تحقيقات استقصائية: حقل الغراف النفطي المتهم الأول بنشر الأمراض السرطانية في الرفاعي جنوبي العراق

حقل الغراف النفطي المتهم الأول بنشر الأمراض السرطانية في الرفاعي جنوبي العراق

على بعد 600 متر فقط من حقل الغراف النفطي الواقع شمالي محافظة ذي قار، يقع منزل الشاب علي حسين علوان(19سنة)، الذي أكتشف الأطباء مطلع شباط/فبراير 2023 ورماً في دماغه. وخضع لعمليتين جراحيتين لاستئصاله في المستشفى الدولي الأهلي ومستشفى الدكتور سعد الوتري بالعاصمة بغداد، وحصل على ست جرعات علاج كيمياوي بعدها.

يلقي والده حسين علوان (45 سنة) باللائمة على الإنبعاثات الغازية من حقل الغراف، ويقول:”هي السبب بما حدث لولدي”، توقفه نوبة بكاء عن المتابعة للحظات، قبل أن يتمالك نفسه ويضيف:”علي يواجه الموت في كل لحظة، وجميع أفراد عائلتي تعيش جحيما لا يطاق حزناً عليه، وأيضاً لأنهم مهددون بأن يحدث لهم ذات الشيء”.

وضع ابنه الصحي الصعب، وإصابة 35 آخرين من قريته(خضر الفشاخ)المجاور لحقل الغراف بأمراض سرطانية ووفاة البعض منهم خلال عشر سنوات، دفعه للإستنجاد بوزيري البيئة نزار آميدي، والنفط حيان عبد الغني، للوقوف على ما يجري في المنطقة وحماية سكانها.

فقام الوزيران في عام 2023 بإرسال لجان فنية لتقدير نسبة التلوث ومعرفة حجم المشكلة البيئية.”لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء بعد كتابة تلك اللجان تقاريرها وما تزال الملوثات موجودة وفي تزايد” يقول حسين علوان الذي يقضي معظم وقته بمرافقة ابنه في رحلة علاجه المرهقة والتي تتطلب تنقلاً مستمراً بين محافظتي ذي قار وبغداد، حيث المراكز العلاجية في الأخيرة.

ويلفت إلى أنه زود تلك اللجان الفنية المختصة بكافة التقارير التي تثبت التلوث، ومنها شهادات وفاة مصابين بالسرطان:”وخرجنا في أكثر من تظاهرة أمام بوابة الحقل لوضع حد للمخالفات البيئية القاتلة لكن لاشيء يحدث على الإطلاق”يقول بإحباط.

تجاهل الشركة النفطية وهي(بتروناس) الماليزية التي تدير الحقل منذ 2010، دفع سكان  قرية  خضر الفشاخ المحبطين، للجوء إلى القضاء، وأقاموا مطلع 2024، دعوى قضائية ضد وزارة النفط مطالبين بإيجاد حل لمشكلة التلوث التي يحدثها الحقل النفطي، وهي مازلت قيد النظر.

يكشف هذا التحقيق المدعوم بالوثائق الانتهاكات البيئية التي ترتكبها الشركة المشغلة لحقل الغراف النفطي  في قضاء الرفاعي الذي يبلغ عدد سكانه أكثر من (150) ألف نسمة. وتحيط به العديد من القرى ذات التواجد السكاني الكبير.

 منها قرية (البو حمزة) من جهة الشمال الغربي للحقل بمسافة 2,700 كم، ومن الغرب قرية (آل شايع) التي تبعد 3 كم، ومن الشرق قرية (أولاد زايد) بمسافة 3 كم، ومن الجنوب تحده قرية (خضر الفشاخ) البالغة أعداد سكانها(1000) نسمة وهي أقرب قرية تتأثر باي خلل بيئي ناجم عن عملية الانتاج النفطي أو أي خلل ناجم عن عملية حرق الغاز المصاحب لإنتاج النفط الخام في حقل الغراف وفقاً لمتخصصين في مجال البيئة.

Image 13

إستغاثات إنسانية

اطلع معد التحقيق على شكاوى تحريرية عديدة، قدمها سكان قضاء الرفاعي والقرى الأخرى القريبة من الحقل النفطي، منذ عام 2018 إلى أعضاء في مجلس النواب ووزارات البيئة، والنفط، والصحة.

