بموقعين خارج المتطلبات البيئية 2200 طن من النفايات تُطمر في الموصل يومياً ملوثة التربة والمياه والهواء وحاملة لمخاطر صحية متعددة
مطامر غير ملبية للشروط البيئة، تضم نفايات خطرة كالمخلفات الطبية ومواد صناعية وكيماوية تسبب تلوثاً للتربة والمياه الجوفية فضلاً عن الانبعاثات الغازية التي تصدرها للهواء، مشكلة معا مصادر خطر متزايدة للسكان، خاصة مع تعمد حرقها كآلية للتخلص منها، في ظل غياب مشاريع تدوير النفايات والطمر وفق المعايير الصحية والبيئية العالمية.
ينتظر مجيد عامر (42 سنة) فجر كل يوم، وهو خلف مقود سيارته البيك آب تويوتا موديل 1982 في منطقة طمر النفايات بالسحاجي جنوب غرب الموصل (405 كم شمال بغداد) وصول شاحنات نقل النفايات القادمة من الجانب الأيمن للمدينة، ليبدأ مع ولديه بفرز وجمع ومن ثم بيع ما بوسعهم من مواد معدنية وبلاستيكية.
كان طوال عمره راعياً ومربياً للماشية في قضاء البعاج أقصى غربي نينوى على الحدود مع سوريا، غير أن تراجع الأمطار وتقلص مساحات الرعي فرضت عليه وعلى أشقائه الثلاثة اتخاذ القرار الصعب في 2009، ببيع ما تبقى لهم من ماشية والانتقال مع عائلاتهم إلى مدينة الموصل، ليستقروا غربها بمنطقة عشوائية تعرف بالعبور مجاورة لمنطقة الطمر التي تفتقد لمعايير الطمر الصحي.
يراقب باهتمام الجهة التي يتوقع أن تصل منها أول شاحنات النفايات، ويقول: “عملت بهذه السيارة في 2009 بنقل البضائع الصغيرة بالأجرة في سوق البورصة، لكن الظروف الأمنية وقتها منعتني من الاستمرار، فلم يكن أمامي خيار آخر سوى العمل في نقل الحديد السكراب بعد تحرير الموصل من داعش في 2017، وبعدها بسنتين أصبحت أنقل بالأجرة الخردوات من حديد وبلاستك من مناطق طمر النفايات”.
يضرب بيده المقود مرتين متتاليتين، ثم يشير إلى مجموعة من الشبان الملثمين كانوا ينتظرون بدورهم على مقربة منه ومعهم أكياس كبيرة الحجم، قائلاً: “اثنان منهم ابنان لي، تجاوزا الثامنة عشر ولم يكملا سوى الابتدائية، فبعد أن كنا ننقل ما يعثر عليه النباشة هنا مقابل أجر، أصبحنا ننبش نحن ونبيع ما نحصل عليه!”.
مجيد وولداه، من بين مئات العاملين في نبش النفايات في مدينة الموصل التي يناهز سكانها مليوني نسمة، وتوجد فيها منطقتا طمر رئيسيتان، إحداهما في الجانب الأيمن بمنطقة السحاجي، والأخرى في الجانب الأيسر بمنطقة كوكجلي.
وقد تم انشاء مطامر عشوائية عديدة أخرى على تخوم حدود بلدية الموصل ولاسيما قرب المجمعات السكنية التي استحدثت من قبل جمعيات الإسكان التعاونية على أراض زراعية في محيط المدينة، حتى أن بعضها اتسع لتتداخل مع الأحياء السكنية ضمن حدود المدينة.
هذه المطامر مجتمعة، غير ملبية للشروط البيئة، وتختلط معها وفقاً لموظفين حكوميين متخصصين، نفايات خطرة كالمخلفات الطبية ومواد صناعية وكيماوية تسبب تلوثاً للتربة والمياه الجوفية فضلاً عن الانبعاثات الغازية التي تصدرها للهواء، مشكلة معا مصادر خطر متزايدة للسكان، خاصة مع تعمد حرقها كآلية للتخلص منها، في ظل غياب مشاريع تدوير النفايات والطمر وفق المعايير الصحية والبيئية العالمية.
2200 طن نفايات يومياً
تعد مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى، ثاني أكبر مدينة عراقية بعد العاصمة بغداد، يعيش فيها نحو مليون وثمانمائة ألف شخص. يقطعها نهر دجلة إلى نصفين أيمن وأيسر. شهدت المدينة تدهوراً أمنياً كبيراً بعد سقوط النظام العراقي السابق في نيسان/أبريل 2003 ولغاية تحريرها من تنظيم داعش في تموز/يوليو2017.
