معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
منذ ميلاد الدولة العراقية، تحوّل معظم شيوخ الدين السُنة إلى موظفين حكوميين، يتقاضون مرتباتهم نهاية كل شهر من وزارة الأوقاف، وهو ما كان يعني، بطريقة أو بأخرى، أنهم يتحركون داخلَ حدودٍ يحدد مساراتِها النظامُ السياسي الحاكم.. لكن كيف هو الوضع اليوم؟
حتى عقدين مضيا، كان الحديث عن “مرجعيّة دينية” أمراً غريباً لدى عموم سنة العرب في العراق، الذين ارتبطوا، تاريخياً، بمؤسسة الحكم منذ الخلافة الراشدة، لتصبح الدولة مرجعاً لهم وسلطة أبوية تتولى شؤونهم، في نظام يمثل فيه الخليفة -بشكل أو بآخر- حامياً لسلطان الدين، وقائماً على تنفيذ أحكامه الأساسية.
لم تتغيّر الأمور كثيراً مع ميلاد الدولة العراقية الحديثة، علمانية الوجه واليد واللسان، فقد بقي للسلطان ظلٌ في النفوس؛ طالما استمر يؤدي دوره في إطعام الناس من جوع وتأمينهم من خوف.
ولم يشعر المجتمع بالحاجة إلى تشييد مؤسسة مرجعية ذات طابع ديني، في ظل وجود مؤسسة الإفتاء الحكومية، وانخراط جمهور العرب السنة في دوائر الحكم العسكرية والأمنية والقانونية والمدنية، وهو ما جعل الدولة مرجعاً أعلى لحلّ تنازعهم واختلافاتهم.
لكن الأمور تغيّرت كثيراً وانقلبت الموازين بعد 2003، حين اكتشف العرب السنة أن لمواطنيهم الشيعة مرجعيةً دينية يحتكمون إليها، ولها القول الفصل في أمور الدين والدنيا أيضاً.
ومع تنامي حالة الفرقة والشتات التي عصفت بالمجتمع السني عقب الغزو الأمريكي، وشعور الملايين من أبنائه باليُتم؛ إثر قيام نظام جديد استبعدهم وسلب منهم الصدارة، بل وجعلهم في خانة الاتهام، ازدهر الحديث عن مرجعية سُنية.
تحدٍ صعب، محاولة صناعة مرجعية لتكون سقفاً يجتمع تحته السُنة، وضابطا لإيقاع عملهم السياسي وحركة مجتمعهم، وجهة تمتلك قرار تحريك الشارع في القضايا الكبرى والمصيرية.
علاقة مُلتبسة
يُمكن اعتبار منصب “القاضي” الذي عرفته المجتمعات السنية عبر قرون طويلة؛ شكلا من أشكال المرجعية الدينية، لكنه كان معزولا عن التأثير في الشأن السياسي بشكل عام، لكونه جزءا من المنظومة الحاكمة، فالقضاة كانوا يعيّنون بشكل مباشر من الخليفة أو من ينوب عنه، وهم بذلك يمثلون تمظهرا لسلطان الدولة، ولا يعملون بمعزل عنها.
ومع نشأة الدولة العباسية واستقرارها، توجه الخلفاء إلى مأسسة القضاء، فظهر منصب “قاضي القضاة”، والذي تولاه تلميذ الإمام أبي حنيفة النعمان القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، ليصبح المذهب الحنفي رسميا في جميع مؤسسات القضاء على امتداد الدولة.
ظهرت مؤسسة القضاء قبل “الإفتاء”، وبعد سقوط الدولة العباسية وتشتت وحدة العالم الإسلامي وغياب الرمزية التي كان الناس يجتمعون عليها -رغم ضعفها وانحسار سلطانها- بدت الحاجة ملحة لظهور مفتين يجيبون على أسئلة الناس الشرعية في البلدات والقرى والنجوع البعيدة، ليتحول “الإفتاء” بعدها إلى منصب رسمي في عهد الدولة العثمانية.
وخلافاً للسرديّة الشائعة حول طبيعة العلاقة بين علماء الدين السنة والحكام، فإن الحقيقة أكثر تعقيداً من محاولات تبسيطها، التي باتت تُستدعى في العقود الأخيرة؛ ضمن سياق المقارنة بين مكانة وحجم وتأثير الشخصيات الدينية في المجتمعين السني والشيعي.
فالعلاقة بين عالم الدين السني والخليفة أو الحاكم أو السلطان؛ لم تكن كلّ فصولها ودية، لكنها خضعت لاحقاً لهيمنة قراءات رسمية في أوقات ضعف الدولة وتراجعها.
