تخيّل لو أن العراق الذي ارتبط اسمه بالنفط لعقود طويلة، لم يكتشف فيه هذا المورد الطبيعيّ الثمين.. كيف كان سيبدو تاريخه ومجتمعه واقتصاده؟ وكيف سيبدو إذا أخذ العالم يقلل الاعتماد على النفط أكثر فأكثر؟ ما هي السيناريوهات التي سنواجهها؟
تخيّل للحظة، أن تستيقظ على عالمٍ مختلف تماماً، عالم توقفت فيه عجلة الحضارة بالشكل الذي نعرفه: لا سيارات تسير، ولا مصانع تعمل، ولا طائرات تحلق، تخيّل مدينةً صامتة، مظلمة، بلا حرارة…
هذا هو السيناريو، الذي قد نواجهه إذا نفد النفط، الشريان الحيّ للاقتصاد العالمي، هل تتخيل حياتك اليومية بلا سيارات، بلا هاتف محمول، بلا بلاستيك؟ قد يبدو هذا السيناريو مستحيلاً، إلا أنه قد يصبح حقيقة واقعة إذ استمر الاعتماد على النفط بالوتيرة الحالية نفسها، لأن 90 بالمئة من الطاقة التي نستهلكها اليوم، مشتقة من الوقود الأحفوري، وعلى رأسها النفط، هذا الاعتماد الشديد على مصدر طاقة واحد، يجعلنا عرضة للصدمات والتقلُّبات الاقتصادية والسياسية. ماذا لو نفدت هذه المادة الثمينة؟
النفط ودوره في الاقتصاد العالمي
عندما حفر إدوين دريك إحدى آبار النفط التجارية الأولى في العالم في مدينة تيتوسفيل، في ولاية بنسلفانيا الأمريكية عام 1859، لم يتوقع، بالتأكيد، الأثر الهائل لهذا الاكتشاف في الاقتصاد العالمي والحضارة والحروب في السنوات اللاحقة. ومنذ ذلك الحين، أصبح النفط عصب التقدم وشريان الحياة في العالم الصناعي، إذ تعتمد منتجات الاستخدام اليومي التي لا تعد ولا تحصى – وتتفاوت من المواد الصيدلانية إلى الحواسيب – على النفط، وعلى تكريره إلى مواد كيميائية وبلاستيكية معقدة. وستتوقف الزراعة الحديثة التي تُغذي أغلبية العالم إذا حُرمت من الجرارات التي تعمل بالديزل والأسمدة المستخلصة من النفط والغاز بغية زراعة المحاصيل ومضاعفتها وجنيها وإذا جُرد العالم من الوقود الأحفوري، ستتوقف معالجة الأغذية وتعبئتها وشحنها في جميع أنحاء الأرض لإطعام سكان العالم الذين ارتفع عددهم من 1.5 مليار مع بداية عهد النفط إلى 7.5 مليارات الآن.
صحيح أن التاريخ الحديث للنفط بدأ في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، إلّا أن القرن العشرين هو الذي تغيّر خلاله الكوكب تماماً بظهور النفط، إذ أنه كان قرن النفط بامتياز، في حين أن القرن الحادي والعشرين قرن ذروة إنتاج النفط والحروب الناجمة عنها. ولم ترتبط أيّ سلعة أخرى ارتباطاً وثيقاً بالاستراتيجيات الوطنية والسياسات العالمية والسلطة كالنفط، إذ أن العلاقة الوثيقة بين النفط والصراع تأتي من ثلاث سمات أساسية تُميّز النفط وهي: أهميته الحيوية لاقتصاد الدول وقوتها العسكرية، وتوزيعه الجغرافي غير المتكافئ، وذروة إنتاج النفط.
ولا ينحصر تأثير النفط في النظام الاقتصادي العالمي والتجارة الدولية، بل يتسع حتى يشمل جميع مظاهر الحضارة المعاصرة التي يصعب تخيلها مجردةً من النفط، إذ يقول “دانيال يورغن” وهو أحد أبرز من كتب عن النفط “إن عصرنا هو عصر النفط” والمجتمعات الحديثة هي مجتمعات نفطية، والإنسان المعاصر هو أساساً إنسان هيدروكربوني -نسبة إلى المكونات الهيدروكربونية للنفط-.
