

لم تكن جنان كاظم (43 سنة) من منطقة سبع البورغربي العاصمة بغداد، تدري بأن مرض ابنتها الكبرى شيرين (14 سنة) سيغير مجرى حياتها ويقلبه رأسا على عقب.
إذ أكتشف الأطباء في آب/ اغسطس 2018، إصابة الصغيرة بمرض التمثيل الغذائي من نوع (PKU) الذي يُعرف بأنه اضطراب وراثي نادر يجعل الاطعمة العادية سامة للدماغ، ويسبب إعاقات عصبية دائمة للأطفال وهم بأعمار مبكرة أو يكون مميتاً في حال لم يتم تداركه بحليب طبي ومن ثم أطعمة خاصة مع علاجات تؤخذ على مدى الحياة.
تقول جنان بنبرة حزن:”كان الأوان قد فات عندما أكتشفنا علتها وهي في الثامنة من عمرها، فقد أصيب دماغها بالتلف جراء تداعيات المرض المدمرة”، تأخذها لحظة شرود قبل أن تضيف:”كان لابد من إجراء فحص طبي خاص أسمه الغربلة خلال الساعات الأولى من ولادتها، وهذا لم يكن متوفراً في العراق إلا في سنة 2013″.
“المشكلة أن الأطباء أنفسهم لم يكونوا يعرفون به”تضيف جنان، وهي تتذكر كيف أنها عرضت شيرين على العديد من الأطباء الذين شخصوا الأعراض الظاهرة عليها:”وفقاً لإجتهاداتهم، وكلها كانت خاطئة” تقول بحدة.
وتتابع:”كانت تعاني من فرط الحركة وصعوبة في النطق مع تقوس الساقين، وتتألم باستمرار، وبدلاً من معالجتها، تسبب الأطباء بتدهور حالتها، بسبب وصفهم لعلاجات وأطعمة هي أصلا محظورة على مرضى التمثيل الغذائي، كاللحوم والبقوليات وغير ذلك، وقد تبين ذلك متأخراً جداً”.
قصة جنان لم تنته عند هذا الحد، فلقد تلقت في تموز/يوليو 2020 معلومات غير سارة من المختبر المركزي ببغداد، أفادت بأن طفلتها الصغرى آيات، وكان عمرها وقتها شهراً واحداً فقط، مصابة بنفس مرض شقيقتها، وحالتها تستوجب عناية خاصة من حيث التغذية والعلاجات لكي لايُصبها ما أصاب شيرين.
تجربتها مع ابنتيها، ومعاناتها التي تصفها بالمريرة في الحصول على الحليب الطبي غير المتوفر في الأسواق والذي توزعه وزارة الصحة بنحو غير منتظم، وكذلك ندرة الفحوصات والعلاجات والتخصص الطبي، جعلت منها ناشطة وممثلة عن مرضى التمثيل الغذائي في العراق.
معدة التحقيق حاولت عبر تواصلها مع مصادر عدة في وزارة الصحة وأطباء متخصصين، الوصول إلى إحصائية دقيقة بشأن أعداد المصابين بأمراض التمثيل الغذائي، لكنها لم تحصل على إجابة دقيقة، وقد رجح ناشطون وذوو مرضى أن سبب ذلك يكمن في عدم وجود بيانات متكاملة ، فضلاً عن عدم تسجيل جميع الحالات في المراكز الحكومية.
وهم يجمعون على ضرورة قيام الجهات الصحية الرسمية بإعداد قاعدة تتعلق بأمراض التمثيل الغذائي، والعمل على تعزيزالوعي بكيفية الوقاية منها والتعامل معها وبدء العلاج مبكراً والإستمرار عليه لتفادي الاعاقات الذهنية والجسدية الأخرى أو حالات الوفاة.
الفينيل كيتون يوريا PKU
الطبيب الإستشاري المتخصص بطب الأطفال طريف فاضل، يٌعرف أمراض التمثيل الغذائي بنحو عام أنها “مجموعة أمراض تحدث نتيجة وجود خلل في جين معين يؤدي إلى نقص في إنزيمات الجسم”.
ويقول بأن هنالك المئات من الاضطرابات الأيضية الجينية المختلفة وأعراضها وعلاجاتها متباينة: “لكن معظم اصابات أمراض التمثيل الغذائي الوراثية في العراق هي من نوع فينيل كيتون يوريا Pku”.
ويعرفه بأنه:”مرض وراثي نادر ينتج عن خلل في الجين المسؤول عن تكوين الإنزيم اللازم لتحويل الحمض الأميني الفينيل ألانين إلى الحمض الأميني تايروسين المهم في تكوين النواقل العصبية”.
ويشير إلى أن الضرر الناجم عن الفينيل كيتون، يمكن أن يبدأ بعد أسابيع من بدء الطفل بشرب حليب الثدي أو الحليب الصناعي المجفف وهذا يؤدي إلى:”تراكم الفينيل ألانين في سوائل الجسم والدماغ ويسبب مشاكل ومضاعفات صحية عديدة، وقد يتأخر التشخيص عند عدم اجراء فحص الغربلة لحديثي الولادة مما يؤدي الى تلف في خلايا الدماغ وتكون شدته أكثر كلما تأخر التشخيص”.
ويستدرك متأسفاً:”لا يوجد علاج نهائي لمرض الفينيل كيتون يوريا، ولابد من اتباع نظام غذائي يتضمن أطعمة لاتحتوي على الفينيل ألانين، مما يعني أن الأطعمة يجب أن تكون منخفضة البروتين وتجنب الغنية به مثل الحليب العادي، البيض، الجبن، المكسرات، البقوليات، واللحوم بكل أنواعها”.
ويرى بأن النظام الغذائي والطعام الخاص، لابد أن يكون نهجاً متبعاً على مدى الحياة:”صارماً في السنوات الأولى من عمر الطفل وهي الفترة التي تشهد نمو الدماغ و بناء قدراته الذهنية والعقلية و بخلاف ذلك فأن زيادة الحمض الاميني تؤثر على الدماغ و فعالياته”.