وفي استعراض سريع لوقائع “الثورة والتمرد” عبر التاريخ الإسلامي، سنجد أن العديد من الثورات تصدرها رجال دين من أهل السنة، أو كانت “شرعية” في منظورهم، وفي مقدمة ذلك خروج الحسين بن علي في العراق، والذي لم يسانده معظم أبناء الصحابة وقتها؛ يأساً من نتائجه وتوجساً من طبيعة أهل الكوفة، قياساً على تجربتهم مع والده، لكن أحداً لم يرفض تحرك الحسين من ناحية شرعية.
ويسري الأمر كذلك على وقائع لاحقة، كثورة عبد الله بن الزبير، ثم خروج عبد الرحمن بن الأشعث الكندي، وتمرد يزيد بن المهلب الأزدي، وجميعها رفعت راية العداء للدولة الأموية، وفشلت في تحقيق غاياتها، قبل أن يكتسح العباسيون البلاد، استنادا إلى رؤية دينية في جانبٍ منها، لم يُدنها أو يناقش مبدأها أحد من فقهاء عصرهم.
وفي عهد العباسيين الأول، تعرض فقهاء بارزون كأبي حنيفة النعمان ومالك بن أنس وسفيان الثوري والعشرات غيرهم إلى السجن والمطاردة، بسبب امتناعهم عن تولي مناصب رسمية، أو اعتراضهم على سياسات معينة، أو تأييدهم لثورات مسلحة، لكنّ ذلك لم يسلب الدولةَ مشروعيتَها في الوجود، وفي الوقت نفسه، لم يجرّم معارضتها.
كان معيار القبول أو الرفض هو حسابات المصلحة والمفسدة، الأمر الذي شرحه كثير من الفقهاء اللاحقين وناقشوه في مدوناتهم، قبل أن تسود فتاوى التحريم المطلق؛ “وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك“.
كان سؤال “شرعية الدولة” مطروحاً بقوة في أوساط الفقهاء وعلماء الدين خلال القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام، لكنه تراجع بعد ذلك لصالح اعتبارات أخرى؛ في مقدمتها الحفاظ على الأمن والدماء والأموال، والخشية من ضياعها في موجات “هرج” مسلحة، كما حصل في وقائع سابقة عدة.
الخليفة مرجعاً
منذ نشأته، كمدرسة فقهية وعقائدية تمثل جمهور المسلمين، لم يعرف “التسنن” نظام الكهنوت، ولم تنشأ تبعاً لذلك طبقة “رجال دين”، كما هو الحال لدى فرق أخرى، ولأن خطّه العام ظلّ متصالحاً مع النظام السياسي للدولة، رغم بعض حالات النقد والمعارضة للخلفاء والحكام، فلم تولد مؤسسة دينية خارج سياقات الدولة، وكان القضاء وظيفة رسمية، والإفتاء الذي نشأ لاحقاً كذلك.
ويمكن القول إن آخر صِدام حقيقي ومؤثر بين الفقهاء والدولة جرى في عهد المأمون العباسي، في ما يعرف بـ”محنة خلق القرآن”، والتي تصدّى لها جملة من فقهاء أهل السنة، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي اعتُقِل سنوات عدة، وضُرب وعُذِب لإجباره على تغيير رأيه، واعتناق عقيدة المعتزلة في هذه المسألة الكلامية، التي تبناها 3 من الخلفاء الذين عاصرهم، لكنه ظل مصرّا على رفضها.
انتهت المحنة بموت الخليفة الواثق عام 232 للهجرة، ومجيء أخيه المتوكّل الذي صالح ابن حنبل وجمهور الفقهاء، وتراجع عن توجهات سابقيه الاعتزالية، وقرّب جملة من علماء الدين إليه؛ بعد أن تخلّص من تأثيرات حقبة المعتزلة، التي انتهت بموت القاضي أحمد بن أبي دؤاد الإيادي عام 240 هجرية.
وخلال محنة ابن حنبل واعتقاله، حاول أحد رفاقه الخروج المسلح على الدولة، وهو الفقيه أحمد بن نصر الخزاعي، الذي كان جدُّه أحدَ النقباء المؤسسين للدولة العباسية، إلّا أن ثورته قُمعت قبل نشوبها، وقُتل على يد الخليفة الواثق شخصياً، كما تذكر بعض المدونات التاريخية.
وبتولي المتوكل الخلافة؛ انعقد صلح طويل الأمد بين الفقهاء والسلطة، استمر لقرون، وكانت له آثاره الفكرية والاجتماعية، ومن جملتها تحريم الخروج المسلح على الحاكم، والاكتفاء بمناصحته والإنكار عليه باللسان؛ “إلا أن تروا كفرا بواحا“.
