تقارير سردیة: لا فائدة من “النتائج الوهمية” للتحقيقات… السلاح المنفلت والمخدرات والفقر وراء ارتفاع معدلات الجريمة  

لا فائدة من “النتائج الوهمية” للتحقيقات… السلاح المنفلت والمخدرات والفقر وراء ارتفاع معدلات الجريمة  

في الساعة التاسعة وثلاثين دقيقة من مساء الأربعاء 8 أيار/مايو 2024 “أقدم عباس حمزة حسين العيساوي(51 سنة) من البصرة جنوبي العراق على قتل جميع أفراد أسرته المتواجدين في المنزل والبالغ عددهم 12 فرداً ببندقية كلاشينكوف قبل أن يوجه فوهتها إلى رأسه ويقتل نفسه”.

هذا ما أكده العقيد عزيز العبادي مدير إعلام قيادة شرطة محافظة البصرة في صباح اليوم التالي للجريمة، فيما يبدو أنها خلاصة تحقيقات سريعة أجرتها الشرطة، وقال ان “الشخص الذي نفذّ المجزرة، هو الأب، وذلك بسبب ديون مالية تصل إلى أكثر من مليار دينار، ما أدى إلى تعرضه لضغوط نفسية دفعته إلى قتل نفسه بعد عائلته المكوّنة من 12 فرداً”.

في ليلة وقوع الجريمة انتشر مقطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر القتلى ومعظمهم نساء وأطفال مضرجين بدمائهم في غرفة بمنزل الجاني المفترض في حي الموظفين بالتنومة في قضاء شط العرب. ولم يعر المدونون لاحقاً أهتماماً كبيراً برواية الشرطة، بل وشكك الكثيرون بها، خاصة ان أقارب مرتكب الجريمة  نفوا مواجهته لمشاكل مادية أو إصابته بمرض نفسي او تعاطيه للمخدرات، بينما انتشرت شائعات بأن قتلة محترفين أو أفراد مليشيات ربما كانوا وراء تصفية العائلة وسارعت الجهات الأمنية إلى حمايتها من خلال تحميل الأب المسؤولية.

فيما عبر العديد من المتخصصين في القانون عن إستغرابهم الشديد من إعلان الشرطة في صباح اليوم التالي للجريمة اكتشاف الجاني وبنحو قطعي، على الرغم من أن التحقيقات لم تكن قد اكتملت، ولم يصدر الطب العدلي تقريره بعد.

ورداً على هذا التشكيك، أصدر مدير مكتب لجنة الدفاع النيابية علي كنعان يوم التاسع من أيار/مايو بياناً أكد فيه بأن رب الأسرة عباس حمزة هو القاتل، وأنه كان مديناً بمبلغ يصل الى ملياري دينار وأنّ “ذات المبلغ قد قام بإعطائه لشخص آخر نفذ عليه عملية نصب واحتيال وهرب إلى مكان مجهول”.

وذكر النائب كنعان في بيانه أن”الأب كان متزوجاً من اثنتين، الثانية (الصغيرة) سورية الجنسية، وكان قد توجه اليها قبل الحادث وأخذ ما لديها من (ذهب) من أجل بيعه، ومن ثم عاد إلى عائلته الأولى، وهو في حالة انهيار، مما دفع إلى قتلهم جميعاً لعدم قدرته على تحمل المسؤولية بحسب تحليله للموقف ومن ثم انتحر”.

وأضاف:”الأب القاتل وقبل القيام بتلك الجريمة ترك لصديق مقرب منه رسالة تضمنت أمانة- دير بالك على زوجتي الأخرى- قاصداً فيها السورية”. ويشدد بيان النائب على أن “تلك المعلومات تعد نتائج نهائية بعد تحقيق معمق وجمع ومقاطعة المعلومات حول عائلة الجاني والمجني عليهم في ذات الوقت”.

