تحليل: العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل

العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل

لماذا تهتم الصين لأمر العراق؟ وما الذي تريده بغداد من بكين؟ ما شكل علاقتهما التاريخية؟ وأي عقود اقتصادية تربط البلدين؟ هل تمثل الصين بديلاً للغرب في العراق؟ وكيف يتم التعامل معها؟

على الرغم من مرور نحو 70 عاماً على العلاقات العربية الصينية، وبضمنها العلاقة مع العراق، لم تطور الصين سياسة واضحة تجاه دول الشرق الأوسط وبغداد، إلا بعد بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بالتزامن مع الانسحاب الأمريكي من العراق 2011، والانعطاف نحو آسيا في العام 2012، فأخذ الفراغ ينشأ تدريجياً وصار العراق مثالاً واضحاً على اهتمام الصين المتزايد في المنطقة. فموقع العراق الجغرافي الاستراتيجي وثرواته النفطية تجعله هدفاً جذاباً للاستثمارات الصينية. كما أن التطورات السياسية والأمنية في العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003 وصولاً الى العام 2011 خلقت فرصاً جديدة للتعاون العراقي الصيني. 

يعود الاهتمام الصيني بالعراق لعدة أسباب: الأمن الطاقوي، فالصين تعد من أكبر مستهلكي الطاقة في العالم، والعراق من أغنى دول العالم بالنفط، وعليه تسعى الصين لضمان إمدادات ثابتة من النفط العراقي.  

ثانيا: مبادرة الحزام والطريق، تسعى الصين عبر هذه المبادرة الضخمة إلى ربط الصين بدول العالم عبر شبكة من البنية التحتية، ويبرز العراق هنا كحلقة في هذه الشبكة في منطقة الشرق الأوسط. 

ثالثاً: التوازن الاستراتيجي، إذ تسعى الصين إلى تحقيق نوع من التوازن الاستراتيجي في مواجهة الولايات المتحدة، وتعتبر الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق، ساحة مهمة لهذه المنافسة.  

رابعاً: التأثير الثقافي، تسعى الصين إلى توسيع نفوذها الثقافي وتعزيز الترابط الثقافي والاجتماعي مع الدول ذات الإرث الحضاري وهنا يبرز العراق كدولة ذات ميراث حضاري عميق يعود إلى سبعة آلاف سنة. 

في ضوء هذه الرؤية يمكن تصوّر علاقات الصين بالعراق، وعليه تلعب متغيرات كثيرة كالجغرافية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية، دوراً كبيراً في هذه العلاقة.  

أولاً: أثر الجغرافية في العلاقات العراقية الصينية 

لا يمكن للصين أن تبقى ساكنة إزاء الفرص الواعدة في العراق الذي يتمتع بموقع جيوسياسي مميز أعطاه أهمية جيوإسيتراتيجية كبيرة للقوى الدولية، إذ يقع العراق في قلب الشرق الأوسط ويحتل نقطة وصلٍ بين آسيا وأوروبا وهذا ما جعله يحظى باهتمام كبير، لاسيما من قبل الصين التي تُعرّفُ المنطقة التي يقع فيها العراق ضمن ما يسمى بدول “الجوار الموسع” والتي تشمل دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط. علاوة على ذلك، تعد الصين العراق ضمن الدول الواقعة في غرب آسيا، أو هكذا تراه في تقسيماتها الجغرافية، إذ تميل لاستخدام مصطلح “غرب آسيا وشمال أفريقيا” كبديل عن مصطلح الشرق الأوسط لتعريف هذه المنطقةi

وعلى الرغم من الحساسيات والتعقيدات الجيوسياسية التي تزخر بها منطقة الشرق الأوسط، تقسم الصين جغرافيا دول المنطقة الى نموذجين، بناءً على معيارين أحدُهما سياسي والآخر اقتصادي.  

  • النموذج الأول: الدول ذات الثقل الاقتصادي في المنطقة. وحسب الفكرة الصينية هي دول العراق وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي. 
  • النموذج الثاني: يعكس الدول ذات الثقل السياسي في المنطقة. وهو الأمر الذي تحصره الصين بتركيا وإيران وإسرائيل ومؤخراً السعودية، نظراً لأهمية ما تشكّله هذه الدول من قوة فاعلة في المنطقة بالنسبة للصين.  

ولضمان مصالحها الرئيسة وطموحاتها الجيواستراتيجية في الشرق الأوسط وتعزيز وضعها كقوة عظمى، تأخذ صناعة القرار في الصين بنظر الاعتبار قانون التوازن البراغماتي لتنمية علاقتها مع العراق بوصفه من دول النموذج الأول، دون التأثير على علاقات الصين بدول النموذج الثاني، حتى تتمكن من ضمان استمرار مصالحها في المنطقة شديدة التعقيد. 