يقول الكاتب والناشط البيئي عادل زياد، ان فترة ما قبل سيطرة داعش على الموصل في حزيران/يونيو2024 شهدت تدهوراً في كافة القطاعات، وعلى رأسها قطاع البلدية والخدمات، وذلك جراء حرب الشوارع اليومية التي كانت تجري بين الجماعات المسلحة والقوات الأمنية.
يضيف: “ذلك كان واقع المدينة طوال عشر سنوات، قبل أن تستعيد أمنها ومعها حياتها عقب تحريرها من في تمور2017”.
ومع قلة الآليات المتخصصة والأيدي العاملة في البلدية، كانت النفايات تتراكم في داخل الأحياء السكنية والأسواق، والأهالي كانوا يعمدون إلى إحراقها للتخلص منها، بحسب زياد، مما نجم عنه ضرر بيئي ومخاطر صحية تهدد السكان.
ويقول الناشط في هذا السياق: “بعد تحرير الموصل تطور الجهد البلدي، ولم تعد النفايات تتكدس، وصار للمدينة موقعان للطمر الصحي في السحاجي وكوكجلي، لكن المشكلة لم تنتهي عند هذا الحد، فهنالك كميات هائلة تلقى يومياً في الموقعين دون معالجة بيئية نهائية، وأضرارهما تتفاقم يوماً بعد يوم ولا سيما أنهما يقعان بالقرب من تجمعات سكانية”.
ويرى زياد، بأن مجرد رفع النفايات من داخل المناطق السكنية والتجارية ونقلها إلى مكان آخر وتجميعها هناك ليس حلاً، لأن الانبعاثات التي تصدر عنها بفعل الحرارة والدخان الناجم عن حرقها ينتقلان إلى باقي أجزاء المدينة بواسطة الرياح، كما أن ملوثاتها تنزل مع مياه الأمطار لتختلط بالمياه الجوفية، إضافة إلى أنها أماكن لتجمع القوارض والكلاب السائبة والحشرات.
يُقدر مدير إعلام بلدية الموصل، علاء الحيدر، كمية النفايات التي يتم رفعها يومياً في الموصل بنحو 2200 طناً، 1200 طن من الجانب الأيسر و 1000 طن من الجانب الأيمن، بمعدل تقريبي هو 1250غم من النفايات لكل منزل.
وهذا يعني بأن الكميات التي يتم جمعها ونقلها إلى موقعي الطمر الرئيسيين في كوكجلي والسحاجي خلال سنة تبلغ 803 ألف طن، ماعدا تلك التي يتم تجميعها في المطامر العشوائية التي أحدثها السكان في بعض المناطق على حدود وخارج بلدية الموصل.
الحيدر، أقر بأن الفترة السابقة شهدت ظهور العديد من مواقع الطمر العشوائية في داخل مدينة الموصل، إلا أنها أغلقت وتم الإكتفاء بموقعين فقط على طرفيها الشرقي والغربي.
واشار الى أن عملية معالجة النفايات في الموقعين تجري عن طريق دفنها بالتراب فقط دون معالجات أخرى، مؤكداً عدم وجود أي مشروع لتدوير النفايات في الوقت الراهن في الموصل.
مدير الإعلام البيئي في نينوى، نشوان شاكر مصطفى، قال بأن منطقتا طمر النفايات في مدينة الموصل:”الطمر فيهما غير نظامي، أي أنهما غير مستوفيين للمحددات البيئية”، وأن دائرته سبق وأن فرضت غرامات على بلدية الموصل بسبب ذلك بعد أن تم إجراء كشوفات ميدانية على الموقعين.
أنظمة بدائية
الخبير عبدالأحد زهير يقول بأن ترك النفايات في العراء أو حرقها يفاقم مشكلة التلوث البيئي في الموصل وهي بحسب قوله “طرق بدائية تستخدم في المدينة منذ عقود طويلة”.
ويلفت الخبير إلى أن طمر النفايات في موقع معين، كان حلاً مثالياً قبل خمسة عقود، أما اليوم فيقترب اعداد سكان الموصل مليوني نسمة، والتمدد العمراني الكونكريتي الأفقي توسع خارج التصميم الأساسي الذي يعود لسبع وعشرين سنة ماضية”.
وفي هذا السياق يقول عبد الأحد زهير:” كما أن أسلوب الطمر هذا، يعني تلويث مساحات واسعة جداً من الأراضي بمرور السنوات، خاصة انها لا تتحول لاحقا بعد الانتهاء منها الى مساحات خضراء مثلاً أو مشاريع أخرى ذات نفع عام أو خاص، بل تترك كما هي بكل ما فيها من ملوثات وبعضها معمرة كالبلاستك والمواد الصناعية الأخيرى غير القابلة للتحلل”.
