الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان “السياحية” إلى العراق
بالمقارنة مع أسلافه نجاد وروحاني ورئيسي، فزيارة بزشكيان إلى العراق التي طاف خلالها على 6 محافظات عراقية لم تكن سوى زيارة سياحيّة، والاستثناء الوحيد هو في كردستان.. تحليل عن زيارة الأولى للرئيس الإيراني وما تضمنته..
على الرغم من تمدّدها على أراضي 6 محافظات عراقية، لم تكن زيارة تاسع الرؤساء الايرانيين وثالث من يزور العراق منهم، مسعود بزشكيان، توازي الأهمية المفترضة لها، بوصفها أول زيارة خارجية للرئيس الإيراني الجديد، وإلى بلد بالغ الأهمية والتأثير بالنسبة لإيران، فبدت سفرةً سياحيةً لا تعادل ثقل الحسابات الدبلوماسية والسياسية والأمنية والاقتصادية بين البلدين.
بشاشة وجه بزشكيان، وضعف الكاريزما التي يمتلكها مقارنة بسلفه إبراهيم رئيسي، انعكست هي الأخرى على أجواء زيارته للعراق، فالجانب الآخر من التأثير الشخصي يتعلق بأن الزيارة الأخيرة ليست قراره وخياره المسبق، بل أنها جاءت لاستكمال الواجبات المعلّقة على سلفه رئيسي، الذي كان سيزور العراق ويوقع مذكرات التفاهم بنفسه، غير أن سقوط الطائرة المروحية التي كانت تقلّ رئيسي بين جبال أذربيجان الشرقية في أيار 2024، منعه من ذلك.
المحطة الخارجية الأولى… عنوان للا شيء
كرر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني دعواته إلى بزشكيان لزيارة العراق، الأولى في 8 تموز 2024 باتصال هاتفي، والثانية في 23 آب 2024 وعبر وزيري خارجية البلدين، كما أن وسائل اعلام إيرانية أشارت الى أن الزيارة تأتي تلبية لدعوة من نظيره عبد اللطيف رشيد.
في 2 أيلول، نشرت وسائل إعلام إيرانية مقابلة مع بزشكيان، قال خلالها: إن “خياره الأول للسفر الخارجي هو العراق” والسبب أنه أراد الذهاب إلى النجف لزيارة الإمام علي (ع) حسبما جاء في المقابلة، حتى أن هذه الجملة تسببت بردود فعل في الأوساط الإيرانية، ليكتب الصحفي الإيراني محمد جواد أكبرين في تغريدة: “قال الرئيس إن وجهة رحلته الرسمية الأولى هي إلى العراق “للحج”، لذلك فإن رحلته شخصية ويجب أن يذهب على نفقته الخاصة، وليس من ميزانية الحكومة وبيت المال”.
لذا، 3 أسباب جعلت الزيارة أقل بكثير من أهميتها المفترضة، وتنفي محاولات إضفاء الأهمية على أول زيارة خارجية للرئيس بزشكيان: الأول هو أن الزيارة، ببعدها الدبلوماسي ومذكرات تفاهمها، ليست خياره، والأمر الآخر هو أنها جاءت تلبية لدعوة عراقية رسمية لم يتسلم غيرها، أما الثالث، هو أن بزشكيان وبرنامجه الحكومي غير محمّل بأي شيء ملفت تجاه العراق، فهناك قضايا مرحلية أكبر تتعلق بالاتفاق النووي وعلاقته بالغرب، وهو ما يحرص عليه بزشكيان في تصريحاته قبل وبعد تنصيبه رئيساً لإيران.
ينتمي بزشكيان للتيار الإصلاحي، والإصلاحيون جبهة تشكلت عام 1997 بعد فوز محمد خاتمي برئاسة الجمهورية والتي تدعم صبغ نظام الحكم بشيء من الحريات والديمقراطية، وهم بعيدون عن الحرس الثوري على خلاف المحافظين، لكنْ بشكل أو بآخر، لن يؤثر كون الرئيس الإيراني إصلاحياً أو أصولياً، خصوصاً على العراق الذي لن يتأثر كثيراً بشكل السياسة الخارجية للقنوات الرسمية للجمهورية الإيرانية، لأنه من حصة “سياسة الظل” المتمثلة بالحرس الثوري الإيراني وارتباطاته بالفصائل المسلحة في العراق.
