حقول النفط ومخلفات الحروب ترفع معدلات الإصابات السرطانية في البصرة
معدلات إصابة مرتفعة بالسرطان بين سكان البصرة، يؤكدها مسؤولون وخبراء، بسبب مخلفات عسكرية لحربين كبيرتين كانت المدينة مسرحا لها خلال 34 سنة، وما تبثه نحو 600 شعلة نفطية من إنبعاثات غازية، في ظل غياب الحلول الحكومية لتقليل التلوث، والعجز المزمن عن مساعدة الضحايا بتوفير المستلزمات العلاجية والأدوية الأساسية لهم.
يعيش دواي ناجي (45 سنة) من محافظة البصرة جنوبي العراق، في دوامة من القلق على مصير والدته المصابة بسرطان الدم والراقدة منذ أسابيع بمستشفى الصدر التعليمي، فهو يخشى أن تلتحق بشقيقته الصغرى وإبن شقيق له، اللذين توفيا بالسرطان سنة 2014.
هو يعتقد بأن إنبعاثات الحقول النفطية هي السبب:”شعلة غاز لمنشأة استخراج نفط لا تبعد عن منزلنا في دور معمل الورق بمنطقة الدير شمالي البصرة، سوى 1000 متر فقط وبسببها صار سكان المنطقة عرضة للإصابة بمختلف أنواع الأمراض بما فيها السرطان”.
ثم يشير إلى عدم توفر الكثير من الأدوية السرطانية الاساسية والساندة في مركز الأورام بالمحافظة. قلقه من ضعف المستلزمات والعلاجات وشكوكه في أن التباطؤ في اعطاء الجرع الكيماوية قبل عشر سنوات لشقيقته وأبن شقيقه بوقت مبكر عجل في وفاتهما، دفعه لأخذ والدته الى ايران في رحلة علاج شهر كانون الثاني/ديسمبر 2023.
خضعت هناك، لخمس جلسات علاج بالجرعات الكيميائية على ثلاث مراحل وسلسلة من العلاجات التي استلزمت انفاق مبلغ مالي مقداره 15 ألف دولار أمريكي، “إلا أن وضعها لم يتحسن” كما يقول.
فعاد بها الى العراق ليستكمل علاجها في مركز الأورام السرطانية في مستشفى الصدر التعليمي بالبصرة وخضعت فيها منذ ذاك الحين إلى أحد عشر جلسة لتلقي الجرعات الكيميائية.
يقطع دواي 45 كم أسبوعياً رفقة والدته من المنزل الى مركز الاورام السرطانية، ليحصل لها على الجرعة الكيميائية، وبسبب الزحام هناك يضطران للإنتظار بين 8 إلى 10 ساعات في كل مرة.
يقول وهو يرفع نبرة صوته ويشير بيده الى سوق تجاري:”عدم توفر العلاجات في المركز يضطرني لشرائها من الصيدليات الخارجية بمبلغ خمسون الف دينار (30$)، كما أضطر لشراء حقن المناعة بمبلغ 35 الف لكل حقنة واجراء فحوصات PET Scan في منطقة بريهة بمبلغ 700 الف دينار (450$) بسبب وجود جهاز واحد فقط في مركز الأورام ويستقبل 10 حالات يوميا فقط وفي الكثير من الأوقات يتوقف عن العمل” وفقاً لما يقول.
قصة والدة دواي، واحدة من بين مئات القصص المشابهة في البصرة، لمصابين بأمراض سرطانية بلغت أعدادهم بين عامي 2004 و2022 عشرات الآلاف، تربط مصادر طبية وبيئية وبرلمانية اصاباتهم بتأثيرات النفايات الاشعاعية والمخلفات الحربية وملوثات العشرات من منشآت استخراج النفط التي لا تراعي المتطلبات البيئية.
يسلط هذا التحقيق الضوء على تصاعد الاصابات السرطانية في مناطق محافظة البصرة التي يزيد عدد سكانها عن ثلاثة ملايين نسمة، بسبب التلوث الحاصل نتيجة عمليات استخراج النفط والمخلفات الاشعاعية الأخرى، وفقاً لمتخصصين.
شح مزمن في العلاجات والأدوية
أبو أحمد الشغانبي، موظف في دائرة كهرباء البصرة، يقول بانه فقد ثلاثاً من أفراد عائلته نتيجة الاصابات السرطانية. يغالب دموعه وهو يستعيد ذكراهم، إذ توفي ابنه أحمد سنة 2013 متأثراً بورم سرطاني خبيث في رأسه.
وفي سنة 2019 توفيت ابنته رقية التي كانت تبلغ من العمر ست سنوات بذات المرض، وفي السنة نفسها توفي ابنه حسن وهو بعمر ثلاث سنوات بسرطان أصاب رأسه كذلك. ولم تنتهِ قصة الشغابي المأساوية عند هذا الحد فقط، إذ تبين في شباط/فبراير2024، أن ابنته حميدة ( 5 سنوات) مصابة بسرطان الغدد اللمفاوية وهي تخضع للعلاج حاليا في مستشفى الوارث بمحافظة كربلاء، وأكتشف بعدها بأسابيع إصابة طفلته الصغرى أم البنين وهي بعمر سنتين فقط، بتورم في الغدة النخامية.