ويبين:”بما أن الفينيل الانين جزء من البروتين و يتواجد في الحليب والطعام الغني بالبروتين مثل اللحوم والبيض ومشتقات الألبان لذا يخضع المريض لبرنامج غذائي خالٍ من هذه المواد و تعويضه ببروتين منزوع الفينيل الانين على شكل حليب خاص وأغذية خاصة”.
المتخصص بالأمراض العصبية والعوق العصبي لدى الاطفال د. رائد جبار حسين، يوضح:”عندما يعاني الرضيع أو الطفل من اضطراب استقلابي تكون المواد الكيميائية المستخدمة في عملية التمثيل الغذائي اما مفقودة أو لا تعمل بشكل صحيح”.
ومع أنه يتفق بأن أكثر أنواع الامراض الاستقلابية شيوعاً لدى الاطفال في العراق هو “مرض الفينيل كيتون يوريا”، إلا أنه يؤكد بأن هنالك أمراضاً أخرى مشخصة:”تتشابه أعراضها معه، من أمثلتها- تيروزينيميا_كالاكتوسيميا_نقص انزيم اللوسين Isovaleric”.
وزارة الصحة العراقية، توفر الحليب الطبي المحظور استيراده و تداوله في السوق، وتوزعه بأسعار رمزية على المرضى وفقاً لفحوصات مخبرية يشترط أن تكون حديثة، تبين حالة كل مريض.
لكن ليس جميع مرضى التمثيل الغذائي يحصلون على الحليب من الوزارة، وذلك لأن كل مرض تمثيل غذائي تخصص له نوعية حليب مختلفة، والوزارة لاتوفر سوى أنواعا محددة لاتتوافق مع جميع المرضى، هذا فضلاً عن عدم إنتظام التوزيع، ولجوء بعض التجار إلى بيعه خلسة في السوق السوداء بأسعار باهظة، وفقاً لشهادات ذوي مرضى قابلتهم معدة التحقيق.
كما يتوجب على المرضى الذين تتجاوز أعمارهم مرحلة الرضاعة، تناول أطعمة خاصة كما أوضحها الطبيب طريف، وهي ليست في متناول جميع الأهالي بسبب غلاء أسعارها وندرتها، فيضطرون إلى تغذية الأطفال بطعام عادي، فتحدث لهم مضاعفات مميتة أو تصيبهم بإعاقات دائمة.
تكاليف باهظة
وليد مجيد العابدين(30 سنة)موظف حكومي من منطقة المنصورغربي بغداد، لم يكن أمامه من خيار لإنقاذ ابنته أنوار(12سنة)المصابة بمرض استقلابي وراثي(التمثيل الغذائي) يدعى (propionic academia) سوى السفر المتكرر الى بيروت لإجراء الفحوصات اللازمة لها هناك والحصول على الغذاء الخاص.
يقول:”توجد هناك أجهزة فحص مختبرية متخصصة، ولفئة ابنتي المرضية نظام وجدول تغذية يجب اتباعهما ونظام طوارئ للحالات الحرجة”.