ثانياًجذور العلاقات السياسية العراقية الصينية 

يلعب التاريخ دوراً كبيراً في العلاقات العراقية الصينية، حيث تعود العلاقات بين البلدين إلى أكثر من 2000 سنةii. أما في الحقبة المعاصرة، فقد مرت العلاقات العراقية الصينية بثلاث محطات مفصلية، وهي كما يلي: 

المرحلة الأولى: تأسيس العلاقات بين العراق والصين 1958 

على الرغم من العلاقات العراقية الصينية الرسمية تعود إلى عام 1958، واعتراف الصين بمملكة العراق منذ العام 1942، بيد أن العلاقات بين الطرفين كانت ضئيلة ولم تتطور كثيرا، ويعزى ذلك للدعم الصيني برئاسة ماو تسي تونج عام 1949 للحركات القومية والتحررية على مستوى العالمiii، وهو ما لم يكن يلقى صدىً كبيراً لدى العراق الملكي الذي كان يواجه تحديات داخلية من لدن الحركات القومية والشيوعية الناشئة آنذاك، وهي الحركات التي اطاحت بالنهاية في الحكم الملكي. وعليه عقب الانقلاب العسكري عام 1958 الذي قاده الجنرال عبد الكريم قاسم، ومغادرة حلف بغداد المدعوم من الغرب، وتشكيله لحكومة قومية، انتهزت الصين الفرصة للترحيب بالتغيير الناشئ، وصنفت العراق كدول معادية للإمبريالية، وبادرت أولاً واعترفت بالعراق الجمهوري في 16 تموز 1958، وفي اليوم الذي تلاه 17 تموز 1958 اعترف العراق بجمهورية الصين الشعبية، واتفق الطرفان على اقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما اعتبارا من 25 آب 1958iv، وصار يلاحظ المؤرخون التأثير الكبير لدعم الصين “للعراق الثوري” على النخب العراقية آنذاك وعلى رأسها الفصائل اليسارية، مما أدى الى إرساء أسس الحركة الماوية العراقية الكرديةv

انتعشت العلاقات العراقية الصينية في عهد عبد الكريم قاسم، ووقع الطرفان 4 اتفاقيات تجارية ووَضَعا لجاناً مشتركة لمتابعتها، وعلى الرغم من الانقلابات السياسية التي عاشتها بغداد، لم تغيّر الصين موقفها من العلاقة مع العراق. بل طورتها بشكل أكبر. فقد أدّى التنافس الايديولوجي والجيوسياسي الصيني السوفيتي الى تنمية العلاقات العراقية الصينيةvi. وتوج العراق علاقته بالصين في العام 1971 بتوقيعه اتفاقيتين اقتصاديتين وفنيتين، وأستمر البلدان في الحفاظ على علاقتهما الثنائية بالرغم من ضغوط الاتحاد السوفييتي على العراق لتقليصهاvii. وخلال مرحلة الثمانينيات تطورت العلاقات بين البلدين عسكريا واقتصاديا، حتى أصبح العراق في الثمانينيات أحد أكبر عملاء الصين العسكريين خلال الحرب العراقية الايرانية، فطوال فترة الحرب التي استمرت 8 سنوات، جاءت 9 بالمائة من الاسلحة العراقية من الصين وبقيمة 4.2 مليار دولار، ناهيك عن استمرار العلاقات التجارية والاقتصادية بين الطرفين، ففي العام 1987 أصبح العراق أحد اكبر اسواق العمالة الصينية بقيمة 657.67 مليون دولار أمريكي، وكان لدى الصين مشاريع مقاولات في العراق بقيمة 670.04 مليون دولار أمريكي. وشهدت الفترة بين عامَي 1979 و1986 التعاقد مع ما يقرب من 22000 عامل صيني في أكثر من 140 مشروعاً في العراق. وبحلول العام 1985، كان لدى الصين 444 عقداً في مشاريع بناء مختلفة بلغت قيمتها 1.53 مليار دولار أمريكي، وبحلول عام 1990، كان لدى الصين 662 عقدًا بقيمة 1.98 مليار دولار أمريكيviii