واقعة من بين وقائع كثيرة تكاد تكون يومية، لجرائم تشكل مختلف المحافظات العراقية مسارح لها، يعزو متخصصون ارتفاع معدلاتها إلى جملة من الأسباب، بينها السلاح المنفلت والميليشيات وضعف أجهزة الدولة الأمنية وتفشي ظواهر الفساد والمخدرات والبطالة والفقر والافلات من العقاب.

نتائج تحقيقات وهمية

القانوني، خليل ادريس، يتهم وزارة الداخلية بإعلان نتائج وهمية لتحقيقاتها في الكثير من الحالات ولاسيما في الجرائم التي تأخذ صدى إعلاميا واسعاً، ويقول:”هنالك استعجال في اعلان نتائج تحقيقاتها، إستعراضاً منها لقدرتها وقوتها، وهذا أمر غير صحيح، لأنه يأتي في العادة على حساب الحقيقة والمساعدة على افلات الجناة الحقيقيين من العقاب”.

ثم تساءل:”فيما يخص جريمة البصرة التي قتل فيها رب اسرة 12 فردا من عائلته حسب رواية وزارة الداخلية، ماذا لو كان هذا الشخص وأفراد عائلته ضحية جريمة منظمة؟ هل يعقل أن تعلن الوزارة نتائج تحقيقاتها حيال جريمة كبرى مثل هذه خلال ساعات قليلة فقط؟ “.

ويستدرك:”هذه ليست الحالة الوحيدة” ثم يضرب أمثلة أخرى، أعلنت شرطة نينوى في 9أيار/مايو2024 اكتشافها للجاني مرتكب جريمة قتل امرأة شابة وطفلها البالغ سبع سنوات في قضاء تلعفر بعد 12 ساعة فقط من وقوعها، وذكرت بأن الجاني هي شقيقة زوج المجني عليها وشخص آخر قام بمساعدتها”.

Image

وفي نينوى أيضا، أعلنت الشرطة المحلية في 25 نيسان/أبريل2024 إقدام والدين من مجمع الزهراء بناحية برطلة شرقي الموصل على قتل طفلتيهما(3 و 7 سنوات)وأن الأدلة الجنائية أثبتت خلال فترة وجيزة بأن الوالدين هما القاتلان وقد نفذا جريمتيهما بمساعدة أحد أبنائهما الذكور.

وإعلان مديرية شرطة البصرة في 7أيار/2024 عن حصولها على اعتراف زوجة بقتل زوجها بمشاركة عشيق لها في قضاء الهارثة، وتم توقيفهما وفق أحكام المادة ٤٠٦ من قانون العقوبات، وايضاً شهدت القضية سرعة كبيرة في اكتشاف الجناة.

Image 1

وفي الثالث من أيار/مايو2024 أعلنت وزارة الداخلية، عن القاء القبض على قتلة طبيب الأسنان المتقاعد فيصل الحويزي طبيب متقاعد في محافظة النجف، وذلك بعد ساعات قليلة فقط من وقوع الجريمة وذكرت ان الدافع وراء الجريمة كان السرقة .

ويعقب القانوني خليل على الأمثلة التي ضربها: “من الأبجديات المعروفة، أن تقوم الأدلة الجنائية والفحص الجنائي بواجباتها فضلاً الإجراءات التحقيقية والإطلاع على الأدلة وتحليلها وسماع الشهود وغيرها من الإجراءات التي تستغرق في العادة أياماً، من النادر جداً أن تكون مجرد ساعات إلا إذا ضبط الجاني متلبساً بالجرم المشهود، وهو ما لايحدث في كل الجرائم التي تصل إلى الرأي العام وتتدخل وزارة الداخلية معلنة إلقائها القبض على الجناة خلال ساعات قليلة فقط !”.