مذكرات تفاهم “باردة”
على عكس مذكرات التفاهم التي وقعها كل من محمود أحمدي نجاد وحسن روحاني خلال زيارتيهما إلى العراق الجديد، يمكن وضع مذكرات التفاهم التي وقعها بزشكيان والتي بلغت 14 مذكرة، في خانة المذكرات الباردة والثانوية، لن يتطلب توقيعها أكثر من وزراء أو مسؤولين من درجات أدنى، حيث كانت جميعها عبارة عن مذكرات تعاون في مجالات رياضية أو فنية أو لتدريب الشباب والتعاون الإعلامي والاتصالات والبريد وتطوير القوى العاملة.
وإذا ما قورنت بمذكرات التفاهم التي وقعها روحاني عام 2019 في زمن رئاسة حكومة عادل عبد المهدي، والتي كانت تشمل مجالات أكبر في النفط والتجارة والصحة والنقل لإنشاء سكك الحديد بين البصرة والشلامجة، ومذكرة لمنح تأشيرات الدخول والتسهيلات لرجال الأعمال والمستثمرين.
بالمقابل، ركزت مذكرات محمود أحمدي نجاد عام 2008 والتي كانت أول زيارة لرئيس إيراني إلى العراق منذ 1979، ركزت على التعاون الجمركي والتأمين وبناء المجمعات السكنية والتعاون في مجال الصناعة والتعدين، إضافة إلى مذكرة في مجال النقل وأخرى حول التقييس والسيطرة النوعية، واستثمار الحقول النفطية المشتركة.
عند زيارته العراق، صرّح أحمدي نجاد ضد الوجود الأمريكي في العراق، من جانبه، اعتبر روحاني في أول تصريح له بعد وصوله بغداد عام 2019، أن العلاقة بين إيران والعراق، علاقة خاصة لا يمكن مقارنتها مع تلك التي تقيمها واشنطن مع بغداد.
لكن، على العكس من سلفيه، لم يتطرق بزشكيان إلى التواجد الأمريكي في العراق أو إلى شكل العلاقة بين العراق والولايات المتحدة، فهو متطلع إلى العلاقة مع أوروبا والولايات المتحدة ويأمل بإعادة الحياة للاتفاق النووي.
كما أن العراق وإيران وصلا لمراحل من التفاهم، تنتفي معها الحاجة للتفاهم حول أي شيء آخر، فزيارات الرؤساء إلى بلدان أخرى، تأخذ أهميتها من حجم المشاكل والملفات العالقة التي تنتظر الحسم بين البلدين، أما إيران، فقد حصلت على معظم ما تريده من العراق عبر قنوات رسمية أو غير رسمية، ولم يعد هناك شيء يستوجب التفاهم.
ضيف على منزل بـ”مشاكل عائلية”
قبل ساعات من هبوط طائرة بزشكيان في مطار بغداد صباح الأربعاء 11 أيلول 2024، تعرّض محيط المطار لقصف بصاروخين، طال موقعاً لتواجد المستشارين الأمريكيين حسبما أكدت قيادة عمليات بغداد، غير أن السفارة الأمريكية قالت إن الموقع الذي تعرّض للهجوم، هو منشأة دبلوماسية.
مباشرة، تبرّأت كتائب حزب الله من القصف، واعتبرته محاولة للتشويش على الزيارة، كما أن العديد من المحللين السياسيين اعتبروا توقيت القصف غريباً وغير مفهوم، وعموماً حلّ بزشكيان ضيفاً على منزل متوتر ومثقل بالمشاكل العائلية، فالزيارة التي بدأت بصاروخ، كانت متزامنة مع اشتداد الخصومة السياسية بين قادة الإطار التنسيقي ورئيس الحكومة محمد شياع السوداني بفعل أزمة “شبكة جوحي” والتجسس، وأزمة المؤتمر الصحفي لرئيس هيئة النزاهة حيدر حنون، والذي أزاح الستار عن خصومة بين الحكومة والقضاء، وليس بين الحكومة والقوى السياسية فحسب، حتى أن زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي لم يحضر التجمع الذي أقامه زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم على شرف بزشكيان، والذي حضره السوداني والأمين العام لعصائب أهل الحق قيس الخزعلي، الذي يعيش هو الآخر أجواء خلافات وخصومة مع أصدقائه في الإطار.