آخرها في شباط/فيراير 2024 رفعت إلى رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، طالبوه فيها بإيجاد حلول عاجلة لمشكلة “السموم المنبعثة” من حقل الغراف، لتسببها بإصابة البعض من مواطني المنطقة بأمراض خطيرة، قسم منها سرطانية.

وبينوا فيها بأن ما يجري في منطقتهم “كارثة بيئية” تخالف بنود العقد المبرم بين وزارة النفط وشركة (بتروناس) ، والذي ينص في أحد بنوده على معالجة الغازات المنبعثة نتيجة عمليات الحفر والحرق في الحقل.

وبحسب التقرير الفني الصادر عن وزارة البيئة في السابع من آب/أغسطس 2023 والذي حصل عليه معد التحقيق، فأن كمية الغاز المصاحب للانتاج تبلغ(85-90 مقمق) يومياً، المستثمر منه في الوقت الحالي تتراوح نسبته ما بين (8-10 مقمق) يومياً يتم استخدامها في تشغيل محطة الكهرباء الغازية الخاصة بالحقل والباقي يحرق.

 فيما أشار التقرير إلى أن خطة إدارة الحقل تتضمن استثمار ما يقارب 50% من الغاز المصاحب خلال خطة 2024. والـ(مقمق) مختصر مأخوذ من الحروف الأولى لـ(مليون قدم مكعب قياسي)، وتستخدم كوحدة قياس لكميات الغازات.

Image 14

طُرح حقل الغراف للاستثمار في جولة الترخيص الثانية عام 2009 فيما بدأت شركة بتروناس الماليزية العمل فيه عام 2010، إذ يبلغ انتاج الحقل الحالي 160 ألف برميل نفطٍ يومياً، وتبلغ أعداد الآبار المحفورة (139 بئراً) منها 120 بئراً نفطية مربوطة على الانتاج، و9 آبار تستخدم لحقن المياه ورفع الضغط المكمني.

وبعد مرور أكثر من 14 عاماً على تشغيل حقل الغراف النفطي، ما يزال يثير جدلاً بين الحين والآخر؛ خاصة مع تكرار شكاوى ومناشدات المواطنين وارتفاع نسب الأمراض السرطانية في قضاء الرفاعي.

القاتل الأسود

الأدخنة السوداء المنبعثة من حقل الغراف النفطي، التي “تخنق الأنفاس وتعكر هواء المدينة” حسبما يقول سكان من قضاء الرفاعي، أصبحت مصدر قلقهم وخوفهم الدائم، ولا سيما أن الجهات المختصة “لم تستطع فرض أية إجراءات تضمن عدم الحد من الانتهاكات البيئية” وهذا بنص تعبير ممثل عن أهالي قرية خضر الفشاخ الشيخ حسن العبساوي.

يملك الشيخ، مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية في محيط القرية، يقول بأنه توقف عن زراعتها بسبب انبعاثات حقل النفط، ويشير إلى أن أهالي قريته ومنذ تشغيله، يطالبون بمساعدتهم “للحد من الملوثات الناتجة عن حرق الغاز بدون معالجات ورمي المخلفات النفطية بجفر قريبة من مساكن المواطنين في القرية”وفقاً لما ذكر.

ويؤكد:”الجفر النفطية ما تزال مكشوفة وأصبحت سبباً في تزايد السرطانية والتنفسية في القرية، مع انبعاث الروائح الكريهة”، ويستند في ذلك كما يزعم إلى أراء متخصصين.

ويتهم الشيخ العبساوي، شركة بتروناس، بأنها تساوم سكان قريته بين الإنتقال إلى منطقة أخرى أو السكوت عما يجري، ويقول بشيء من الغضب:”35 حالة سرطان في قريتنا، ويقولون لنا هذا، ليس لديهم الحق مطلقا، فنحن نسكن هذه الأرض وهي زراعية منذ عشرات السنين، ولدينا عقود موقعة مع دائرة الزراعة بشأنها”.

