله حصة لا بأس بها في قطاعات الصناعة واللوجستيات الاقليمية وحتى الدولية.