رافقت، وسبقت زيارة بزشكيان، قراءات وتوقعات عن إمكانية أن يقود الرئيس الإيراني الجديد وساطة لتهدئة الأجواء بين القوى السياسية والحكومة، لكنها خابت جميعها، لأن “أدوار الظل” التي تمارسها إيران في العراق، يتولّاها رجال بعيدون عن قنواتها الرسمية.
بعد 5 أيام فقط من إنهاء بزشكيان زيارته إلى العراق، حلّ قائد فيلق القدس إسماعيل قآاني “ضيفاً سرياً” على العراق لمنع التصعيد بين القوى السياسية والحكومة وبالتأكيد لأسباب أخرى تتعلق بلهيب التوترات والحرب في المنطقة، لكنْ، فور مغادرة قآاني وصلت الخلافات إلى أشدها، حيث تسرّبت أخبار عن لجوء الخزعلي والمالكي لرفع دعاوى قضائية ضد الحكومة، بسبب قصة “شبكة جوحي” واكتشاف أن هذه الشبكة تمكنت من تسجيل صوت بعض المكالمات الهاتفية “المنزلية” لعائلات بعض القادة السياسيين.
بزشكيان في التجمع الذي اقامه زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم بمناسبة زيارته.
ليست زيارة قآاني إلى العراق، بالضرورة، نابعة من حرص وانشغال إيراني فعلي بما يحدث بين السوداني والمالكي والخزعلي، بل ربما هو دور شبيه بما يقوم به شخص كبير المقام، ترسله عشيرة ما، ليخفف من وطأة مشكلة مع عشيرة أخرى، لأخذ ما يعرف بـ”العطوة”، وهي الهدنة المؤقتة لحين الجلوس وحلّ المشكلة الرئيسة، حيث تشير المعلومات إلى أن السوداني طلب من بزشكيان أن يوصل رسالة إلى المرشد الأعلى علي خامنئي للتدخل بينه وبين القوى السياسية التي تضغط على الحكومة، ليرسل خامنئي قاآني لهذه المهمة تلبية لطلب السوداني فقط.
لكن الأمر المحتمل الآخر الذي جعل زيارة قآاني عديمة الجدوى، ففور إعلان مغادرته عاد التصعيد بين القوى السياسية، هو وقوع حادثة انفجار اجهزة البيجر لدى عناصر حزب الله في لبنان، وهو ما تسبب بإرباك ودهشة كبيرة، لتزامن الحدث مع تواجد قآاني في العراق في 17 ايلول، وربما سحبت الحادثة قاآني من هدف زيارته الأساسية، لينشغل بها وبلبنان ويغادر العراق سريعا.
زيارة كردستان.. المحطة الأهم
لا يبدو من الصحيح اعتبار زيارة بزشكيان إلى إقليم كردستان، جزءا من زيارته إلى العراق، فشكل العلاقة بين إيران وكردستان منفصلة، إلى حد ما، عن مستوى وشكل علاقة طهران ببغداد، لكنْ مع اعتبار أن زيارة كردستان جزءاً من زيارة العراق، فأنها ستكون المحطة المهمة الوحيدة ربما في زيارة بزشكيان للعراق.
زار بزشكيان السليمانية وأربيل، والتقى بزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، الذي يشترك معه في الاسم ومسقط الرأس، مدينة مهاباد الإيرانية، وهي المعلومة التي استعرضها بزشكيان بحماس خلال حديثه للصحفيين هناك، حيث كانت زيارته لكردستان أكثر حيوية من باقي المحافظات حتى أنه تحدث بالكردية، وعلى الأقل، هنالك مشاكل عالقة بين الإقليم وإيران تستحق بالفعل تبادل الزيارات، وهو ما ابتدأه رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني بزيارته طهران ومقابلة المرشد الأعلى علي خامنئي في أيار 2024.