وذكر بأن رسم الكشف الطبي في لبنان يبلغ 190دولاراً و 2500 دولاراً كمعدل أجوراً للفحوصات المختبرية التي يقول بأنها ضرورية لأن العلاج والنظام الغذائي يحددان في ضوئها، كما أن أنوار تحتاج إلى علاج (الكارنتين) بكمية شهرية تبلغ 5000 ملغ، يصل سعرها إلى 175 دولار.

ويبين:”بشكل عام التكاليف تلك مع أجور إقامة لأسبوع واحد وتذاكر طيران تبلغ ما يزيد عن خمسة آلاف دولار”.


يقوم وليد العابدين، بتلك الرحلة المكلفة مرة واحدة كل ستة أشهر منذ أن بلغت أنوار الرابعة من عمرها، قبل ذلك كان يجريها كل ثلاثة أشهر. وهو يسافر الى لبنان مع زوجته وبرفقتهما طفلتهما منذ أن كانت بعمر 12 شهراً.
ويؤكد بأن ما توفره مختبرات فحص الغربلة الحكومية في العراق محدود ولأطفال بعمر لايتجاوز السنة، وفيما يتعلق بالمختبرات الأهلية المحلية يقول:”أجورها مرتفعة جداً، كما أنها ترسل عينات الدم الى الخارج ويتاخر وصول نتائج الفحص أحياناً لأكثر من 40 يوماً، لذلك اذهب الى الخارج بنفسي، واجري كل شيء بنحو أسرع”.
سبق لوليد أن قدم طلباً إلى الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية بتاريخ 22/5/2023 لتوفير نوعية الحليب فئة(O.A.C.B)التي تحتاجها أنوار، ويشتريها في العادة من لبنان بسعر يصل إلى 80 دولاراً للعبوة الواحدة، وهي تحتاج إلى ثمان عبوات شهرياً، إلا أن الشركة أجابته بأن نوعية الحليب تلك غير مقرة في وزارة الصحة، أي يتعذر تخصيصها.


د.حسين أحمد العمار، يحمل شهادة الدكتوراه في علوم الهندسة الزراعية، يسكن منطقة الزعفرانية جنوبي بغداد، والد الطفل علي(13)سنة المصاب بمرض الفينيل كيتون يوريا، اختار السفر قبل سنوات إلى إيران من أجل إجراء الفحوصات والحصول على العلاج لأبنه، وخلال اقامته هناك اتجه الى دراسة التغذية السليمة لمرضى التمثيل الغذائي لانقاذ ابنه والأطفال المصابين الآخرين.
يقول:”أتواصل الآن مع أهالي المرضى عبر كروب مرضى التمثيل الغذائي، لأنني أجد من الضروري توعية الأهل والمجتمع الطبي لأنه مايزال هنالك أطباء لا يوجهون المرضى أو يزودونهم بطريقة التغذية الصحيحة”.


وينوه إلى أن المستشفيات ومراكز الفحص في ايران، تزود المرضى بقوائم من الاطعمة المسموح والمحظور تناولها:”وهذه الخدمة غير متوفرة في العراق لذا تتفاقم معظم الاصابات بسبب عدم امتلاك الأهالي الوعي الكافي بماهو صحيح من عذاء لمرضاهم”.