مدير مركز الشرطة البيئية في محافظة ذي قار، العميد رشيد جاسم، يؤيد ما ذهب إليه الشيخ العبساوي وغيره من سكان قريته أو القرى الأخرى، إذ يقول:”ثبتنا من خلال الجولات الميدانية لحقل الغراف مع الفريق المتخصص بمكافحة الملوثات البيئية وبالتنسيق مع قسم الكيمياويات في مديرية بيئية ذي قار وجهاز الأمن الوطني العديد من المخالفات، منها- فليرات الشعلة- الناتجة عن حرق الغاز اثناء استخراج النفط، الى جانب وجود الجفر النفطية في الحقل، وما ينتج عنها من انبعاثات وروائح كريهة تنعكس سلبا على صحة ساكني القرى القريبة من الحقل”.  

ويضيف:”كما رصدنا وجود تكدس للبراميل الكيمياوية الخطرة في الحقل والتي بلا شك تؤثر سلبا على حياة المواطنين”على حد تعبيره. ودعا المسؤول الأمني، حكومة ذي قار المحلية الى تخصيص مبالغ مالية سنوية “لمعالجة التلوث وتوفير أدوية السرطان ودعم المصابين والمتوفين”.

Image 15

وفقاً لوثيقة صادرة عن شعبة البيئة في الرفاعي، في 14 آذار/مارس 2021، فقد تم رصد “دخان أسود كثيف”ولمرات عدة يغطي المدينة من الجهة الشرقية، نتيجة حرق بئر نفطي في موقع (WPK) التابع لحقل الغراف النفطي في قرية أركان خير الله.

وعند التدقيق في ملف التلوث المتهم به حقل الغراف، وثّق معد التحقيق شكاوى مقدمة من أهالي الرفاعي في 8 تشرين الثاني/اكتوبر 2021، إلى وزارة البيئة-الدائرة الفنية/ قسم الآثر البيئي واستعمالات الأراضي، تؤكد تأثرهم “بسحب كثيفة من الدخان الناتج عن عمليات حرق ضمن حقل الغراف النفطي”، وفي أثر ذلك وجهت الدائرة الفنية في مديرية بيئة محافظة ذي قار بتشكيل لجنة بمعية الأجهزة الأمنية وشركة نفط ذي قار، للكشف عن التلوث الذي تحدثه الشركات النفطية في المحافظة.

هددت اللجنة في مخاطباتها لشركة نفط ذي قار، باتخاذ كافة الإجراءات القانونية بحق شركة بتروناس الماليزية، مالم تعالج استمرار “انبعاث الأدخنة السوداء” التي تغطي مدينة الرفاعي، وهذا بحسب وثيقة حصل عليها معد التحقيق.

ووفقاً لهذه الوثيقة، فان مديرية البيئة أشرت عدم التزام الشركة المستثمرة للحقل بالمتطلبات البيئية التي تنص على “استخدام المنظومة الملائمة التي تعتمد على تقليل الانبعاثات والدخان الأسود في اختبار الآبار النفطية، أو مشروع خطة التطوير النهائية للحقل”.

في 18 تشرين الثاني 2021 أخبرت الدائرة الفنية في وزارة البيئة، وزارة النفط بتأثر المواطنين “بسحب كثيفة من الدخان ناتجة عن عمليات الحرق في الحقل” وأشار كتاب الدائرة الفنية إلى أن هذه الحالة مخالفة للمتطلبات البيئية التي تم ادراجها ضمن الموافقة البيئية التطويرية الممنوحة إلى الحقل بموجب كتابها ذي العدد (1043) في 29 تموز 2021.

 إذ اشترطت “استخدام المنظومات الملائمة في اختبار الآبار النفطية والتي تعمل على تقليل الانبعاثات والدخان الأسود والعمل على استثمار الغاز المصاحب وعدم حرقه، والتعامل مع الجفر النفطية على أنها مخلفات خطرة”.

وفيما يتعلق بالموافقات البيئية تبين وفقاً لما أفاد به موظف في الدائرة المعنية أن حقل الغراف النفطي، حاصل على الموافقة البيئية لإقامة الحقل والمباشرة في العمل عام 2012، كما أنه حصل في عام 2021 على الموافقة البيئية التطويرية التي تمنح الشركة الإستثمارية الحق في إنشاء وحدات وخطوط انتاجية وآبار جديدة داخل الحقل.

مخاطر بيئية مستمرة

توصيات وزارة البيئة بتصويب أوضاع الحقل وضرورة مطابقتها للمتطلبات البيئية، لم تجد طريقها إلى التطبيق، بحسب مدير بيئية ذي قار السابق كريم هاني، الذي يقر بأن مشكلة الجفر النفطية وحرق الغاز المصاحب للاستخراج النفطي ما تزال مستمرة دون معالجة.