ولأسعار النفط تأثيرات كبيرة على الاقتصاد العالمي، إذ لم يتمكن الاقتصاد العالمي من تقبل انهيار أسعار النفط في حزيران 2014 عندها، لأن جميع المكونات الرئيسة التي تشكل الاقتصاد العالمي، وهي الاستثمارات العالمية، وصناعة النفط، واقتصادات الدول المنتجة تأثرت. صحيح أن انخفاض أسعار النفط يقلل تكاليف التصنيع، ومن ثم يساعد في النمو الاقتصادي العالمي، لكنها فائدة قصيرة الأجل، إذ يقابلها تراجع الاستثمار العالمي الذي يدفع الشركات في جميع انحاء العالم إلى خفض الإنفاق، وبيع الأصول وتسريح آلاف العاملين.
ونتيجة لأسعار النفط المنخفضة والمتذبذبة في العقد الماضي باعت صناعة النفط العالمية عدداً من أصولها الإنتاجية، وألغت أكثر من 200 مليار دولار من استثمارات النفط والغاز حتى الآن، وهو ما سيترجم في غضون بضع سنوات إلى حصة أصغر في الإنتاج العالمي للنفط.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فمن غير المؤكد أن ينجم عن انخفاض أسعار النفط دفعة للانتعاش الاقتصادي، إذ على الرغم من أنه يؤدي حتماً إلى تخفيض ضريبي كبير لصالح المستهلك الأمريكي، إلا أنه سيوجه ضربة إلى صناعة النفط الأمريكية، التي تتنامى أهميتها والتي يُقدر بأنها توظف نحو 2 بالمئة من القوى العاملة الأمريكية، وعزز خطر التخلف عن سداد قروض بقيمة 200 مليار دولار نالتها صناعة النفط الصخري المحلي، وارتفعت تكلفة خدمة هذا الدين على نحو تصاعدي بعد ما شهد عدد من المستثمرين انخفاضاً شديداً في التصنيف الائتماني.
تقتسم البلدان التي تنتج وتصدّر النفط، وتلك التي تستورده، التأثُّرَ بأسعاره، فالأولى غالباً ما تكون مصابةً بـ”لعنة” هذا المورد وغارقة بريعه، ولا تريد الثانية أن تتعثر عجلات اقتصاداتها الضخمة.
ثمة من يحاجج بأن وجود النفط في بلدان قمعية تمزّقها الصرعات، مجرّد مصادفة مزعجة، وهذا ما يجسّده قول نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ديك تشيني “المشكلة أن العناية الإلهية لم تر من المناسب وضع احتياطيات النفط والغاز حيث توجد حكومات ديمقراطية”. المشكلة – طبعاً – في التدخل الإلهي. هذه البلدان تعاني حكماً استبدادياً، وصراعاً عنيفاً، واقتصاداً فوضوياً مشوشاً لأنها تنتج النفط – ولأن المستهلكين في الدول المستوردة يشترون النفط منها. وفي الدول المعتمدة على النفط، من الطبيعي أن يؤثر إنتاج النفط وأسعاره، بقوة، على الاقتصاد بأكمله، ولا يقتصر تأثيره على إيراداتها من التصدير فقط، لأن الدلائل تشير إلى أن الدول المعتمدة على النفط لم تكن قادرة على تحويل عائداته إلى نمو اقتصادي مستديم، وإذا ما نظرنا إلى الدول المنتجة للنفط، فإن الأمر المدهش فيها هو تنوعها من حيث الجغرافية والسكان والتاريخ، ومع ذلك فإنها تشترك على العموم في فشلها في كسب النمو الاقتصادي طويل الأمد من سلعة ثمينة يتنامى الطلب عليها.
لوبيات الطاقة النظيفة … ضغط جديد
في شهر آذار من عام 1967 أراقت الناقلة توري كانيون 31 مليون برميل من النفط قبالة ساحل كورنيش في إنكلترا، ألحق ذلك الضرر بصخور وشواطئ تلك المنطقة الرائعة التي تعيش على الصيد والسياحة، ووصل الأذى إلى شواطئ النورماندي في فرنسا.
وقد أظهرت الصور التلفازية في ذلك الوقت للعديد من الأوربيين ولأول مرة، مخاطر اعتمادهم على النفط: البحار مغطاة بالنفط الخام، وتختنق الحياة البرية وتتسمّم، ويتعرّض سبيل العيش للخطر. وجاء دور أمريكا الشمالية بعد ذلك بـ22 عاماً، حين أراقت “إيكسون فالديز” مئات الآلاف من براميل النفط الخام وتلوث 1300 ميل من الشريط الساحلي النظيف، وفي تشرين الثاني من عام 2002 انشطرت “برستيج” وغرقت على مسافة من شمال غرب إسبانيا، وكانت تحمل قرابة نصف مليون برميل من النفط الذي اندفع معظمه على طول 200 ميل من ساحل غاليسيان، وكانت تلك الكارثة مسماراً آخر في نعش صناعة الصيد المحلية.