كما يؤشر مشكلة قلة الوعي البيئي لدى المواطنين ولاسيما في المناطق الشعبية والعشوائية: “يتم رمي النفايات على الأرض، فتتجمع ثم تتبعثر ملوثة الأزقة والشوارع، أو يتم حرقها، فتؤثر الغازات الناتجة على الصحة العامة”.
ويذكر أن 80% من النفايات تكون غذائية في العادة، وبما أنها مواد عضوية فيمكن فرزها عن باقي المخلفات والنفايات لإنتاج سماد عضوي ومقوي للتربة، وأشار إلى دراسة أجراها باحثان من جامعة الموصل، وجدا أن من الممكن لبلدية الموصل أن تنشئ وكخطوة أولى مصنعا لفرز وتصنيع المخلفات السكانية الصلبة، بطاقـة تصـميمية أولية مقدارها ١٠٠٠ طن يوميا من السماد العضوي ومقوي التربة.
وهي يمكن ان تشكل نواة لإنشاء منظومة للإدارة المتكاملة للمخلفـات الصلبة خاصة بمدينة الموصل، يكون محورها المكب النظامي.
فيما يعتقد الأستاذ الجامعي فائز علي، أن الزيادة الكثيفة للسكان قابلها توليد متزايد للمخلفات السكانية، وكذلك الحال بالنسبة للنشاط الصناعي، إذ زادت المخلفات الصناعية بنحو كبير، ويوضح: “كان عدد سكان مدينة الموصل في العقد الخامس من القرن الماضي 179 ألف نسمة، ارتفع العدد خلال أكثر من سبعين سنة إلى مليون و800 ألف نسمة، موزعين على أكثر من 160 ألف وحدة سكنية”.
ويرى بأن نتيجة الحروب المتلاحقة بدءا من مطلع سبعينيات القرن المنصرم، ثم حرب الثمانينات مع ايران، وحرب مطلع التسعينات مع أمريكا، والحصار الدولي الاقتصادي الذي استمر لغاية حرب اسقاط النظام السابق في 2003 ثم التدهور الأمني الذي استمر لغاية صيف 2017 “كل ذلك عطل خطط توسيع أو تحديث التصميم الأساسي للمدن ومن بينها الموصل، لذلك فاغلب الخطط والمشاريع هي عشوائية أو وقتية، وهذا يشمل كل المجالات وليس فقط التخلص الآمن من النفايات”.
ويجد بأن التحدي الأبرز الذي تواجهه بلدية الموصل هو: “ضعف الإمكانات المالية والفنية والآلية التي تمكنها من تكوين الوحدات الأساسية اللازمة للإدارة المتكاملة للمخلفات الصلبة، ثم تشغيل المنظومة بكاملها بفاعلية وكفاءة عاليتين”.
وفي دراسة أعدها كل من د. سحر سعيد قاسم الطائي و د. ابراهيم محمد حسون القصاب، عنوانها (تحديد الموقع الأمثل للنفايات الصلبة في مدينة الموصل باستخدام متغيرات معينة)، حدد الباحثان المناطق المناسبة لأن تكون أماكن للطمر الصحي، وفق محددات تضمنت، “طوبوغرافية الأرض” أي الابتعاد عن المناطق شديدة الانحدار أو الوعرة. و”الموقع الجغرافي مع مراعاة المناخ”.
ووفق ذلك، يجب ان تكون منطقة الطمر أقل استقبالاً لمياه الأمطار وذلك للحد من خطر انجراف النفايات وتلويث المجاري المائية، والأخذ بعين الإعتبار سرعة الرياح في تلك المنطقة لتفادي تطاير النفايات والروائح الكريهة بإتجاه المجمعات السكنية.
كما أشارت الدراسة الى محددات اخرى بما في ذلك “الجانب الجيولوجي”، حيث يجب ان تكون المطامر بعيدة عن مصادر المياه السطحية، ويضاف الى ذلك “المحدد البيئي” الذي يستوجب الابتعاد عن المواقع الأثرية والدينية، والأخذ بعين الإعتبار الإستعمالات المستقبلية لمنطقة الطمر بعد انتهاء العمر الإفتراضي له وتصبح مثلاُ منطقة خضراء أو ساحة لوقوف السيارات وغير ذلك.
مع اختيار موقع يسهل وصول الآليات إليه ويحتوي على تربة ملائمة وكافية لتغطي النفايات وأن تكون بعيدة عن التجمعات السكنية ضمن حدود البلدية أو في المناطق الريفية.