تأخذه لحظة شرودٍ قبل أن يؤكد خضوع ابنته حميدة لخمسة عشر جلسة تلقي جرع كيميائية في مستشفى الوارث، ويوضح :”تتلقى حقن كيميائية على مدى أربعة ايام في الاسبوع وبعدها تمنح استراحة لمدة اسبوع ومن ثم يعطونها حقناً أخرى، وام البنين كذلك ترقد في ذات المستشفى وتتلقى العلاج”.
عجز حكومي مزمن عن تحجيم التلوث وتوفير المستلزمات العلاجية والأدوية
الشغابي يتهم الحكومتين المحلية في البصرة والمركزية في بغداد بالتقصير، لعدم توفيرهما العلاجات الأساسية في المراكز السرطانية، وإهمال ذوي المصابين “يضطر الكثير منهم إلى بيع منازلهم وكل ما يمتلكونه لتغطية تكاليف معالجة مرضاهم” يقول منفعلاً.
ندرة الأدوية السرطانية الفعالة واستغلالها من قبل الفاسدين في تجارة الأدوية السرطانية تؤكدها عضو لجنة النزاهة النيابية عالية نصيف، التي تقول بأن جزءاً من رؤوس الأموال العائدة لسياسيين بارزين (لم تسمهم بالاسم) “وظفت عبر شركات خاصة لافتتاح معملين لصناعة الأدوية السرطانية في البلاد، وهي قائمة على استيراد العلاجات من الهند وايران ثم تغليفها على أنها عراقية الصنع”. ووصفت المعملين بأنهما “مشروعان لقتل المرضى”. في أشارة إلى شكوك بشأن جودة نوعية الأدوية.
ويؤشر رئيس لجنة الصحة النيابية ماجد شنكالي، حاجة البلاد الى أجهزة متطورة في التشخيص وضرورة تغطية النقص الحاد في العلاج الاشعاعي بالعديد من المراكز الطبية، بسبب ارتفاع أعداد المصابين، كما يؤكد وجود شحة كبيرة في علاجات الأمراض السرطانية والبيولوجية وارتفاع تكاليفها.
ويتابع شنكالي قائلا:”في موازنة العام 2023 خصصت الحكومة 200 مليون دولار لشراء الأدوية السرطانية، كما خصصت قرابة 250 مليون دولار لتغطية بعض المتطلبات من خلال النفقات الحاكمة وهذه المبالغ غير كافية، ولا ترقى لمعاناة الناس وحاجاتهم مقابل حجم الاصابات المتزايد”.
ويلفت إلى أن شركات الصناعة الدوائية المحلية لاتسد سوى 15% من الحاجة للأدوية السرطانية، وذلك بسبب:”الخسائر التي تكبدتها تلك الشركات مثل شركة سامراء للأدوية التي خسرت خلال أول 10 أشهر من عام 2022 ما مجموعه 31 مليار دينار”.
وتقدم وزارة الصحة خدماتها، في أربع مراكز لعلاج الأورام السرطانية للأطفال أحدهم في البصرة، وخمسة مراكز للعلاج الإشعاعي، وثلاثاً وعشرين مركزاً للعلاج الكيميائي في عموم العراق، وهو ما يراه أطباء ومختصون غير كافٍ.
ويطالبون بوضع خطط قصيرة وطويلة المدى، للوقاية من السرطان عبر تقليل المسببات، فضلاً عن الاهتمام بالمصابين من خلال توفير العلاجات والأدوية والأجهزة المطلوبة بدلاً من تحميل ذوي المرضى تكاليفها الباهظة مع واضطرار الكثيرين منهم للسفر إلى خارج البلاد من اجل تلقي العلاج.
خروقات بيئية
في العام 2018 أجرت المنظمة الالمانية لحقوق الانسان التي تتخذ من محافظة البصرة مقراً لعملها، زيارة ميدانية لمناطق قضاء المدينة شمالي البصرة للوقوف على ما تعانيه تلك المناطق من “ارتفاع لافت” في معدلات الاصابة السرطانية ونسب التلوث.
وفقا لما يقوله رئيس المنظمة الخبير البيئي د. سعد الجبوري، فقد سجلت المنظمة 1200 حالة سرطانية في مناطق شمالي البصرة خلال ثلاثة أشهر فقط، وهي مدة بحث ميداني أجري في 2018. ويربط ارتفاع نسب السرطان بين الأهالي، بتفاقم الملوثات الهوائية المنبعثة من الحقول النفطية في تلك المناطق.
ويؤكد د. سعد تسجيل مختصين في المنظمة ارتفاعا في نسب الكربوهيدرات التي تخرج من الشعل النفطية “بتراكيز مرتفعة جداً مقارنة بالمحددات البيئية بما تحمله من تأثير على صحة الانسان”، مبينا أن الأمر هذا مازال قائماً.
ويتابع:”لاحظنا ان الشركات النفطية لا تبعد منشآتها الاستخراجية مسافة 15 كم عن المدن السكنية كما هو معمول به في دول العالم، بل العكس فأن بعض الشركات تبعد 4 كم أو أقل عن التجمعات السكنية التي تضم من 750 الى مليون الف نسمة، ولذلك لا يستبعد ارتفاع نسب الاصابة مع ارتفاع تراكيز الملوثات النفطية في الهواء والتربة”.