المرحلة الثانية: العلاقات بين العراق والصين خلال حرب الخليج الثانية 

قوّض غزو نظام صدام للكويت عام 1990، والحملة العسكرية لتحريرها بقيادة الولايات المتحدة، الموقف الصيني تجاه العراق بشكل خاص والشرق الاوسط بشكل عام. فقد ايدت الصين قرارات مجلس الامن رقم 660 و661 التي فرضت عقوبات اقتصادية تجاه العراق، غير أنها لم تدعم قرار 678 لشن الحرب ضدهix، وأجاز امتناعها عن التصويت لدول التحالف بقيادة الولايات المتحدة استخدام القوة ضد العراق. في وقت كان الاتحاد السوفيتي انهار ودخل خانة الماضي، فيبدو أن الصين وجدت في أحداث غزو الكويت فرصة لتصحيح علاقتها المضطربة مع الولايات المتحدة، وبيان أنها اصبحت دولة تشعر بمسؤوليتها في المجتمع الدولي، لاسيما بعد العقوبات التي تعرضت لها الصين عقب احداث ميدان تيان آن مين عام 1989x

وعلى الرغم من موقف الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن، فضّلت الصين الوسائل الدبلوماسية في تسوية الأزمة مع العراق، ودعته إلى الامتثال لقرار مجلس الأمن والاستجابة لوساطة الجامعة العربية والوساطة الدولية، وعند اندلاع الحرب رفضت الصين المشاركة في حرب تحرير الكويت، حيث صورت الحرب على أنها “صراع بين الهيمنة العالمية الإقليمية” وأن الولايات المتحدة تسعى الى “الهيمنة على العالم”xi.  

بالمجمل، عقب الحرب، تراجعت العلاقات العراقية الصينية بسبب العقوبات المفروضة على العراق، غير أن الصين تجنبت قطع العلاقة مع بغداد. وبالرغم من ذلك، تكبدت التجارة الثنائية بأكملها خسارة 7 مليارات دولار، في حين انخفضت التجارة من جهة الصين مع العراق من حوالي 158 مليون دولار في الثمانينيات الى 5.52 مليون دولار خلال العقوبات الاقتصادية الاممية في التسعينيات. ثم استؤنفت العلاقات التجارية بين العراق والصين في العام 1996 من خلال برنامج النفط مقابل الغذاء، ووقعتا بكين وبغداد عام 1997 عقد انتاج مشترك لمدة 22 عاماً لحقل الأحدب النفطي في محافظة واسط، وهو المشروع الذي توقف بسبب الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003. 

المرحلة الثالثة: العلاقات العراقية الصينية بعد العام 2003 

في الوقت الذي اعربت الصين عن قلقها الشديد، قبل وبعد الغزو الأمريكي للعراق وتداعياته على المنطقة، سرعان ما دعمت العملية السياسة الجديدة فيه، خشية فقدان مشاريعها المربحة.  

فقد كانت الصين من أوائل الدول التي رحبت بأنشاء مجلس الحكم العراقي، بوصفه أول آلية وطنية لصنع القرار في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي. وبموجب ذلك زار رئيس مجلس الحكم العراقي الراحل جلال طالباني الصين في آب 2003، التقى فيها عضو مجلس الدولة تانغ جيا شوان، تلاها زيارة اخرى في اذار 2004 من قبل رئيس مجلس الحكم محمد بحر العلوم التقى فيها بالرئيس الصيني هو جين تاو. وهي الزيارات التي اكدت فيها الصين على استعدادها للعب دور إيجابي بإعادة اعمار العراق والغاء ديونه للصين، وكررت التأكيد على سيادة العراق واستقلالية سياسته الخارجية، ومن ناحية أخرى أسهمت هذه الزيارات في طمأنة الصين على مشاريعها المتوقفة في العراق ولاسيما الاتفاقية النفطية الموقعة في العام 1997. وفي ظل هذا التطور أعادت الصين فتح سفارتها في العراق في تموز 2004، بالمقابل عين العراق محمد صابر اسماعيل سفيراً له في الصين في العام نفسهxii

ومن هنا اخذت العلاقات الثنائية بين الطرفين تشهد صعودا متزايدا، لاسيما بعد العام 2007، حينما زار الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني الصين في أول زيارة يقوم بها رئيس عراقي، والتقى هناك بالرئيس الصيني هو جين تاو، ووقع البلدان حينها أربع اتفاقيات تعاون في القضايا الاقتصادية والفنية وبرامج تدريب الموارد البشرية، بما في ذلك اتفاقية الغت بعض ديون العراق للصين، والتي جرى تطبيقها في العام 2010 حينما ألغت الصين 80% من الديون، والتي بلغت 8.5 مليار دولار أميركي، فضلاً عن انشاء آلية للتشاور السياسي بين وزارتي الخارجية العراقية والصينيةxiii

ثم نمت وتطورت العلاقات بين البلدين عقب زيارة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في تموز 2011، التي القى فيها بالرئيس الصيني هو جين تاو، وأعلن من هناك استعداد العراق لدعوة مزيد من الشركات الصينية للمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار، بما في ذلك مشاريع البنى التحتية والموانئ والمطارات والسكك الحديديةxiv. حينها، طلب المالكي انشاء صندوق للمساعدة في إعادة اعمار العراق مقابل النفط، وذلك بحسب المتحدث باسم الحكومة العراقية آنذاك علي الدباغxv.  