يؤكد عدد من ذوي المرضى الآخرين لمعدة التحقيق، أن بعضهم ولاسيما الميسورين، يسافرون الى دول تعالج المرضى وتوفر لهم التحاليل والحليب المناسب مثل(تركيا وإيران)، فيحصلون هناك على إقامة دائمة بعد شرائهم عقاراً للسكن، وبموجب ذلك يتم تسجيل الطفل المصاب لدى الجهات الصحية الرسمية، فيستلم الحليب المخصص له وتوفر له العلاجات الخاصة.
فحص الغربلة
اختصاصية التحليلات المرضية د.صفاء محمد، تقول بأن فحص الغربلة الذي تصفه بالمهم جداً، لابد من اجراءه على المواليد الجدد، للتحقق من: “الإنزيم اللازم لاستخدام فينيل ألانين في أجسامهم، وهو حمض أميني ضروري للنمو والتطور الطبيعي”، ويخضع الطفل لهذا الفحص وهو بعمر لايقل عن 72 ساعة ولا يزيد عن شهر واحد، “لضمان سرعة تشخيص الاصابة بالأمراض”.
ووفقاً لـ د.صفاء، فأن فحص الغربلة يتضمن 13 تحليلا، ولا يتوفر منها في العراق سوى ثلاثُ تحاليل فقط، هي “الكاليكتوسيميا و الفينيل كيتون يوريا و الغدة الدرقية” ويتم اجراؤها في مختبرات حكومية موجودة فقط في بغداد و كربلاء.
أما بالنسبة لمختبرات الفحص الأهلية، فقد جمعت معدة التحقيق من خلال تواصلها مع عدد منها في بغداد، معلومات تفيد بإرسالها العينات إلى مختبرات أخرى في خارج البلاد تجري فحص الغربلة وتتضمن كل التحاليل المتعلقة بأمراض التمثيل الغذائي، ولذلك فإن أجورها تكون مرتفعة، وتتطلب النتائج وقتً قد يمتد لأسابيع أو أشهر.
وبالعودة إلى د. صفاء، فإنها توضح آلية الفحص:”تُسحب أربعة نقط دم من كعب قدم الطفل، ثم ترسل إلى المختبر في منطقة الكرداة بالعاصمة بغداد وبعد اكتشاف الحالة تتم متابعتها من قبل مختبر الصحة المركزي”.
وتشير إلى أن الفحص في مختبر الصحة المركزي مجاني، وذوو المرضى يلجأون الى المختبرات الاهلية في حالات عدة هي:”عدم توفر فحص الانزيمات الأخرى أو في حالة عدم تنبيههم من قبل الطبيب المختص بوجود مختبر حكومي، وأحيانا لا يستقبل المختبر الحكومي الاطفال الذين تتعدى أعمارهم الشهر الواحد لأن برنامجه محدد بتلك السن فقط”.
مديرة قسم الغربلة لدى وزارة الصحة د.مجد قاسم، توضح لمعدة التحقيق سبب تأخر افتتاح مختبر للغربلة في العراق لغاية سنة 2013 بقولها:”لأن تكلفته التخمينية قليلة لذلك فان معظم الشركات لا تقدم لتزويد هذا النوع من المختبرات بالاجهزة الطبية، لكن قريباً سيتم التعاون مع شركة عالمية لتزويد مختبر الصحة المركزي باحدث الاجهزة واعادة تأهيله وتوسعة البرنامج ليشمل العراق بأكمله وليس فقط بغداد وكربلاء”دون ان تذكر وقتاً محدداً لذلك.
تؤكد بأن طلبات قدمت إلى وزارة الصحة لتوفير تخصيص مالي من أجل توسعة الفحص ليشمل 20 مرضاً بدلاً من ثلاثة أمراض فقط”أسوة بما هو متوفر في دول أخرى كثيرة”.
وهي تأمل بأن تتعاون الوزارات افيما بينها لمساعدة مرضى التمثيل الغذائي من خلال “توفير وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لإحصائيات دقيقة بشأن أعداد المرضى المعاقين، وتزويد وزارة الصحة بها، وتوفير الأغذية المخصصة بالمرضى من قبل وزارة التجارة”.
إزاء قلة المختبرات الحكومية الخاصة بالغربلة أو اقتصار التحاليل على ثلاثة أمراض فقط من أصل 13 مرضا للتمثيل الغذائي، لايجد ذوو المرضى ولا سيما القادرون على تحمل التكاليف سوى اللجوء للمختبرات الأهلية، والأخيرة لاتمتلك تقنيات إجراء مثل هذه الفحوصات فترسل العينات إلى الخارج، كالأردن أو ألمانيا أو لبنان أو إيران.
أحمد الطائي( 35 سنة )واحد من هؤلاء، منتسب في الجيش العراقي يسكن منطقة الدورة جنوبي العاصمة بغداد، أبنه يوسف(18 شهراً) كان مصاباً بمرض الفينيل كيتون يوريا، نصحه طبيبه المعالج أواخر 2022 بإجراء فحص في مختبر أهلي أسمه(الريادي) بمنطقة الكرادة، فاكتشف بأن تكلفته تبلغ بحدود مليونين ونصف المليون دينار تقريباً، لأن المختبر “يرسل العينة إلى مختبر آخر في ألمانيا فترتفع التكاليف”.
يقول:”نظرا لعدم توفر المبلغ لدي، أجريت نفس التحليل بكلفة مليون و650 ألف دينار، لدى مختبر( ألق )بمنطقة الكرادة، والعينة أرسلت إلى مختبر في الأردن، لكن الطبيب المعالج رفضه وأصر على اجراء الفحص في المختبر الذي حدده وقمت بذلك بالفعل”.
ولان العلاجات أو نوعية وكمية الحليب لاتحدد أو تصرف من قبل وزارة الصحة إلا في ضوء نتائج الفحص المخبري والذي يشترط أن يكون بتأريخ حديث ويبين الوضع الراهن للمريض، كان على أحمد انتظار نتيجة الفحص في المختبر الذي أصر عليه الطبيب، إلا أن “الصغير يوسف توفي قبل وصول نتيجة الفحص من ألمانيا بأيام قليلة”، يقول الأب بكثير من الحزن.