وفي العام 408 للهجرة قُرِأت على الناس في منابر بغداد وثيقة “الاعتقاد القادري”؛ نسبة إلى الخليفة القادر بالله العباسي، وتبنت فيها الدولة منهج أهل الحديث بشكل كامل، في ما يخص الأسماء والصفات، والموقف من الصحابة، وقضايا الإيمان والكفر، وغير ذلك، الأمر الذي عزّز مركز الخليفة كممثل أو “مرجع” لأهل السنة، من موقعه كحاكم، رغم انحسار سلطاته، وهيمنة البويهيين الشيعة على أركان الدولة ومقدراتها وقتها.
فقهاء بلا سياسة
خلال العهد العثماني، كان علماء الدين السنة يمارسون دورهم في الإفتاء والإرشاد بشكل طبيعي، دون صِدامٍ مع الدولة، التي كانوا ينظرون إليها بكثير من التقدير والاحترام، فقد كانت “دِرعاً حقيقياً” حمى العراق بولاياته الثلاث من مطامع الصفويين، ثم القاجاريين.
وكان سلاطينُ بني عثمان يولون اهتماماً كبيراً بالمراقد السُنية، وبشكل خاص ضريحي الإمام أبي حنيفة النعمان والشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد، اللذين كانا مصدر الإلهام الفقهي والروحي للباب العالي؛ المتبني للمذهب الحنفي والتوجه الصوفي.
وفي كتابه (تاريخ الأسر العلمية في بغداد) يسرد المؤلف محمد سعيد الراوي أسماء عدد من العوائل العلمية، التي كان لها تأثير كبير على العامة والولاة أيضا، وكذا الحال في كتاب (البغداديون أخبارهم ومجالسهم) لإبراهيم الدروبي.
ومن بين تلك الأسر آل الآلوسي وآل الجميل وآل الراوي وآل الحيدري –بفرعهم السني- وآل السويدي وآل الطبقجلي وآل المدرس وآل الواعظ وآل الأدهمي وآل الشواف، فضلاً عن آل النقيب الذين كانوا يتولون منصب نقابة أشراف بغداد، التي احتفظت على مدى قرون بسطوة روحية كبيرة في العالم الإسلامي آنذاك، من الهند حتى المغرب.
كانت الهدايا تتوالى على أشراف بغداد من شرق العالم الإسلامي وغربه، ومنحتهم سدانتهم للحضرة القادرية أثراً روحياً عظيما لدى عموم المسلمين، داخل العراق وخارجه.
لكن كل تلك الميزات لم تمنحهم أيَّ دورٍ سياسي، ولم يسعوا هم أنفسهم لذلك، في عزل واضح بين السلطتين الزمنية والروحية، بشكل يشبه الفصل بين الكنيسة والدولة في أوروبا عصر النهضة.
صورة جانبية لجامع ابي حنيفة عام 1919، المصدر: ويكيبيديا.
العمامة وتأسيس الدولة
كانت العمامة السنية حاضرة لحظة تأسيس الدولة العراقية الحديثة؛ من خلال نقيب أشراف بغداد السيد عبد الرحمن النقيب الكيلاني، الذي كان أول من تولى رئاسة الوزراء في الكيان الوليد، رغم كِبَر سِنه ووَهْن صحته.
لكنّ النقيب لم يتدخل لجعل طابع الدولة الجديدة يبدو دينياً ولو بشكل اسمي، ورغم الاتهامات التي ساقتها له جماعات “التشيع السياسي” في وقت لاحق، باستبعاد الشيعة من مراكز الحكم ومحاولات تهميشهم، إلا أن ذلك كله لم يجرِ بغطاء مذهبي أو ديني.
وظل حضور العمامة السنية هامشياً طيلة العهد الملكي، ورغم انقسام مدارس التقليد الفقهية عند السنة بين الأحناف والشافعية والمالكية والحنابلة، إلّا أن هذه النزعة ظلت مجرد اتباع في الفروع، وبدأت تذوي مع ميلاد الدولة الجديدة، بالتزامن مع رحيل آخر الأسماء الكبيرة المؤثرة دينياً، مثل الشيخ محمود شكري الآلوسيوعبد القادر الخطيب وأمجد الزهاوي وكمال الدين الطائي وقاسم القيسي وغيرهم، حتى لم يعد لها أي وجود مؤثر اليوم.