بالمجمل مهّدت كل هذه الاتفاقيات والمفاهيم الطريق فيما بعد لتعميق علاقتهما الثنائية على مختلف الصعد، والارتقاء بها الى مستوى الشراكة الاستراتيجية بما في ذلك مشاركة العراق في مبادرة الحزام والطريق.  

ثالثاً: العلاقات الاقتصادية بين العراق والصين 

تسيطر العلاقة الطاقوية على مجمل العلاقات الاقتصادية بين العراق والصين، ويصح القول إن عماد الترابط المتبادل بين البلدين هو قطاع النفط، فالصين تعتمد على النفط العراقي، ويعتمد العراق بالمقابل على مشتريات الصين. وبموجب الاعتماد الصيني المتزايد على النفط العراقي، أضحى العراق يشكل عنصراً حيوياً في استراتيجية أمن وإمدادات الطاقة الصينية من الشرق الأوسط الذي بات جزءاً من الأمن القومي الصيني.  

ويحظى نفط العراق بأهمية أكبر من نفط دول الخليج ليس لأنه ثاني أكبر منتج للنفط في أوبك ويمتلك خامس أكبر احتياطيات النفط المؤكدة، بل لأن النفط العراقي يوفر فرصة تحوطية للصين، ويسهم بخفض اعتمادها على السعودية، التي تحتل مرتبة أكبر مورد نفط خام للصين من بين دول الشرق الأوسط(xvi)، أو سد الثغرة التي تخشاها الصين إذا ما تعرضت هذه الامدادات لخطر الضغط الأمريكي. لذلك يرى المخططون الصينيون: إنَّ قوة ونفوذ الصين في أي أزمة أو حرب مع الولايات المتحدة الأمريكية، ستعتمد على قدرتها في الحفاظ على إمدادات الطاقة بالشكل الذي يمكن أن يستمر فيه الاقتصاد العسكري بالعمل(xvii)

وعلى وفق ذلك، فإن العلاقة “الطاقوية” بين العراق والصين تحظى بأهمية استراتيجية وأمنية، لاسيما في ظل مسعى الصين إلى تنويع سلاسل امداد الطاقة ومورديها، وعليه منذ العام 2003 زادت الصين تدريجياً من مشاركتها الاقتصادية في العراق، فشهدت العلاقات بين الطرفين قفزة نوعية في مجال الطاقة، واستكمالاً للصفقات السابقةً أعادت حكومة نوري المالكي التفاوض على صفقات النفط الصيني التي أُبرِمَت قبل العام 2003 وخاصة حقل الأحدبxviii، ما فسح لاحقاً المجال للصين لتعزيز محفظتها الاستثمارية في العراق بشكل غير مسبوق، حيث أبرمت الشركات النفطية الصينية اتفاقيات محددة المدة مع شركة تسويق النفط العراقية (سومو) كعقود خدمة فنية لاستثماراتهم النفطية، يتم سداد بعضها بالنفط(xix). وبموجب هذا التطور تمتلك شركة النفط الوطنية الصينية (CNPC) حالياً حصصاً كبيرةً في حقول النفط [الأحدب والرميلة والحلفاية وغرب القرنة] في حين تستحوذ الشركات الصينية الأخرى على حصص كبيرة من حقول نفط [طق طق، وحلفايا النفطي، وحقل ميسان النفطي]، وواقعاً يمكن القول إن أكثر من نصف إنتاج العراق من النفط يأتي من حقول النفط التي تعمل فيها شركة النفط الوطنية الصينية وشركات صينية أخرى كمشغلين أو شركاء غير مشغلين. لذلك يشمل الوجود الصيني في قطاع الطاقة العراقي العديد من شركات الخدمات التي تعمل في أنشطة المنبع النفطية مثل الحفر والتوريد وبناء المنشآت السطحية وخطوط الأنابيب وإدارة الحقول.xx