وأوصت الدراسة بعدم وضع المواقع الوسطية للنفايات داخل الأحياء السكنية، لأنها ستتسبب بضرر بيئي، والتوجه إلى دراسة المياه الجوفية في المدينة بطرق وقياسات حديثة تؤهل اختيار مواقع أكثر دقة للطمر الصحي “لأن النفايات ستتسبب بتلوث مياه الشرب عند امتزاجها باي مصدر لتزويد المياه”.
النفايات الطبية
يؤشر المختصون مشاكل عديدة تتعلق بالنفايات وتجميعها والتخلص منها في الموصل، ويجمعون على مخاطر مصدرها نوعان من النفايات بنحو رئيسي، الأول: النفايات الطبية، والثاني: النفايات البلاستيكية.
وبالنسبة للأول، يشير د. قحطان صديق، أن هنالك انتشاراً غير مدروس للمستشفيات الاهلية وما يصفها بـ”دكاكين المضمدين” والعيادات الخاصة، والمستشفيات العامة الجامعة بمختلف الاختصاصات وفي أماكن مختلفة وكذلك المستوصفات ومذاخر الأدوية.
ويذكر بأن نسبة المخلفات غير الخطرة تبلغ بنحو عام 85% من الكم الإجمالي لمخلفات أنشطة الرعاية الصحية، النسبة المتبقية البالغة 15% مواد خطرة يمكن أن تنقل العدوى أو أن تكون سامة أو مشعة.
وينبه الى أن بعضها ملوثة بالدم وسوائل الجسم الأخرى مثل “المخلفات الناتجة عن عينات التشخيص المنبوذة، وعينات الزرع ومخزونات العوامل المُعدية التي تخلفها أعمال المختبرات كمخلفات المشرحات والحيوانات المصابة بالعدوى، والناتجة عن أعمال المختبرات أو مخلفات المرضى في أجنحة العزل والمعدات مثل الممسحة والضمادة والمعدات الطبية التي تُستعمل مرة واحدة”.
ويشير إلى مخلفات أخرى خطرة: المخلفات الباثولوجية، كالأنسجة أو الأعضاء أو السوائل البشرية، وأجزاء الجسم والذبائح الحيوانية الملوثة، والأجسام الحادة كالمحاقن والإبر والمشارط والشفرات التي تُستعمل مرة واحدة، وغيرها.
الى جانب المذيبات التي تُستعمل في التركيبات المختبرية، والمواد المطهرة، والفلزات الثقيلة الموجودة في المعدات الطبية كالزئبق الموجود في مقاييس الحرارة المكسورة والبطاريات، وهي سامة وتؤثر على نمو ادمغة الاطفال بشكل كبير.
كما ان هناك النفايات البالغة الخطورة أو المطفّرة أو الماسخة أو المسرطنة، مثل العقاقير السامّة للخلايا والمُستخدمة لعلاج السرطان، ومستقبلاتها. والمخلفات المشعة كالمنتجات الملوّثة بالنويدات المشعة، بما في ذلك المواد التشخيصية المشعة أو المواد التي تُستخدم في العلاج الإشعاعي.
وينوه د. قحطان، إلى أن مصادر كل هذه الأنواع من الملوثات هي المستشفيات والمرافق الصحية والمختبرات ومراكز البحوث ومراكز التشريح ومختبرات البحوث والفحوصات الحيوانية وبنوك الدم وخدمات جمع العينات دور رعاية العجزة والمسنين.
ويقول أن عدم التعامل الصحيح مع هذه المخلفات يؤدي الى انتشارها في القمامة ومن ثم تسربها للأنهار والهواء وتؤدي بالدرجة الاولى الى انتقال عدوى الاصابة بالتهاب الكبد الفيروسي B وكذلك النوع C بدرجة أقل كما أنها تساعد على انتشار أمراض العوز المناعي الفيروسي وغيرها.
ويلفت عاملون في الحقل الطبي بالموصل إلى عدم وجود صندوق أمان من الكارتون Safety box في الوحدات الصحية لحفظ الحقن المستعملة، وأنها توضع بدلاً من ذلك مع البقايا الأخرى في حاويات القمامة الصغيرة مما يسبب بمشاكل صحية وعدوى فايروسية لعمال النظافة غير المدربين للتعامل مع هذه الأنواع من النفايات.