مطالبات ذوي المرضى
نعود إلى جنان كاظم، مجدداً، ونجد بأنها اعتمدت على نفسها في البحث والتقصي عن مرض التمثيل الغذائي بتواصلها الدؤوب مع أطباء متخصصين من خارج العراق، لتجمع الكثير من المعلومات عن أسبابه والطرق السليمة لتغذية طفلتيها المصابتين(شيرين وآيات).
تقول بأن فترة تفشي فايروس كورونا عام 2020 شهدت صعوبة بالغة في العثور على الحليب الطبي، فأنشات صفحة على فيسبوك باسم(آيات)للوصول إلى متبرعين، وشيئاً فشيء تحولت إلى صفحة توعوية لمرضى التمثيل الغذائي، واكتشفت بمرور الأيام اعداداً كبيرة للمصابين جاوزت 1000 طفل في عموم البلاد، على حد قولها.
تواصلت مع ذوي الكثير منهم توجههم الى:”الطرق الصحيحة لتحضير الطعام، وايجاد بدائل عن الحليب والطعام المخصص للمرضى لعدم توفرهما وكيفية حساب وحدات البروتين التي تختلف من مريض الى آخر”.


وعلى الرغم من حظر استيراد وتداول الحليب محليا ودوليا، إلا أن جنان، توصلت إلى طريقة لتوفيره مع العلاج والغذاء، عبر شرائه بطريقة تقول أنها “خاصة من تركيا”، وتتضمن قائمة مشترياتها الشهرية نحو عشرين عبوة حليب سعة 500 غرام، بسعر 57 دولاراً، للعبوة الواحدة”آيات تحتاج إلى عبوتين منها كل ثلاثة أيام، شيرين لم تعد بحاجة اليه”.
وتشتري 500 غراماً من المعكرونة المخصصة لمرضى التمثيل الغذائي بسعر 35 دولاراً، وهو ذات السعر للكيلو غرام الواحد من الرز، بينما سعر الكيلو غرام من الدقيق فيبلغ 17 دولاراً، وحبة الدواء الواحدة المخصصة للفينيل كيتون يوريا، تبلغ قيمتها 7 دولارات.



نظمت جنان، عبر حسابها الفيسبوكي وبمساندة من وسائل اعلام محلية، حملات للمطالبة بتوفير الحليب لنحو ألف مصاب بأمراض التمثيل الغذائي في البلاد، وقدمت طلباً بأسمهم إلى وزارة الصحة التي ردت ببيان أكدت فيه توقيعها لعقود استيراد 14 نوعاً من الحليب الطبي بقيمة مليون وربع المليون دولار.
غير أن ذوي المرضى وبضمنهم جنان كاظم، عدوا ذلك مجرد وعد قد لايتحقق، ونظموا في شباط/فبراير 2024 اعتصاما أمام مقر الوزارة في بغداد مطالبين بتوفير الحليب.


واطلقت جنان، عبر الفيسبوك حملة بعنوان”انقذوا مرضى التمثيل الغذائي“وجهت خلالها نداءات الى رئاسة مجلس الوزراء والى عدد من نواب البرلمان، من أجل مساندة أهالي المصابين وطالبت وزارة الصحة بتوفير حصصهم من الحليب المتاخرة عن عامي 2023 و 2024