وبالتزامن مع تدهور البيئة الاستثمارية في العام 2020-2021 واتفاق أوبك+ على خفض الإنتاج وانعدام الأمن، بما في ذلك انسحاب شركات النفط الغربية من وسط وجنوب العراق بأعقاب الهجمات الارهابية التي تعرضت لها هذه الشركات دون الشركات الصينية، عملت الصين على استثمار هذه البيئة المعادية للشركات الغربية، لتزيد من عمليات استحواذها على أسهم الشركات النفطية الغربية في العراق وتحل محلها في عمليات انتاج واستخراج النفط، علاوة على سعي الصين لتوظيف هذه الفرصة عن طريق جعل الشركات الصينية هي البوابة التي تعمل تحت مظلتها شركات النفط الغربية في العراق(xxi)

وبالرغم من أن هذه التحركات الصينية اثارت قلق بغداد جزئيا، بسبب استعداد الصين لشراء أسهم شركات النفط الغربية، مما يعني أن الصين ستهيمن أكثر على قطاع النفط، أحبطت حكومة مصطفى الكاظمي 3 صفقات نفطية كانت وشيكة لشركات صينية في عام 2021xxii. غير أن استجابة الغرب للتمسّك العراقي بشركاته كانت ضعيفة، ليس لأسباب أمنية تتعلق بالعراق، وإنما لتغيُّر أولويات بعض الشركات الأمريكية عقب رواج أجندة التغير المُناخي وخفض استخدام الوقود الأحفوري بين الشركات الغربية. ونظراً لعزوف الكثير من الشركات الغربية عن الاستثمار في قطاع النفط والغاز في العراق حتى عقب حصولها على بعض الوعود والتسهيلات من حكومة محمد شياع السوداني، تصدّرت شركات الطاقة الصينية منافسات جولتي التراخيص الخامسة التكميلية والسادسة لتطوير مشروعات النفط والغاز في العراق التي عقدت في 13 أيار 2024، واقتنصت أغلب مشروعات تطوير الرقع الاستكشافية في كل من محافظات النجف والانبار، والمثنى، ورقعة [زرباطية] في واسط، ورقعة [جبل سام] في البصرة على حدود العراق مع الكويت، فضلاً عن الفوز بعقود تطوير الرقعة الاستكشافية رقم 7  التي تمتد عبر محافظات شريط الديوانية بابل والنجف وواسط والمثنى بالقرب من حقلي [الغراف والناصرية]xxiii.  

بالمجمل، خلال عقدين من الزمن تحوّلت الشركات الصينية إلى وضع “مُـهَـيمِـن” بقطاع الطاقة بالعراق مقارنة بغيرها من الشركات، وبموجب ذلك أصبحت الصين اليوم أكبر مستثمر للنفط والغاز في العراق. بالمقابل أصبح العراق حتى العام 2024، ثالث أكبر مورد للنفط إلى الصين، بعد روسيا والسعودية.  

ولكن العلاقات العراقية الصينية في مجال الطاقة تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد التجارة في النفط الخام. فقد نجحت شركات الطاقة المملوكة للدولة في الصين بترسيخ موطئ قدم قوي في سوق المنبع والمصب في العراق، إذ إن شركات النفط الصينية المملوكة للدولة، على عكس الشركات الغربية، تقبل بأرباح أقل مما تقبله أغلب منافساتها من الشركات الغربية، فالأولوية التي تعمل لها تلك الشركات ليست العائد من الاستثمار بقدر ضمان إمدادات مستقرة من النفط إلى الصين من دول المنبع(xxiv)، وهو ما ينسجم مع الرؤية التحوطية لصانع القرار الصيني تجاه أمن الطاقة. وفي ضوء تلك الإستراتيجية فازت الشركات الصينة بأغلب الصفقات النفطية في العراق، وتخطط لتطوير عشرات الحقول النفطية فيه(xxv)

رابعا: العلاقات التجارية بين العراق والصين 

إلى جانب العلاقات الاقتصادية الطاقوية بين العراق والصين، تبرز العلاقات التجارية بين البلدين كمتغير أساسي في الترابط والاعتماد المتبادل. فقد نما التبادل التجاري بين البلدين بعد العام 2003 بشكل غير مسبوق. فبعدما كان العراق في ذيل قائمة دول الشرق الأوسط من ناحية التبادل التجاري مع الصين، أصبح مؤخراً على رأسها بين المستوردين وثالث المصدرين إليهاxxvi.  