ويبدي د. سعد مخاوفه من أن عدم معالجة الانبعاثات الغازية والتلوث الناتج عن استخراج النفط خلال الــ 15 سنة القادمة، وابقاء الأوضاع على ما هي عليه اليوم بعدم استخدام التقنيات الحديثة، قد يؤدي إلى ارتفاع نسب الأمراض السرطانية بنحو 60% بين سكان المحافظة.
احصائيات متضاربة
سجلت محافظة البصرة منذ عام 2004 ولغاية عام 2022 وفقا لعضو مجلس النواب السابق حيدر المنصوري، أرقام اصابات مرتفعة بالسرطان بلغت 27397 إصابة، قال بأنها مسجلة لدى وزارة الصحة، وأن هناك قرابة 40 الف إصابة لم تسجل في المحافظة، لان غالبية أصحابها راجعوا مستشفيات خارج البصرة لتلقي العلاج.
فيما يقول عضو مجلس النواب أحمد الربيعي أن أعداد إصابات السرطان وصلت إلى 31392 من 2004 لغاية عام 2022، وأبرزها سرطان “القولون والمثانة والغدد اللمفاوية وسرطان الثدي”.
وينبه الربيعي إلى أن معدل حالات الوفيات في مركز الأورام بمستشفى الصدر التعليمي بسبب السرطان تصل إلى 60 حالة شهريا، بعضها يرتبط بـ”نقص الأدوية الخاصة بعلاج هذا المرض” كما يقول.
وهنالك في العراق من يعتقد بأن الأرقام أكبر بكثير مما تعلنه وزارة الصحة، من بين هؤلاء مهدي التميمي، مدير المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البصرة، الذي ذكر في تصريح صحفي نشر في آذار/مارس2024، بأن ما بين 9 إلى 10 آلاف حالة سرطان جديدة تسجل سنويا في المحافظة.
وتحاول المصادر الرسمية العراقية، التكتم باستمرار على الأعداد الحقيقية المسجلة، إذ لا يتم الإفصاح عن الأرقام الدقيقة وتظل المتداول منها تقريبية ولا تخضع للتحديث الشهري او السنوي، وآخر إشارة في احصائيات وزارة التخطيط كانت في 2021 بتسجيلها 2858 أصابة سرطان في تلك السنة بمحافظة البصرة.
معد التحقيق حاول التواصل مع مسؤولين في وزارة الصحة أكثر من خمس مرات، إلا أنهم رفضوا الرد على بعض الأسئلة بينها ما يتعلق بكشف أعداد الإصابات السرطانية في البصرة، متذرعين بوجود تعليمات عليا تمنع الافصاح عن أرقامها.
تراكيز عالية من الملوثات
كشفت دراسة بحثية لأستاذة الهندسة البيئية في جامعة بغداد د. سعاد العزاوي، نشرتها المجلة العربية للبحث العلمي في قطر سنة 2020 تحت عنوان (تقدير مخاطر استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب في العراق) عن تعرض سكان البصرة إلى جرعات اشعاعية عالية.
وافادت الدراسة، ان تلك الجرعات كانت أعلى بنحو 200 مرة من الجرعة الإشعاعية السنوية التي يتلقاها أي شخص في مكان طبيعي بالعالم، والتي لا تتجاوز 2.4 ملّي سيفَرت (رمزها Sv، هي وحدة لقياس جرعة الإشعاع المكافئة).
ووفقاً للدراسة فقد بلغ إجمالي الجرعة الفعالة التي تعرض لها السكان في قضاء الزبير وغرب مدينة البصرة بحدود 268.6 ملّي سيفَرت، وقرابة 167 ملّي سيفَرت في مدينة صفوان المحاذية للكويت، بسبب اليورانيوم المنضب الذي استخدمته القوات الامريكية والبريطانية خلال حرب الخليج الأولى 1991، حيث تعرضت مناطق مأهولة بالسكان كالزبير والطريق الدولي وحقول غرب القرنة وجبل سنام، إلى عمليات قصف بالقذائف المشعة.
ووفقاً لما يقوله المزارع خضير حنون، من منطقة جبل سنام جنوب غرب الزبير بمحافظة البصرة فإن “المئات من الآليات المُدمرة بالقصف كانت بالفعل متروكة قرب القرى والمناطق العشوائية ولجهل الناس بمخاطرها تعرضت الى عمليات تفكيك وسرقة أجزاء منها وبيعها في أسواق الخردة إضافة الى لهو الاطفال بها في المناطق القريبة مما عرضهم مباشرة لخطر الإصابة بالسرطان”.
مضيفاً أن أحد أبنائه البالغ من العمر عشر سنوات “أصيب بورم في رأسه اتضح فيما بعد أنها إصابة سرطانية ومازال إلى الآن يتلقى جرعات علاجية”.
وللاستيضاح عن حجم الملوثات المشعة في محافظة البصرة جراء الحروب والصواريخ المنضبة باليورانيوم التي سقطت فيها ومصادر التلوث الاشعاعي الأخرى، تواصل معد التحقيق مع الباحثة الدكتورة سعاد، فقالت ان القوات الأمريكية “استخدمت الاسلحة الملوثة بمحتواها الاشعاعي مرتين: أولهما خلال حرب الخليج 1991 حيث اطلقت أكثر من مليون قذيفة على مناطق غرب البصرة، يتراوح وزنها بين 320 ــ 500 طن من اليورانيوم المنضب، والثانية كانت خلال غزو واحتلال العراق عام 2003” .