بزشكيان في زيارتيه إلى مدينتي أربيل والسليمانية.
بين إيران وكردستان، مشاكل المعارضة الإيرانية الكردية، التي قام العراق بتفكيك الكثير من مخيماتهم ونقلهم إلى مناطق بعيدة عن الحدود، حيث ينتشرون ضمن مناطق السليمانية الحدودية مع إيران، لكن مع ذلك، من المهم بالنسبة لإيران التفاهم مع أربيل -التي يحكمها الحزب الديمقراطي الكردستاني-، حيث المقر الرئيسي لحكومة إقليم كردستان العراق، خصوصاً وأن المتعارف عليه في الأوساط الكردية أن السليمانية -والاتحاد الوطني الكردستاني الذي يحكمها- ترعى المعارضة التركية، وأربيل كانت تتساهل مع المعارضة الإيرانية.
أما الملف الآخر الأكثر أهمية، هو اتهامات إيران المتكررة لأربيل باحتضان مقرات للموساد الإسرائيلي، وقيامها بقصف منازل ضخمة تعود لرجال أعمال، في اذار 2022، وكانون الثاني 2024، وهي اتهامات لم تثبتها إيران بالدليل حتى الآن.
النجف وكربلاء.. بلا مقابلة مراجع
في زيارته للنجف وكربلاء وكذلك البصرة، حظي بزشكيان باستقبال شعبي، وأجرى لقاءات مع محافظي النجف وكربلاء والبصرة، وحصل على “بشت” -عباءة رجالية- فراتي وضعه أحد رجال العشائر في البصرة على كتفه، واهداء البشت في الثقافة العربية، له دلالات كبيرة، فالبشت يعبر عن الوجاهة والتكريم والإكبار.
ومن النجف، تعهّد بزشكيان بالسير على “نهج الإمام علي”، فيما كانت زيارته خالية من لقاء المراجع الدينية، وتشير المعلومات إلى أن السيستاني رفض مسبقاً استقبال بزشكيان كما رفض عام 2013 لقاء أحمدي نجاد بزيارته الثانية، على خلاف استقباله حسن روحاني في عام 2019.
وضع “البشت” على كتف الرئيس الإيراني بحضور محافظ البصرة.
لم تخلُ من الطروحات الجريئة
على الرغم من أن زيارة بزشكيان، بالعموم، لم تضِف شيئاً جديداً، لدرجة وصفها في وسائل إعلام ايرانية بأنها لم تكُن ناجحة، غير أنها لم تخلُ من الطروحات الخطيرة والاستثنائية.
طرح بزشكيان فكرة “إزالة الحدود الإسلامية” على طريقة الاتحاد الاوروبي، متسائلا: “لماذا لا نستطيع نحن المسلمين أن نسهّل الحدود للسفر والتجارة مثل الدول الأوروبية، يجب علينا إنشاء شبكة للسفر من أفغانستان وباكستان إلى إيران وكربلاء ومكة وغيرها من البلدان الإسلامية”.
ومن الطروحات الأخرى، ما كشفه عبد الناصر همتي وزير الاقتصاد الإيراني، بأن الوفد الإيراني اقترح خلال الزيارة أن يتم تصدير البضائع الإيرانية إلى الدول العربية مع التغليف باسم العراق لتجاوز العقوبات، ويبدو أن العراق وافق على مبدأ الاقتراح، لكنّ الاتفاق النهائي لم يتم التوصل إليه بعد.
لكنّ ملفات أخرى بالغة الأهمية، خصوصاً للإيرانيين، لم تأخذ من الزيارة حيزاً؛ فلم تتم تسوية مسألة الديون الإيرانية في العراق، والإبقاء على الاتفاق السابق مع حكومة مصطفى الكاظمي المتمثلة بشراء البضائع الإنسانية لإيران بالأموال المجمّدة ببغداد، كما أن الوفد الإيراني فشل في إقناع العراق بالتبادل عبر الريال الإيراني والدينار العراقي، وفي نهاية الرحلة، لم يصدر بيان مشترك للحكومتين، وهو ما يضع رحلة بزشكيان في خانة “غير ناجحة”.