بعد عام 2003، وفي محاولة إعادة تأسيس وجودها في العراق، انضمت الصين إلى العهد الدولي مع بغداد، وتعهدت بتقديم منحة قدرها 50 مليون يوان صيني (حوالي 6.5 مليون دولار أمريكي) للمساعدة في الصحة العامة والتعليمxxvii، ومُذّاك، أعادت الصين تموضعها في العراق عبر القوة الناعمة ودخلت مختلف الأسواق العراقية، وفي العام 2008 ارتفع حجم التجارة الثنائية إلى 2.57 مليار دولار أمريكي بزيادة 76.9 مقارنة مع السنوات السابقةxxviii، وازداد نطاق التوسع خلال حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وبحلول نهاية العام 2013، تجاوزت الصين الولايات المتحدة بوصفها أكبر مستثمر أجنبي في العراق وتجاوزت الولايات المتحدة بوصفها الشريك التجاري الأول للعراقxxix. وانسجاما مع هذا التطور رفع البلدان مستوى العلاقات بينهما في العام 2015 إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية على أثر زيارة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي إلى الصين. ما أعطى زخماً كبيراً للعلاقات التجارية العراقية الصينية، حيث تجاوز حجم التجارة الثنائية بينهما 30 مليار دولار في العام 2018، وحلّت الصين محلّ الهند كشريك تجاري رئيس للعراق الذي أصبح منذ ذلك الحين ثالث أكبر مصدِّر نفط للصينxxx.   

ونظراً لهذا التوسع، وصف رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي عند زيارته الصين في أيلول من العام 2019 العلاقاتِ الثنائيةَ بانها تبشر بـ “قفزة نوعية”، وهي الزيارة التي توجت بتوقيع 8 مذكرات تفاهم واسعة النطاق، واتفاقية ائتمان إطارية فيما تعرف شعبياً بـ الاتفاقية الصينية، والإعلان عن خطط العراق للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومنذ ذلك الحين اجتاحت البلادَ موجةُ من الاحتجاجات الغاضبة المناهضة للحكومة في معظم أنحاء العراق ومناطق الوسط والجنوب خصوصاً، وقد تم تفسر هذه الاحتجاجات من قوى سياسية على أنها محاولة غربية للحيلولة دون توطيد العلاقات بين الصين والعراقxxxi

خلال السنوات 2019-2020-2021-2022-2023 شهدت صادرات الصين للعراق تزايداً كبيراً من ناحية السلع ورأس المال، حتى تجاوزت 100 نوع من السلع، وعلى الرغم من تنوع صادرات الصينية للعراق، تبقى صادرات العراق للصين أحادية وغير متنوعة حيث يمثّل النفط ومشتاقته 95 بالمائة منها، إذ يقدر المركز التجاري الدولي (ITC) حجم التبادل التجاري بين العراق والصين لعام 2023 بحوالي 49.7 مليار دولار، كان 14.3 مليار منه صادرت الصين للعراق، و35.4 مليار كان صادرات العراق للصينxxxii

حجم التبادل التجاري بين العراق والصين 2019- 2023 

المصدر: إحصائية مديرية الجمارك الصينية CGACS والمركز التجاري الدولي (ITC) بالاعتماد على محمود بابان، التبادل التجاري وإستثمارات الصين في العراق، فرصة ام خطر؟، مركز رووداو للدراسات (أربيل: شبكة رووداو الإعلامية، 2024) ص 3 

خامساًالتبادل الاستثماري بين العراق والصين 

تعد الصين واحدة من كبريات الدول التي تستثمر في العراق، فبعيدا عن الاستثمارات الصينية في قطاع الطاقة العراقي والتي تصل إلى 31 مشروعاً، تستثمر الصين أيضاً في القطاع العقاري، فخلال عقدين الماضيين وصل الاستثمار الصيني في العالم الى أكثر من 2.4 تريليون دولار، في حين بلغ الاستثمار الصيني في الشرق الأوسط الى إلى 250.3 مليار دولار، كانت 13.6% منها، والذي يعادل 34.2 مليار دولار، في العراقxxxiii. لا تتركز في التنقيب عن النفط فقط، بل تتنوع لتشمل البنية الأساسية مثل محطات الطاقة ومصانع الإسمنت ومرافق معالجة المياه، وتشارك العديد من الشركات الصينية حالياً في مشاريع بناء كبرى في العراقxxxiv، في الوقت الذي تسعى الصين إلى استكمال استثماراتها في محافظة المثنى التي تصل إلى 20 مليار دولار في سلسلة من مشاريع الصناعة الإنشائية وعلى مرحلتين، تتضمن الأولى انشاء مصانع للأرضيات والبورسلين “نانو كرستال”، والأدوات الصحية وسيراميك “للإكسسوار المذهب”، وللورق والكرتون المقوى بطاقة 125 مليون كرتونة شهرياً، أما المرحلة الثانية، فتكون مخصصة لإنشاء 6 مشاريع ومحطة لتوليد الطاقة الكهربائية بطاقة 1000 ميغاواطxxxv