وعن مدى خطورة المخلفات المشعة تلك على حياة الناس، تقول بأن ذلك يعتمد على “شدة ومدة التعرض والمسافة” بالإضافة إلى “صحة ومناعة الأشخاص الذين يتعرضون للمخلفات المشعة”.
وتشير إلى أن سكان البصرة تعرضوا لتراكيز عالية من اكاسيد اليورانيوم التي استخدمت أثناء القصف الجوي والبري في تلك الحربين، ونتيجة هبوب العواصف الترابية المحملة برماد تلك العناصر، إستنشقها السكان بدرجات متفاوتة لتستقر في أجسادهم.
وتؤكد بأن سكان البصرة يتعرضون دوماً لجرع اشعاعية إضافية مع كل عاصفة ترابية تنقل مزيداً من هذه الملوثات من الدبابات وناقلات الجنود التي تركت في العراء، او من التربة التي تضمها، بعد تعرضها للقصف بالقذائف المشعة.
ويربط الدكتور صالح البكري، المختص بالطب الباطني وأمراض الدم، بين تلك الملوثات والتعرض لخطر الاصابة بالأمراض السرطانية، مبيناً ان المعدات التي تعرضت لقصف بقذائف منضبة باليورانيوم “تولد انبعاثا ينتشر في الجو يحتوي على أكاسيد اليورانيوم المشعة، وينتقل لمسافات واسعة، وعند استنشاق تلك الأكاسيد من قبل الانسان تخترق جسيماتها الدقيقة (نانو) غشاء الحويصلات الرئوية وصولاً إلى مجرى الدم وتدخل إلى بقية خلايا الأعضاء الداخلية”.
ويضيف:”تقوم أيونات اليورانيوم المنضب بالتبادل الأيوني في جسم الإنسان مع المغنيسيوم في خلايا الأعضاء، مما يؤدي إلى تدمير قابلية الجسم على الإصلاح وتعويض الخلايا التالفة، ونتيجة لذلك يصاب الجسم بالأمراض المزمنة والأورام السرطانية، كذلك تقوم الشوارد الحرة المنتشرة في الخلايا باعتراض عملية تصنيع وطي بروتينات الجزيئات الخاصة بتكوين (الـ DNA) ما قد يؤدي الى إحداث خلل جيني متوارث عند المصابين”.
وينبه الى ان الكثير من تلك الآليات ماتزال في العراء بالبصرة، ولم يتم رفعها لغاية الآن. وبحسب مصدر في محافظة البصرة، فان ما يؤخر رفعها هو الخلاف بين الادارة المحلية في البصرة والحكومة الاتحادية بشأن نفقات وطرق رفعها ومواقع طمرها.
عوامل وأسباب أخرى
يؤكد مختصون في مجال حماية البيئة، أن معدلات الإصابة بالسرطان ارتفع بسبب “التلوث الإشعاعي الخطير” إثر استعمال الولايات المتحدة وحلفائها، ذخائر مصنعة من اليورانيوم المنضب ضد أسلحة الجيش العراقي الثقيلة في جنوبي البلاد وعلى الحدود السعودية، الى داخل المدن بعد 2003 وهو العام الذي شهد سقوط النظام العراقي السابق.
وبحسب مصدر مطلع في بيئة البصرة، فإن هنالك 26 موقعاً ملوثاً في مناطق (الدرهمية والهوير والرميلة وأبي الخصيب، والبرجسية، والقرنة، وجبل سنان، والفاو) وغيرها من مناطق البصرة.
ووفقاً لمفوضية حقوق الانسان في البصرة، فأن القوات الامريكية استخدمت خلال حرب الخليج الثانية 2003 أكثر من 900 طن من الصواريخ المنضبة باليورانيوم، فيما كانت حصة البصرة لوحدها قرابة 200 طن من تلك الصواريخ، وآثارها البيئية المدمرة مازالت ماثلة.
رئيس الهيأة العراقية للسيطرة على المصادر المشعة (هيأة تابعة إلى مجلس الوزراء) د.كمال حسين الربيعي، يقول بأن الهيئة سجلت أنواعاً عدة من الأمراض السرطانية الناتجة عن المخلفات المشعة بين سكان البصرة.
ويوضح: “كسرطان الرئة الناجم عن استنشاق الهواء الملوث بالمواد المشعة، وسرطان الكِلية والأمعاء الذي يحصل عبر دخول اليورانيوم إلى داخل الجسم عن طريق تناول بعض الأطعمة والخضار المزروعة في أماكن ملوثة، إضافة إلى أنواع أخرى ناتجة عن ابخرة الاستخراجات النفطية، كبخار الزئبق والمغنيسيوم، وابخرة المعادن والكبريت القاتلة، والأتربة الملوثة المستخرجة من الآبار”.
ويضيف إلى ذلك مخلفات البحث وإنتاج النّفط الخام في العراق “كمتطلبات المسوحات والاستكشافات وحفر الآبار وحقن التربة الذي تصاحبه بعض الغازات السامة كالغاز الحامضي وغيره الذي يعد من الغازات الخطرة على صحة الانسان لاحتوائه على نسب عالية من الكبريت”.