العديد من ذوي المرضى، يُفيدون بأن الوزارة تتوقف عن توفير الحليب لفترات طويلة تمتد لأشهر، وأنهم يعانون وبشدة جراء ذلك، وأكدوا بأن أطفالاً مرضى توفوا أو أصيبوا بعوق دائم جراء عدم حصولهم على حصصهم المقررة من الحليب.
وتُرجع مديرة قسم الغربلة لدى وزارة الصحة د.مجد قاسم، التوقف المتكرر عن توزيع الحليب الطبي من قبل الوزارة إلى:”مشاكل تظهر في بنود العقود وعملية الشحن وضعف التخصيصات المالية” وأكدت بأن الوزارة لايمكن لها توزيع الحليب الا بعد اجراء عملية الفحص وهي عملية “تتأخر عدة أشهر في العادة”.
والدة الطفلة(ريحانة 6 سنوات)المصابة بمرض الفينيل كيتون يوريا Pku، من مدينة الحرية ببغداد، تتهم أطباء في العيادات الخاصة بتقديمهم:”آمالاً كاذبة وعلاجات زائفة للمصابين بأمراض اضطرابات التمثيل الغذائي، لجهل معظمهم بالمرض” حسب تعبيرها.
وتشكو من توقف وزارة الصحة عن تسليم المرضى حصصهم من الحليب الطبي منذ عامين كاملين. تمسك طرف عباءتها السوداء وتقول بإنفعال:”أنا ربة بيت وزوجي عامل بأجر يومي ولم يتبق لي سوى هذه العباءة لابيعها، وثمنها لن يغطي سعر عبوة حليب واحدة، والتي يصل سعرها إلى 300 دولار”.
تناولت ريحانة قبل تجاوزها عامها الثاني، حليباً اتضح أنه منتهي الصلاحية، أدى الى تدهور حالتها وأصابتها بالغثيان والاسهال، بعد ذلك امتنعت الطفلة وكردة فعل لاأرادية منها عن تناول أي نوع آخر من أنواع الحليب.
تبين أمها:”اضطررنا إلى تغذيتها عن طريق الأنف بانبوب يصل الى المعدة بحليب بديل بلغت تكلفة العبوة الواحدة منه 100 دولار لا تكفي سوى ليومين فقط واستمر الحال لأشهر حتى غرقنا بالديون”.
طفل آخر عمره ثلاث سنوات أسمه عباس، من منطقة الكاظمية شمالي بغداد، عانى من تأخر في النطق والحركة مع اصابته بحالات اسهال مستمرة، وتباينت تشخيصات الأطباء الذين أخذته أمه اليهم ، حتى اكتشفت في شهر آذار/مارس2024 بعد فحوصات أجريت في تركيا، أن الطفل مصاب بمرض الفينيل كيتون يوريا Pku.
وتشكو الأم، وهي ربة بيت بدورها من عدم صرف الحصة المقررة لعباس من الحليب:”ابني يصرخ من الألم والجوع، فنضطر لإطعامه طعاماً عادياً، فيصاب بالتشنجات الشديدة أو الاغماء وأخاف أن يصاب بعوق في الدماغ أو يشل كما حدث لأطفال آخرين مصابين بنفس مرضه”.
ويُذكر أن ذوي المرضى يدفعون مبلغاً رمزياً مقداره 6000 آلاف دينار، لإستلام الحليب من وزارة الصحة حال توفره، والذي تحدد كميته لكل طفل حسب وزنه وعمره، ويمنح كما أسلفنا على أساس فحص مختبري جديد.
وتتراوح كمية الحصة شهريا بين 4 إلى 8 علب، غير أنه لايوزع بأنتظام، كما لاتوفر الوزارة سوى أنواعاً محددة من الحليب لاتتوافق مع جميع مرضى اضطرابات التمثيل الغذائي.

معاناة في عموم البلاد
معاناة ذوي أمراض التمثيل الغذائي، تكاد تكون واحدة في جميع المحافظات العراقية، إذ اطلعت معدة التحقيق على قصص العديد منهم والمصاعب التي يواجهونها في سبيل الحصول على الطعام الخاص من حليب وقمح وسواهما فضلاً عن الأدوية والفحوصات المختبرية، والافتقار الى البنى التحتية لاحتواء المرض والكوادر الطبية المتخصصة للتعامل معه.
جيهان علوان(40 سنة)من محافظة بابل جنوب العاصمة بغداد، تقول بحيرة، “لايوجد مركز نستلم منه الحليب في بابل، وكنا نضطر للذهاب إلى بغداد(90كم)ثم قدمنا طلباً لإستلامه من كربلاء(61كم)”.
كما أن مختبرات التحليلات اللازمة لمرضى التمثيل الغذائي غير موجودة في بابل، لذلك تضطر لأخذ ابنتها فاطمة(ثلاث سنوات) المريضة بـ Pku إلى مختبرات أهلية في بغداد:”واذا لم نجر التحليل بتاريخ جديد لا نستلم الحليب”.
مشيرة بذلك إلى أن الفحوصات الحديثة شرط من شروط التي تضعها وزارة الصحة أمامها لتسليمها حصة الحليب”مع أنها لاتوزعه بشكل مستمر”تقول بحيرة. أم فاطمة ربة بيت وزوجها عامل بناء، ولايمتلكان المال الكافي، وبسبب ذلك عجزا عن توفير الحليب والغذاء والعلاج لإبنتهما لما يقرب من سنة كاملة، مما أدى إلى تدهور حالتها الصحية.

وفي البصرة أقصى جنوبي العراق، تغالب أم سيف(28 سنة) دموعها وهي تتحدث عن طفلها(سيف 4 سنوات)المصاب بمرض التمثيل الغذائي من نوع( MSUD )الذي يٌعد شديد الخطورة، ويصيب الطفل بضمور الدماغ.
“أجريت تحليل الكشف عن المرض في عام 2020 بمختبر الفيحاء وبتكلفة بلغت 100 دولار وهو المختبر الوحيد الذي كان يجري هذا التحليل في البصرة حينها وتم غلقه لاحقاً دون معرفة الأسباب!”.