ويضيف هاني إن “الروائح الكريهة التي يتحسسها أهالي القرى القريبة من حقل الغراف، سببها الجفر التي يتم فيها عزل المياه التي تحمل الشوائب النفطية المصاحبة لاستخراج النفط، بالتالي تحدث فيها عملية تخمر وتحلل فتنبعث منها الروائح الكريهة وتتسبب بالأمراض”، ويبين “معالجة  تلك المخالفة المتمثلة بالجفر، تحتاج إلى شركة متخصصة ومجازة رسمياً من وزارة البيئة”.

إلى جانب ذلك، يقول مصدر مسؤول في بيئة ذي قار، أن “الجميع يعلم بالمشكلة البيئية لحقل الغراف النفطي وسببها في ارتفاع معدلات الأمراض السرطانية أو غيرها، لكن لا أحد يعلن ذلك بنحو رسمي خوفاً من المسالة القانونية”.

ويؤكد المسؤول الحكومي، الذي رفض الكشف عن هويته، أن حقل الغراف هو أقرب حقل نفطي من المناطق السكنية في العراق، ويتابع”الصناعات النفطية تمثل واحدة من أبرز الملوثات التي تعاني منها البيئة في البلاد بسبب عدم التزام الشركات النفطية ومنها شركة بتروناس بالمتطلبات والمحددات البيئية”.

ويرى بأن “الحكومة تغلب الجدوى الاقتصادية على الجدوى الصحية باعتبار موازنة العراق العامة تعتمد وبنحو كامل على النفط في الإيرادات” وفقاً لما قال.  

موظفون حكوميون آخرون من ذي قار قابلهم معد التحقيق، ذكروا بأن وزارة النفط لا تستجيب بنحو جدي لتوصيات وزارة البيئة بشأن المخالفات البيئية التي تم رصدها في حقل الغراف النفطي، وعبروا عن إستغرابهم من ذلك، لكونها الجهة المعنية، على حد قولهم.

مديرية بيئة ذي قار، فاتحت في 21 كانون الثاني/يناير 2021، محافظة ذي قار، تعلمها قيامها بإرسال لجنة مختصة لغرض معالجة ظاهرة انبعاثات الغازات والروائح الكريهة من حقل الغراف النفطي.

وتضمن الإخبار استمرار الشركة المشغلة للحقل :”بتصريف مخلفات النفط إلى جفر مبطنة بمادة البولي اثلين عالي الكثافة وبعد امتلائها يتم حرقها للتقليل من حجمها مما يتسبب بتكوين سحابة كثيفة من الدخان وتلوث بيئي كبير إضافة إلى انبعاث روائح كريهة من موقع الجفر الواقعة في محطة عزل الغاز، والطمر الصحي”.

ونبهت مديرية البيئة في كتابها، على التأثير السلبي لكل ذلك على المناطق المجاورة للحقل منها قرية (العليوي- والعبيد- والساير- والبوحمزة- وخضر الفشاخ- ومركز قضاء الرفاعي- وقضاء قلعة سكر).  

لكن وعلى الرغم من كل تلك الجهود الحكومية، ظل الوضع البيئي داخل الحقل على حاله، وهو ما تؤكده مديرية البيئة في 11 ايار/مايو 2022، إذ اشارت الى استمرار المخالفات المتمثلة بانبعاث الغازات والأدخنة الكثيفة “نتيجة عمليات الحرق غير النظامية للآبار وعدم فحصها بالتقنيات الحديثة داخل الحقل” ودعت دائرة حماية وتحسين البيئة، المنطقة الجنوبية بالتحرك قضائياً ضد الشركة الماليزية.

فحوصات غير دقيقة

وثق الفريق الفني لوزارة البيئة “خللا بيئيا” في نتيجة الفحوصات البيئية لموقع حقل الغراف النفطي للفصول الثلاثة الأولى من العام 2023 والمنفذة من قبل المكتب الاستشاري لجامعة ذي قار، والتي تضمنت تقييماً لنوعية الهواء وفحص الماء والتربة .