وينبه الربيعي إلى أن سكان المنازل القريبة من الحقول النفطية “هم أكثر الناس عرضة للإصابة بمخاطر تلك الغازات”، داعياً الحكومة المحلية إلى استقدام مختصين بمعالجة النفايات على نحو سريع للقيام بطمرها في مخازن نووية تحفر في الارض لا يقل عمقها عن 10 امتار، ثم تردم بمواد خرسانية، وتغطى بالتراب.
ويشدد على ضرورة أن تكون تلك المخازن بعيدة عن المناطق السكنية بما لا يقل عن 150كم وهو ما يتوافق مع رأي المختصين في الهيأة العراقية للسيطرة على المصادر المشعّة.
وكانت عضو مجلس النواب زهرة البجاري، قد أعلنت في العام 2022 عن وجود 1,3 مليار متر مربع من الأراضي الملوثة بالألغام والمقذوفات الحربية في محافظة البصرة، وقالت بانها متركزة في أقضية الزبير، والفاو، وشط العرب.
اقرار حكومي بالخطر
في 21 اب/أغسطس 2023 اتهم ديوان الرقابة المالية في تقرير له، شركات أجنبية مسؤولة عن استخراج النفط بتسببها بزيادة أعداد الإصابات السرطانية في البصرة ومدن أخرى، نتيجة ارتفاع تراكيز الهايدروكاربونات غير الميثانية الوثيقة الصلة بالأمراض السرطانية في جميع نقاط الرصد بحقول البصرة بشكل يتجاوز الحدود المسموحة.
وجاء في التقرير أن “العمليات الاستخراجية النفطية تطرح في الهواء ملوِّثات بيئية ناجمة عن حرق الغاز المصاحب للوقود الأحفوري المستخرج، إذ أحرقت شركة نفط البصرة والشركات الأجنبية المشغِّلة للحقول في المحافظة ما نسبته (54،52،53) في المئة من الغاز المصاحب في السنوات (2019، 2020، 2021).
وينبه الى ان ذلك أدى إلى إطلاق مركبات كيمياوية خطرة في الهواء وبتراكيز عالية، تسببت بإصابات سرطانية بين السكان ولاسيما في مركز المحافظة التي تتصدر أعداد الإصابات بمعدل 76.3 شخص لكل 100 ألف في العام 2020.
ويكشف التقرير عن أن المناطق الأعلى تلوثاً هي الزبير ثم القرنة، وفقاً لدراسة بحثية منشورة في عام 2021 أجرتها جامعة ميسان عن “تأثير ملوِّثات الهواء بالهايدروكاربونات ماعدا الميثان، على زيادة أعداد المصابين بالأمراض السرطانية، لاسيما سرطان الرئة والمثانة”.
ويؤكد “ارتفاع تراكيز الهايدروكاربونات غير الميثانية الوثيقة الصلة بالأمراض السرطانية في جميع نقاط الرصد بحقول نفط البصرة بشكل يتجاوز الحدود المسموح بها وفق المحدد الوطني البالغ (0.24 PPM لكل 3 ساعة)، إذ وصلت في حقل الرميلة الجنوبي إلى (2.058 PPM لكل 3 ساعة).
ويشير التقرير الى عجز في عمليات قياس التلوث، يتمثل في توقُّف جميع محطات مراقبة نوعية الهواء وأجهزة قياس ملوِّثات الهواء الحقلية التابعة لمديرية بيئة البصرة والبالغة 17 محطة منذ العام 2019 و7 أجهزة أخرى منذ العام 2013 “ما أثر سلباً في تشخيص الواقع البيئي وتحديد تراكيز الملوثات”.
ويوصي بإحالة ملف التلوث البيئي إلى مجلس الوزراء لعدم التزام شركة نفط البصرة والشركات الأجنبية المشغِّلة بأحكام المادتين (9 و21) من قانون حماية وتحسين البيئة، والعمل على استثمار الغاز المصاحب ووقف حرقه للاستفادة من مردوده الاقتصادي وتقليل التلوث الناتج عنه. إضافة إلى إلزام شركة نفط البصرة والشركات الأجنبية المشغِّلة للحقول وحسب بنود عقود الخدمة النفطية، بتجهيز جميع محطات الحقول بمشاعل وعازلات وقانصات حديثة وكفوءة، مع إلزام المشغِّل الأجنبي بتوفير المعالجات المقلِّلة للتلوث.
تقرير ديوان الرقابة أكد وقوع العراق ضمن الدول العشر الأكثر تلوثاً للهواء، نتيجة لانبعاث الملوثات الغازية الناجمة عن عمل الحقول النفطية، وما ينتج عنها من آثار سلبية على صحة المجتمع، إذ سجلت تقارير مجلس السرطان العراقي ارتفاعاً مستمراً بنسب الإصابات بالأمراض السرطانية سنوياً، إذ ارتفعت من 73.3 إصابة في سنة 2015 إلى 81.34 إصابة في سنة 2019 لكل مئة ألف نسمة.
إلى ذلك يشخص مدير بيئة البصرة كريم عبد رخيص، ما يسميها “فجوة كبيرة بين بنود عقود شركة نفط البصرة وشركات التراخيص الأجنبية وبين ما يحدث على أرض الواقع”، مبينا أن “هنالك مايزيد عن 600 مشعل تحيط بالبصرة تمثل مصادر تلوث”.