ويقول بأنه متفهم للدور الذي تلعبه وزارة الداخلية لكسب ثقة المواطنين، وأنها:”تبذل جهوداً كبيرة لحفظ الأمن، لكن عليها أن تكون شفافة فيما يخص نتائج التحقيقات التي تجريها في جرائم كبرى، لأن عدم المصداقية هنا، تعني إفلات الجاني الحقيقي من قبضة العدالة”.

ناشط حقوقي، طلب عدم الإشارة إلى أسمه منعاً لملاحقته قضائياً، يقول بأن معظم الجرائم التي تلفت اهتمام المجتمع ويتردد صداها في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، تتصدى لها وزارة الداخلية بالإعلان عن ضبط الجناة، ويكونون في العادة من أقرباء المجني عليه أو قريبين منه بطريقة أو بأخرى.

ويوضح:”هذا أمر سهل بالنسبة الى الجهات التحقيقية، تردها تعليمات من مراجعها بحل القضية وغلقها بسرعة، فيتم توجيه الإتهام الجاهز إلى اقرب شخص تثار حوله الشبهات”.

ولايستبعد الناشط أن تؤخد الإعترافات بالقوة أو تكون الأدلة مختلقة”، ويرى بأن المصلحة العامة لاتقتضي “وجود شرطة سريعة الإجراءات، بل شرطة كفوءة بكوادر خبيرة قادرة فعلياً على كشف الجرائم وتقديم الجناة للمحاكم المختصة”.

واستدرك “فيما يتم الاعلان سريعا عن نتائج جرائم كبرى، فان تحقيقات أخرى تتطلب أشهراً وسنوات ولا تفضي الى نتيجة، رغم أن كاميرات توثق حركة المنفذين”، في اشارة الى جرائم اغتيال ارتكبت ضد ناشطين واشهرهم المحلل السياسي هاشم الهاشمي، ويتسائل :”سنرى الى أي نتيجة ستضفي جريمة قتل صانعة المحتوى غفران سوادي (أم فهد) التي كانت قد أعلنت قبل مقتلها عن امتلاكها معلومات تفضح مسؤولين كبار”.

114 جريمة خطرة في العراق يومياً

الخبير القانون جمال الأسدي، يقول مستندا إلى دراسة أعدها بأن (223610) جريمة بين جنحة وجناية، نظرت فيها المحاكم المختصة خلال سنة 2023 في مختلف المحافظات العراقية ماعدا اقليم كردستان. ويقسمها بالنحو التالي: ( 41582 )دعوى جزائية محالة لمحاكم الجنايات، وبمعدل 114 جريمة خطرة يومياً، و(172785) دعوى جزائية محالة لمحاكم الجنح وبمعدل 474 جريمة جنحة متوسطة الخطورة يوميأً، و(9243) دعوى جزائية محالة لمحاكم الاحداث، بمعدل 25 جريمة ارتكبها أطفال وأحداث باعمار أقل من 18 سنة يومياً .

ويقول أن المحافظات التي شهدت وقوع أكبر عدد من الجرائم هي بغداد بمعدل 29%، ومحافظة بابل بالمرتبة الثانية بمعدل 11% من الجرائم، ونينوى ثالثة بـمعدل 9%.

ويرى الأسدي بأن زيادة الجرائم بمختلف أنواعها تعد من المشاكل الخطيرة في المجتمعات، لأنها تؤدي الى فقدان ثقة تلك المجتمعات بالسلطات، وفيما يخص العراق يقول بأنه “شهد الكثير من الحروب والحصار الاقتصادي والعمليات الارهابية التي ساعدت في تفاقم هذه المشكلة المعقدة” .

ويعتقد بأن ثمة إجراءات ينبغي أن تتخذ للتقليل منها، كأن تقيس الأجهزة الأمنية العراقية مستويات الجريمة في مختلف أنحاء العراق، وإعداد خارطة دقيقة لتوزيع الجرائم ليتسنى للباحثين وأصحاب القرار إيجاد المعالجات، وإيقاف اللجوء إلى عسكرة الأمن المجتمعي:”لأن الأمن تأسيسه مدني لعلاقته بالمجتمع”.