ومنذ ميلاد الدولة العراقية الحديثة، تحوّل معظم شيوخ الدين السُنة إلى موظفين حكوميين، يتقاضون مرتباتهم نهاية كل شهر من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وهو ما كان يعني، بطريقة أو بأخرى، أنهم يتحركون داخلَ حدودٍ يسمح بها، بل ويحدد مساراتِها، النظامُ السياسي الحاكم.
كما أن هؤلاء الشيوخ لم يكونوا يتسلمون من أتباعهم خُمسَ أموالهم، وليس لهم في أعناقهم واجب التقليد، كما عند الشيعة الإثني عشرية، وهو ما جعل تأثيرهم محدوداً في الشارع، وحرمهم فرصة التصدي للشأن العام في البلاد.
وخلال العهد الهاشمي، نشأت العديد من الجمعيات الدينية التي نشطت في مجال الوعظ والإرشاد والعمل الخيري، وفي المقدمة منها (جمعية الأخوة الإسلامية)؛ التي أسسها أول مراقب عام للإخوان المسلمين في العراق؛ الشيخ محمد محمود الصواف، لتكون واجهة لعمل الجماعة.
لعب الصواف أدواراً عدة في العمل السياسي نهايات العهد الملكي، وكان له دور في التحشيد لرفض معاهدة “بورتسموث”، والدعوة للقتال في فلسطين، الأمر الذي عرّضه للسجن والفصل من الوظيفة، ثم مغادرة العراق في العام 1959؛ بعد صعود الشيوعيين السريع في عهد عبد الكريم قاسم، وسعي بعضهم لاعتقاله ومحاكمته، ليستقر به المطاف في المملكة العربية السعودية، كمستشار مقرّب للملك الراحل فيصل بن عبد العزيز.
البعث وخصومه
في العام 1968، جاء حزب البعث إلى السلطة جامحاً مُحمَلاً بكثير من الأفكار والتوجهات التي تضيّق مساحة الإسلاميين، وكانت الصورة التي قدم نفسه من خلالها أنه حزب “تقدمي” معاد للرجعية بكافّةِ أشكالِها؛ بما في ذلك الدينية، وكانت مواقفه حادة تجاه التدين والمتدينين بشكل عام؛ رغم أن أدبيات الحزب تؤكد على أهمية استيعاب الظاهرة الدينية وتوظيفها ضمن مشروعه.
ومع جرعة الحياة التي تلقتها الجماعات الإسلامية عقب الهزيمة العربية أمام إسرائيل أو ما عُرف بنكسة 1967، شهدت الساحة العراقية تحركات لأحزاب وحركات، بدأت توجّه إلى الشارع خطاباً جديداً، يحظى الشق السياسي فيه بالجانب الأكبر.
تراجع الإخوان وانسحبوا من الساحة، بشكل واضح، بعدما اعتبرهم البعث جماعة “رجعيةً” لديها مآرب سياسية غير مشروعة، وتفرق قادة الجماعة بين من قرر ترك العمل العام أو اتخذ قرار الهجرة خارج البلاد فيما فضّل الجزء الأكبر من الأعضاء العمل بشكل سري؛ خشية الاعتقال والملاحقة.
ظهر حزب التحرير الذي أسسه الفلسطيني تقي الدين النبهاني عام 1953، متبنياً الدعوة لإعادة نظام “الخلافة الإسلامية”، وتأثرت به مجموعات من إخوان العراق في المقام الأول؛ ومن بينهم الشيخ عبد العزيز البدري؛ الذي عُرف بخطبه الرنانة في عدد من جوامع بغداد، مهاجماً فيها الأنظمة السياسية التي “لا تحتكم إلى الشريعة” ومن بينها النظام العراقي.
وخلال تلك الفترة، ألّف البدري كتابه الشهير (الإسلام بين العلماء والحكام)، والذي قدم من خلاله رؤية جديدة للعلاقة بين الطرفين، تتمثل بـ”الثورية ورفض الانحرافات”، مستشهداً بنماذج لكثير من العلماء والفقهاء عبر التاريخ.
تصاعدت حدة خطاب الشيخ البدري فتعرّض للاعتقال والمساءلة مرات عدة، كان آخرها في العام 1969، حين سُلمت جثته لأسرته.
تركت هذه الحادثة أثرها الكبير في أوساط شيوخ الدين والخطباء، الذين باتوا أكثر حذرا في خطبهم وخطاباتهم تجاه السلطة، كما أنها وجهت بشكل أو بآخر رسائل لخصوم الحزب في الأوساط الدينية والسياسية، حول طبيعة النظام الجديد وطريقة تعامله مع خصومه.
وخلال عهد نظام صدام حسين، تعرّض المئات من المنتمين للجماعات الإسلامية السُنية للاعتقال أو الإعدام على مدى عقدين، قبل أن تتراجع وتيرة هذه العلاقة العدائية نسبياً في سنوات التسعينات، خلال ما يعرف بالحملة الإيمانية.