لجنة الصحة والبيئة في مجلس محافظة البصرة، اتهمت هي الاخرى الشركات النفطية بالوقوف وراء 70% من حالات الإصابة بالسرطان وامراض الكلى والربو وغيرها المسجلة في المحافظة، وذكر رئيسها علي العبادي أن هنالك مقترحاً لتشكيل صندوق لمعالجة الأمراض التي تنتج عن ذلك.
شكاوى ضد الشركات النفطية
في آب 2021 تبنت المنظمة الألمانية لحقوق الانسان في محافظة البصرة، مقاضاة الشركات النفطية الأجنبية العاملة شمالي البصرة ومنها شركة (لوك أويل الروسية)، وقد رفعت 54 دعوى قضائية لكن سرعان ما أغلق الملف في محكمة استئناف البصرة الاتحادية بسبب تهديدات مسلحة تعرض لها فريق المحاماة حسبما يقول رئيس المنظمة سعد الجبوري.
وحصل معد التحقيق على وثيقة إنذار صادرة من كاتب العدل بمنطقة الجمعيات في البصرة مؤرخة بتاريخ 6 نيسان/أبريل 2021، إلى شركة (لوك أويل الروسية) تقدم بها 6 أشخاص متضررين من السرطان، عبر المحامي صلاح عبد الحسن الامارة، مطالبا الشركة بدفع مبلغ تعويضي لكل شخص من هؤلاء مقداره مليار و500 مليون دينار عراقي.
وحمل الانذار الموجه للشركة، مسؤوليتها عن إصابة عدد من سكنة البصرة بالأمراض السرطانية ووفاة بعضهم جراء التلوث البيئي نتيجة احتراق النفط بسبب العمليات الاستكشافية وحفر للآبار في حقل غرب القرنة/1 وغرب القربة/2 بدون اتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة، وهو ما يتعارض مع قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009.
وتتعرض منطقتا )المدينة والقرنة( لملوثات محصورة بثلاث شركات نفطية أجنبية، هي شركة (لوك أويل) الروسية وشركة (إكسون موبيل) الامريكية ، بينما تعمل شركة (بي بي) البريطانية في حقول الزبير والرميلة والشعيبة غربي البصرة .
الى ذلك يؤكد الخبير القانوني كرار صالح، مسؤولية الدولة “بإزالة التلوث وفقاً للقوانين النافذة والمواد الدستورية”، مبينا أن “المادة 33 من الدستور العراقي أكدت مسؤولية الدولة بتوفير بيئة سليمة وملائمة للعيش وحماية المواطن من مختلف الأمراض الناتجة عن التلوث البيئي”.
ويعتقد الخبير القانوني بأحقية قيام محافظ البصرة، بإقامة دعوى في المحكمة الاتحادية أو المحكمة الإدارية لمقاضاة الحكومة الاتحادية والزامها بتعويض المصابين وأصحاب الأراضي المستملكة، سواء للأغراض النفطية أو تلك التي اتخذت كمقابر أو مراكز لتجميع الآليات الحربية المدمرة”.
نقص الإمكانيات الطبية
رغد مجيد (39 سنة) من مدينة البصرة، مصابة بسرطان الثدي، وتشكو من تأخر حصولها على جرعة الكيماوي بسبب عدم توفرها في صيدلية مركز الأورام بالبصرة، على الرغم من أنها كانت قد حصلت بالفعل على عدد من الجرعات في المركز قبل ذلك.
زوج رغد هجرها فور علمه بإصابتها بالمرض، وهي تعتمد على المساعدات المالية الخيرية لتوفير علاج ibrance الأمريكي الذي يبلغ سعر العلبة الواحدة منه 900 دولار، وتعتمد في البعض الآخر من علاجها على مناشئ محلية وايرانية، والأخيرة علاجات بجودة أقل وأحيانا تكون “غير فاعلة” وفقا لما سمعته رغد من أطباء مختصين.
ويضطر ذوو المصابين إلى مراجعة الصيدليات الخاصة للحصول على غالبية الأدوية والعلاجات، بسبب عدم مقدرة المشافي الحكومية على توفيرها بكميات كافية، كما ان تلك المشافي متهالكة المرافق الخدمية ومراجعوها يعانون من تأخر تقديم العلاجات، بحسب عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية باسم الغرابي، الذي يقول إن “نسبة ما توفره الدولة من علاجات للأمراض السرطانية في الوقت الحالي لا يتجاوز الـ 10%”.
ومع أن الدولة ملزمة بتوفير بيئة طبية مناسبة للمصابين بالسرطان، إلا أن الواقع المأساوي كما يصفه الغرابي يجبر الكثيرين للجوء إلى المشافي الأهلية، وعدد غير قليل منهم يتخلى بعد فترة عن متابعة جلسات العلاج في تلك المشافي لعدم قدرتهم على تحمّل تكاليف الاستشفاء غالية الثمن فيها “لتعقبها انتكاسة صحية للمرضى يصعب التعافي منها”، يضاف الى ذلك كله “الغلاء الفاحش في أسعار علاجات الأمراض السرطانية”.