ودراسة الجريمة من مختلف أبعادها “وعدم الاكتفاء بالبعد الأمني فقط والمعالجة العنفية، لأن الكثير من الدوافع لارتكاب الجرائم هي اجتماعية واقتصادية تتطلب ايجاد المعالجات لها لتجنب وقوع الجريمة، مع ضرورة اعادة دراسة المدونة التشريعية الجزائية وتحديثها وفقاً لتطورات المجتمع” .

المحامي وليد يونس، من محافظة نينوى، يرى بأن عوامل عديدة تقف وراء إزدياد معدلات الجريمة في العراق، على رأسها السلاح المنفلت، ويقول عن ذلك:”الكل تقريباً لديه سلاح، ومبررات حيازته وحمله أصبحت كثيرة”.

ويذكر أن هذه المشكلة ظهرت بنحو جلي منذ سقوط النظام العراقي السابق في 2003، وتدهور الوضع الأمني بظهور الجماعات المسلحة المناوئة للدولة، وفي الجهة المقابلة جماعات مسلحة أخرى تواجهها فضلاً عن الأجهزة الأمنية النظامية “جيش وشرطة”، مع سطوة العشائر وفرض قوانينها وأعرافها الخاصة.

ويضيف:”مع وجود السلاح، تبقى هنالك فقط مبررات استخدامه ودوافعه”. ويعتقد جازماً، بأن الفقر هو دافعٌ رئيسي لأنه وفقاً لقناعته يرتبط بظواهر منتشرة كالمخدرات والسرقة والخطف بغرض الابتزاز.

وكان مؤشر الجريمة المنظمة العالمي لسنة 2023 الصادر عن المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، قد وضع العراق ضمن المجموعة الثالثة التي تشير إلى “معدل جريمة مرتفع وقدرة منخفضة على الصمود” أي حلَ ضمن الدول عالية الخطورة في مستويات الجريمة المنظمة.

إذ وقع العراق في المركز الثامن وبدرجة (13.7) عالية الخطورة، وأن أخطر الأسواق الإجرامية الرائجة فيه هي “الجرائم المالية والأسلحة” والجهات الفاعلة الأجنية هي على رأس الجهات الإجرامية في البلاد.

أما من حيث قدرة العراق على الصمود ضمن المؤشر، فقد شغل المركز(163) ضمن قائمة الدول الـ(193) التي تضمنها.

لمواجهة المشكلة لجأت الحكومة العراقية لحل، كان محل تشكيك من قبل مختصين، تمثل في شراء الأسلحة من المواطنين بهدف إنهاء ملف(السلاح المنلفت) ضمن مشروع عرف بقانون السلم المجتمعي، الذي تضمن مبادئ تقوم على “حصر السلاح بيد الدولة وعدم الاعتداء على الموظفين وعدم اطلاق العيارات النارية ومكافحة المخدرات والعمل على تهذيب الاعراف العشائرية المتوارثة وتصحيح مسار العرف العشائري”.

بناء عليه، قرر مجلس الوزراء، في 23 كانون الثاني/يناير 2024، تخصيص مبلغ 15 مليار دينار من أجل شراء الاسلحة من المواطنين، وجاء في بيان للمكتب الإعلامي في رئاسة الوزراء، أن “المجلس صوت على تخصيص وزارة المالية مبلغ مليار دينار لكل محافظة، عدا محافظات إقليم كردستان العراق.

أي مجموع 15 مليار دينار، من احتياطي الطوارئ، استناداً إلى أحكام قانون الموازنة العامة، للمباشرة في شراء الأسلحة من المواطنين، تنفيذًا للبرنامج الحكومي، والمرحلة الأولى من السياسة الوطنية لتنظيم الأسلحة وحصرها بيد الدولة- مرحلة تسجيل أسلحة المواطنين”.