ويرى (أ.م) وهو مختص بالتحليلات المخبرية، أن هنالك خطورة في اللجوء الى “حرق المخلفات والانسجة البشرية ومخلفات الولادة والاجهاض، أو حتى طمرها بطريقة لا معيارية وغير أمينة او رميها مع القمامة.” ويحذر من ان معظم المستشفيات هي قريبة على الانهار، وترسل في الغالب فضلاتها ومياه الصرف الصحي ومياه الغسل الى الأنهار.
مصدر طبي في المستشفى العام بمدينة الموصل، طلب عدم الإشارة إلى أسمه قال لمعد التحقيق، بأن التعامل مع المخلفات الطبية الخطرة، والأدوية المنتهية الصلاحية لا يتم عادة بنحو مثالي، وأن قسما منها يتسرب إلى النفايات العادية ومن ثمة على مواقع الطمر، سواء بسبب عدم الفرز او اهمال مراقبة العمال.
ولا يعتقد بأن حرق النفايات الطبية الصلبة حل كامل “لأن هنالك انبعاثات، وغازات سامة تصدر عن بعض المواد، وبما أن المستشفيات تكون محاطة بالتجمعات السكانية، إذا فالمخاطر قائمة”.
ويجد أن أفضل وسيلة للتخلص من النفايات الطبية هي باستخدام أجهزة التعقيم والثرم “وهذا ما لا نملكه، ويفترض بالجهات المعنية العمل على توفيرها في عموم مستشفيات البلاد”.
مدير الإعلام البيئي في نينوى نشوان شاكر مصطفى يقول بأن فِرق بيئة نينوى تتابع عزل النفايات العادية عن الطبية من الردهات في المستشفيات، وعملية نقلها لمعالجتها أو التخلص منها بالحرق، ويستدرك هنا ليقول: “لكن بعد العمليات العسكرية في 2017 وما حدث للبنية التحتية الصحية، أصبحت محارق المستشفيات متهالكة”.
أما المخلفات الطبية السائلة: “فقد الزمنا المستشفيات بمحطات معالجة لهذه السوائل، وأن منظمة دولية انتهت من انشاء وحدة معالجة لمجمع المستشفيات في الجانب الأيمن للموصل، يضم خمس مستشفيات، وتعمل حاليا بنحو نظامي”. وذكر بأن مستشفى واحد فقط الآن في الموصل ليس فيه محطة معالجة وهو مستشفى (وادي حجر) في الجانب الأيمن للمدينة.
وأشار إلى أن بيئة نينوى تتابع المستشفيات حالياً بشأن ضرورة اعتماد محارق للتخلص من النفايات الطبية الصلبة أو العمل على استخدام ما تعرف بأجهزة “ثرم النفايات الطبية”.
فارس عبوش (19 سنة) يجمع الزجاج منذ ثلاثة سنوات من منطقة الطمر الصحي في كوكجلي، لغرض بيعه. يقول بأنه يصادف في أحيان كثيرة نفايات طبية، أكياساً مليئة بالأدوية منتهية الصلاحية “حبوب وشرابات ومراهم” مصدرها ليس عجلات البلدية “شاهدت عدة مرات سيارات تأتي وتلقي بها في المكان”.
ويؤكد على انه يجد في أحيانا كثيرة بين النفايات “حقناً وأكياس مغذيات وضمادات وقطنا” وأشياء أخرى يعتقد بان مصدرها المستشفيات.
ويذكر بأنه لا يهتم كثيراً فيما لو كانت تشكل خطرا على صحته، إذ يقول: “النفايات تظل نفايات، وهي قذرة في كل الأحوال سواءً كانت طبية أو غير ذلك، أنا أغطي يدي بقفازين سميكين لكي لا يجرحني الزجاج، وأغطي فمي وأنفي دائما بسبب الروائح الكريهة.
نفايات بلاستيكية
يتمثل الخطر الثاني الأبرز على البيئة في مدينة الموصل بالمواد البلاستيكية، وأكثرها شيوعاً عبوات المياه البلاستيكية الفارغة التي تشاهد بكثرة وهي ملقاة على الأرصفة والشوارع وفي السواقي وفتحات مجاري تصريف مياه الأمطار وأماكن تجميع النفايات.
د.حاتم عابد، أستاذ جامعي، يقول بأن قسماً كبيراً من سكان مدينة الموصل يعتمدون على شراء المياه المعبأة من السوق للشرب بسبب خوفهم من تلوث مياه الإسالة الواصلة إلى المنازل وعدم صلاحيتها للاستهلاك البشري.
ويذكر أن ذلك أدى إلى بروز مشكلة خطيرة، تتمثل في تراكم عبوات المياه البلاستيكية ذات الاستخدام لمرة واحدة، من حجم نصف لتر ولتر ونصف لتر “تلقى في النفايات وعلى الطرقات، وهذا النوع من النفايات معمرة ولا تتحلل إلا بعد عقود وربما قرون وتأثيراتها السلبية على البيئة كبيرة للغاية”.