ويضيفأ، انه مع سريان العمل بقانون الضمان الصحي الذي تم اقراره في الدورة البرلمانية السابقة، والذي ألزم الدولة على تحمل ما نسبته 70% من علاجات مرضى السرطان، إلا أن موازنة وزارة الصحة لعام 2023 لم تبلغ سوى 10 تريليونات دينار، خصص منها تريليون و600 مليار دينار لمختلف العلاجات بما فيها السرطانية “وهذه الأرقام المحدودة تعني أن الدولة تتحمل ما نسبته 30% فقط من قيمة العلاجات تلك، ويدفع المرضى أو ذووهم ما يتبقى من نفقتهم الخاصة”.
انحسار الأدوية السرطانية في مركز سرطان البصرة، يؤكدها محمد المنصوري رئيس منظمة (أهل الخير) التي تتبنى توفير بعض علاجات مرضى السرطان، والذي يؤكد ارتفاع اسعار العلاجات ما يصعب حصول المرضى الفقراء ومحدودي الدخل عليها.
وبحسب المنظمة، فان بعض العلاجات متوفرة في مركز الأورام بمستشفى الصدر التعليمي، لكنها لا تكفي لسد حاجة المصابين في المحافظة، فيحصل تأخير في تجيز المرضى ما يضطر بعضهم لشرائها من الأسواق.
ويوضح المنصوري بأن بعض المرضى يحتاجون يومياً إلى ما لا يقل عن أربعة حقن مناعة سعر الواحدة منها 35 الف دينار، وبعض العلاجات تتراوح اسعارها من 600-900 دولار، فيضطرون للجوء الينا “فنعمل على تأمينها عن طريق تبرعات المحسنين”.
ويعزو الدكتور أحمد رمزي، مدير قسم استيراد الأدوية في وزارة الصحة، قلة تجهيز الأدوية للمشافي، إلى قلة التخصيصات المالية: “خصوصا المتعلقة منها بعقود الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية كيماديا”.
لمعالجة المشكلة، افتتحت الوزارة مؤخراً خطوطاً انتاجية جديدة في المصانع الوطنية لإنتاج الأدوية السرطانية وتم ذلك الأمر من خلال تخصيص الحكومة الاتحادية قروض مالية لتلك المصانع.
يقول د. رمزي: “تعاقدنا مع تلك المصانع لتجهيزنا بـ183 مادة دوائية منها أدوية السرطان، وهي أدوية أثبتت فعاليتها بالتحليل”. ويستطرد:”كما نحصل على جزء غير قليل من أدوية السرطان، من خلال ما تمنحه منظمات انسانية دولية”.
مخاطبات لتخفيف التلوث
تظهر وثيقة صادرة في 16 كانون الأول 2018 عن دائرة الدراسات والتخطيط والمتابعة في وزارة النفط، مطالبتها لشركة نفط البصرة بالإيعاز إلى هيئة تشغيل حقل غرب القرنة/2 لاتخاذ ما يلزم لتخفيف الآثار الناتجة عن الانشطة النفطية في الحقل “واتباع الطرق الحديثة في كل مراحل انتاج النفط الخام ومعالجة المخلفات الناتجة، والالتزام بخفض الانبعاثات الملوثة الناتجة عن الانشطة النفطية”.
أجرى فريق من دائرة البيئة في محافظة البصرة، مطلع كانون الأول من العام 2018، زيارة ميدانية إلى منطقة “شلهة كباشي” في قضاء الهوير شمالي المحافظة، وسجّل خرقاً في المسافة التي يجب أن تكون بين المناطق السكنية وحق غرب القرنة بمسافة 4 كم، الى جانب ارتفاع تراكيز الملوثات الغازية (NOx-THC-NMHC)، كما تكشف وثيقة حصل عليها معد التحقيق.
وتثبت وثيقة أخرى صادرة عن وزارة البيئة في آب اغسطس 2019 ارتباط الملوثات الغازية بارتفاع نسب السرطان في البصرة.
وتؤكد تاثير ملوثات (مجموع الهيدروكرونات THC، والهيدروكربونات عدا الميثان NMHC) على الرئتين والمجاري التنفسية، مبينة انها تكون سامة جدا، وقد تسبب أمراض سرطانية عند التعرض لها لفترات طويلة.
وفيما يتعلق بأكاسيد النتروجين NOx، فهي أيضا غازات خطرة جداً على الصحة، بحسب ما ورد في الوثيقة، وتسبب التسمم عند استنشاقها وتهيج الاغشية المخاطية للمجاري التنفسية، والتهابات في الرئة، وتهيج في العين، وتؤدي الى حدوث الامطار الحامضية، بالإضافة إلى تأثيرها بشكل سلبي على طبقة الأوزون.
في 23 شباط 2019 وجه عضو مجلس النواب عن محافظة البصرة، فالح الخزعلي، كتابا من وزارة الصحة والبيئة الى دائرة صحة البصرة، عنون موضوعه (تقرير دراسة العوامل البيئية لمرضى السرطان) وتضمن الاشارة الى وفاة عدد من مواطني منطقة الهوير، شمالي البصرة بسبب إصابتهم بأمراض سرطانية.
ويشير النائب في الكتاب الموجه الى دائرة التنسيق الحكومي لشؤون المواطنين في الأمانة العامة لمجلس الوزراء، الى مسؤولية الشركات النفطية العاملة في البصرة عن حالات الوفاة تلك.