ورغم كلّ ذلك، فإن ما جرى لمعارضي النظام السابق من الإسلاميين السُنة لم يحدث تغييرات في موقف الشارع تجاه السلطة، وظلت تلك الجماعات نخبوية محدودة التأثير على عموم السنة، وبقيت الدولة هي المرجع الحقيقي و”الأب الراعي” للمجتمع.
الشيخ عبد العزيز البدري، وغلاف كتابه الإسلام بين العلماء والحكام، المصدر: ويكيبديا.
عمائم “الحملة الإيمانية”
كان أول ظهور لشيخ الدين السُني بشكل واضح ومؤثر في العراق المعاصر، من خلال الحملة الإيمانية التي أعلنها النظام السابق في تسعينيات القرن المنصرم، إثر هزيمته في الكويت.
ظهرت وقتها العديد من الأسماء التي كان بعضُها مقرباً من رأس النظام السابق، كعبد اللطيف الهميم وأحمد الكبيسي وعبد الغفار العباسي ورافع الرفاعي، بالإضافة إلى أسماء، مثل الشيخ عبد الملك السعدي، وصبحي الهيتي، وهاشم جميل وآخرين.
وبالإضافة إلى هؤلاء، فقد كان لبعض التوجهات الدينية السنية علماء ووعاظ، اتخذوا مواقف غير إيجابية من النظام السياسي وخطابه “العلماني”، مثل الشيخ أحمد حسن الطه، وصبحي السامرائي، وعدنان الدليمي، وظل النظام ينظر إليهم بكثير من الريبة، وهو ما حرمهم تسنم مناصب في الأوقاف والدوائر الحكومية.
وعلى صعيدٍ موازٍ، برز اسمُ الشيخ عبد الكريم زيدان كأحد أبرز الفقهاء العراقيين في العصر الحديث، لكن مغادرته العراق في وقت مبكر بسبب انتمائه إلى الإخوان المسلمين، جعلت تأثيره محدوداً داخل العراق، مقابل تأثيره الكبير في الخارج.
سعى النظام السابق لتعزيز مشروعيته في الشارع من خلال توظيف حضور عدد كبير من شيوخ الدين وأئمة المساجد في الحياة العامة، وبات صدام حسين يُقدم كـ”عبد الله المؤمن”؛ الحامي للدين والمبادئ، عبر توليفة جديدة حاولت الدولة من خلالها المزج بين القومية والإسلام، والتنظير لهذه الفكرة بشكل موسع، وزيادة المسحة الدينية في وسائل الإعلام والمجتمع، وهي خطوات ستظهر ثمارها في الساحتين السنية والشيعية عقب سقوط النظام لاحقاً.
الصراع على الإفتاء
ظهر منصب “المفتي” بشكل رسمي في العهد العثماني، وبات له تأثير كبير في مختلف الولايات، وأصبح لكل ولاية مفتٍ يتبعه العامة، ثم ورثت الدول العربية الحديثة التقليد، وصار جزءاً من أنظمتها الإدارية، وواجهة دينية لها.
قبل الاحتلال الأمريكي عام 2003، لم يكن لمفتي العراق حضور كبير في الفضاء العام داخل البلاد، ولم يتردد اسمه في وسائل الإعلام إلا قليلاً، فيما كان العامة يقصدونه للاستفتاء حول قضاياهم الشخصية، وبعد وفاة الشيخ عبد الكريم الدبان عام 1993؛ تولى الشيخ رافع الرفاعي المنصب حتى مجيء الغزو الأمريكي.
وإلى جانب المفتي؛ كان للكثير من علماء الدين تأثير في الشارع؛ وفي المقدمة منهم الشيخ عبد الكريم بيارة المدرس، وعبد الملك السعدي، وصبحي الهيتي؛ فضلا عن شيوخ عرفوا داخل محافظاتهم؛ في نينوى والأنبار وديالى وصلاح الدين وبابل وكركوك والبصرة.
الشيخ عبد الكريم بيارة المدرس، والشيخ عبد الملك السعدي، الشيخ صبح الهيتي.
بعد 2003 لم يعد لمنصب المفتي من وجود، رغم محاولات إحيائه من قبل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وإسناده إلى شخصية مثيرة للجدل؛ هو مهدي الصميدعي، الذي كان يترأس مجموعة مسلحة اتهمت بـ”الإرهاب”، قبل أن يعتقل على يد الأمريكيين، ثم يخرج متجها إلى سوريا، ويعود بحماية من المالكي وحزبه “دولة القانون”.