وفي العديد من المجتمعات المنتجة للنفط والغاز الطبيعي في دول العالم النامي، كانت عواقب إنتاج النفط أمراً ملازماً على الدوام، حيث قدّر البنك الدولي حدوث 300 حادث كبير لتسرب النفط كلَّ عامٍ في أنهار ودلتا ولايات نيجيريا، وفي هذا البلد نفسه استمر إحراق نحو 90 بالمئة من الغاز الطبيعي المصاحب للنفط طيلة عقود من الزمن، مما خلّف انبعاثات في الغلاف الجوي بمعدل يصل إلى 80 مليار قدم مكعب من الغازات الدفيئة في السنة. ولا يختلف الحال في بقية الدول المنتجة النامية وعلى رأسها العراق.
كان واضحاً، تقريرُ الهيئة الحكومية المشتركة حول التغيير المناخي التابعة للأمم المتحدة (IPCC) الصادر في عام 2001، في أن تراكم “الغازات الدفيئة” من ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النترات وأوزون الطبقة السفلى من الغلاف الجوي التي تتسبب في التسخين العالمي قد وصلت، في التسعينيات، إلى أعلى مستوياتها المسجلة، ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى احتراق الوقود الأحفوري وتحوّلات أنماط الزراعة وتغيرات استخدام الأرض. ويعد ثاني أكسيد الكربون غاز الدفيئة الأساسي، وتلك التركيزات المتزايدة منه من المؤكد أن سببها الأساسي انبعاثات الوقود الأحفوري.
وكما أنه في كانون الأول من عام 1997، استجاب المجتمع الدولي للتغير المناخي بتبنيه برتوكول (مسودة اتفاقية كيوتو) ضمن إطار عمل مؤتمر الأمم المتحدة للتغيرات المناخية. وقد ضمت الوثيقة أهدافاً ملزمة قانونياً لتخفيض الانبعاثات الصادرة عن الدول المتقدمة المسؤولة عن الغالبية العظمى من الانبعاثات تاريخياً وآنياً، إذ وفقاً لهذه الاتفاقية فإن الدول المتقدمة تلزم نفسها بتخفيض جماعي لانبعاثاتها الإجمالية بما لا يقل عن 5 بالمئة وفقاً للأرقام الفعلية لعام 1990 أو 20 بالمئة وفقاً للانبعاثات المتوقعة لعام 2010 إذا لم يتخذ أي إجراء. وفي الحقبة الممتدة بين عامي 1998 – 2001 أي بعد مباحثات بروتوكول كيوتو – لم يحدث أي تقدم بشكل عام في تخفيض الانبعاثات على الرغم من أن العديد من الدول كانت قد بدأت بوضع سياسات مصممة لتحقيق هذا الأمر. وبالفعل، كان نمو الانبعاثات في الاتحاد الأوربي أعلى من معدلاته في السنوات الثماني السابقة.
ومن هنا ظهر ما يعرف بـ “لوبيات الطاقة النظيفة” وهي مجموعات مؤثرة تعمل على دفع عجلة التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، مثل الطاقة الشمسية والرياح والطاقة الكهرومائية وتتكون هذه اللوبيات من مجموعة متنوعة من الأطراف مثل الشركات، والمنظمات غير الحكومية، والمستثمرين الذين يرون في الطاقة النظيفة فرصةً استثمارية واعدة.
وتهدف هذه اللوبيات إلى التسريع بالانتقال إلى الطاقة النظيفةمن خلال تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتشجيع استخدام مصادر الطاقة المتجددة، ووضع سياسات داعمة للطاقة النظيفةتعملعلى الضغط على الحكومات لوضع قوانين وحوافز تشجع الاستثمار في الطاقة النظيفة، ومواجهة لوبيات الوقود الأحفوريإذتدخل هذه اللوبيات في صراع مع لوبيات الوقود الأحفوري التي تسعى للحفاظ على هيمنتها على سوق الطاقة، وتستخدم هذه المجموعات أدوات متنوعة لتحقيق أهدافها، وفي مقدمتها التواصل المباشر مع صناع القرارمن خلال الاجتماعات والمراسلات واللقاءات، والدعاوى القضائية من خلال رفع دعاوى قضائية ضد الشركات التي تتسبب في التلوث، والتعاون مع المنظمات الدوليةمن خلال العمل مع منظمات مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي.