فيما قدم عضو مجلس النواب عن محافظة البصرة علاء الحيدري، في 29 كانون الثاني/يناير 2024، اخبارا إلى جهاز الادعاء العام، ابلغ فيه عن قيام مراكز الأورام في مستشفى الصدر التعليمي، ومستشفى البصرة التخصصي للأطفال، بتصريف مخلفات الأدوية السرطانية الى محطة المعالجة البايلوجية مباشرة دون معالجتها معالجة خاصة وفق المتطلبات الصحية، منبها أن تلك المخلفات تشكل مصدر خطر كونها تتسبب في احداث طفرات وراثية وتشوهات خلقية وسرطانات في الخلايا الحية إذا لم يتم معالجتها بالشكل الصحيح.
عضو مجلس النواب عدنان الجابري، عرض شرحاً مفصلا لرئاسة مجلس النواب في عام 2022 عن ارتفاع معدلات الوفيات والإصابة بالسرطان في المحافظة نتيجة الانبعاثات المصاحبة لعمليات استخراج النفط وتكريره فضلاً عن تلوث المياه والتربة بسبب المخلفات الحربية، فيما قدم طلبا إلى الرئاسة موقعا من 55 نائبا تضمن إنشاء صندوق لإعانة مرضى السرطان في البصرة في ظل تزايد أعدادهم “بشكل مخيف” وارتفاع متطلبات علاجهم.
وفي نيسان 2023 وجه عضو مجلس النواب إسامة البدري، طلبا إلى وزارة البيئة لغرض إرسال فريق متخصص من دائرة بيئة البصرة للوقوف على أسباب ارتفاع الإصابات السرطانية وبنحو ملحوظ في منطقة الشاهين بقضاء القرنة، مؤكدا أن “المنطقة فيها مخلفات حربية سابقة وحقل نفطي قريب من المجمعات السكنية على بعد كيلومترات”.
وفي وثيقة أخرى صادرة عن النائبة فاطمة عباس الحاوي، في 31 آب/أغسطس 2023 أكدت فيها ارتفاع نسب الإصابات السرطانية في البصرة بسبب التلوث البيئي جراء الاستخراجات النفطية والحروب السابقة، وطالب بتخصيص قطع أراضي للمصابين كتعويض.
لكن جميع تلك المخاطبات والجهود الرسمية، عجزت عن تحقيق تحرك حكومي فاعل لإنهاء او تخفيف مصادر التلوث ووقف الخروقات الحاصلة للقوانين البيئية والصحية وللعقود الموقعة مع الشركات النفطية، كما لم يحصل تحرك جدي لمساعدة ضحايا الأمراض السرطانية، حتى بات خطر الموت بالسرطان يلاحق كل البصريين ويثير رعبهم بنحو دائم، وفقاً لاطباء ونواب وناشطين مدنيين هناك.
وفي خضم تلك المخاطبات والوثائق الرسمية التي تبين ارتباط الملوثات النفطية بارتفاع نسب الإصابات السرطانية، باشر “حسين جلود” (55 عاما) والد الشاب “علي” الذي توفي بسرطان الدم وهو في الحادية والعشرين من عمره في نيسان/أبريل 2023 بإجراءات رفع دعوى قضائية ضد شركة بريتيش بتروليوم، باعتبارها المقاول الرئيسي لحقول الرميلة النفطية غربي محافظة البصرة، والتي يتهمها بتلويث المنطقة التي يسكنها مع عائلته بالغازات السامة.
يقول جلود، وهو موظف حكومي، أن ولده علي دخل مستشفى الأورام السرطانية بالبصرة في 17 تموز/يوليو 2017 لتلقي جرع الكيمياوي، لكنه أضطر بسبب ارتفاع تكاليف العلاجات غير المتوفرة في المركز، إلى بيع منزله ومصوغات زوجته وسحب قرض مالي من أحد البنوك العراقية.
ويضيف بنبرة ألم: “حاولنا فعل كل شيء لإنقاذه لكننا في النهاية فقدناه، كلفتنا متطلبات علاجه أكثر من 170 مليون دينار (129 ألف دولار)”.
ويتابع متذكراً، أن رئيس شركة نفط البصرة منحه مبلغاً مالياً مقداره أربعة ملايين دينار تعادل (أكثر من 3000 دولار) ووعدته شركة بريتيش بتروليوم بدفع تعويض مالي “لكن وعودهم ذهبت أدراج الرياح، الأمر الذي دفعني للتحرك باتجاه القضاء” يقول بصوت حاد.
علي لم يكن الضحية الوحيدة لإنبعاثات حقول النفط في الرميلة، كما يقول والده:”أنا على علم بإصابة 15 آخرين بأمراض سرطانية، عشرة منهم توفوا، وهنالك حالات تشوه خلقي لمواليد جدد، وأمراض أخرى تنفسية وجلدية”.
يصمت للحظات، قبل ان يشد قبضتي يديه ويضيف:”سيري في الدعوى هو بالنيابة عن الجميع، لكي لايموت المزيد من الناس كما حدث مع ابني علي، وليتم مساعدة المصابين على تلقي العلاج المناسب.. من الظلم تركهم يعانون ويغرقون في دوامة البحث عن العلاج”.