في الأثناء، كان الشيخ رافع الرفاعي يصرّح بأنه “المفتي الشرعي” للعراق، مهاجماً النظام السياسي الجديد، وداعياً لتغييره؛ باعتباره “قام على حراب الاحتلال”.
لكن ابتعاد الشيخ الرفاعي عن بغداد وإقامته في السليمانية، وانغماسه في التصوف، حدّ من تأثيره في الساحة العراقية، يترافق ذلك مع موقفه الحاد تجاه النظام السياسي الجديد، الأمر الذي جعله أيضاً في خانة الاستهداف من قبل وسائل الإعلام الشيعية، التي وصمته بـ”المحرّض على الإرهاب”؛ خصوصا بعد اندلاع التظاهرات في بغداد والمحافظات السنية في نهايات العام 2012، والتي كان له دور واضح في التحشيد لها.
الدعوة للمرجعية
جاءت الدعوة إلى إنشاء “مرجعية” في عزّ التشظي والانقسام السُني بعد العام 2003، مع ظهور تكتلات ذات طابع ديني، تنوعت بين الإخوان والسلفية والصوفية، بالإضافة إلى جماعات مسلحة ذات خلفيات فكرية مختلفة، لم تكن من بينها تنظيمات السلفية الجهادية المتطرفة، التي تتخذ مواقف حادة تجاه المؤسسات الدينية التقليدية، وتتهمها بالمروق من الدين؛ وما تقول إنه “ركون إلى الظلمة المبدلين لشرع الله”؛ بسبب تعامل تلك المؤسسات مع الأنظمة السياسية الحديثة؛ ذات الطابع العلماني.
وتمثلت أول محاولة لصناعة نظام مرجعي للعرب السنة بعد العام 2003 في إنشاء “هيئة علماء المسلمين” التي ترأسها الشيخ الراحل حارث الضاري، لكن مواقفها التي وصفت بالمتصلبة تجاه العملية السياسية والوجود الأمريكي قد أضعفت تأثيرها سريعاَ، ونحّتها جانباَ؛ بالتزامن مع “شيطنتها” من خلال الإعلام الحكومي وأذرعه المتعددة.
وخلال فترة الحرب على تنظيم داعش، مارَسَ المَجْمَع بعض الأدوار السياسية والإنسانية داخل الساحة السنية، وكانت له مساهمات في إيصال المساعدات إلى مخيمات النازحين، ورعاية المدارس الدينية والوعظ في المساجد، وحاول التأثير مرات عدة في قضية اختيار رئيس لديوان الوقف السني، بحسب ما ينص عليه القانون الذي منحه هذه الصلاحية، لكنّ مساعيَه لم تكلل بالنجاح؛ بسبب حجم تأثير القوى السياسية السنية، التي كانت وما تزال تنظر للمنصب كمكسب مالي كبير وجزء من معادلة المحاصصة الحزبية.
فوضى غير خلاقة
انفجرت الأوضاع في المحافظات السنية خلال الولاية الثانية لرئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي 2014-2010، بعد عودة الاعتقالات العشوائية، التي استهدفت آلاف الشُبان السُنة، ورافقتها عمليات اغتيال ممنهجة لم تتبنّها أيّةُ جهة بشكل رسمي على الأغلب.
وجرى ذلك بالتزامن مع إقصاء نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، ثم شخصيات سُنية أخرى؛ تعرضت للاعتقال أو العزل من مناصبها، حتى وصل الدور إلى وزير المالية الأسبق رافع العيساوي، فكانت الشرارة التي أشعلت حريقاً لم ينته إلا بعد سنوات.
شهدت ساحات التظاهر في بغداد و6 محافظات ذات غالبية سُنية أخرى، صعود شخصيات عديدة تمثل اتجاهات سياسية ودينية مختلفة، وظهر معها التنازع حول مسارات التظاهر، والشعارات المرفوعة، فبينما كان البعثيون يطالبون بإسقاط النظام رافعين شعار “قادمون يا بغداد”، كان الحزبُ الإسلامي وجهات أخرى يرون في التظاهر فرصة لإنجاز صفقة “إقليم سني”، يمكن أن ترضخ لها المنظومة الشيعية الحاكمة في ظل هيجان الشارع والمخاوف من توسع الاحتجاجات، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
وفي الأثناء، عاد الشيخ عبد الملك السعدي إلى الأنبار، بعد سنوات غادر فيها العراق قبيل سقوط النظام السابق، وأصدر فتاوى عدة، يرى كثيرون أنها أثرت بشكل سلبي على تلك الموجة الاحتجاجية؛ خصوصا فتواه بتحريم الدعوة إلى “الإقليم السني”؛ على اعتبار أن ذلك “تمزيق لوحدة بلد مسلم وتشتيت لصفوف أبنائه”.