تواجه أم سيف مشكلة أخرى، وهي تكاليف جلسات العلاج الطبيعي لتقليل التشنجات الواجب اجراؤها بنحو يومي لأبنها وعلى مدى الحياة، تبلغ تكلفة الجلسة اليومية 17 دولاراً، أي 510 دولاراً في الشهر، وتضيف:”كما يتطلب علاج سيف مجموعة من مقويات الأعصاب وعلاج الصرع وأيضا أدوية مضادة للتشنجات”.
تضاف إلى كل ذلك التكلفة العالية للحليب النادر الذي عانت كثيرا للحصول عليه ولا سيما خلال أول سنتين من عمره:”حصلت عليه لمرة واحدة فقط مجاناً بعد سفري المرهق الى بغداد، وبعدها كنت اشتريه من السوق السوداء، والآن المشكلة تدور بشان توفير الطعام الخاص به”.
وفي محافظة ميسان جنوبي البلاد، تبرز مشكلة عدم توفر الأطباء المتخصصين، وقد دفعت الطفلة نور الهدى(6 سنوات)ثمن ذلك وفقاً لوالدتها التي تقول بأن الأطباء غير المتخصصين عجزوا عن تشخيص حالتها، فاصيبت “بتلف الدماغ نتيجة التشخيص الخاطيء”.
كما لايتوفر في مدينتها مختبر لفحص الغربلة ولا مركز لتوزيع الحليب أو العلاجات، وتشير إلى أنها تتكبد مشاق السفر إلى بغداد(320كم) والانتظار الطويل لإجراء الفحوصات في مستشفى الكاظمية.
تؤمن والدة نور مبالغ النفقات من خلال بيع الخبز الذي تعده في المنزل، وتعيل به كذلك زوجها المصاب بإعاقة عصبية ويعجز عن العمل.
وهناك في شمالي غرب البلاد حيث مدينة الموصل(405كم شمال بغداد)، يقول أبو آيات(35 سنة) كاسب(يعمل باجر يومي)، أنه نشر قبل أشهر في مجموعة على الفيسبوك خاصة بمرضى التمثيل الغذائي شيئاً عن حالة ابنته آيات(سنتان)، التي اصيبت بنوبة تشنجات وتقيؤ مستمر لعدم توفر الحليب المخصص لمرضى(MSUD)في الموصل.
ويروي كيف تفاعل معه أهالي المرضى:”حصلت على عبوة من حليب، جلبها لي شخص من المدينة ذاتها بعد منتصف تلك الليلة، وأنقذ بها ابنتي، بعد أن كنت قد فقدت الأمل بنجاتها”، مشيراً بذلك الى معاناة ذوي المرضى، وصراعهم اليومي من أجل تامين ما يبقي أطفالهم المرضى على قيد الحياة، ولاسيما عندما تتوقف وزارة الصحة عن توزيع الحصص المقررة من الحليب.