وتبين أن الأجهزة المستخدمة في إجراء فحوصات الهواء هي أجهزة محمولة نوع (DRAGER) وقراءاتها تكون آنية أو لفترات قصيرة جداً، وبالتالي تعطي نتائج تخص وقت الفحص فقط، ولا تمثل الواقع الحقيقي لنوعية الهواء في الموقع والذي يتطلب إجراء القياسات عبر محطة مراقبة مرجعية ثابتة أو متنقلة تجري قياسات مستمرة لفترات طويلة ومقارنتها بالمحددات البيئية النافذة.

وأظهرت نتائج القياسات الخاصة بنوعية المياه الجوفية أنها أعلى من المحدد الوطني ولعدد من العناصر الثقيلة المسرطنة مثل (الزرنيخ- الكادميوم- الرصاص- النيكل) وغيرها للفصول الثلاث الأولى من 2023

Image 27

وأكد تقرير فريق البيئة الفني أن المحددات البيئية التي تم اعتمادها في مجال قياس العناصر الثقيلة في التربة تختلف عن المحددات المعتمدة لدى وزارة البيئة وغير معروفة المصدر.

وقد أوصى التقرير المرسل الى الأمانة العامة لمجلس الوزراء- هيئة المستشارين في 21 كانون الثاني/يناير 2024 بضرورة توفير محطة مراقبة ثابتة ومتنقلة لملوثات الهواء المحيط تعتمد الطرق المرجعية للقياس في حقل الغراف النفطي وباتجاه الرياح السائدة، ويتم ربطها عبر الانترنت لترسل نتائج القياسات للملوثات بنحو مباشر ومستمر الى ادارة الحقل والى مديرية بيئة ذي قار والجهات ذات العلاقة في المحافظة .

Image 25
Image 26

كما شدد التقرير على ضرورة قيام إدارة الحقل بتزويد بيئة ذي قار بالقراءات الخاصة بنوعية الهواء للحقل بنحو دوري لمتابعة حالات الانبعاثات والفحوصات البيئية الدورية كافة التي يقوم بها المكتب الاستشاري حفاظا على صحة العاملين في الحقل والسكان القريبين من الحل أو المتأثرين بهذه الانبعاثات.

وتعزيز وتطوير خطة الطوارئ الخاصة بالحقل لتقليل زمن الاستجابة الى أدنى حد ممكن ومعالجة الحوادث الطارئة، ولاسيما المتعلقة بالانبعاثات الغازية لتقليل تأثرها المحتمل على بيئة العمل داخل الحقل وبيئة المناطق المحيطة بها.

لكن اللافت أن التقرير السنوي لديوان الرقابة المالية الصادر عام 2022، أشار إلى أن العقد المبرم مع شركة بتروناس الماليزية لم يتضمن سقفاً يلزمها بإنجاز وحدات معالجة واستثمار الغاز المصاحب الناتج عن عمليات استخراج النفط الخام عن طريق انشاء وحدات متكاملة لمعالجة الغاز.

اصابات سرطانية متزايدة

سجلت وزارة الصحة 39068 إصابة بالسرطان في عمون البلاد خلال سنة 2022، من بينها 1562 حالة إصابة في محافظة ذي قار، فيما كشفت وثيقة صادرة عن مستشار رئيس الوزراء موسى الفياض، موجهة إلى مدير مكتب السوداني عن تلوث حاصل في حقل الغراف النفطي عمره 14 سنة، وقد أصاب  ثلاثة آلاف شخص بمختلف أنواع السرطان توفي 10% منهم (وفقاً لتقارير طبية معتمدة) وما يزال عدد المصابين في زيادة مستمرة.

وطالب المستشار موسى الفياض، بحسب الوثيقة بإنشاء مركز متخصص للسرطان في قضاء الرفاعي، ودعم المصابين وذوي المتوفين ماديا عبر وزارة النفط، وشمولهم بقطع الأراضي ورواتب الرعاية الاجتماعية وشمول أهالي القرى القريبة من الحقل بقروض ميسرة لمساعدتهم للانتقال والسكن في مناطق بعيدة عن الحقل.

قدم مركز الأورام السرطانية في الناصرية الذي افتتح في عام 2012 خدماته الاستشفائية لـــ 8500 حالة اصابة سرطانية مسجلة في الناصرية، خلال 12 سنة. وهي احصائية يفصح عنها مدير مركز الاورام السرطانية في الناصرية الدكتور أحمد العبادي، الذي يقول بأن طاقة المركز الأستيعابية هي فقط 40 سرير وبواقع أربعة ردهات لإعطاء الكيمياوي وأربعة ردهات لمبيت الرجال وأخرى للنساء، وأن المركز بنحو عام يستقبل يومياً من 80 إلى 120 مريضاً بالسرطان.