كيف ستبدو حياتنا في عالم بلا نفط؟
تخيل عالماً بلا نفط، عالماً نستغني فيه عن هذا المورد الذي سيطر على حياتنا لعقود طويلة. قد يبدو هذا السيناريو مستقبلياً، ولكن مع مخاطر التغيرات المناخية والجهود المتزايدة للانتقال إلى مصادر طاقة نظيفة، يصبح لهذا السيناريو بعض الحظوظ.
لطالما كان النفط محركاً رئيسياً للاقتصاد العالمي والديناميات السياسية الدولية، كما تعتبر مسألة نفاد النفط من القضايا الجيوسياسية الأكثر أهمية في عصرنا الحالي. لكنْ كيف سيكون شكل هذه العلاقات الدولية في ظل غياب هذه المادة الأساسية؟
– سيؤدي غياب النفط -بافتراض غيابه-، إلى تغيير في توازن القوى بين الدول، حيث ستكتسب الدول التي تمتلك تكنولوجيا الطاقة المتجددة نفوذاً أكبر، كما أن سيرافقُ غيابَ النفط تحولٌ لوسائل نقل أخرى، إذ ستنتعش السيارات الكهربائية، حيث ستصبح الخيار الأول للعديد من الناس، كما سيتم تطوير وتوسيع شبكات النقل العام، مثل الحافلات والقطارات، لتلبية احتياجات التنقل الجديدة، وقد تشهد الدراجات الهوائية عودة قوية كوسيلة للتنقلات القصيرة. كما أن نمط الحياة سيكون هو الآخر مختلفاً ايضاً، إذ قد يضطر الناس إلى تقليل عدد الرحلات التي يقومون بها، والاعتماد أكثر على العمل عن بعد، وسيتغير تصميم المدن لتكون أكثر ملاءمة للمشي وركوب الدراجات، مع تقليل الاعتماد على السيارات.
ولو كان النفط غائباً لما كانت التجارة الدولية بهذا الرواج الكبير، وإنما يتم الاعتماد على التصنيع المحلي لتقليل تكاليف النقل. ولبقيت الزراعة، في ظل عدم وجود النفط، على شكلها البدائي، إذ تظهر الزراعة المستدامة التي تعتمد على الموارد الطبيعية في ظل غياب الآلات التي تعمل بالنفط، وستزداد شعبية الزراعة العضوية، حيث ستوفر منتجات غذائية أكثر صحة وأكثر استدامة.
ولو لم يكن النفط موجوداً في عالم اليوم، لكان نمط حياة الإنسان مختلفاً بشكل تام، على الرغم من التحديات التي ستواجهه، إلا أن هذا التحول سيفتح الباب أمام فرص جديدة وابتكارات تقنية.
ماذا لو خسر العراق مورده الوحيد؟
قبل الحديث عن العراق ومورده الأوحد، من المهم أن نُشير إلى التجربة النرويجية، وكما هو معلوم فإن النرويج من البلدان النفطية، وهناك يتم تعليم الأطفال في المدرسة أن بلادهم كانت واحدة من أكثر بلدان أوروبا فقراً في عام 1905 عندما قام النرويجيون بخطوة أحادية بحل اتحادهم الملكي مع السويد وإعلانهم الاستقلال التام، ولكنها اليوم تقف في مصاف أغنى دول العالم، وثمة سؤال حاسم هنا لابد من أن يطرح: هل النفط حقاً هو سر نجاح النرويج؟ كيف كان سيبدو حاضر ومستقبل النرويج لو لم تعثر على النفط؟
يقول أستاذ التاريخ الاقتصادي النرويجي هيلج ريجفيك، “من المستحيل تقريباً معرفة كيف كان سيبدو شكل النرويج من دون أموال النفط، ولكنه في الوقت نفسه أكد أن ثروة البلاد البشرية المتعلمة تعليماً عالي الجودة كفيلة بوضع النرويج في مكانة متقدمة حتى بدون النفط”.
ببساطة كان رأس المال البشري هو القوة الأساسية وراء التحول الاقتصادي الذي شهدته النرويج، في حين كانت الموارد الطبيعية عاملاً ثانوياً، رأس المال البشري القوي يمكنه أن يصنع تنمية اقتصادية ترفع مستويات المعيشة، حتى في غياب الموارد الطبيعية، كما هو الحال في بلدان مثل اليابان وسنغافورة. في المقابل، لا يمكن للموارد الطبيعية وحدها أن تخلق تنمية اقتصادية مستدامة من دون رأس المال البشري اللازم لتسخير تلك الموارد وتحقيق الاستفادة القصوى منها، بل قد تتحول -الموارد- في غياب رأس المال البشري إلى لعنة كما هو الحال في الكونغو.