ويلفت الى أن معالجة هذه المشكلة يكمن:”أولاً بجمعها والتعامل معها بنحو علمي لإعادة تدويرها أو التخلص منها نهائياً، وأن ذلك يقع على عاتق وزارة البلديات، وثانياً ببث الوعي في المجتمع عبر إعلانات موجهة تبين مخاطر إلقاء العبوات البلاستيكية على البيئة والصحة العامة”.
ويرى كذلك ضرورة قيام وزارة الموارد المائية، بتطوير محطات معالجة المياه من نهر دجلة: “المحطات الموجودة قديمة، وقدرتها على التعامل مع نسب العكورة والملوثات محدودة، ويجب أن تستبدل بمحطات متطورة عالية الكفاءة”.
كما دعا إلى تطوير شبكة نقل المياه من تلك المحطات إلى المستهلكين: “لأن أجزاء كبيرة من شبكة نقل المياه في الموصل، إنشأت منذ عقود، وكثير منها تعاني التكسر، مما يعني اختلاط المياه المعالجة القادمة من المحطات مع المياه الآسنة، ومن ثم وصول مياه ملوثة إلى المواطنين”.
الناشط البيئي ذكوان نافع، يتحدث عن مواد بلاستيكية أخرى شائعة بنحو واسع في الموصل: “أكياس النايلون للتسوق، يمكن ملاحظة كميات هائلة منها متداولة يومياً بين الناس، ونجدها مرمية في كل مكان فضلاً عن مكبات النفايات، وهي في الغالب مصنعة من مشتقات نفطية وكيماوية وهي لا تتحلل عضويا، وبذلك تصبح مشكلة دائمة”.
ويعتقد بأن المسؤولية تقع على الجهات البيئية والصحية، لتوعية الناس، وتوجيههم نحو تقليل استخدام أكياس “النايلون” في حياتهم اليومية، وإلزام المتاجر باستخدام أكياس ورقية ضررها يكون أقل على البيئة، وتأثير استخدامها على الصحة محدود.
ويشير ذكوان إلى أنواع أخرى شائعة من البلاستك، ترصد باستمرار في مخلفات المنازل بمدينة الموصل: “عبوات الألبان والأجبان والمرطبات، والأصباغ وبلاستك التغليف والأغطية البلاستيكية والبولستر وغيرها”.
إعادة التدوير
ينتج العراق وفقاً للأمم المتحدة، ما يقارب الـ٣٠ ألف طن من النفايات الصلبة يومياً “لكنه يفتقر إلى بنية تحتية مؤهلة للتعامل مع هذا الكم من النفايات والتخلص منها بطريقة مناسبة تضمن عدم وجود آثار سلبية على البيئة وصحة السكان، لذلك يتم التخلص من معظم النفايات في مدافن قمامة غير منظمة”.
وجاء في تقرير نشره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في أيار/مايو2022، أن ذلك “يكلف العراق ثمناً باهظاً عندما يتعلق الأمر بالتزاماته الدولية بالحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إضافةً إلى تلوث التربة والمياه الذي تتسبب به النفايات بشكل مباشرة”.
لكن معالجة النفايات بصورة علمية لتخفيف التلوث وتداعياته، رغم أهميتها لم تصبح أولوية لا للحكومة ولا السكان، فعادة ما يتم تأجيل هذه المشاريع. ففي مدينة الموصل كانت هنالك جهود لتنفيذ مشروع متخصص بإدارة النفايات الصلبة، بالشراكة مع مدينة براتو الإيطالية ممثلة بشركة “بين براتوPin Prato ” ، كجزء من “مشروع التوأمة” تحت مظلة برنامج “دعم تعافي العراق واستقراره عبر التنمية المحلية” الممول من الاتحاد الأوروبي.
وزار وفد متخصص من المدينة الإيطالية، الموصل وعقد اجتماعاً في منتصف 2023 مع إدارة المحافظة، وقالت حينها ألاريا ترامونتي منسقة برنامج التوأمة من بلدية براتو: “اننا درسنا على مدى سنة ونصف السنة كل حيثيات الموضوع، ونجحنا في وضع خطة خاصة بإدارة النفايات في الموصل، تشمل كل الأقسام الخاصة بالخدمات البيئية وإدارة النفايات”.
وذكرت أن الهدف من وضع هذه الخطة، هو “لتقديمها إلى الدول المانحة لكي يتم دعمنا بنحو كامل مالياً لتطبيقها في المستقبل القريب”.