وفي الرابع من أيار/مايو2024، أعلن العميد د.زياد القيسي المتحدث باسم اللجنة الدائمة لتنظيم وحصر السلاح بيد الدولة، عن بدء 697 مكتباً لشراء الأسلحة تابعة لوزارة الداخلية، باستلام وشراء الأسلحة المتوسطة من المواطنين في مختلف المحافظات بإستثناء اقليم كردستان، ودعا القيسي المواطنين كذلك إلى مراجعة تلك المكاتب لتسجيل أسلحتهم الشخصية الخفيفة لكي لايتعرضوا إلى المساءلة القانونية لاحقاً.

مصادر مطلعة في وزارة الداخلية أكدت بأن أكثر الأسلحة المتوسطة شيوعاً لدى المواطنين في العراق هي”الآر بي جي، والبي كي سي” بينما الأسلحة الخفيفة هي “بندقيتا الكلاشينكوف والبرنو، ومستدسات بمختلف أنواعها”.

وقبل ذلك كان العراق قد شرع في 2017 قانون الأسلحة رقم(51)لسنة 2017، وضم 32 مادة، منع بموجبه حمل وحيازة السلاح إلا بإجازة رسمية، مع فرض عقوبة للمخالفين بالحبس مدة لاتزيد عن سنة واحدة وغرامة لاتزيد عن مليون دينار( 758 دولار ).

الكاتب والباحث عادل كمال، يشك في نجاح مهمة الدولة في حصر السلاح بيدها، والسبب برأيه هو عدم ثقة المواطن العراقي بأجهزتها، ويوضح:”في سنوات تدهور الأمن بمناطق غربي العراق بعد 2003، لجأت الأجهزة الأمنية إلى شن حملات واسعة على منازل المواطنين لسحب الأسلحة منها، وشكل ذلك فرصة ذهبية للجماعات المسلحة لخطف المواطنين بغرض الابتزاز واغتيالهم دون ان يقدروا على الدفاع عن انفسهم، لذلك فأن المواطن العراقي يقوم عادة بإخفاء سلاحه لكي يحمي نفسه مع عجز الدولة عن حمايته، وهذا يحدث في عموم العراق”.

أنواع الجرائم                

ضابط شرطة من بغداد متقاعد منذ سبع سنوات، رفض ايراد أسمه لدواع مهنية، يقول بأن معدلات الجريمة في العراق مرتفعة جدا منذ 2003، لكن في سنوات وجود الفصائل الجهادية المسلحة “كانت غالبية الجرائم تصنف على أنها ارهابية أي تحصل على يد جماعات إرهابية، وهكذا كانت الكثير من الجرائم تقترف، وتنسب إلى تلك الجماعات في حين يظل الجناة الحقيقيين طلقاء.

ويشير إلى أن الجرائم وبمختلف أنواعها تتزايد كلما تراخت قبضة الدولة المتمثلة بقوى الأمن الداخلي وضعف الجهاز القضائي فيها، ويرى من وحي خبرته، أن جرائم المخدرات وما يرتبط بها هي الأكثر شيوعاً في العراق ومنذ سنوات. وأن الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي سهلت ارتكاب الكثير من الجرائم وعلى رأسها الإبتزاز والتشهير.

ثم يستدرك:”طبيعي جداً أن تحدث الجرائم، فهي تقع في كل مكان بالعالم، والعراقيون أصبحوا الآن أكثر من أربعين مليون نسمة، يضاف إلى ذلك الضغط الذي تشكله دول الجوار التي تصدر للعراق الأسلحة فضلاً عن المخدرات وعصابات الجريمة المنظمة”.