وفي العودة إلى العراق، تخيل لو إن هذا البلد الذي ارتبط اسمه بالنفط لسنوات طويلة، لم يكتشف فيه هذا المورد الطبيعي الثمين. كيف كان سيبدو تاريخه ومجتمعه واقتصاده؟ هذا السيناريو، وإن كان بعيداً عن الواقع الحالي، إلا أنه يفتح لنا نافذة واسعة على الاحتمالات والتحديات التي قد تواجه أيّة دولة تعتمد بشكل كبير على مورد طبيعي واحد.
وبدلاً من التركيز على استخراج النفط وتصديره، كان العراق قد توجه إلى تطوير قطاعات أخرى مثل الزراعة والصناعة، مستفيداً من خصوبته الزراعية وموارده الطبيعية الأخرى، وربما كان الاقتصاد العراقي أكثر تنوعاً، مما يجعله أقل عرضة للتقلبات في أسعار السلع الأساسية، وقد يكون التركيز على التنمية المستدامة والاقتصاد المعرفي قد أدى إلى بناء مجتمع مدني أقوى وأكثر مشاركة، إذ تتطلب التنمية المستدامة والاقتصاد المعرفي مشاركة واسعة من الأفراد والمجتمعات المحلية في عملية صنع القرار وتنفيذ المشاريع، وهذا من شأنه أن يعزز الشعور بالملكية والمسؤولية لدى المواطنين.
وعلى صعيد العلاقات الدولية، لما كان العراق بهذه الجاذبية للقوى الدولية، مما يقلّل من التدخلات الخارجية والصراعات الإقليمية، كما يمكن أن يكون لديه علاقات أكثر توازناً مع الدول الأخرى، حيث لن يكون هناك تركيز على النفط كعامل أساسي في العلاقات مع العالم.
ولكنْ، لا يخلو هذا النموذج التخيُّلي من تحديات قد يواجهها العراق، كاحتمالية التعثّر بصعوبات في تحقيق التنمية الشاملة بسبب غياب التدفق المالي الكبير الذي يوفره النفط، وهو ما يدفع الشباب العراقي إلى الهجرة إلى الدول الغنية بحثاً عن فرص عمل أفضل، وعندها تتسع الفجوات الاجتماعية بين المناطق الغنية والفقيرة بشكل حاد بسبب عدم التوزيع العادل للموارد. يذكّرنا السيناريو بأهمية تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على مورد واحد، مهما كان غنياً، كما يسلط الضوء على أهمية الحوكمة الرشيدة والاستثمار في التعليم والتكنولوجيا لبناء اقتصاد مستدام.
وعند المقارنة مع الواقع الحالي، فإن اكتشاف النفط في العراق أدى إلى تركيز جهود الدولة على استخراجه وتصديره، مما أثر على التنمية في القطاعات الاقتصادية الأخرى، كما أدت عائدات النفط الكبيرة إلى انتشار الفساد والمحسوبية، فضعفت المؤسسات الحكومية في البلاد، إذ وفرت عائدات النفط أموالاً طائلة، من السهل على المسؤولين الحكوميين اختلاسها وتوجيهها إلى مصالحهم الشخصية أو إلى مقرّبين، ومن هنا فقد المواطنون الثقة في الحكومة ومؤسساتها، مما أدى إلى ضعف الالتزام بالقوانين وتدهور الخدمات العامة، وكما أصبح البلد هدفاً للعديد من الصراعات والحروب بسبب أهمية نفطه، إذ تم استخدام النفط كسلاح سياسي واقتصادي للضغط على العراق، كما أدى التركيز على النفط إلى خلق تباينات اجتماعية واقتصادية، حيث استفادت فئة قليلة من عائدات النفط بينما عانى الغالبية من التهميش والفقر.
ساهم هذا التفاوت في زيادة حدّة الصراعات الداخلية، فتدهورت الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والمياه والكهرباء، كما ساهمت في زعزعة الاستقرار السياسي والأمني في العراق، مما أثر سلباً على جميع مناحي الحياة.
إن ارتباط العراق بالنفط بشكل وثيق كان له آثار عميقة وطويلة الأمد، على تاريخه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وما كان ليعيش كلّ ما عاشه بلا نفط.
اعتمد هذه المقال على مصادر مختلفة، منها مايكل روس، نقمة النفط كيف تؤثر الثروة النفطية على ثروة الأمم، 2014، – Mamdouh Salameh, “Oil & the US Economy,” Paper posted by the ESCP Research Centre for Energy Management. ، – The United Nations, World Economic Situation and Prospects 2016.