ولا يبدو أن هنالك تحركاً كبيراً بشأن دعم هذه الخطة، باستثناء ما أشار إليه مدير إعلام بلدية الموصل علاء الحيدر، بقوله أن مدير بلدية الموصل عبد الستار الحبو، استقبل قبل أسابيع مدير شركة اسبانية قدمت عرضاً لدراسة مشروع إعادة تدوير النفايات في الموصل، دون أن يدلي بمزيد من التفاصيل.
كما ذكر بأن هنالك فرصة استثمارية معروضة في هيئة استثمار نينوى لتدوير النفايات “لكنها لم تحال إلى أي جهة لغاية الآن”.
وعادة ما تتجنب الشركات تقديم عروض في مجال تدوير النفايات لأنها تنظر اليها كمشاريع خاسرة، لأسباب متعددة بينها ما يتعلق بعدم تعود السكان على فرز النفايات لتسهيل التعامل معها.
تركيبة النفايات في نينوى
وكان طه أحمد الطيار، وساطع محمود الراوي، قد نشرا دراسة في مجلة الهندسة والتكنلوجيا سنة 2014، عنوانها(تفعيل الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة في مدينة الموصل)، شملت ستة مناطق داخل مدينة الموصل وفي كل منطقة اختارا خمسة عشر موقعا جمعا منها عينات يومية للنفايات المنزلية والتجارية من الأسواق المحلية و لمدة ستة أشهر ابتداء من شهر شباط/يناير ولغاية شهر تموز/يوليو.
وتوصلا إلى أن تركيبة وخصائص النفايات الصلبة في مدينة الموصل، تشبه إلى حد ما الخصائص الموجودة في بقية الدول مع اختلاف النسب الوزنية لكل عناصر،إذ مثلت الفضلات الغذائية النسبة الأكبر بواقع ٦٨.١٧ % و الورق و الكارتون ٩.٦ % و الزجاج ٢.٦١ % .
بينما مثل البلاستك و النايلون ٥.٢٩ % وعلب الألمنيوم ٢.٢٧ % ، مضافا لها ١.٦٥ % أغلفة المأكولات، أم المنسوجات فكانت نسبتها ٢.٠١ % وحفاضات الأطفال القطنية ٣.٤٧ % و مخلفات الحدائق والزرائب فكانت نسبتها ١.١٣ % و المواد المطاطية فلم تتجاوز ١.٠ % ، بينما بقية المكونات مثل المعادن والأخشاب و المواد الجلدية و مخلفات البناء كانت نسبتها اقل من ١.٠%.
وتوصلا كذلك إلى أن طمر هذه الكميات الهائلة سوف يستهلك مساحات شاسعة من الأراضي التي يمكن استثمارها في ميادين أخرى، لذا شددا في دراستهما على ضرورة تطبيق الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة بطرقها المختلفة لأنها ستؤدي إلى “استخدام بعضها وتدوير البعض الآخر، مع إنتاج محسنات التربة من الفضلات العضوية السريعة التحلل، وبذلك فأن كميات ضئيلة من النفايات ستصل إلى مواقع الطمر الصحي بحيث تشغل مساحات صغيرة نسبيا ويزول خطرها أو يتم تحجيمه”.
عقبات مشروع تدوير النفايات
الأستاذ الجامعي د. حاتم عبد، يرى بأن ثمة عقبات عديدة تعترض مشروع تدوير النفايات “مالية بسبب ضعف التخصيصات، وإدارية وفنية، لكونه مشروع جديد كلياً وليست هنالك خبرة كافية لدى دائرة البلدية في التعامل معه، والتعقيدات التي ترافق الرخص الاستثمارية”.
لكنه يتوقف عند العقبة الأكبر حسب قناعته وهي “المواطن”، ويقول: “مثل هذه المشاريع تحتاج إلى تهيئة مسبقة لبث الوعي الكافي لدى المواطنين، من أجل ضمان تعاونه واستجابته، فعملية التدوير تبدأ من المنزل أو مقر وموقع العمل، بفرز النفايات ووضع كل مادة في المكان المخصص لها قبل رفعها ونقلها، وأيضاً عدم الرمي العشوائي للنفايات أو حرقها”.
كما يعتقد بأن انتهاء حقبة تدهور الأمن، وبعد أكثر من ثمان سنوات على الأمن التام في الموصل: “آن الأوان لتفعيل قوانين بيئية، بفرض غرامات مالية على من يلقي بالنفايات في الأماكن غير المخصصة لها في المناطق التجارية والسكنية والطرقات”.