وبحسب بحث أجرته جامعة فودان في الصين في عام 2021، جاء العراق بوصفه المستفيد الأبرز من استثمارات مبادرة الحزام والطريق من دول الشرق الاوسط، بنحو 10.5 مليار دولار أميركي من عقود البناء في العام 2021xxxvi

ومما يلاحظ في هذا المجال، وعلى الرغم من فترات عدم الاستقرار التي شهدها العراق منذ عام 2003 وحتى عام 2017 وما بعده بسبب الأوضاع الأمنية، لم تتأثر تجارة واستثمار الصين بالوضع الداخلي العراقي، بل كانت تزداد خلال العقدين الماضيينxxxvii، ما يوحي بأن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والعراق سوف تتحول إلى نفوذ سياسي مع مرور الوقت، لاسيما في ظل استعداد بكين لتوسيع حضورها الاقتصادي والسياسي أكثر. 

سادسا: العلاقات العسكرية العراقية الصينية 

بالتوازي مع الأولوية الاقتصادية التي تطغى على العلاقات العراقية الصينية، صار ينمو بُعدٌ عسكري محدود بين البلدين، ففي الوقت الذي تسعى فيه الصين إلى تقديم نفسها كدولة قادرة على تعزيز العلاقات المستدامة مع مختلف الدولxxxviii، يسعى العراق إلى تعزيز قدراته الدفاعية وتوسيع قدراته العسكرية، ومن هنا تبرز الصين كطرف مهم وملبي بعضاً من الاحتياجات الدفاعية لبعض دول الشرق الأوسط، في الوقت الذي تفرض الولايات المتحدة قيوداً بيروقراطية وشروطاً قيمية على صادرتها العسكرية لبعض دول المنطقة ومن بينها العراق. فتأتي المعدّات العسكرية الصينية كقيمة مضافة أو تعويضية بتكلفة أقل وغير مقرونة بأي شروطxxxix، فرؤية الصين لصادراتها العسكرية لا تختلف عن رؤيتها لصادرتها التجارية، فهي بالنهاية سلعة صينية تبحث عن مشتري.  

يمكن تصنيف التعاون العسكري العراقي الصيني، حديث الولادة، لأن بدايته الأولى بعد جاءت عام 2007، حينما أعلن الرئيس السابق جلال طالباني أن العراق اشترى من الصين معدات عسكرية خفيفة للشرطة العراقية بقيمة 100 مليون دولار، بسبب عدم قدرة الولايات المتحدة على توفير بعض الأعتدة للقوات الأمنية العراقية بالسرعة الممكنةxl. ثم جرى مرة أخرى التعاقد مع الصين، خلال ذروة الحرب على داعش وحاجة بغداد الماسّة للتسليح عام 2017، بصفقة قيمتها 2.5 مليار دولار، لتزويد العراق بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وعلى طريقة الدفع بالآجل لكل من وزارتي الداخلية والدفاع وهيئة الحشد الشعبي وجهاز مكافحة الإرهابxli

تشهد صادرات الصين من الأسلحة إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نموّاً، مع اتجاه العديد من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة لشراء أسلحة ومعدّات صينية، حتى باتت نسبة كبيرة من الطائرات من دون طيار (المسيّرة/الدرونز) الموجودة في حوزة دول المنطقة هي من أصل صيني كدول مثل الإمارات ومصر والسعودية والجزائر. وفي ظل هذا التوجه، أخذ العراق يتجه نحو اقتناء بعض من هذه الطائرات، وفي عام 2024، بناء على اتفاق بين العراق وشركة علوم وتكنولوجيا الفضاء الصينية، حصلت بغداد على طائرات صينية مسيرة من نوع (Cai Hong-5) وتسمى اختصارا  CH-5، وهي طائرة مقاتلة طويلة المدى متوسطة الارتفاع من تصنيع شركة CASC الصينية، وتُعَدُ بمثابة تطور مهم عن سابقاتها، CH-3 وCH-4، التي كانت تستخدمها القوات الجوية العراقية لنحو عقد من الزمن، فهي تتمثل بقدرتها على التحليق في الجو لمدة تصل إلى 60 ساعة، إلى جانب القدرة على حمل مجموعة من الأسلحة، تصل إلى 16 ذخيرة جو أرض مثل Blue Arrow 7 الموجهة بالليزر، والقنابل الموجهة بالليزر، إلى جانب الصواريخ المضادة للدبابات. ويمتد المدى التشغيلي للطائرة CH-5 حتى 250 كيلومتراً ويمكن توسيعه إلى 2000 كيلومتر عند استخدام الاتصالات عبر الأقمار الصناعيةxlii 