وبحسب الدكتور العبادي، فإن العلاجات السرطانية تصل الى المركز عن طريق شركة التجهيز(كيماديا) التابعة لوزارة الصحة وهي تغطي ما نسبته 25-40% من الاحتياج الفعلي، فيما توفر صحة ذي قار ما نسبته 50%، ويقول:” نغطي بذلك 90% من العلاجات للمرضى”.

ويشتكي مرضى السرطان في الناصرية، من وجود طبيب متخصص واحد فقط في الأورام وأمراض الدم لدى الاطفال في المحافظة ولذلك تضطر العائلات لمعالجة الأطفال المصابين من هم تحت سن 14 في بغداد والبصرة ومؤسسة وارث، في كربلاء.

 واقع صعبُ يقر به الدكتور احمد العبادي، الذي يؤشر حالة أخرى تضاف إلى جملة المشاكل “وهي عدم وجود جهاز- البت سكان- الخاص بتشخيص الأورام في الناصرية مايضطر المصابين إلى إجراء هذا الفحص في محافظات أخرى”.

مسؤول مشروع العيادة المجانية في قضاء الرفاعي، الدكتور الصيدلاني قاسم الشويلي، يقول بأن مصابي السرطان في الرفاعي يضطرون منذ العام 2019 للذهاب إلى مستشفى الوارث التابع للعتبة الحسينية في كربلاء(273كم )من أجل اجراء فحوصات البت سكان، وعمليات رفع الأورام والحصول على الجرع الكيمياوية مجاناً.

ويضيف” نقدم الخدمات العلاجية لـ400 مصاباً بالسرطان من قضاء الرفاعي ولدينا حالات أيضا من أقضية النصر والفجر وميسلون وقلعة سكر والغراف ونعاني من عدم وجود أطباء للأورام السرطانية وشحة في توفير العلاجات الخاصة بالسرطان لأن أعداد المصابين كبيرة”.

ووفقاً لمصادر طبية مطلعة قابلها معد التحقيق في محافظة ذي قار، فأن قسما من المصابين بالسرطانات، ولاسيما المتمكنين منهم مادياً، يتلقون العلاجات خارج البلاد والبعض الآخر في محافظات أخرى، لذلك لاتظهر بياناتهم لدى الجهات الطبية.

معد التحقيق زار قرية خضر الفشاخ، ووثق بالصور حجم المخالفات البيئية الموجودة وقربها من مساكن المواطنين في القرية، العديد من المواطنين هناك، يقولون بأن المناظر تلك هي التي يشاهدها أعضاء اللجان التي تعاين المنطقة، ومع ذلك لامعالجات تحدث في واقع الحال، على حد قولهم.

Image 24

البيئة ممنوعة من الاقتراب

لم تسمح شركة (بتروناس) الماليزية، للفرق البيئية التابعة لدائرة حماية وتحسين البيئة في المنطقة الجنوبية، بدخول الحقل النفطي لغرض تقييم الواقع البيئي،  والتحقق من الاجراءات المتخذة لمنع عمليات الحرق وارتفاع نسب ملوثات الهواء وعدم معالجتها، بحسب وثيقة صادرة من وزارة البيئة في 29 آذار/مارس 2022.

Image 22
Image 23

وزارة البيئة عدت قرار منع كوادرها من الدخول الى الشركة مخالفة للمادة 22 من قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009 ، التي تلزم الشركات بإبداء التعاون الكامل والتسهيلات اللازمة لفرق الرقابة البيئية بما في ذلك دخول موقع العمل.

وفي ذات الوثيقة، طالبت وزارة البيئة، شركة نفط ذي قار، بمعالجة كافة المخالفات الناتجة عن عمل حقل الغراف النفطي باستخدام أفضل التقنيات والطرق التكنولوجية المتخصصة بالمعالجة وفقا للمتطلبات البيئية والتشريعات النافذة.