الدور السلبي للسكان مع ضعف الوعي، في حل مشكلة النفايات، برز أيضا خلال تتبع معد التحقيق لمعلومات بشأن مشروع لتدوير النفايات كان قد أقر في الموصل قبل نحو خمسة عشر سنة ولم ينفذ، حيث ذكر عضو سابق بمجلس قضاء الموصل، ان المشروع خصصت له ميزانية من قبل مجلس نينوى لكنه لم ينفذ بسبب رفض أهالي المنطقة التي تقرر انشاء المشروع فيها.
عضو المجلس، الذي فضل عدم الإشارة إلى أسمه، قال بأن اتفاقاً جرى سنة 2009 بين محافظة نينوى وشركة تركية متخصصة لتدوير النفايات في مدينة الموصل بعقد بلغت قيمته 10 مليون دولار، يتضمن قيام الشركة برفع النفايات من أكثر من 150 حي سكني ومنطقة تجارية وتجمعها في محطتي تدوير في جانبي المدينة، أحدهما في منطقة حي الرفاق في الجانب الأيسر، مع توفير نسبة محددة من الكهرباء والمياه المعقمة والمعبأة، وتشغيل عدد كبير من الأيدي العاملة.
وأكد بأن مواطنين من ساكني الوحدات السكنية المحيطة بالمحطة المقترحة في حي الرفاق، رفضوا وجود المحطة قرب منازلهم خشية أن تتسبب لهم بالأمراض، على الرغم من تأكيدات مسؤولي بلدية الموصل والمحافظة بأن التعامل مع النفايات سيكون آمناً.
ويضيف: “كانت هنالك محاولة لإقناع الشركة بنقل المحطتين إلى خارج مدينة الموصل، لكنها رفضت ذلك، بسبب بعد الموقعين، لكون العجلات كانت ستقطع مسافات طويلة وبالتالي ستكون هنالك تكاليف قدرت بالضعف، وهكذا ألغي المشروع”.
لكن خبير البيئة لزكين محمد صلاح، يرى أن “الفساد الحكومي يشكل” العقبة الأكبر أمام تنفيذ مشروع تدوير النفايات في الموصل، ويقول بأن المبلغ المخصص لبلدية الموصل لسنة 2023 على سبيل المثال بلغ (54) مليار دينار ما يعادل (41) مليون دولار تقريباً.
“جزء كبير منه أنفق على قطاع التنظيف، وكان الأولى تشكيل لجان متخصصة توزع على القطاعات البلدية كافة لتحديد أماكن إنشاء محطات وسطية لجمع وفرز النفايات وإنشاء مطامر نظامية تدفن فيها النفايات غير القابلة للتدوير”.
ويستدرك متسائلاً: “لو نفذ مشروع لتدوير النفايات، لن تكون للفاسدين حصص من المبالغ الكبيرة المخصصة سنويا لرفع ونقل النفايات إلى مناطق طمر غير صحية ومخالفة للشروط البيئية!”، لهذا فهو يستبعد تنفيذ مشروع التدوير على المدى القريب في الموصل.
فخرية جبر، ربة بيت وأم لثلاثة أطفال أكبرهم في الحادية عشر من عمره، تسكن في منزل صغير بحي العبور القريب من منطقة طمر النفايات في السحاجي، تقول بأن الروائح الكريهة لا تنقطع عن المنطقة في اشهر الصيف، والسكان يستنشقون بشكل مستمر هواءً ملوثاً ناتجاً عن حرق النفايات في منطقة الطمر.
وتضيف: “أنا أخشى على أولادي من الكلاب السائبة التي تنتشر في المكان كله بسبب النفايات، وهي بالعشرات، وكذلك هنالك جرذان وفئران وحشرات غريبة”. ومع انها تمنع أطفالها من اللعب قريباً من منطقة الطمر، لكنها تظل في خوف دائم من اصابتهم بالأمراض “فالتلوث ينتقل عبر الهواء والمياه”.
تقول بأنها وجيرانها لا يستطيعون حتى مناشدة الجهات المعنية بشأن معالجة مشاكل موقع الطمر: “لأن منازلنا مبنية بالتجاوز، لهذا ليست لدينا خدمات بلدية ولا مياه اسالة أو كهرباء ولا شوارع مبلطة ولا مدارس قريبة”.
تصمت قليلاً ثم تتابع:”ويبدو أنه ليس لدينا الحق في الخوف على صحتنا، لأننا مواطنون من الدرجة الثانية!”.
انجز التحقيق تحت اشراف شبكة “نيريج” ضمن مشروع الصحافة البيئية الذي تديره منظمة “أنترنيوز”