استثمر المالكي وشيعة السلطة الانقسامات التي كانت تتسع يوماً بعد آخر بين الأطراف السنية، وبعد شهور على التحشيد، بدأ المتظاهرون بالانفضاض عن الساحات بشكل تدريجي، ولم يبق فيها سوى المنتمين لبعض الأحزاب والحركات، قبل أن يلوح شبح داعش في الأفق.
شبح “داعش”
نشأ ما يعرف بـ”تنظيم الدولة الإسلامية” نتيجة تطورات معقدة مر بها فكر “السلفية الجهادية”؛ الذي يتميز بتوسعه في تكفير الحكام والشعوب، ولجوئه إلى العنف والإرهاب لتحقيق غاياته، وطموحه للعب أدوار كبيرة في المنطقة والعالم، استناداً إلى رؤى وتنظيرات بدأت منذ نهاية السبعينيات؛ ووصلت ذروتها مع تنظيم “القاعدة” الذي كان أحد الأسباب التي تذرعت بها الولايات المتحدة لغزو العراق.
تناسل فكر “داعش” من تنظيمات سابقة، بدءا بـ”التوحيد والجهاد”، مرورا بـ “دولة العراق الإسلامية”؛ وصولاً إلى صورته الأخيرة التي عرفه الناس بها بعد سقوط الموصل.
تبلور فكر “داعش” في نسخته الأخيرة داخل معتقل “بوكا” في البصرة، الذي تخرجت منه أبرز قيادات التنظيم الإرهابي، ممن تولت المناصب داخله، وعملت على التنظير لأفكاره.
أحدث ظهور داعش كثيراً من الهزات في الساحة السنية، وجعل مؤسساتها الدينية في مآزق كبيرة، بسبب عجزها عن إيقافه، وتحولها –في الوقت نفسه- إلى هدف للتنظيم المتطرف.
وعلاوة على ذلك، وتزامنا مع التصعيد الطائفي في البلاد، حمّلت المجموعات الشيعية المتنفذة المؤسسات الدينية السنية المسؤولية عن انفلات الأمور؛ بسبب عدم قدرتها على ضبط الشارع، ورافق ذلك اتهامات كثيرة للتراث السني بـ”تفريخ داعش والإرهاب”.
ويرى كثيرون أن غياب مؤسسات دينية رصينة ومؤثرة في الشارع السني، قد أسهم في ظهور التنظيم الإرهابي وتمدده، خصوصا في ولاية المالكي الثانية، التي شهدت العديد من عمليات الاغتيال والاعتقال بحق شيوخ وأئمة مساجد سنة، جعلت حضورهم يتراجع بشكل كبير في المجتمع، ودفعت الكثيرين منهم للتواري خوفاً من الاستهداف الذي كان يجري على قدم وساق.
وحتى إبان سيطرته على مساحة تقترب من ثلث العراق؛ لم يحظ داعش بأي تأييد من علماء أو شيوخ دين سنة معتبرين، بل وظلت المؤسسات الدينية تنظر للمنتمين إلى التنظيم باعتبارهم “خوارج” ومتطرفين؛ استباحوا الدم الحرام، وهو ما جعل المنتمين إلى تلك المؤسسات في مرمى نيران التنظيم، الذي استهدفهم بالقتل والاعتقال.
المرجعية بين عالمين
عاش الشيعة أكثر من ألف سنة في ظل أنظمة تنظر إليهم بريبة وقلق، بسبب رفضهم الاعتراف بشرعيتها، استنادا إلى سردياتهم الدينية الخاصة، ولجوئهم إلى بناء مؤسسات خاصة بهم، منحتهم ترف الاستغناء عن رعاية الدولة، عبر أموال الخُمس التي كانت تأتيهم من أتباع الطائفة، فضلا عن الهدايا والهبات التي تمنح للمراقد والأضرحة.
ديموغرافياً، ظل الشيعة أقلية عددية في العالم الإسلامي خلال قرون طويلة، لكن معاهدة سايكس – بيكو منحت الوجود الشيعي أهمية بالغة، عبر إيجاد كتلة سكانية ضخمة في العراق، خصوصاً بعد عمليات التحولات المذهبية الواسعة التي شهدها جنوب العراق أواخر العهد العثماني، والمتمثلة باعتناق معظم عشائره التشيّع لأسباب مختلفة.