وأشارت إلى أن عمليات تجميع المخلفات النفطية في الجفر المبطنة هو إجراء مؤقت لحين معالجتها ولا يسمح بحرقها نهائياً لما لها من تأثيرات بيئية وصحية خطيرة والتي قد تؤدي إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالامراض السرطانية.

Image 21

منع دخول كوادر وزارة البيئة الى الشركات النفطية لم يكن جديداً فقد سبقه منع طواقم الوزارة من رصد المخالفات البيئية في عام 2019، لكن “رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، ومنذ توليه منصبه، مكن طواقم الوزارة الراصدة من دخول مناطق عمل الشركات النفطية” حقيقة يكشف عنها الوكيل الفني لوزارة البيئة جاسم الفلاحي، الذي يقر بأن ملف التلوث البيئي المصاحب لعمليات حرق الغاز في حقل الغراف والحقول النفطية الأخرى واحد من الملفات الملحة والمؤثرة سلبا على الصحة العامة.  

ويضيف الفلاحي، بأن ثمة علاقة طردية ومباشرة ما بين التلوث البيئي وزيادة معدلات الامراض الانتقالية والجهاز التنفسي والأمراض السرطانية.

عضو مجلس النواب عن قضاء الرفاعي كاظم الفياض، ينفي وجود أي دور مؤثر للجهات البيئية الحكومية “أمام الانتهاكات والمخالفات البيئية”، ويقول بأن عملها يقتصر على التقارير الورقية التي “تكتب وتحفظ فقط”، لذلك قام بتقديم طلبات إلى مجلس القضاء الأعلى والادعاء العام من أجل حل هذه المشكلة البيئية والصحية، حسبما ذكر.

معد التحقيق حاول التواصل مع إدارة سركة بتروناس الماليزية التي تدير حقل الغراف، لبيان رأيها إزاء الإتهامات الموجهة إليها غير أنه لم يتلق رداً منها على الرغ من تكراره لمحاولة التواصل معها، سواء من خلال طلب شفهي قدم على موظفين فيها أو رسائل هاتفية او بريدية وجهها.

Image 19
Image 20

تقاذف التهم

يُحمل مستشار رئيس الوزراء موسى الفياض، مديرية بيئة ذي قار، مسؤولية “ما آلت اليه أحوال الناس في قضاء الرفاعي بسبب المخالفات البيئية” ويقول بأن”ما تنقله بيئة ذي قار الى وزارة البيئة عبارة عن تقارير مثالية جداً بعيدة عن الواقع”.

ويرى بأن حقل الغراف النفطي له تأثير بيئي يصفه بالخطير، ليس على سكان قضاء الرفاعي، وإنما أيضاً على الاقضية القريبة منه وهي كل من (قلعة سكر وميسلون والفجر والنصر)، “كما تحيط بالحقل قرى سكنية تأثرت بالمخلفات النفطية  طيلة المدة الماضية”يقول مؤكداً.

ويتابع:”تأشر لدينا أن ارتفاع نسب الإصابات والوفيات بالسرطان في الرفاعي هو بسبب المخلفات البيئية لحقل الغراف النفطي، وبسببه اصبحت الرفاعي منطقة موبوءة، ويستدرك “هذا الامر تطور بسبب عدم التزام الشركة ببنود العقد المبرم، ونتجت عن ذلك مخلفات بيئية خطيرة”.

ويلفت إلى أن المخلفات النفطية كانت تنقل من الحقل بواسطة شركة محلية الى منطقة الكحلاء في محافظة ميسان، “لكن تم ايقاف عمل تلك الشركة بسبب عدم دفعها للضرائب، ما ولد تأخيراً في نقل المخلفات النفطية الخطيرة وامتلاءت الجفر النفطية بالتالي انبعثت روائح كريهة من الحقل”.

مصدر في حقل الغراف النفطي، وهو من أهالي قضاء الرفاعي ويعمل موظفاً في الحقل، تواصل معه معد التحقيق، يلقي باللائمة على ما يصفه بـ”فساد بعض المسؤولين في الناصرية” ويتهمهم بإسهامهم حسب اعتقاده باستمرار طرح حقل الغراف للملوثات الضارة بالسكان القريبين. ويوضح المصدر الذي طلب عدم ايراد أسمه خشية تعرضه للمساءلة القانونية:”سياسيو المحافظة جل همهم هو الحصول على منافع مادية دون الاهتمام بحياة المواطنين” دون ان يفصح عن الطريقة التي يحصلون بها على تلك المنافع.  ويؤكد بأن الدور الرقابي على حقل الغراف غائب.