وفي ظل حاجة العراق للسلاح وتنويع مصادره، تخطو الصين باتجاه أن تصبح مورّدَ سلاح أساسياً للعراق، فعلى مدى التعاون الثنائي بين البلدين، سلمت الصين العراق مجموعة متنوعة من المعدات العسكرية، بما في ذلك المركبات المدرعة مثل الدبابات القتالية الرئيسة من طراز 59 و85، وناقلات الجنود من طراز WZ-551، وأنظمة المدفعية، والطائرات بدون طيار المتقدمة مثل CH-4 وCH-5. ويمتد هذا التعاون أيضا إلى تدريب القوات العراقية والدعم الفني لاستخدام وصيانة هذه المعداتxliii

ولا يمكن للولايات المتحدة إلّا أن تنظر لهذا التطور بالعلاقة العراقية الصينية بتوجّس، مع علمها أنه جزء من استراتيجية أوسع نطاقاً، تسعى من خلالها الصين إلى مضاعفة نفوذها في الشرق الأوسط بالتوازي من التخفيف التدريجي الأمريكي من التواجد بالمنطقة. 

وفي الوقت الذي يُقرأ فيه حصول العراق على الطائرات المسيرة الصينية، كثقة متزايدة في التكنولوجيا العسكرية الصينية وتطور كبير في القدرة العسكرية العراقية، وبالتالي تعزيز دور الصين كلاعب استراتيجي رئيس في المنطقة. لكنْ في الواقع، يستخدم العراق التسليحَ الصينيَ في الحالات التي يجد نفسه متعسّرًا في الحصول على الأسلحة التي تعزز قدراته الدفاعية من الولايات المتحدة والغرب، علاوة على سعي العراق الدائم إلى تنويع مصادر تسليحه وتعزيز قدراته الدفاعية الجوية في مواجهة التهديدات المستمرة.  

صفوة 

تُعد العلاقات العراقية الصينية نموذجاً متطوراً للعلاقات الصينية العربية بشكل عام، إذْ تسعى الصين، عبر تعزيز هذه العلاقات، إلى تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية واستراتيجية، بمقابل سعي العراق إلى الاستفادة من الاستهلاك الصيني للطاقة، فيلعب النفط دور حجر الزاوية في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث تسعى بكين لضمان إمدادات ثابتة من النفط العراقي، وتنفتح، من جانب آخر، على الاستثمار في البنية التحتية العراقية، مثل الطرق والموانئ ضمن مبادرة الحزام والطريق، والتي من المحتمل -وإن كان احتمالاً ضئيلاً- أن تجد مدخلاً تكامليا لها مع طريق التنمية العراقي، بالمقابل يسعى العراق أيضاً إلى الاستفادة من التجربة التنموية الصينية لإعادة إعمار البلاد. فضلاً عن ذلك، يعوّل العراق على الصين سياسياً في المحافل الدولية لتقارب الدولتين في رؤيتهم بسياستهما الرسمية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية واستبعاد الحلول التي تنطوي على القوة في تسوية الأزمات وتفضيل النهج الدبلوماسي في تسوية الصراعات الإقليمية، مع ذلك فإن الصين تسعى عبر علاقتها مع العراق الى تحقيق نوع من التوازن في نفوذها الإقليمي في مواجهة النفوذ الأمريكي في المنطقة، في الوقت الذي يسعى العراق الى تعزيز علاقته مع الصين من أجل تنويع علاقته الدولية في العالم وتعويض ضعفه، وإن كان البعض من النخبة السياسية يرى في الصين بديلاً عن الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بوصفها الدولة المؤهلة لملئ الفراغ الناشئ في المنطقة، غير أن السياسات الحكومية العراقية تراعي هذه الحساسيات الاستراتيجية في العلاقة مع الصين والولايات المتحدة، وتتجنب، في ظل حالة اللايقين السائدة في النظام الدولي، الانخراطَ في سياسات المنافسة بين القوى العظمى، أولاً لعدم مقدرة العراق على اتخاذ قرار بهذا الحجم، وخشية انقسامٍ سياسي داخلي ثانياً، في وقت لا تغفل فيه الولايات المتحدة عن أيّ تطور في علاقة أيّ أحدٍ مع منافستها الكبرى الصين، ولن تكون مكاتب البيت الأبيض وصناع القرار الأمريكي سعيدة به. 

المزيد عن تحليل

تحليل","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":27316}" data-page="1" data-max-pages="1">