وفي مستشفى روبرين، بمدينة أربيل في أقليم كردستان، كانت مينا التي لايتجاوز عمرها السنة، ترقد في حجر والدتها وعلامات الإرهاق والمرض بادية على وجهها، تقول الأم بشيء من الحدة:”منذ عام 2020 لم نستلم حصة الحليب والعلاج سوى مرة واحدة في اربيل”. وتذكر أن ما يتحصل عليه زوجها عامل البناء من أجور، لاتغطي مصاريف الحليب والعلاج.
وتذكر أن تكلفة التحاليل التي تجريها لمينا كل ثلاثة أشهر، تبلغ 200 دولاراً:”نحصل على الحليب الطبي المهرب من ايران فنحن هنا نواجه صعوبة كبيرة لعدم السماح بدخوله عبر الحدود، كما لاتتوفر في الإقليم تحاليل الغربلة ولا يوجد أطباء متخصصون”.
تداعيات نفسية
جولةمعدةالتحقيق في محافظات العراق جعلتها تتوصل إلى حقيقة مفادها أن أعداد المصابين بامراض اضطرابات التمثيل الغذائي في تزايد، وذلك بسبب زواج الأقارب الشائع في البلاد وأن هنالك حاجة ملحة لزيادة الاهتمام بالاختبارات الجينية والبحثية في العراق، لرصد الأمراض هذه بوقت مبكر، وبث الوعي لدى الأهالي،.
إذ ثبت لها من خلال حواراتها معهم أن غالبيتهم العظمى لم يكونوا يعرفون شيئا عن اضطرابات التمثيل الغذائي إلا بعد اكتشاف أمراض أبنائهم او تفاقمها، وذلك بسبب غياب التشخيص الدقيق، وانهم واقعون تحت تأثير ضغوط نفسية جسيمة جراء ذلك.
المختص بالطب النفسي ذو الفقار اللهيبي، يقول بأن:”زواج الأقارب يتسبب أحيانا بظهور أمراض وراثية كاضطرابات التمثيل الغذائي، وإذا لم يتم الكشف عن هذه الامراض في الأسبوع الأول من الولادة ويغذى الطفل بحليب خاص بحالته فإنه يتعرض للإعاقة الذهنية”.
ويشير إلى أن مرض الفينيل كيتون يوريا Pku الشائع في العراق على سبيل المثال، يؤدي مع كل أسبوع تأخير في معالجته”إلى تراجع معدل الذكاء للطفل المريض”.
ويستدرك:”حتى مرض الفينيل كيتون يوريا، يتكون من نوعين، النوع الاول هو الكلاسيكي(الشديد) وهنا يكون الانزيم ضئيلاً أو مفقود كلياً، مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الفينيل ألانين مسبباً ضرراً أكبر بالدماغ، والثاني، معتدل يكون فيه الإنزيم موجوداً لكن يؤدي وظيفته بصورة أقل فعالية مما ينتج نسبة أقل من الفينيل ألانين، مسبباً ضرراً أقل للدماغ”.
ويؤكد حاجة مرضى التمثيل الغذائي الى علاج نفسي بنحو مستمر:”نظراً لتعرضهم للضغط النفسي والتنمر من قبل الأهل والغرباء، كما يعانون من الضرر العصبي النفسي والعضوي والضغوطات من العائلة اضافة الى معاناتهم من الضمور والصرع و فقدان النطق”.
ويلقي الطبيب ذو الفقار، باللائمة على الأطباء الذين يشخصون اضطرابات التمثيل الغذائي بنحو خاطئ:” هنالك على سبيل المثال من يشخص مرض الفينيل كيتون يوريا على أنه توحد و لكنه في الحقيقة يشبه التوحد وعلاجه النفسي يكون مختلفا تماماً”.
ويستدرك:”خوف أهالي مرضى التمثيل الغذائي من أن يصاب مواليدهم الجدد بالمرض عينه، يثقل كواهلهم كثيراً وينعكس بالمجمل على صحتهم النفسية”.
وتلفت خبيرة مرض التوحد نور الطائي، من العاصمة بغداد، إلى أن دراسات طبية، توصلت إلى أن حالات التنمر التي يواجهها مرضى اضطرابات التمثيل الغذائي هي بسبب:”رائحتهم المميزة التي تشبه رائحة الطيور أو الفئران وذلك بسبب تراكم البروتين في الجسم، وأيضا بسبب معاناتهم من صعوبة النطق و تغير لون جلودهم وشعر رؤوسهم”.
أم رزان(سنة33) ربة بيت من منطقة العبيدي شرقي بغداد، لاتريد إنجاب مزيد من الأطفال، بسبب تجربتين خاضتهما، الأولى خاصة بإبنتها رزان 5 سنوات، المصابة بمرض التمثيل الغذائي الوراثي (MSUD).
وقبلها، لفقدانها أبنها أحمد وهو بعمر 18 شهراً فقط:”لم يكتشف الأطباء مرضه مبكراً ولم نكن نعرف اصلاً أي شيء عن المرض وما يتوجب أن نطعم به الصغير”، لهذا هي ترى بأن إنجاب طفل آخر يعني اصابته بالمرض ذاته بنحو مؤكد، لذلك تستبعد الفكرة من ذهنها بنحو قطعي.
تمتليء عيناها بالدموع:”أصعب شيء تواجهه الأم أن يكون فلذة كبدها مريضا ولاتعرف كيف تساعده”، معبرة بذلك عن معاناتها النفسية، وتضيف بكثير من الحزن:”أشعر أصلا بتأنيب الضمير لأنني وزوجي أورثنا لطفلينا المرض، ولا يستريح لي جفن من قلقي وخوفي المستمرين من أن تلقى المسكينة رزان نفس مصير شقيقها أحمد”
***
ملاحظة: عند كتابة هذا التجقيق، كان سعر صرف 100 دولار أمريكي في أسواق بغداد يساوي(153 الف دينار). مع العلم أن أن السعر الرسمي من البنك المركزي هو(132الف دينار)مقابل 100 دولار.
- أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية ضمن منحة زمالة ميدان.
المزيد عن تحقيقات استقصائية
تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":27423}" data-page="1" data-max-pages="1">