وهو يتهم حتى مواطني القضاء بعدم الجدية في مطالبهم، إذ يقول:” المطالبة مقترنة على الدوام بفرص عمل ووظائف في حقل الغرافة كتعويض عن الضرر اللاحق بهم/ وهو ما جعل الشركة تتهاون في تحقيق مطالبهم”حسب تعبيره.

وعود حكومية

دعت وزارة النفط العراقية الشركات النفطية وفي مناسبات عدة إلى استثمار الغاز المصاحب لاستخراج النفط بدلاً من حرقه، لكن استثمار الغاز كما يقول المتحدث باسم وزارة النفط عاصم جهاد، في تصريحات صحافية “صناعة معقدة وتحتاج إلى شركات عالمية متخصصة تستعين بأدوات وتكنولوجيا متطورة، والعراق خطى خطوات مهمة جداً في هذا الاتجاه بالتعاقد مع شركات رصينة لإيقاف حرق الغاز المُضر بالبيئة”وفقاً لقوله.

ويتابع “هنالك اتفاق مع شركة بيكرهيوز الأميركية لاستثمار 200 مليون م3 قياسي من حقلي الغراف والناصرية في ذي قار وهذه الاستثمارات بمجموعها توفر كميات جيدة من الغاز بدلاً من حرقه في الجو واحداث التلوث”.

ويؤكد بأن “إكمال المشاريع الحالية في ميسان وذي قار وجزء كبير من مشاريع البصرة سيعني توفير كميات كبيرة من الغاز لتغطية الحاجة المحلية وإيقاف عمليات الحرق المضرة بالبيئة”.

ويذكر بأن الأهداف الأساسية من هذه الاستثمارات هي فضلا عن وقف حرق الغاز:”تغطية الحاجة المحلية لمحطات الكهرباء وإيقاف الأضرار التي تلحق بالبيئة جراء حرقه”.

يأتي ذلك بعد توجيه صدر مطلع اذار/مارس 2024 من رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، إلى وزارتي النفط والبيئة، بالإيعاز إلى شركة نفط ذي قار بتكليف الشركة المشغلة لحقل الغراف النفطي (بتروناس) بإنشاء وحدة مركزية لمعالجة المخلفات الناتجة من عمليات الاستخراج وفق المواصفات البيئية العالمية والمعتمدة لدى الوزارتين، وتخصيص المبالغ اللازمة ضمن الموازنة الاستثمارية وبنحو استثنائي بعد إعداد الدراسة الفنية والاقتصادية للمشروع.

كما وجه بقيام (شركة بتروناس) وبإشراف من شركة نفط ذي قار ومتابعة مديرية بيئة ذي قار بمعالجة السوائل الموجودة في البرك النفطية لمنع تخمرها وفق الاساليب والطرق البيئية العملية المعتمدة، واستخدام الوسائل السليمة والآمنة لنقل المخلفات إلى مراكز المعالجة خارج الحقل وإنشاء وحدات معالجة دائمية وذلك لقرب هذه البرك ووحدات الانتاج من القرى والقصبات المحيطة بالحقل.

Image 12

وعلى الرغم كل هذا الواقع، ما يزال زين العابدين حمود(24 سنة)عاطل عن العمل، يمني النفس بإيقاف “رائحة الموت”كما يصفها، والتي تحيط بقريته(خضر الفشاخ)، والتي تسببت بإصابته بـالربو القصبي الحاد، نتيجة تعرضه إلى مواد غازية وكيمياوية.

“نحن نموت ببطئ”يقول ذلك وهو يشير إلى الحقل الذي يبعد بضعة مئات من الأمتار فقط” لقد بح صوتنا ونحن نطالب هذه الجهة وتلك، لكنهم لايقومون بشيء”.

يدخل في نوبة سعال، قبل أن يتابع وهو يضرب كفيه ببعضهما:”الشركة التي تدير الحقل لديها المال، ونحن مجرد فقراء في قرية صغير، لذلك لن يستمع الينا أحد”.

  • أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الأستقصائية ضمن مشروع زمالة ميدان.

المزيد عن تحقيقات استقصائية

تحقيقات استقصائية","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":27177}" data-page="1" data-max-pages="1">