وفي اعتقاده أن من الممكن مجابهة ذلك من خلال “تطوير جهاز الشرطة لأدواته، واشتراك كل أجهزة الدولة المعنية بإجراءات استباقية لمنع ارتكاب الجرائم ومراقبة الحدود، والتعامل بجدية أكبر مع ملف المخدرات المنتشرة، وكذلك مع ملف السلاح المنفلت ومحاربة الفساد في الأجهزة الأمنية وغيرها من الإجراءات”.

ويحذر الضابط المتقاعد، من أن العراق ما زال واقعاً تحت تأثير صدمة ما بعد الحرب، إذ كان هنالك عشرات الآلاف من المنخرطين في الحرب ضد تنظيم داعش قبل سنوات قليلة فقط، وملايين كانوا تحت سيطرة التنظيم على مدى ثلاث سنوات “وعاشوا أجواء الحرب والموت اليومي”.

ووفقاً لرؤيته فأن لذلك علاقة بارتفاع معدلات الجريمة “ولاسيما أن حمل السلاح شائع في المجتمع والبعض يستسهل استعماله ولأتفه سبب”.

الأستاذ الجامعي نبيل المرسومي من البصرة، أعد دراسة سنة 2022 لبيان أنواع الجرائم المرتكبة، من خلال مراجعة ملفات 457 نزيلاً في سجن البصرة المركزي أرسلوا إلى هناك مدانين من محاكم مختصة في مختلف المحافظات الأخرى.

خلصت إلى أن جرائم المخدرات هي من أكثر الجرائم المرتكبة، تلتها جريمة السرقة، وأن أكثر مرتكبي الجرائم هم من ذوي التعليم المنخفض إذ لم تتجاوز أعداد المجرمين المدانين من حملة الشهادات الجامعية سوى 3.5% فقط.

كما أظهرت نتائج دراسته، أن 71.5% من المدانين كانوا من أسر فقيرة، مستدلاً بذلك على أن الفقر “عاملٌ مهمٌ في دفع بعض الأفراد لارتكاب الجرائم ، لسد العوز المادي”.

تغيرات اجتماعية طارئة

أستاذ علم الاجتماعي في جامعة الموصل، د. وعد الأمير، يقول بأن الجرائم الكبرى تبدأ أولاً بالأصغر منها، ومع استسهال القيام بها والتعامل معها “يكتسب فاعلها المهارات والخبرة والجرأة لتنفيذ جرائم قد تكون أخطر”، ومن الجرائم الصغرى التي انتشرت في المجتمع العراقي وفقاً للأمير “عصابات التسول، والإبتزاز الألكتروني”.

ويوضح:”بالنسبة للإبتزاز الألكتروني أو الجريمة الالكترونية بنحو عام، يمكن للجاني القيام بها وهو جالس في غرفته دون عناء، وهذه السهولة تحفز باستمرار الكثيرين للتورط بها، واستسهالها من قبل الكثيرين في المجتمع يؤدي إلى تفاقمها، وكذلك فيما يخص التسول، فيكفي للقيام بذلك، يد مرفوعة وملامح حزينة ونبرة متوسلة، لكن أبعاد الأمر عميقة، وتكييف الحالة هي أنها جريمة بنحو مؤكد، وهنا ايضاً هنالك استسهال في الحصول على المال، وتساهل من المجتمع مع الجاني”.

ويلفت إلى أن الاستسهال ينسحب بالتدريج إلى جرائم أكبر:”فنرى حدوث استسهال في إدخال المخدرات والإتجار بها وتوزيعها وتعاطيها”.

ويقول ان هنالك في الجيل الجديد من يحاول الوصول بصورة غير شرعية الى المال بطرق ووسائل جديدة ومبتكرة باستخدام التكنلوجيا “فيستسهل السلوك الإجرامي في غياب الرادع القانوني”. 

ويرى الأمير، أن هنالك “تراجعاً قيمياً في الإلتزام بالثوابت التي تحدد قبول السلوك الإجرامي أو رفضه، وتراجعاً لتأثير الدين في تحديد المحرمات عن غيرها”.