منحت ولادة هذه الكتلة البشرية الكبيرة، الحوزةَ الشيعيةَ في النجف قوةً كبيرة، وأمدّتها بأدواتٍ فاعلة للتأثير على الشارع، خصوصا مع تفاقم العداء بين العثمانيين وحوزة النجف.
بالإضافة لكون التقليد جزءاً أساسياً من التديّن الشيعي، أسهم المجتمع الذي نشأ في حالة من الفصام السياسي والنفسي مع السلطة -والتي كان رجال الدين الأكثر تأثيراً داخلها- في تقوية فكرة المرجعية، وتعزيز حضورها، وبلورتها إلى مشروع سياسي ديني ضخم؛ ظهرت آثاره بعد قرون.
بالمقابل، لم تعش المجتمعات السنية في العراق والمشرق العربي أياً هذه التجربة، فلم تكن الأذهان بحاجة لفكرة “المرجعية” أصلاً، وحين طُرحت لاحقاً، لم تحظَ بالتقدير الكافي، لاختلاف الطبيعة البنيوية للمجتمعين، وعدم شعور العرب السنة بالقطيعة مع الدولة والنظم الحاكمة بمختلف أشكالها.
ويمكن القول إن فكرة “المرجعية الدينية” هي أكثر ملاءمة للحالة المذهبية “الأقلوية” التي تشعر بالتمايز والعزلة عن محيطها، وهي تتقاطع مع فكرة “الأمة” التي ينظر عموم السنة إلى أنفسهم من خلالها.
هل تولد مرجعية سنية؟
منذ عام 2003؛ لم تتوقف الدعوات لإنشاء “مرجعية سنية”، لكنها، جميعاً، فشلت في صنع مؤسسة أبوية للسنة، لأنها ظلت تجارب “مستوردة” من خارج المنظومة الدينية والثقافية لأهل السنة، ومحاولة لمحاكاة فكرة المرجعية لدى الإمامية، والتي تقوم على عدم قبول العمل إلّا من خلال “التقليد”.
ولأن معظم العرب السنة ما زالوا يعتبرون الوضع الحالي طارئاً وآيلاً للزوال، فإن فكرة التحول إلى “طائفة” يقودها “مرجع” لم تتبلور حتى اليوم، وهو ما يعني أن ظهور مرجعية دينية سنية، على غرار الشيعية، ما يزال أمراً بعيداً من ناحية اجتماعية.
أما من الناحية الدينية، فإن بُنية التسنُن ترفض فكرة التقليد بشكل كبير، وهي ترتبط في المخيال السني المعاصر بعصور الانحطاط السياسي والفكري، التي أعقبت سقوط الدولة العباسية؛ وهيمنة المماليك والعثمانيين.
وأسهم تراجع المذهبية خلال القرنين الأخيرين في ضمور فكرة التقليد، واستحالة تأسيس مرجعية حتى على الصعيد الخاص بمقلدي المذاهب الأربعة، الذين انحسرت أعدادهم بشكل كبير جداً، إلى درجة أن التقليد المذهبي بات محصوراً بفئة صغيرة من طلبة العلوم الشرعية.
وقد عجزت الجماعات الدينية، وفي مقدمتها الحزب الإسلامي، عن تشكيل مرجعية دينية وسياسية للمجتمع السني، وظلت نخبوية غير مؤثرة في الساحة، وبات معظم المجتمع ينظر للتشكيلات الصوفية بكثير من الحذر؛ خصوصاً بعد تحركاتها السياسية الموالية لأطراف متنفذة ومسلحة في العملية السياسية.
أما المجموعات السلفية، فما تزال متفرقة، لا تجمعها حركة أو تيار موحد، رغم زيادة انتشارها خلال السنوات الأخيرة، خصوصا بين الأجيال الشابة في المناطق السنية داخل العراق.
عملياً، حلّ المَجْمَع الفقهي العراقي مكان مؤسسة الإفتاء، وبات جهة “موثوقة” لدى فئات واسعة في الشارع، يقصدونها من أجل الفتوى وحل بعض المشكلات الاجتماعية، لكنه لم يتحول إلى مؤسسة مرجعية بتأثير واضح على الشارع، أو عنصر فاعلٍ ومحرك للأحداث في البلاد.
وربما يبقى الحال على ما هو عليه خلال السنوات القادمة؛ في ظل حالة الشتات والتمزق التي تخيم على الشارع السني، وعجز نخبته عن بلورة مشروع سياسي يرسم معالم المستقبل لأبناء هذا المجتمع، وهو ما يعني عمليا أن فكرة وجود “مرجعية سنية” فاعلة ومؤثرة ما تزال مجرد فكرة، قد يطول انتظارها، وربما لن ترى النور مطلقاً.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.