ووفقاً لقناعته فأن هذه التغييرات الاجتماعية الطارئة وسكوت الناس عن السلوكيات المنحرفة والظواهر المتفشية “كالفساد في المؤسسات الحكومية وتقبله باعتباره طريقة سهلة لتنظيم المعاملات وتحقيق الإهداف حتى أصبح الفساد أمراً طبيعياً والنزاهة استثناءً، وهكذا يقدم الجيل الجديد على هذه الأفعال والممارسات لكونه يعتقد بأن سكوت المجتمع عنها يعني بأنها مشروعة”.

ويربطها كذلك بما يصفها تراجع آليات الدفاع الاجتماعي “التي كانت تحمي المجتمع من الجرائم”. فهو يسجل على المجتمع العراقي، تراجعاً في دور الأسرة، وضعفاً في العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها وبالنتيجة غياب الرقابة، وكل ذلك “قد ساهم في ارتفاع معدلات الجريمة في العراق مؤخراً”.

الباحث الاجتماعي ياسر غسان، يلفت إلى أن المجتمع بدوره متورط في العديد من الجرائم، وبعضها “تحريضٌ علني على القتل” وفقاً لتعبيره.

ويورد أمثلة على ذلك:”الكثير من الناشطين والمدونين يتهمون عارضات الأزياء والمدونات في وسائل التواصل الاجتماعي بأنهن عاهرات، ويسئن إلى قيم وأخلاق المجتمع المحافظ وحدثت بسببها سلسلة من الأغتيالات استهدفتهن في بغداد وعدد من المدن الأخرى وآخرها أم فهد، إذ قتلها مسلح مجهول امام منزلها في منطقة زيونة يوم 26نيسام2024″.

وعبر عن قناعته بأن السلوك الإجرامي أو الخروج عن القانون يأتي أحياناً بتشجيع ودعم من المجتمع ذاته، أو يتسبب به بطريقة أو بأخرى، ويوضح: “الحديث الاعلامي المتزايد عن الانحلال وانتشار الدعارة، دفع البرلمان وفي اطار الدعاية السياسية الى تشريع قانون مكافحة البغاء، وقبلها جرى فصل الإناث عن الذكور في بعض المدارس، وهذان الأمران يؤديان إلى زيادة الكبت، وظهور جرائم مثل زنا المحارم والإغتصاب وهي من الجرائم التي نسمع عنها كثيراً في السنوات الأخيرة”.

ويجد الباحث ياسر، بأن على الدولة تسخير أجهزتها لإصلاح مادمرته الحروب والفوضى الأمنية والأزمات المتلاحقة في المجتمع العراقي، من خلال توفير فرص العمل وتشجيل القطاع الخاص ودعمه ومكافحة الفساد بكل صوره في المؤسسات الرسمية ومحاسبة الجناة الحقيقيين وانهاء الافلات من العقاب “وكمحصلة لذلك ستنخفض الجريمة من تلقاء نفسها لإنتفاء الكثير من مبررات إقترافها”.

في ظل ارتفاع معدلات الجريمة، باتت السجون غير قادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة من النزلاء الذين يحشر العشرات منهم في قاعات صغيرة، ويتم ايداع متورطين بارتكاب جرائم جنح مع آخرين مدانين بجرائم جنائية.

ذلك الوضع دفع الحكومة لدراسة امكانية “تفريغ السجون من بعض المدانين” من خلال الافراج عن بعض السجناء مقابل مبالغ مالية، وهو مشروع يتم دراسته حاليا، لكن منتقديه يرون أنه لن يحل أصل المشكلة بل سيعقدها كما سيسمح للأغنياء والمتنفذين بالافلات أكثر من العقاب.

المزيد عن تقارير سردیة

تقارير سردیة","field":"name"}],"number":"1","meta_query":[[]],"paged":1,"original_offset":0,"object_ids":26149}" data-page="1" data-max-pages="1">